أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - سمير الزغبي - الإستهلاك و إستراتيجية الهيمنة الليبرالية















المزيد.....



الإستهلاك و إستراتيجية الهيمنة الليبرالية


سمير الزغبي
كاتب و ناقد سينمائي

(Samir Zoghbi)


الحوار المتمدن-العدد: 3457 - 2011 / 8 / 15 - 22:45
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


تسود العالم المعاصر ميول حادة نحو الاستهلاك، أوجدتها أوضاع وتطورات متتالية في مجالات الإنتاج والتوزيع والاحتكار والاتصال والإعلان.
ومن ثَمَّ لم تعد النزعة الاستهلاكية مقصورة على العالم الصناعي المتقدِّم فقط، بل طالت أرجاء أخرى عديدة في العالم النامي، وصار السلوك الاستهلاكي موضوعًا للبحث العِلْمي في نُظم معرفية مختلفة يجيء في مقدمتها علم الاقتصاد، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، مع اختلاف في المرجعيات والتوجهات ومجالات التركيز.وإن كان الباحثون في تلك العلوم يتفقون على أن هذا السلوك لم يعد سلوكًا فرديًّا بحتًا يخص شخصًا مستقلاًّ.بل أصبحت تسهم في تشكيله قوى وعوامل متعددة تمارس تأثيرات متنوعة على الفرد المستهلك، إن هذه العوامل تتراوح من المستوى المحلي المحدود إلى المستوى العالمي الواسع.
لقد ظلت ظاهرة الاستهلاك، ولفترة طويلة من الزمن أسيرة للدرس الاقتصادي الأكاديمي من ناحية، وللاهتمام العملي من قبل أصحاب المشروعات التجارية من ناحية ثانية.
وكانت الفكرة السائدة لدى معظم المهتمين بهذه الظاهرة هي أن السلعة الجيدة سوف تبيع نفسها وهي فكرة كانت ملائمة في ظل أوضاع كان الطلب فيها أكثر من العرض بالنسبة للعديد من السلع، وكان المستهلكون يشترون كل ما ينتج تقريبًا، وبالتالي لم يكونوا يسألون عن بضائع بعينها يرغبون فيها أو يطمحون إلى اقتنائها.

لكن هذه الأوضاع تغيَّرت بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث اكتشف العديد من أصحاب المشروعات في دول الغرب الصناعية أنهم يملكون طاقات إنتاجية تفوق ما يمكن أن يستوعبه السوق.
عندئذ لم يعد اهتمام الباحثين مركزًا على عنصر الإنتاج فحسب، بل توزع على بقية العناصر الأخرى من العملية الاقتصادية، خاصة ما تعلَّق منها بالتسويق سعر السلعة، جودتها، توزيعها.
وصار التساؤل الذي يوجّه معظم الكتابات في هذا المجال هو: أي هذه العناصر له أيُّ تأثير على سلوك الشراء، ولدى أي نمط من المستهلكين.
وكان من الطبيعي أن يفضي هذا التساؤل إلى انعطافة واضحة نحو العلوم الإنسانية؛ أملاً في العثور على استبصارات جديدة تلقي مزيدًا من الضوء على سلوك المستهلك.
منذ منتصف هذا القرن أخذ الباحثون في مجال التسويق يستعيرون العديد مما توصَّلت إليه الدراسات السيكولوجية، ثم اتجهوا بعد ذلك للإفادة من دراسات علم الاجتماع، والإنثربولوجيا، وأخذت بحوث المستهلك تتسع وتقدم بيانات وفيرة حول السلوك الاستهلاكي.

وهذا بلا شك ساعد الباحثين في هذا المجال على صياغة مجموعة من المفاهيم والفرضيَّات والنماذج النظرية التي تتعلق بأنماط تفضيل السلع لدى المستهلكين.
ومنذ حوالي ربع قرن بدأ علماء النفس يرتادون مجال الاستهلاك، وركز الرواد منهم اهتماماتهم على دراسة اتجاهات المستهلكين نحو سلع معينة، ودوافع الشراء لديهم، وما يرتبط بذلك من متغيرات، مثل: النوع والسن.
وتركَّز اهتمام الباحثين النفسيين بصفة خاصة على دراسة العمليات السيكولوجية المصاحبة لتعرُّض المستهلك للإعلانات عن السلع، وما يلي ذلك من عمليات، مثل: التعلم، والتذكّر، وتكوين الدافعية، والاقتناع، ثم قرار الشراء، وقد وصلت دراساتهم في هذا المجال إلى درجة ملموسة من العُمق والحذق المنهجي.

إن معظم الدراسات الاقتصادية والنفسية في مجال الاستهلاك والسلوك الاستهلاكي كانت وما زالت موجّهة لخدمة عمليات تسويق السلع التي تهم الشركات المنتجة.
وقد شهد هذا المجال في السنوات الأخيرة مؤلفات عدة يقوم محتواها أساسًا على وصف مواقف تسويقية معينة تخصُّ شركات لإنتاج سلع معينة؛ كالسيارات، والأغذية، والإلكترونيات، ولعب الأطفال والأثاث.
والهدف النهائي لمثل تلك المؤلفات هو دعم النشاط التسويقي، ليس على نطاق المجتمعات الغربية فحسب، بل على نطاق العالم بأرجائه المختلفة.
يؤكِّد علماء الاجتماع أن الثقافة الاستهلاكية في عصرنا الراهن قد صارت عنصرًا من عناصر كل ثقافة، وذلك نتيجة لما تمارسه المصادر المختلفة من تأثير على سلوك الإنسان في اتجاه الميل إلى الاستهلاك، بل وجعل الاستهلاك هدفًا في حدِّ ذاته، وهم باستخدامهم لمصطلح ثقافة الاستهلاك، إنما يؤكدون أن عوالم السلع والمبادئ التي تقوم عليها بنية هذه العوالم تعد مدخلاً أساسيًّا؛ لفَهم المجتمعات المعاصرة.
إن الاهتمام بالتأثير السلبي لثقافة الاستهلاك على حياة الأفراد والجماعات يمكن تتبع بداياته المنظمة في أعمال مجموعة من الباحثين الاجتماعيين.
ويمثل أعمال الباحثين الاجتماعيين كتابات جورج لوكاتش، وكتابات تيودور إدورنو، وماكس هودكهايمر، وهربرت ماركوز، الذين حاولوا الربط في كتاباتهم بين ما طرأ على الإنتاج الرأسمالي الصناعي في القرن العشرين من تطور وتوسع، وبين ما أخذ يحدث في مجتمعات الغرب من سيولة ثقافية تقوم على أساس المنطق السلعي، والقِيَم الاستهلاكية التي تغوي جماهير الناس وتجذبها إلى السوق.

نقد مجتمع الإستهلاك
تعدّ أعمال الفيلسوف الفرنسي المعاصر جان بودريار Baudrillard من أهمّ الدراسات في حقل الإنسانيات. و يتناول جانب كبير من هذه الأعمال نقدا لمجتمع الاستهلاك. فإلى جانب كتابه الذي يحمل عنوان " مجتمع الاستهلاك ، هناك مجموعة أخرى من الدراسات المنتشرة عبر كتبه الأخرى و التي يتناول فيها نفس الموضوع مثل " مرآة الإنتاج " و " نحو نقد للاقتصاد السياسي للعلامة و "التبادل الرمزي و الموت"
يمكن النظر إلى نقد بودريار لمجتمع الاستهلاك على أنّه ينتمي إلى تراث فكري كبير ركز على نقد المجتمع الغربي المعاصر، و يشمل هذا التراث أعمال لوكاتش و فلاسفة مدرسة فرانكفورت و بعض البنيويين من أمثال رولان بارت و فوكو، هذا بالإضافة إلى تراث طويل في القرن التاسع عشر يحتوي على أسماء ماركس و نيتشة . تدلنا دراسة بودريار لمجتمع الاستهلاك على كيفية التحول من الليبرالية باعتبارها الصورة التي يرى عليها الغرب الرأسمالي نفسه إلى مجتمع الاستهلاك الذي هو الواقع الحالي والنهاية الأخيرة التي وصل إليها هذا الغرب . فعبر جميع دراسات بودريار يوضح لنا كيف تحولت القيم و المثل البورجوازية و الأيديولوجيا الليبرالية إلى قيم و معايير استهلاكية تتحكم بها المؤسسات الكبرى ووسائل الإعلام ، و إلى نسق من الرموز و العلامات التي لها منطقها الخاص و حياتها الخاصة التي تلغي الحياة الواقعية للبشر، و كيف يصنع الإعلام و الاتصال عالما صناعيا يمثل واقعا مركزا أكثر واقعية من الواقع نفسه.
إن جميع قيم و مثل الليبرالية تجد تعبيرها الأكمل و الأخير و نهاياتها المنطقية في مجتمع الاستهلاك . فالحرية أصبحت حرية البيع و الشراء، و التعددية أصبحت هي تنوع الموضوعات الاستهلاكية ، والعدالة أصبحت هي السعر المناسب . فهذا هو مصير الخطاب الليبرالي الذي تم استخدامه منذ بداياته الأولى كأيديولوجيا للرأسمالية و كدعم فكري لاقتصاد السوق . فقد تمت منذ القرن الثامن عشر ترجمة الليبرالية إلى مصطلحات الاقتصاد الرأسمالي ، و من المنطقي أن تترجم مرة ثانية في العصر الحاضر إلى قيم مجتمع الاستهلاك الذي هو التطور الطبيعي، التاريخي و الاقتصادي، للرأسمالية .

الإستهلاك و تحوّل مفهوم الفرد
يغيّر مجتمع الاستهلاك التعريفات التقليدية لجميع القيم و المعايير الأساسية لليبرالية و ذلك لصالحه . فالفرد يصبح مشاركا في مجتمعه لا بالعمل الاجتماعي أو السياسي بل باستهلاكه لسلع و بضائع ينتجها هذا المجتمع ، فالمشاركة أصبحت مشاركة في نوع من الاستهلاك ، و الانتماء أصبح انتماء لشريحة استهلاكية معينة تكون علامة على المكانة أو المستوى الاجتماعي .
لم تعد القيم الأخلاقية الغيرية التي تحكم سلوك الفرد مع غيره بقادرة على تحقيق التماسك و الاندماج الاجتماعي،. و لم يبق إلا القيم الفردية التي يحرص مجتمع الاستهلاك على إنتاج المزيد منها، لأن هذه هي القيم القادرة الآن على تحقيق شئ من الاندماج الناتج عن الاشتراك في شئ واحد و هو الاستهلاك بالطبع . فقد غيرمجتمع الاستهلاك من معنى الفردية تماما . فلم يعد الفرد يسعى لأن يحقّق ذاته بل أصبح يسعى لنيل موافقة الآخرين و كسب رضاهم و التماهي معهم . لم تعد الفردية قيمة مطلقة بل مجرد توافق وظيفي. و بدلا من السعي نحو إنجازات يغير بها المرء أوضاعه و يتجاوز بها حاله نحو حال آخر، أصبح يسعى نحو مجرد نيل رضاء الناس .
يعتقد المستهلك أن سلوكه حر و ذلك بناء على أنه حر في اختياره بين كل ما يعرضه عليه مجتمع الاستهلاك، و يعتقد أنه يسعى نحو الاختلاف و التميز عن الآخرين ، و لا يجبره أحد على أن يكون كذلك ، فذلك نابع من داخله ، كما أنه لا يطيع قاعدة أو إلزاما معينا يجبره أن يكون مختلفا و متمايزا ، فهذه هي العلامة الأصيلة للتفرد . إلا أن حريته هذه وهمية و سعيه نحو الاختلاف زائف ، ذلك لأن تعددية موضوعات الاستهلاك و تعددية المواقف و الآراء و الأنماط الثقافية التي يختارها ليست إلا نتاج المجتمع الذي يحيط به و لاتكشف إلا عن منطق واحد و هو انسياق الفرد في الأسلوب الوحيد الذي يستطيع أن يعيش به في المجتمع و هو لمزيد من الاستهلاك . فالتعددية زائفة لأنها ليست إلا تنوع لموضوعات استهلاكية سواء كانت سلعا أو آراء أو أنماط ثقافية.كما يغير مجتمع الاستهلاك من معنى الممارسة العملية و النشاط الاجتماعي للفرد . فهو يحول الممارسة الاجتماعية و السياسية Praxis إلى مجرد اهتمام بشئون الحياة اليومية ، أي وجودا زائفا. فالمجالات السياسية و الثقافية و الاجتماعية تختفي لتخلي المكان للحياة الخاصة و لكل ما هو خاص : العمل ، الأسرة، وقت الفراغ ، التسلية و الترفيه ، دائرة الأصدقاء و المعارف . و بهذه الطريقة تستطيع وسائل الاتصال الجماهيري التدخل في الحياة الخاصة للناس ، و ذلك بسيطرتها على الترفيه و أوقات الفراغ و التعبئة التجارية للأذواق.
لكن هل لا تؤدي هذه الحالة إلى نوع من تأنيب الضمير و الشعور بالذنب الناتج عن تناقض بين السلبية الناتجة عن البعد عن كل ما هو سياسي و اجتماعي و بين الإيجابية المتأصلة في التراث الديمقراطي الغربي و تاريخه السياسي ؟ يجيب بودريار بان مجتمع الاستهلاك يعمل كذلك على القضاء على هذا الشعور بالذنب و التقصير، وذلك بأن يجعل الناس يشعرون بالأمان في بعدهم عن ما يسمى بغابة الحياة ومخاطرها . فكلما بثت وسائل الإعلام صورة بائسة و متوحشة و خطرة عن العالم كلما زاد شعور الناس بالأمان في بعدهم و انعزالهم عنه. إنّ شعورهم الزائف بالأمان يقضي على أي إحساس بالذنب أو التقصير، كما يعد أحد عوامل قبول الوضع القائم، إذ يجعلهم محايدين و سلبيين أمام كل القضايا و المشاكل الاجتماعية و السياسية . " إنّ علاقة المستهلك بالعالم الحقيقي و بالسياسة و التاريخ و الثقافة ليست علاقة اهتمام أو مسئولية ملتزمة ... بل هي علاقة فضول."
لم يعد التفرّد هدف الفرد الذي يسعى إليه من خلال الاختلاف عن الآخرين ، فالعناصر التي يزود بها المجتمع الفرد لكي يحدث لديه شعور بالتفرد تجعله ينساق في حبائل أيديولوجيا الاستهلاك. هذه الأيديولوجيا تبث في الفرد نرجسية تجعله يرى تفرده على أنه يتمثل في نوع الملبس أو السيارة التي يستخدمها أو العطر الذي يضعه أو نوعية السلع التي يشتريها أو الطريقة التي يقضي بها وقت فراغه. وبذلك يتحول التفرد إلى مجرد التماهي مع مقاييس عامة يصنعها المجتمع ، و الاندراج في أنماط محددة يمثلها المشاهير و نجوم السينما و الإعلام. ينقلب التفرد الآن إلى أن يصبح تنميطا و توحيدا للمقاييس .

الإستهلاك و سلوك الإشباع
ساد الليبرالية خطاب حول الحاجات و حول الوسائل التي يسعى المرء لإشباع هذه الحاجات عن طريقها . و اعتمد هذا الخطاب على تصور عن الطبيعة الإنسانية و عن الإنسان باعتباره إنسانا اقتصاديا ظهر هذا الخطاب في علم الاقتصاد السياسي و في بعض المذاهب الفكرية و الفلسفات مثل الفلسفة التجريبية الإنجليزية ، و ساد الفكر السياسي الغربي طويلا ، و الآن يعد أحد الدعائم الأساسية لمجتمع الاستهلاك. وتحتوي أعمال بودريار على نقد حاد و عميق لمفهوم الحاجة.
ليست الحاجات التي يتكلم عنها الخطاب المدعم لمجتمع الاستهلاك حاجات بشرية صادرة عن الطبيعة الإنسانية، بل هي حاجات من صنع مجتمع الاستهلاك نفسه . إنها ليست حاجات أولية . فحاجة الإنسان إلى الطعام مثلا تشبعها كمية محددة من الطعام ، إلا أن الطعام في المجتمع الاستهلاكي يتخذ صورا وأشكالا عديدة أخرى و يتحول للمجال الرمزي . فعلى الرغم من أن حاجات الإنسان الأساسية محددة إلا أننا نجد تنوعا هائلا في السلع التي تشبع هذه الحاجات . و يرجع هذا التنوع إلى مجتمع الاستهلاك الذي يخلق حاجات أخرى ثانوية بمجرد إنتاجه لكم هائل من السلع التي تشبع حاجة واحدة . فللإنسان حد أدنى يكتفي به و يستطيع عن طريقه إشباع حاجاته الأولية، لكن مجتمع الاستهلاك خلق حاجات أخرى ترفية و رمزية لا يمكن إشباعها ، ذلك لأنه بمجرد أن يشبع الفرد حادة منها حتى تؤدي به إلى حاجات أخرى وإلى ما لا نهاية . و يرجع السبب في ذلك إلى أنها ليست حاجات تشبع عن طريق قيم استعمالية بل عن طريق قيم تبادلية . لا يأتي إشباع هذه الحاجات عن طريق امتلاك المرء لقيمة استعمالية لشيء ما بل لقيمة رمزية . فالسلع تستهلك لما تضفيه على المرء من مكانة أو وضع اجتماعي أو قيمة في المجتمع و صورة معينة عند الآخرين، لا بما تشبعه من حاجات أولية . الحاجات في حقيقتها ليست حاجات أفراد بل هي حاجات نظام ، هي حاجات النمو . فالنمو المتزايد للمجتمع هو الذي يفرض حاجات معينة تخفي نفسها باعتبارها حاجات أفراد . فإذا كان العصر الحالي هو عصر ما بعد صناعي يتمثل إنتاجه الأساسي في الخدمات و السلع الاستهلاكية و الصناعات اللينة و صناعات الإعلام و المعلومات فمن الطبيعي أن تكون القيمة السائدة فيه هي القيمة التبادلية و الرمزية لا القيمة الاستعمالية ، و من الطبيعي أيضا أن يعمل هذا المجتمع على خلق الحاجات التي يشبعها إنتاجه، و بما أن إنتاجه استهلاكي و خدمي و خدمي و إعلامي فإن الحاجات التي يخلقها يجب أن تكون رمزية ثانوية. خلق حاجات جديدة باستمرار كان من ضرورات بقاء النظام الرأسمالي، فهذا النظام في حاجة دائمة إلى أسواق لتصريف إنتاجه . فكانت الإمبريالية ضرورية بالنسبة لهذا النظام و ذلك لفتح مزيد من الأسواق عبرجميع قارات العالم ، فإذا لم تجد الرأسمالية أسواقا فسوف تموت . أما استقلال المستعمرات فكان لابد و أن تخلق الرأسمالية سلعا جديدة تشبع حاجات جديدة . و بذلك فتحت أسواقا جديدة تعوضها عن الأسواق التي فقدتها في حركات الاستقلال ، فظهرت الأسواق الاستهلاكية ة الإعلامية و الخدمية التي ضخت دماء جديدة للنظام.
يغير المجتمع الاستهلاكي من طبيعة دوران رأس المال و من إعادة إنتاج النظام . فقد كانت علاقات الإنتاج من نظام طبقي و ملكية خاصة و ما يصحبها من قوانين و تشريعات هي التي تعمل على إعادة إنتاج النظام الرأسمالي و الحفاظ عليه و على تماسكه و ذلك في عصر الرأسمالية الصناعية ، أما الآن و في عصر رأسمالية ما بعد الصناعة فقد أصبح الاستهلاك و التبديد و الإهدار هو الذي يعمل على إعادة إنتاج النظام و الحفاظ على تماسكه . لم يعد يستند النظام على تحول القيمة الزائدة إلى رأسمال جديد يتراكم و يتوسع باستمرار ، بل أصبح يعتمد على إنتاج صناعات لينة يجب أن تهدر و تفنى لكي يعاد إنتاج غيرها باستمرار، و هكذا يتم دوران رأس المال الآن.


لقد كفت الحاجات عن أن يكون لها استقلال و وضع خاص ، فهي لم تعد تتسم بأنها أولية و طبيعية وخاصة بالذات الإنسانية بل أصبحت من صنع النظام ، و بالتالي لم تعد تصلح لنقد الرأسمالية كما فعل ماركس و لوكاتش و فلاسفة مدرسة فرانكفورت. لقد أصبحت الحاجة مشروطة اجتماعيا و تحولت إلى أحد منتجات النظام ، و لذلك لا يمكن نقد هذا النظام بما ينتجه.
نجد لدى هيجل تشخيصا مشابها لمفهوم الحاجة و خاصة في كتابه " أصول فلسفة الحق " الذي وضع فيه نظرياته الاجتماعية و السياسية . فالحاجات عنده تتضاعف كلما تقدمت الحضارة ، و لا يستطيع الفرد إشباعها جميعا ، كما تتحول أكثر إلى أن تكون حاجات ترفية . لكن في حين ينتقل هيجل من تشخيصه لنظام الحاجات إلى مقولة العمل و يأخذ في تحليل الاقتصاد السياسي باعتباره ينطلق من مفهومي الحاجة و العمل يكتفي بودريار بنقد مجتمع الاستهلاك و الأيديولوجيا المدعمة له و لا يقوم بالخطوة التي قام بها هيجل و من بعده ماركس و هي نقد الاقتصاد السياسي نفسه القائم على مفهوم الحاجة ، بل يكتفي بنقد هذا المفهوم فقط. يكمن السبب وراء ذلك في أن بودريار كان قد تخلى عن محاولة نقد الاقتصاد السياسي لأنه اعتقد أن ما حل محله الآن هو نسق الرموز والعلامات المتحكم في الاتصال و الإعلام و الاستهلاك .

أسطورة المساواة الليبراليبة

المساواة أسطورة، استخدمتها الأيديولوجيا الليبرالية دائما لتبرير أسلوب الإنتاج الرأسمالي و الحفاظ على الوضع القائم . تحولت كل مساوئ هذه الأيديولوجيا الآن إلى مفهوم السعادة . أصبحت السعادة هي علامة المساواة و مقياسها . و لكي تكون السعادة حاملة لأسطورة المساواة يجب أن تخضع للقياس، أي قابلة لأن تقاس في صورة موضوعات و علامات، يجب أن تتحول إلى رفاهية. فقد ورثت دولة الرفاهية في الغرب التراث السياسي الليبرالي بجميع قيمه و معاييره، و نظرت لنفسها على أنها هي المحققة لهذه القيم والمعايير و التطور الطبيعي لها ، فكان من المنطقي أن تترجم المساواة إلى مصطلحات مجتمع الاستهلاك الذي هو نتاج دولة الرفاهية ، و تصبح السعادة علامة على الرفاهية و الرفاهية علامة على المساواة .

لكن يتم عزل و إبعاد السعادة الأصيلة، السعادة التي هي شعور داخلي لدى المرء و مستقل عن أي موضوع خارجي و التي هي رضا و قناعة، تلك السعادة التي ليست بحاجة إلى دليل مادي، و ذلك لتخلي مكانها للسعادة باعتبارها رفاهية يجب أن تقاس و يبحث عنها بمحك منظور . لا تعد السعادة هي فرحة الجماعة في الأعياد و الاحتفالات ، لا تعد معنوية و متجسدة في الحياة الجماعية المشتركة بل تصبح ذات معايير فردية. كما يذهب بودريار إلى أبعد من ذلك و يرى أن تراث الليبرالية منذ بدايته و هو يترجم المساواة إلى هذا المفهوم الضيق عن السعادة . فإعلان حقوق الإنسان و المواطن يعترف و ينادي بحق كل فرد في السعادة، أي ينقل السعادة من معناها الجماعي العام و المعنوي و التساندي إلى معناها الفردي الذي يتحول إلى رفاهية و استمتاع بموضوعات استهلاكية . " تحول مبدأ الديمقراطية من مساواة حقيقية للكفاءات و المسؤوليات و الفرص المتساوية … إلى مساواة أمام موضوعات التملك و الرموز المادية للنجاح الاجتماعي و السعادة ... و الظاهر أنها مساواة عينية إلا أنها شكلية تخفي و تحجب غياب الديمقراطية الحقيقية و اختفاء المساواة"
. و إذا كان المجتمع المعاصر يحقق شيئا من المساواة في الرواتب و أوضاع المعيشة و إشباع الحاجات فإن ذلك يعد نتاجا زائدا للوظيفة الأصلية للنظام ، و التي تتمثل في زيادة الامتيازات المادية لأصحاب الامتيازات ، أي لمن لهم امتيازات أصلا . فاللامساواة هي هدف النمو و ما المساواة إلا نتاجا زائدا حدث بالصدفة . فبينما كانت الليبرالية تعتقد في أن زيادة النمو سوف تقضي على الندرة و بالتالي على البؤس والشقاء الذي تعاني منه الطبقات الدنيا و بالتالي تقضي على احتمالات الثورة و القلاقل الاجتماعية و تقلل من حدة التناقضات الطبقية و الفروق الواسعة بين مستويات المعيشة ، فإن النمو لم يؤد واقعيا إلى كل ذلك بل على العكس أدى إلى زيادة الفروق .
إذا كانت مبادئ الديمقراطية و المساواة تقوم في الخطاب الليبرالي التقليدي بممارسة السيطرة الاجتماعية و التنظيم الأيديولوجي للتناقضات السياسية و الاقتصادية ، فإنها لم تعد تقوم بمثل هذا الدور الآن . فقد جعل مجتمع الاستهلاك هذه القيم هشة و غير قادرة على أداء وظيفة الاندماج الاجتماعي لمجتمع يتناقض واقعه مع هذه القيم ، حتى إذا تم تمثلها عن طريق التربية و التنشئة الاجتماعية . فما يقوم بهذا الدور الآن عبارة عن آلية لاشعورية في الاندماج و التحكم . تتمثل هذه الآلية في إدخال الأفراد في نسق من الاختلافات ، أي في نظام من التعدد و التنوع الثقافي الذي يسعى فيه الأفراد لأن يكونوا مختلفين عن طريق اختيار موضوعات استهلاكية. و بذلك يتم إحلال الاختلاف محل التناقض . فالتناقض لا يحل عن طريق إحلال المساواة و التوازن محله ، بل عن طريق إحلال الاختلاف و التمايز ، الثقافي و الاستهلاكي و الإعلامي.


الإستهلاك و وهم الحرية

يستخدم مجتمع الاستهلاك مفهوم الحرية بنفس الطريقة التي استخدمها بها مجتمع الصناعة . فقد كانت الليبرالية تدعو للحرية في بداية العصر الصناعي، إلا أن هذه الدعوة كانت زائفة و أيديولوجية و يكمن ورائها أهداف أخرى . فقد كان على الفرد أن يتحرر من الإقطاع و من ارتباطه بكنيسة أو مذهب أو طائفة أو عرق و ذلك لكي يصبح عاملا أجيرا في ظل النظام الرأسمالي . فقد أدى مبدأ الحرية كما استخدمه المجتمع الصناعي مهمة قطع صلة الفرد بكل ما كان يربطه بوحدات اجتماعية سابقة على الرأسمالية وذلك ليتمكن النظام من إدخاله سوق العمل و يصبح فيه سلعة . و نفس هذا التوظيف لمبدأ الحرية يستخدمه مجتمع الاستهلاك الآن ليطبقه على الجسد . يجب على الجسد الآن أن يتحرر ، أي أن ينفك ارتباطه بمفاهيم الخطيئة و السقوط و الذنب و المعصية ، أي بكل المفاهيم الدينية المسيحية و البيوريتانية التي تفرض على الجسد الزهد و التقشف ، و ذلك لكي يمكن أن يصبح موضوعا للاستهلاك ، أي حاملا لموضات أزياء و عطور و هدفا لطرق ممارسة الحمية ( الريجيم ) و صفحة بيضاء لأدوات التجميل وهدفا لتسويق الرياضة و الأجهزة الرياضية، و سلعة جنسية أيضا.
كما لا تعد حرية المجتمع الحالية و سهولة الحوار بين كل أطرافه و تبادل الآراء و المواقف فيه نتيجة لتقدم أخلاقي أو لزيادة التحرر أو لفهم أفضل و أعمق للمشاكل الاجتماعية ، بل تكشف هذه الحرية عن أن الآراء و الأيديولوجيات و الفضائل و الرذائل أصبحت مادة للتبادل و الاتصال ، و هي متساوية القيمة في لعبة العلامات و الرموز التي يمارسها النظام . و لم يعد التسامح في هذا السياق حالة سيكولوجية باطنة أو فضيلة أو قيمة عليا، بل هو شرط من شروط وجود النظام نفسه، لأن هذا النظام يتمثل في إنتاج المعلومات و توصيلها و أداء الخدمات و خلق حاجات تشبعها سلع استهلاكية ، فمن الطبيعي أن تكون الحرية والتسامح من بين مقومات وجود النظام و أداءه لوظائفه.
تفهم الليبرالية الحرية على أنها تجد تعبيرها الأكمل و التام في مفهوم الملكية الخاصة و ما يشمله من مفاهيم فرعية مثل الحيازة و حق الانتفاع و العقد باعتباره اعتراف الأطراف المشاركة فيه بالملكية لبعضهم البعض و ما يتفرع عن ذلك من حقوق للمشاركين في هذا العقد . و يعد مفهوم الملكية الخاصة مصدر التنظيم القانوني و السياسي الليبرالي للمجتمعات الغربية منذ القرن الثامن عشر، كما يشكل أساس الحقوق و الواجبات المدنية و السياسية و كذلك جزءا كبيرا من قانون العقوبات . لم يعد مفهوم الملكية الخاصة بمثل أهميته تلك في مجتمع الاستهلاك . فلم يعد هناك معنى لمفهوم الحيازة أو التملك أو الاقتناء ، فقد أخلت هذه القيم مكانها لقيم الاستعمال و الاستمتاع و الاستهلاك . الحيازة هي الاحتفاظ بشيء معين يبقى و يدوم و تكون الاستفادة منه طويلة الأجل ، أما الاستهلاك فهو إشباع لرغبة عن طريق إهلاك و إهدار لموضوع هذه الرغبة . كما أخلى مفهوم العقد مكانه لمفهوم السعر المناسب ، فبمجرد شرائك لسلعة فهذا يعني أنك توافق على سعرها، و موفقتك على السعر تعني اتفاقك مع النظام . فبعد أن كان الاتفاق و الإجماع و الرضا أهداف يتم الوصول إليها عن طريق الحوار السياسي الاجتماعي بين المواطنين حول شئون حياتهم و مستقبلهم هادفين تنظيم التعامل بينهم ، أصبح يتم الوصول لهذه الأهداف عن طريق شراء سلعة .

يحول المجتمع الاستهلاكي الديمقراطية إلى شيء يقاس . فالنمو و زيادة الإنتاجية تعني الوفرة، و الوفرة تعني الرفاهية، و الرفاهية تعني الديمقراطية . و بالتالي فقياس النمو و الإنتاجية يعني قياس درجة الديمقراطية القائمة . و تصبح الحقوق الطبيعية للإنسان هي حقوقه في تملك و استهلاك موضوعات إشباع حاجاته . و بذلك لن يكون هناك معنى للتساؤل حول ما إذا كان هذا المجتمع يحقق الحرية و المساواة أم لا، و هل هو ديمقراطي أم لا ، و هل قضى على أوجه اللامساواة السابقة أم لا ، لأن هذا المجتمع قد أبدل بالفعل قضايا الحرية و المساواة و الديمقراطية و نقلها من الميدان الاجتماعي و السياسي إلى المجال المادي الاستهلاكي.
الإستهلاك و صناعة الجماهير الصامتة
يذهب بودريار إلى أنه منذ القرن الثامن عشر و خاصة منذ الثورة الفرنسية أصبح مجال السياسة مجالا للتمثيل ، أي بدأ ما هو اجتماعي يجد التعبير عنه في ما هو سياسي، و أصبح المواطنون يجدون في المجال السياسي تعبيرا عنهم ، فقد استندت الممارسة السياسية آنذاك على مفاهيم الديمقراطية النيابية و التمثيلية و على الرأي العام و فكرة الإرادة العامة . يترجم بودريار ذلك إلى مصطلحات البنيوية و ما بعد البنيوية. فهو يرى أن مجال السياسة أصبح منذ ذلك الوقت مجالا للدلالة و المعنى ، فما يحدث في السياسة هو دال لمدلول أساسي هو الإرادة العامة . و لا يزال الفكر السياسي الليبرالي يلعب على الحنين لهذا العصر الذهبي، الذي كان فيه الاجتماعي مستقلا و ممثلا في السياسي.
أما الآن فلم يعد الاجتماعي مجالا مستقلا و لم يعد مصدرا للطاقات و القوى التي تمد السياسي بالدلالة والمعنى . فمع تحول المجتمع المدني إلى مجتمع جماهيري أصبح مستقبلا لكل ما تفرضه عليه السياسة ولم يعد له الدور الفاعل و المؤثر الذي كان يتمتع به . لم يعد المدلول الذي تشير إليه و تنتهي إليه الدالات السياسية . فلقد اختفى أي واقع اجتماعي أساسي يكمن تحت معني العملية السياسية ، و انعزلت السياسة أكثر و أكثر عن الجماهير و أصبح لها استقلال و تسيير ذاتي ، أي أصبحت لا تشير إلا لذاتها و لا دلالة لها إلا بالنسبة لمجالها فقط . فمع التداخل المتزايد بين الاقتصاد و السياسة ، و مع كثرة جماعات الضغط ذات المصالح الجزئية الخاصة و قوة تأثيرها ، لم تعد الجماهير مؤثرة في المجال السياسي . لم يعد هناك إلا مدلولا واحدا أو إحالة واحدة و هي إلى الأغلبية الصامتة التي أصبحت إحصائية .
لا تظهر هذه الأغلبية الصامتة ممثلة في شيء معين أو باعتبارها مصدرا لمعنى ممارسات سياسية معينة، بل باعتبارها عنصرا إحصائيا . و لم يعد من الممكن لأي أحد أو أي منظمة أن تتحدث باسم الجماهير، فقد كفت الجماهير عن أن تكون ذاتا بالمعنى التقليدي و لم يعد يمكنها أن تمر بمرحلة تكوين هويات سياسية . لم يعد هناك كذلك معنى للاغتراب ، لأن الاغتراب يحدث لذات في سياق عملية تكوينها الذاتي، ذات لها احتياجات ووعي و خبرة . كما تنتفي كذلك فكرة الثورة ، فالثورة يفترض أن تحدث من قبل مضطهدين ، و يفترض في المضطهدين أن لهم هوية ووعي بمصالح مشتركة و أهداف واحدة ، إلا أن الجمهور ليس له هوية، فهو مجموع إحصائي لا غير، و كتلة كبيرة لا متمايزة تم تحييدها .

تتحوّل الجماهير في المجتمع المعاصر إلى كتلة ضخمة يراد جمع المعلومات عنها بهدف توجيهها والسيطرة عليها. و لم يعد لقياس الرأي العام و لعمليات استطلاع الرأي معنى ، فهي تفترض وجود رأي جاهز لدى الجماهير ووجود موقف محدد لديها يتم الكشف عنه ، إلا أن ذلك ليس صحيحا . لا يعمل قياس الرأي العام إلا على الإيحاء بوجود رأي عام ، و يقوم في ذلك بوظيفة النبوءة الذاتية التحقيق أي الإشاعة التي تتحول إلى حقيقة بمجرد انتشارها . أما وسائل الإعلام فلا تهتم بالمعنى ، فالمعنى هو المحتوى أو المضمون في عملية الاتصال ، في حين أن هذه العملية محايدة تجاه المحتوى و لا يهمها إلا التوصيل. فالمضمون ليس هو الرسالة ، بل إن وسائل الإعلام نفسها هي الرسالة The Media Is The Message كما يقول ماكلوهان . يتوصل بودريار من ذلك إلى أن الاتصال يحيد المعنى و يلغيه ،و يصبح هدفا في ذاته، فهو اتصال من أجل الاتصال لا من أجل توصيل و نقل المعنى .

مجتمع الإستهلاك و نهاية الأيديولوجيا

إذا كانت الأيديولوجيا ، و خاصة في المجتمع الصناعي، تتمثل في عملية التشيؤ التي تظهر فيها العلاقات الاجتماعية بين الناس على أنها علاقات بين أشياء ، و في عملية صنمية السلع التي تتحول فيها العلاقات الاقتصادية إلى قوانين حتمية تماثل قوانين الطبيعة و تنعزل عن أساسها الاجتماعي و تصبح علاقات بين سلع ، فإن تحليل بودريار للمجتمع الاستهلاكي يكشف عن أن هذه الأيديولوجيا قد وصلت إلى نهايتها المنطقية .

حلل ماركس أسلوب الإنتاج الرأسمالي على أنه نظام منتج للسلع . فكل التنظيمات الاقتصادية و كل تفاصيل عملية الإنتاج في هذا النظام تهدف إلى هذه الغاية . و على الرغم من أن هذه السلع نتاج العمل البشري إلا أنها بمجرد دخولها في علاقات تبادل في السوق حتى يكون لها حياتها الخاصة و قوانينها الخاصة التي تسمى قوانين السوق ، مثل العرض و الطلب ، و بذلك تستقل عن أصلها البشري و الاجتماعي و يصبح لها كيانها الخاص . و ليس هذا و حسب ، بل إنها تصبح هي التي تنظم علاقات الأفراد ببعضهم و تنظم علاقاتهم بالمجتمع . و بذلك تأخذ الطابع الصنمي . كما أن طاقة العمل البشري تقاس بمدى قدرتها على إنتاج سلع ، و تتحدد قيمة هذا العمل بقيمة ما ينتجه من سلع . و هذا ما يؤدي إلى تشيؤ العلاقات الاجتماعية . فالعلاقات بين المنتجين التي هي في الأصل علاقات اجتماعية تظهر على أنها علاقات بين منتجات عملهم و تحكمها قوانين اقتصادية.


إذا كان ماركس قد ذهب إلى أن السلع و العلاقات بينها قد حلت محل العلاقات الاجتماعية ، فإن بودريار يذهب الآن إلى أن العلامات و الرموز قد حلت محل الواقع نفسه ، و بذلك أصبح الدال مستقلا عن المدلول و تم تعميم الأيديولوجيا. فالسلع تستهلك لا لما تسده من حاجات بل لما لها من قيمة رمزية ،أي تستهلك باعتبارها علامات . كما أن وسائل الإعلام لم تعد تنقل لنا إلا العلامات و الرموز، و بذلك صنعت واقعا ثانيا بديلا عن الواقع الحقيقي . فلم يعد الدال يشير إلى مدلول معين ، و لم تعد العلامة علامة لشيء واقعي بل أصبحت علامة لعلامة أخرى ، و تم إخراج الواقع من هذه العلاقة الجديدة . فلم تعد القيمة التبادلية تشير إلى قيمة استعمالية ، إلى حاجة أو هدف أو غاية ، بل إلى قيمة تبادلية أخرى و علامات و رموز أخرى.فإذا كانت الأيديولوجيا هي استبدال الواقع بالعلامة و النظر إلى الدال على أن له الأولوية على المدلول ، فإن تحليلات بودريار تكشف عن أن المجتمع الاستهلاكي لا يقوم بعملية الاستبدال هذه و حسب، بل إنه يحل العلامات محل بعضها البعض و يستبدل رموزا برموز و ذلك في غياب الواقع أو الشيء الحقيقي. صحيح أن بودريار ينظر إلى هذه العملية الجديدة على أنها نهاية للأيديولوجيا، إلا أنها نهاية لنوع معين من الأيديولوجيا، تلك التي تحل العلامة محل الواقع ، و ظهور لنوع جديد و هو المتمثل في إخراج الواقع ذاته من لعبة العلامات و الرموز.


الإستهلاك و تطور أشكال الهيمنة على الفرد
إذ الهيمنة على الإنسان كما بيّن ذلك النقد الفلسفيّ والسوسيولوجيّ مع ماركوز وآدرنو وهابرماس وفروم وبودريار وبورديو وفوكو...أضحت تعتمد :

أ- رغد العيش الذي حوّل الوفرة في المجتمع الاستهلاكيّ وما يرتبط بها من رفاهيّة وتسلية وملذات وأناقة... إلى ايديولوجيا جديدة تجعل من المنتجات نفسها واقتنائها تكييفا للحساسية وللفكر وللسلوك فيتوهم الأفراد أنّهم يحيون في أفضل العوالم الممكنة وينعمون بالمساواة والحريّة والسعادة.يقول ماركوز (الإنسان ذو البعد الواحد ) " إنّ المنتجات تكيّف النّاس ذهنيّا وتشرّطهم وتشكّل وعيا زائفا عديم الإحساس بِما فيه من زيف."
" Les produits endoctrinent et conditionnent, ils façonnent une fausse conscience insensible à ce qu elle a de faux."(L’homme unidimensionnel p.37)
ب-أسلطة الصورة من خلال الدعاية والإشهار والإعلام التي تحوّلت بحكم بنائها وكثافة دفق بثّها إلى ضرب من غسيل الدماغ الذي يصيب الأفراد ويسلب قدرتهم على التفكير بوضوح والحكم بشكلٍ مستقلّ.يقول (اريك فروم إما الإمتلاك أو الكينونة) " إنّ الأساليب الإيحائيّة شبه التنويميّة المستخدمة في الإعلانات التجاريّة والدعاية السياسيّة تعدّ خطرا كبيرا على الصحّة العقليّة، وخصوصا على الصفاء الذهنيّ والتفكير النقديّ واستقلاليّة الوجدان."
" Les méthodes hypnoïdes utilisées par la publicité et par la propagande politique mettent sérieusement en danger la santé mentale et tout particulièrement le pensée claire et critique et l indépendance émotionnelle."(Avoir ou être p.216)
ج- الإخضاع السلطويّ للأجساد الذي يهدف إلى التحكّم في أدقّ حركات الأفراد وأفعالهم وإشاراتهم من خلال إجراءات انضباطيّة تعضدها مراقبة مستمرّة للسيطرة على الإنسان وعياً وجسدا فيكون نافعا وطيّعا في آن. يقول فوكو ( أقوال وكتابات ) " إنّ الكيفيّة التي يُراقب بها فردٌ ما، ويضبط بها تصرّفه وسلوكه واستعداداته، والكيفيّة التي بها يتمّ الزيادة من كفاءته ومضاعفة مهاراته، والكيفيّة التي بها يوضع الفرد في المكان الذي يجعله الأكثر فائدة: هذا هو الانضباط في نظريّ."
"Comment surveiller quelqu un, comment contrôler sa conduite, son comportement, ses aptitudes, comment intensifier ses capacités, comment le mettre à la place où il sera plus utile: voilà ce qu est à mon sens la discipline." ( Dits et Ecrits )


المجتمع الاستهلاكي: الأسطورة وصناعة الزائف


يتقن المجتمع الراهن صناعة الزائف، لا في شكل أقنعة فحسب، وإنما على هيئة أغراض حيّة. ولقد بات إنسان عصرنا متوائماً ومتواطئاً مع مناخ الزيف هذا، إلى الحد الذي لا يعد وعيه واكتشافه للمزيف عنصر إرباك يجعله يراجع نفسه أو يتراجع. وإذا كان الإعلام بأجهزته وآلياته ومؤسساته وإستراتيجياته يسوّق الزائف فإنه لم يكن وحيداً في الميدان.. إن مؤسسات شتى، سياسية وثقافية تعاضدت معه لتكريس العالم الزائف الذي نعيش فيه.
إن إنسان العصر صار يتبع تقاليد وأعراف وتعاليم ديانة زائفة هي ديانة الاستهلاك البورجوازي.. إن كل شيء مهيأ للاستهلاك بثمن، فحتى ما هو روحي يتحول إلى سلعة.. لقد سقطت مقولة السلوك الاقتصادي الرشيد، والبحث عن أقصى درجات المنفعة إزاء توجه هذا الإنسان المظهري حيث الادعاء والتفنج.. إنه يريد أن يكون شيئاً ما، هاماً، من خلال استهلاكه، أمام الآخرين.. إن كثيراً من الرياء والنفاق يطبع سلوكه كما سلوك الآخرين من أقرانه، في ضمن مجتمع لم يعد يأبه كثيراً بالتمييز بين ما هو حقيقي وما هو زائف. وعند هذه الفجوة تتجلى فداحة الأزمة الأخلاقية للمجتمع.
إن إستراتيجيات نظام الاستهلاك تخلق في النهاية الإنسان الممتثل، المدمج في واحدية الاتجاه البراغماتي، حيث الجميع ديدنهم مصالحهم الأنانية الضيقة.. إن تلكم الإستراتيجيات كفيلة بضخ الحيوية في جسد الرأسمالية وترويض أزماتها. والاستهلاك مع تحوله من ظاهرة اقتصادية إلى أسطورة يضمن للمجتمع الرأسمالي تجديد نفسه، واستمراره.
والآن، صارت الموضة علامة مجتمع الاستهلاك، فلا شيء يلبث على حاله ـ على الأقل في الظاهر ـ فالموضة اختلاف على صعيد الشكل، غالباً.. اختلاف مؤقت، مهدد بموضة أخرى "اختلاف آخر مرتقب" وهي جذابة إلى حين.. المختلف المؤقت والجذاب شكلاً، بديل عن حضور المعنى، فالجاذبية، ها هنا، تفتقر إلى أي مضمون ذي دلالة عميقة. وفي مجتمع خاضع لآلية إنتاج الموضات ستكون الضحية الأولى هي الحرية، فأنت حر في أن تتبع الموضة، وإلاّ ستنبذ وتهمش، وهذه الآلية تشتغل على صعيد الثقافة والإعلام كما تشتغل على صعيد سوق السلع والأزياء، فقد غدا اختراع واختلاق الموضات الثقافية بديلاً عن إحداث تحولات جوهرية في عالم الثقافة.
إن الموضة تقطع مع ما مضى.. إنك معها ممنوع من التذكر، ناهيك عن الاستعادة.. إن المطلوب أن تكون معاصراً، وفي هذه الحالة حتى المستقبل لا يهم إلا بمقدار ما تتقرب موضة أخرى لتقطع مع الحاضر.. إن صناعة الموضة خديعة رأسمالية للحيلولة دون صناعة الثورة. وشيوع موضة ما تحقيق للقطيعية، فمن خلالها يجري إدماج البشر في إطار ظواهر شكلية أو سلوكيات، أو ممارسات محددة، حيث تغدو للموضة مضمونها السياسي.. إن حدثاً أولياً ـ قصة شعر مطرب، مثلاً ـ تتناسل كاريكاتورياً بعد أن تستنسخ بمئات آلاف النسخ على مئات آلاف الرؤوس لتعرض في كل مكان ـ أحياناً في القارات كلها ـ والمستنسخون كاريكاتورياً هم مقلدون، أي أنهم لا يستطيعون أن يكونوا أنفسهم.. إنهم يهربون من أنفسهم من خلال الموضة إلى ما هو زائف، مضحين بتفردهم وحريتهم الذي يبدو أنهم يخشونها، أو يخشون عبئهما.. إن هؤلاء هم، في حقيقة الأمر، قطعان مهيأة للانقياد بحسب مشيئة السلطات القائمة.. إنهم مشاريع فعل لكل ما تقتضيها الإستراتيجيات العاملة في مؤسسات الهيمنة والسيطرة والتحكم.. إن المجتمع الذي يدّعي أنه ديمقراطي يسعى من خلال آليات صيرورته إلى تجريد الإنسان من هاتين الخصيصتين اللتين هما دعامتا أية ديمقراطية، أي الإحساس بالتفرد والحرية. فمن يختار الحرية والتفرد يصور كحالة شاذة ومنبوذة، لأنه وقف وربما من دون أن يدري ضد إيديولوجيا المجتمع الاستهلاكي، وموجهاته الخفيــة، ( فالرفض الفكري والانفعالي للامتثالية يبدو وكأنه علامة عصاب وعجز ) كما يقول ماركوز.
وساعدت صناعة الصور على ترسيخ ظاهرة الموضات، في الحقول كافة، ولا سيما في المجتمعات ذات البعد الواحد ـ وأي مجتمع ليس كذلك في وضعنا التاريخي الحالي؟! ـ إن الاختلافات السطحية المصنوعة في سوق الموضات تشوش رؤيتنا لمسألة افتقاد مثل هذا المجتمع إلى التنوع الحقيقي.
تفتح صناعة الصور الأبواب واسعة أمام تنويع المعلومات وتدفقها واتاحتها لشرائح عريضة من الناس، في مختلف أنحاء العالم، بيد أن هذه الصناعة باتت تخضع لمنطق رأسمالي/ براغماتي هدفه مخاطبة عقول سلبية تتلقى هذه الصور، بشكل جاهز، وتتقلبها، كما هي، لتبني على أساسها أحكامها وتقويمها للأشياء والأحداث من دون رؤية نقدية. ويتنبه مفكر من طراز الفرنسي "ريجيس دوبريه" إلى هذه المعضلة فيؤلف كتاباً بعنوان ( الميديولوجيا ) والتي يقصد بها ( العلم الذي يدرس الوسائط المادية التي يتجسد عبرها الكلام ) ويطلق على المجتمع البشري "دائرة التواصل الإعلامي" ويرى في طوفان الصور الذي يحاصر الفرد المعاصر مفارقة أنها بدلاً من أن تشحذ الرؤية فإنها تسبب العماء.
إن الرؤية النقدية تكون بحاجة إلى فرشة معلومات كافية لتدعم مشروعيتها العلمية، لكن التدفق المشوش، وغير الموجه لقصدية واضحة للصور والمعلومات يسعى لتقويض الرؤية النقدية وسلب الشروط الموضوعية التي تجعل من تلك الرؤية إمكانية تتحقق. وفي حقيقة الأمر فإن ما يجري، بهذا الصدد، هو هذا بالتحديد، إضعاف ملكة التحليل والنقد عند الإنسان، ومن ثم إدماجه في ضمن قطيع ذي بعد واحد أسقط من قاموسه كلمات كانت في السابق القاعدة المفاهيمية للمثقفين ذوي النزعات اليسارية، ومن أمثلتها ( الكفاح الاجتماعي، الصراع الطبقي، التحرير القومي، الاشتراكية، حق تقرير المصير، الفكر الحر، الخ ). إن ما يحصل هو تزييف للحاجات.. إن الإعلان والدعاية والإعلام هو ما يقرر للفرد ماذا يختار من سلع وأدوات وألعاب ووسائل لهو وتسلية، وآراء في شؤون الحياة ( فما الترويح عن النفس، واللهو، والعمل والاستهلاك حسب إيحاءات الدعاية، وحب ما يحبــه الآخرون وبغض ما يبغضونه إلاّ حاجــات كاذبــة في غالـب الأحيان ). كما يرى هربرت ماركوز.
إنك لا تختار بوحي إرادتك.. إنه الإعلان والإعلام الذي يوجهك في الاختيار. وإذا ما أدركنا دوافع الإعلان التجارية والسياسية أمكننا الاستنتاج بأن النظام الرأسمالي قادر بإستراتيجياته وآلياته على تسيير الإنسان على وفق مقتضياته وأهدافه البعيدة.
في إطار مقارنة شيقة بين النص المكتوب والنص الإلكتروني، ينعى ريجيس دوبريه هذا المتعدد البراعات والمبدع . ينعى تراجع المكتوب في عصر الصورة والكتابة الإلكترونية. فمن وجهة نظره أن المكتوب ينتمي إلى عصر مضى وانقضى، إلى عصر في طريقه إلى الزوال، وأن عصر البلاغة الإلكترونية من شأنه أن يسهر على جثة المكتوب ليسارع الى دفنها؟
يكتب دوبريه، كما أسلفت، في نص شيق يغوي بالقراءة ويقول قولاً سحرياً في الكلمات والأشياء وما بعدهما، خاصة في إطار مقارنته بين النص المكتوب بطابعه القدسي، حيث ذلك الترابط القوي بين القدسي بكل تجلياته بالمكتوب على مسار تاريخ طويل من تاريخ الحضارة البشرية، وبين النص الإلكتروني. يقول في إطار مقارنته بين الكتاب ونظام الكتابة الرقمي: إن الكتاب، هذا الجسم المستطيل المتوازي الغريب، المؤلف من غلاف وثنايا وأول وآخر، كان الحاكم أو الآمر الناهي في نظام فكر وسلطة وثقافة، وأحسب أن الكتابة الرقمية قد تطوي هذا النظام. إن الركن الأول في نظام الكتاب هي فكرة الكل الجامع. فالكتاب هو جملة مجتمعة وقائمة، ومجموع مغلق على نفسه. فهو، لهذا، على الضد من انفتاح النص الالكتروني، وثمة في ثبات الكتابة ما يخالف ميوعة النص الإلكتروني وسيولته. فالكتاب زمنه زمن السرد والخبر والقصة، وله ابتداء ويجري إلى خاتمة، وهذه الصور الثلاث: السرد، الكل، الثبات، تبدو لي إلى انصرام، وهذا على العكس من الرقمي الذي، بقدر ما يشيع ويعمم، يعصى على الجميع في كل واحد. إنه يقدم التجاور على التماسك كما في حالة الكتاب، ومضماره "انسخ ـ الصق" بامتياز، فلا مركز ولامرجع جامع.
ما يريد أن يصل إليه دوبريه قوله إن عصر الانترنت يقطع مع عصر المكتوب. ففي حالة المكتوب يكون الكتاب محصوراً بين المؤلف والقارئ، أما في عصر الانترنت فكل الناس يحتفظون بحقهم في المشاركة في النص والدخول إليه، من فوق إلى تحت وبالعكس، فليس من مركز ولا من مرج ع جامع. في كتابه الصادر مع أواسط عقد التسعينات من القرن المنصرم "الميديولوجيا أو علم الأعلام العام، 1996"، راح دوبريه ينشئ لنا خطاطة تطورية تطال تاريخ البشرية، على غرار تلك الخطاطات التي روّجت لها الماركسية في عز مجدها ومدها، كذلك من كانت تسميهم مرغريت ميد "انتربولوجيو المقاعد الوثيرة". الخطاطة ترى أن تاريخ البشرية مرّ بثلاث مراحل، أو ثلاثة مجالات:
المجال الأول: هو المجال الشفوي ويمتد على تاريخ طويل من تاريخ البشرية، من أول رقيم طيني دشن فيه عصر المكتوب حتى اختراع غوتنبرغ للمطبعة في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي.
المجال الثاني: ويدعوه دوبريه بالمجال الخطي، أي عصر الكتابة الذي افتتحه غوتنبرغ. فمن الرحم التكنولوجي لمطبعة غوتنبرغ، ولد الكتاب والصحيفة والمثقف. ويذهب دوبريه إلى أبعد من ذلك، إلى قوله ولدت الاشتراكية أيضاً من حيث هي دعوة للعدل ومن حيث هي نشاط للمثقف ليدلي بدلوه في الشأن العام في إطار مساعيه لتغيير العالم.
المجال الثالث: يدعوه دوبريه بعصر المجال التلفازي، عصر الصورة والكتابة الرقمية، لا بل ان الفيلسوف والمهندس الفرنسي بول فيريليو يدعوه بعصر البلاغة الإلكترونية وعصر المراقبة الالكترونية الشاملة. في هذا العصر تطفو الصورة على ما عداها ويصبح الجميع أسرى الصورة التي تساهم، كما يكتب دوبريه، في تحديد إقامة بورجوازي الطابع. ففي القديم كان الناس يخرجون من بيوتهم لسماع الأخبار وتلقيها، أما في عصر المجال التلفازي الذي يفرض على المرء نوعاً من العبودية، ونوعاً من الصلاة له، فيستطيع المرء أن يعرف كل أخبار العالم وهو يجلس إلى جانب تلفزيونه الدقيق الاستقبال الذي أصبح بعداً حميمياً في المجتمع الاستهلاكي.
من وجهة نظر دوبريه، يدشن المجال التلفازي عصر هزيمة المثقف، من هنا نفهم تساؤل دوبريه في كتابه "كي لا نستسلم، 1995" . ما جدوى أن يكون المرء مثقفاً؟ داعياً المثقف إلى العودة إلى حجره أو جحره، وعدم الادلاء بدلوه في الشأن العام. فالأفكار ما عادت تقود العالم؟ والكتب ما عادت تصنع الثورات؟ ومجرة غوتنبرغ إلى تقهقر والى موت، والعاقل من يدفن موتاه.
الاتجاه الثاني: يرى أن مجرة غوتنبرغ إلى توسع كما يكتب إمبرتو إيكو في إطار دفاعه عن الكتاب، فصقيع البلاغة الالكترونية، لم يحل دون وصول الدفء وأشعة الشمس إلى المجرة، وما المراهنة على موت الكتاب وتراجعه في عصور البلاغة الإلكترونية إلا ضرب من فنتازيا فكرية. فالنص المكتوب لا يزال يحتفظ بقدسيته طالما أن المقدس يشكل بعداً أساسياً في حياة الانسان. ألم يعنون ريجيس دوبريه كتابه الاخير بـ"النار المقدسة"، ذلك القبس الآتي من البعيد والغامض والمجهول؟ صحيح أن دور الكتاب في النهي والحكم إلى تراجع لكنه ما زال يحتفظ بسطوته على قرائه ومعجبيه المفتونين بهذا الكل الجامع الحاوي على أسرار. فالكتاب، وعلى مسار تاريخي طويل، دائماً ما ينطوي على سحر وسر معاً. ألم يكتب إمبرتو إيكو روايته الجميلة "إسم الوردة" التي تدور أحداثها كلها حول كتاب ينطوي على سر؟ فميوعة النص الإلكتروني أصبحت مشاعة لا تغري كثيراً بالبحث عن سرها، أضف إلى ذلك قابلية هذا النص للاختراق، وبالتالي انتهاك قدسيته حيث يستعصي ذلك على الكتاب، الذي تنوس سردياته عادة بين بداية ونهاية، وهنا تكمن متعة السرد ومتعة النص المقروء معاً كما كان يسميها رولان بارت، وحيث تتلاشى هذه المتعة مع ميوعة النص الالكتروني وكثرة التواءاته.

الإعلام و إنتشار ثقافة الإستهلاك

عزا ريجيس دوبريه في كتابه الموسوم بـ "الميديولوجيا: علم الاعلام العام " هزيمة الايديولوجيا الشيوعية إلى انتصار الفيديولوجيا على الايديولوجيا، انتصار الاستهلاك الفوري الذي يروج له التليفزيون على حساب الأفكار والقناعات. يقول اوبريه: التلفاز هو أولا آلة اقتصادية، وليس أنبوبا من الأفكار. بهذه الصفة إنه الباعث الأول والقائد الأول للايديولوجيا المسمدة اقتصادوية. فالآلة تحمل أخلاق صيانتها، منسجمة مع مجتمع الفردية المتعبة والاستهلاك الفوري. وليس من طبيعتها إثارة مسارات تجريدية أو استدلالية أو تركيبية، ولا إثارة النقد، بل إنتاج أوان صغيرة بطريقة السلسلة التي تدفع للاستهلاك ( الأمر الذي لم يكن معقولا في المدرسة). فهي ليست مصنوعة لنقل الأفكار ولا لإنتاج قناعة معينة، وإنما شيء ما بين القبول السطحي والإشاعة الاجتماعية، وقبول الإشاعة ( استطلاع، روح العصر، رأي عام، الخ...) وحسب وجهة نظر دوبريه هذه، فقد أصبحت الايديولوجيا عتيقة وبالية في مقابل الفيديولوجيا، فهزيمة الشيوعية يجب البحث عنها في مكان أخر، في قصورها بالصور أكثر من فقرها بالأفكار، في عتق مصانعها بالأحلام والتي لم تستطع منافسة هوليوود و" الكليبات " التليفزيونية. فالشباب الدائم لشاربات الكوكاكولا الجميلات ورجولة الكاوبوي المدخن للمارلبورو وموسيقى الروك الحواسية، ربما عملت على قلب الشيوعية أكثرهما عملته مؤلفات سولجنستين أو بيانات هافيل.
إن ايقونات الثقافة الجديدة تنتج التماثل والتشابه وهذا بدوره كما يرى علماء النفس يسهل عملية التحكم والسيطرة، لا بل أنها تنتج نفس أنماط السلوك، فمن وجهة نظر ريجيس دوبريه أن كل دقيقة عنف ينتجها فيلم كفيلم " الحديقة الجوراسية " ينحت مستهلكا من الشرق إلى الغرب. فالأسواق تحتاج الى عملة واحدة هي الدولار، وإلى لغة واحدة هي الإنجليزية وإلى سلوك متشابه في كل مكان يجد تعبيره في سلوك أبطال الثقافة الجديدة. فمن وجهة نظر باربر أن طياري الخطوط التجارية، ومبرمجي الكمبيوتر، والمخرجين السينمائيين وأصحاب المصارف العالمية، ومشاهير السينما والأغنية، واختصاصيي البيئة، وأثرياء النفط، والإحصائيين ونجوم الرياضة. كل هؤلاء باتوا يشكلون فئة جديدة من الرجال والنساء يرون في الدين والثقافة والانتماء العرقي عناصر هامشية. فهويتهم هي قبل كل شيء في انتمائهم المهني، وبقدرتهم الفائقة على تحولهم إلى مستهلكين ومستهلكين فقط إن جاز التعبير، والأكثر من هذا إلى مروجين لثقافة جديدة تضع إيقوناتها على صدورهم.

د. سمير الزغبي

المراجع
Œuvres Jean Baudrillard
 Le Système des objets (1968), éd. Gallimard, Paris.
 La Société de consommation (1970)
 Pour une critique de l économie politique du signe (1972)
 Le Miroir de la production (1973)
 L’Échange symbolique et la mort (1976), éd. Gallimard, Paris.
 La Consommation des signes (1976)
 Oublier Foucault (1977), col. Espace critique, dir. Paul Virilio ; éd. Galilée, Paris.
 L’Effet Beaubourg (1977)
 À l ombre des majorités silencieuses (1978)
 L’Ange de stuc (1978)
 De la séduction (1979)
 Enrico Baj (1980)
 Cool Memories (1980-1985)
 Simulacres et simulation (1981)
 À l ombre des majorités silencieuses (1982)
 Les Stratégies fatales (1983), éd. Grasset, Paris.
 La Gauche divine (1985), éd. Grasset, Paris.
 L’Autre par lui-même (1987), éd. Galilée, Paris.
 Cool Memories 2 (1987-1990)
 La Transparence du mal (1990)
 La Guerre du Golfe n a pas eu lieu (1991)
 L’Illusion de la fin ou la grève des événements (1992)
 Fragments, Cool Memories 3 (1991-1995)
 Figures de l altérité (1994)
 La Pensée radicale (1994)
 Le Crime parfait (1995)
 Le Paroxyste indifférent, entretiens avec Philippe Petit (1997)
 Amérique (1997)
 Écran total (1997)
 De l exorcisme en politique, ou la conjuration des imbéciles (1997)
 Car l illusion ne s oppose pas à la réalité (1997)
 Le Complot de l art (1997)
 Illusion, désillusion esthétiques (1997)
 "À l ombre du millénaire ou le suspens de l An 2000" in La grande mutation ; enquête sur la fin d un millénaire (1998)
 L’Échange impossible (1999)
 Sur le destin (1999)
 Sur la photographie (1999)
 Cool Memories IV (2000)
 Les Objets singuliers : architecture & philosophie (2000), dialogue avec l architecte Jean Nouvel
 Le Complot de l art, entrevues (2000)
 D un fragment à l autre, entretiens avec François L Yvonnet (2001)
 Mots de passe (2000)
 L’Élevage de poussière (2001)
 Le Ludique et le policier (2001)
 Au royaume des aveugles (2002)
 Power Inferno ; Requiem pour les Twins Towers ; Hypothèse sur le terrorisme ; La violence du Mondial, éditions Galilée, (2002)
 L’Esprit du terrorisme (2002)
 Pataphysique (2002)
 La Violence du monde avec Edgar Morin ; éd. du Félin, Paris ; (2003)
 Au jour le jour, 2000-2001 (2003)
 Le Pacte de lucidité ou l intelligence du mal (2004)
 Cahier de l’Herne n°84, dirigé par François L Yvonnet (2005)
 Cool Memories V (2005), éd. Galilée, Paris.
 À propos d Utopie, entretien avec Jean-Louis Violeau (2005)
 Oublier Artaud, avec Sylvère Lotringer (2005)
 Les Exilés du dialogue, avec Enrique Valiente Noailles (2005)
 Pourquoi tout n a-t-il pas déjà disparu ?, éd. de L Herne (2007 ; 2e éd. revue et corrigée, 2008)
 Carnaval et cannibale, éd. de L Herne (2008)
Œuvres Régis Debray
 La Frontière, suivi de Un jeune homme à la page [littérature], 1967
 Révolution dans la révolution [Essai], 1967
 Nous les Tupamaros, suivi d apprendre d eux, 1971
 L Indésirable, [littérature], 1975
 Les rendez-vous manqués (pour Pierre Goldman) [littérature], 1975
 Journal d un petit bourgeois entre deux feux et quatre murs [littérature], 1976
 La neige brûle, prix Femina [littérature], 1975
 Le Scribe : genèse du politique, 1980
 Critique de la raison politique, 1981
 Le pouvoir intellectuel en France, 1986
 Comète ma comète [littérature], 1986
 Que vive la république !, 1989
 Christophe Colomb, le visiteur de l aube, suivi des Traités de Tordesillas [littérature], 1991
 Contretemps : Éloge des idéaux perdus, 1992
 Trilogie Le temps d apprendre à vivre I : Les Masques, une éducation amoureuse [littérature], 1992
 Vie et mort de l image, 1995)
 Contre Venise [littérature], 1995
 L œil naïf, 1994
 À demain de Gaulle, 1996
 La guérilla du Che, 1996
 Loués soient nos seigneurs, 1996, Prix Novembre
 Transmettre, Odile Jacob, 1997, traduit en anglais en 2000 (Transmitting Culture)
 L État séducteur, 1997
 La République expliquée à ma fille, 1998
 L Abus monumental, 1999
 Shangaï, dernières nouvelles [littérature], 1999
 Trilogie Le temps d apprendre à vivre II : Loués soient nos seigneurs, une éducation politique [littérature], 2000
 L Emprise, Gallimard, 2000
 Dieu, un itinéraire, 2001 ; Prix Combourg, 2003
 L Enseignement du fait religieux dans l école laïque, 2002
 Le Feu sacré : Fonction du religieux, 2003
 À l ombre des lumières : Débat entre un philosophe et un scientifique 2003 (Entretien avec Jean Bricmont)
 Ce que nous voile le voile, 2004
 Le Plan vermeil [littérature], 2004
 Le Siècle et la Règle [littérature] (2004)
 Le Siècle et la Règle : une correspondance avec le frère Gilles-Dominique o.p.
 Julien le Fidèle ou Le banquet des démons [théâtre], 2005
 Sur le pont d Avignon, Flammarion, 2005
 Les Communions humaines, pour en finir avec « la religion », Fayard, 2005
 Supplique aux nouveaux progressistes du XXIe siècle, Gallimard, 2006
 Aveuglantes Lumières, Journal en clair-obscur, Gallimard, 2006
 L Obscénité démocratique, Flammarion, 2007
 Un mythe contemporain : le dialogue des civilisations, CNRS Editions, 2007
 Un candide en Terre sainte, Gallimard, 2008
 Le Moment fraternité (essai), Gallimard, 2009
 Dégagements, Gallimard, 2010
 À un ami israélien : Avec une réponse d Elie Barnavi , Flammarion, 2010
 Éloge des frontières, Gallimard, 2010



#سمير_الزغبي (هاشتاغ)       Samir_Zoghbi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثورة التونسية : صعود البروليتاريا الجديدة و تأزم البورجواز ...
- مشهد الثورة و إيتيقا الصورة


المزيد.....




- فيديو غريب يظهر جنوح 160 حوتا على شواطىء أستراليا.. شاهد رد ...
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 1000 عسكري أوكراني خلال 24 سا ...
- أطعمة تجعلك أكثر ذكاء!
- مصر.. ذعر كبير وغموض بعد عثور المارّة على جثة
- المصريون يوجهون ضربة قوية للتجار بعد حملة مقاطعة
- زاخاروفا: اتهام روسيا بـ-اختطاف أطفال أوكرانيين- هدفه تشويه ...
- تحذيرات من أمراض -مهددة للحياة- قد تطال نصف سكان العالم بحلو ...
- -نيويورك تايمز-: واشنطن سلمت كييف سرّا أكثر من 100 صاروخ ATA ...
- مواد في متناول اليد تهدد حياتنا بسموم قاتلة!
- الجيش الأمريكي لا يستطيع مواجهة الطائرات دون طيار


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - سمير الزغبي - الإستهلاك و إستراتيجية الهيمنة الليبرالية