أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد حامد السلامونى - الثورة المصرية ، تمثيلات (اللغة والواقع والجسد)















المزيد.....



الثورة المصرية ، تمثيلات (اللغة والواقع والجسد)


محمد حامد السلامونى

الحوار المتمدن-العدد: 3449 - 2011 / 8 / 7 - 14:50
المحور: الادب والفن
    


اللغة والواقع والدولة القومية
(سرد اللغة)

الإطار المفهومى :
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
ـــــــــــ
ليس الواقع هو (ما يقع خارجنا) لا ، لا وجود لواقع موضوعى ، أصلى ، وآخر مجازى- كما تقــول الثنائيات الميتافيزيقيـــــــة- وكل ما لدينا فقط هو اللغة التى تخلق الوضوح الذى نفهمه كواقع- كما يقول (هايدجر) ؛ أى أن الواقع هو واقع الوعى الذى نمسك به بوضــوح من خلال اللغة- فالأشـياء والأحداث غير اللغوية، تقيم ، تسكن ،تتوطن ، فى اللغة- أما ماهو خارج اللغة فهو خارج الوعى ..
لكن الوضوح لا يعطى نفسه مباشرة ، بل عبر ما يحجبه ، فـ [التواصل]- كما يقول (بوتيتا)- [يعنى القول وعدم القول فى آن واحد .. فالدلالة نفســـها تنبثق فى النقطة التى يتقاطع فيها ما يقال وما لا يقال] ؛ [فاللغة تقول بقدر ما تخفى ... فالمنطوق (السماء زرقاء) يقتضى كل ألوان قوس قزح دون ذكرها] (1) ..
الطبيعة الإزدواجية التى تميز العلامة اللغوية ، بإعتبارها مرئية وخفية فى آن واحد- تولد تضاعفا واعيا ومقصودا للكينونة والظهور ، وتمكّن مبدئيا من قبول البناء المتخيل للواقع ؛ إنها تســــــمح بإنفصال الواقع الذى يتخذ على أنه واقع حقيقى (إمكانية الكذب) مثلا ..
فإنطلاقا من حرية الإختيار المفترضة بين إستعمال العلامة وإستعمال المرجع ، تصبح الســـــــرود الخيالية ممكنة (بل ويمكن القول إنها أكاذيب تطمح إلى أن تكون حقائق) (2) .. لذا فالقـــــــول بأن
الدلالة نفسها تنبثق من النقطة التى يتقاطع فيها مايقال ومالم يقل،إنما قصد به الإنتهاء الى قاعدة جديدة تنص على أن عملية التواصل لا تستند- كما هو شائع- الى مجموعة القواعد المشــــــتركة والمتفق عليها إجتماعيا ، وإنما إلى خرق هذه القواعد ..
فأصالتنا تكمن فى الحريات الفردية الإفتراضية فى إستعمال الشفرات وكذا فى المجهـــود التقنينى
الذى يبذل بإستمرار لكبح تلك الحريات ،لهذا السبب تجرى تبادلاتنا اللغوية دائما داخل الصراعات وداخل خــــرق الإتفاقات ، بإختصار داخل اللعب حول الشفرة الذى يحدد هذه الأخيرة تحديدا نفعيا
أفضل مما تفعل جميع أشكال الخضوع والإمتثال ..
هكذا ، فلدى (بوتيتا ) : العلامة ، من زاوية إستعمالها النفعى فى عمليات التبادل ، تؤسس الواقع على عملية عكسه الإفتراضية ،وتؤسس المرئى على ما يفترض أنه غير مرئى ،وتؤسس الإتفاق على إمكانية خرقه .. كما أن الفاعل الفــــــرد يتوفر على هامش من الحرية يسـتطيع فيه أن يبنى داخليته ويصونها ، وكذا يســتطيع فى ذات الآن أن يفاوض بخصوص علاقته بالمنتوجات اللغوية الممأسسة .. ولديه (الذات المبدعة لا تعثر على إســـــتقلالها المبدع فى ذاته ، وإنما فى خصائص الواسطة الرمزية مع الغير ، أى فى اللعب بالشفرات .
هذه الإفتراضية الرمزية تنكر الأمر الواقع وتتحايل عليه ، تضع البدائل ، تحلـــــــــم باليوتوبيات ، تملأ الثغرات التاريخية ، تتسرب إلى النزاعات وتنعش بلا كلل الإنتاج الرمزى .. إن الإســـتعمالات الإدراكية الواصفة للعلامة تضمن للذات إستقلالية لا تقبل الإختزال ، إســـتقلالية تحاربها بشراسة
الأنظمة الشمولية ...) (3) ..
هكذا ، فإذا كان الواقع هو الوضـــوح الذى نمسك به من خلال اللغة ، فإعتباطية العلامة تفتح
الباب على مصراعيه أمام أنواع أخرى من الوضـــــــوح ؛ هى (واقـع- ات) (4) أخرى ، تدخل
فى علاقة مع ما سأطلق عليه إصطلاح (الواقع المركزى) ؛ أى الواقع الذى يسعى الوضــوح
اللغوى المركزى (الذى تنتجه السلطة عادة) إلى تسييده ..
هذا هو الإطار المفهومى العام الذى أعنيه بـ (اللغة والواقـــــــع) ؛ كما سيتواتر إستخدامهما
فى هذه الدراسة ..

(2)
ــــــــــــ
إذا كانت الستينات قد شهدت تماثلا بين الدولة القومية والثقافة ، فبالإمكان تعيين هذا التماثل
بوصفه إحتشادا مؤسسيا شاملا يهدف إلى إزكاء وضـــــوح لغوى ما ، يصير بالإمكان فهمه
كواقع ، يتأسس على وجود(مركز تعريفى للعلامة اللغوية)، ويضطلع بدور(الواقع المركزى)
؛ الذى تتم إدارته عادة من خلال شبكة بالغة الضخامة من (أنظمة التمثيل) : هى مجمـــــوع
الآليات التى تعمل طـوال الوقت على إنتاجه وإعادة إنتاجه وضبطه وتشكيله وتداوله والزود
عنه ...
هذا ومايهدف إليه التوظيف الأداتى للثقافة من (توحيد الأفهام أوتوحيد المعنى- لحشر جميع
لقوى فى واقع واحد وحيد)- كما يقال عادة- إنما يأتى بغرض تدبير شـــــــــــكل تنظيمى بالغ
الإحكام ، يقوم بعملية (إدارة اللغة لإنتاج وضـوح- هو واقع مركزى) ؛ وفقا لإســـــتراتيجية
تنطوى على تقسـيم محدد للإستعمال اللغوى : (توزيع اللغات الإجتماعية والخطابات العديدة والمتنوعة ، داخل مختلف المواقع فى بنية إدارة اللغة)، عبر نسقية (الهيمنة والإستبعاد) ..
هكذا يتم إخضاع اللغات الإجتماعيـــة المختلفة- بما هى تأويلات مختلفة ، لكل منها وضوحه
الخاص به (أى واقعه الخاص به)- فى إنتاجها وتلقيها ، لمجمـــــوعة من المعايير الصارمة
، بحيث تتخذ من (الوضـوح- الواقع) الذى تتبناه الدولة مركزا لها .. ومن خلال هذه العملية
برمتها يعثر المركز التعريفى للعلامة اللغوية على التعريفات الهامشـية التى تؤكد مركزيته ،
هذا فى الوقت الذى تلعب فيه تلك التعريفات- التى تخرقه- دور (الفجوات) بداخل (النســـــق
اللغوى الحاكم نفسه) مما يحول دون هيمنته الكاملة على (الوضوح- الواقع) (أى أنها تمنـع
تحوله إلى حقيقة مطلقة)، لكن النسق- بدوره- يسعى لبسط هيمنته عليها، بالشكل التنظيمى
المحكم الذى أشرت إليه سابقا ؛ حرصا منه على عدم إتساعها ..
أما ما حدث فى مصر منذ سبعينات القرن الفائت إلى الآن- كما نلاحظ - فهو الحضـــــــــــور
الشاحب (للوضوح- الواقع المركزى) ، بل إنه ظل يزداد شحوبا ، بمرور الوقت ، حتى صار
فراغا لغــــــــويا (مركزيا) !.. مما حول العلاقة بين الدولة والثقافة- عبر اللغة- إلى عمليات
متواصلة من التواطؤ القصدى على (تغييب الواقــع المركزى) ، حتى أنه بالإمكان الزعم أن
الثقافة كانت الأداة الرئيسة التى إستعملتها الدولة فى الدفع بإعتام الواقـــع إلى أقصاه ، مما
أفضى إلى تبعثر وتشظى اللغات الإجتماعية كلها وتحولها إلى صمت على ألســــنة الناطقين
بها ..
وفى محاولة لتقصى حقيقة تلك الإشـــــــكالية ، وكيفية إمتدادها إلى الثقافة- بالمعنى العام ،
والخاص أيضا ؛ الذى هو الفن والأدب- مع التركيز على (المســــــــرح) ، سيتمحور حديثنا
هنا ، بإسترسالاته المختلفة ..




نظرية العرض المسرحى
(التأسيس وإشكالية اللغة) :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
علاقة مسرح الكلمة بالأيديولوجيا راسخة ووطيدة ، ولا يخطئها أحد .. وقد سـبق لكثير من النقاد
أن عملوا على إضاءتها بمرجعيات منهجيــــــــــــة ونظرية عديدة ، لذا سيقتصر تناولى لها على
ما يختبئ وراء التأسيس الإســـــــتعارى لذلك المسرح ؛ بشقيه (الإيهامى وغير الإيهامى)- نظرا
لحاجتى إليه هنا ..
(1)
ــــــــــ
تنبنى(نظرية العرض المسرحى) فى علاقتها بـ (النص الدرامى- اللغوى) ، على النظرية (اللغوية) الأرسطية ،التى تنص على أن علاقة اللغة بالأشياء هى علاقة تمثيل ، فوظيفة اللغة هى أن ترسم صورة للأشياء ، فى أذهاننا ، فى حال غيابها- أى أنه يقول بوجـــــــود علاقة عضوية بين الكلمة
والشئ ؛ فالكلمة تنوب عن الشئ فى الحضور ، وبالطبع سوف ينتفى حضــــــــور الكلمة فى حال
حضور الشئ نفسه ..
وتبعا لهذه النظرية ، تعد عملية تحويل النص إلى عرض ،عودة بالكلمات إلى أصلها المادى، وبذا
فـ (الإيهام الأدبى) ؛ الناتج عن علاقة القارئ بالنص اللغوى ، ســــــوف يتحول تلقائيا إلى (إيهام مسرحى) ؛ فبدلا من أن يندمج القارئ بالشــــخصيات وسائر عناصر العالم اللغوى ، سيندمج فى
عالم العرض المجســد ، هكذا ... مما يختفى معه التأثير المنفصل للغة ؛ أى (التأثير الأدبى) على المتفرج ..
هذا وقد صَدّق (اللا إيهاميون) على تلك النظرية ، وانصبت جهودهـم على محاولة إســــــــتخدام
تقنيات مضادة لتلك التى يســتخدمها الإيهاميون ، بهدف عرقلة عملية الإندماج- أى أن ما فعلوه يتمحور حول محاولة وضع مسافة فاصلة بين المتلقى والشئ المســـــــــــتحضر ، أملا فى الدفع بالوعى- بهذا الشئ- إلى أقصاه ، إعتقادا منهم أن الإندماج (وبحكم طبيعته الإنفعاليــــــــــة) إنما
يضبب الوعى بحقيقة الشئ ..
والآن ، بعد ظهور نظرية (دى سوســـير) التى تنبنى على إعتباطية العلامة ، وما انتهت إليه من
عدم كمـــون المعنى فى العلاقة بين الكلمة والشئ ، وإنما فى إختلاف الكلمة عن الكلمات الأخرى
فقط - فالعلاقة بين الكلمة والشــئ تكف عن أن تنبنى على(الإحالة) ؛ مما ينتفى معه مبدأ التمثيل أوالإنابة ..
هكذا ، يتحطم ما تتأسس عليه العلاقة بين (نظرية العرض) و(النص الدرامى- اللغــــــوى) ، مما
يعنى أن هذا الأخير ، سيظل يتدفق من فوق خشبة المســرح إلى المتفرجين ، بمعزل عن العرض
المجسد له ، لترتسم معه فى أذهاننا عروض خيالية عديدة ، تقيم مع العرض المجسد (الذى نراه
جميعا أمامنا) ، علاقة(مقارنة) ، يتحدد على أساسها الإندماج من عدمه- فكلما اتسعت المســافة
بين العرض المجســــد والعرض المتخيل ، وقع (الإنفصال) ، أما (الإندماج) فمرهون بضيق تلك
المسافة (5) ..
(2)
ـــــــــ
نعرف جميعا أن وجود المسرح لدينا، قرين وجود (أزمة)- لم ينقطع النقاد عن الحديث عنها
؛ منذ ستينيات القرن الفائت .. ولا شك أن لدينا أزمة لاينكرها أحد ؛ تدل عليها المقاعد التى
تركها الجمهور شاغرة- (الجمهور) : بماهو شرط الشروط المؤسسة للعرض ، فغيابه يمثل
تهديدا جذريا لوجود المسرح كـ (نوع فنى) ..
أين مكمن (الأزمة) ؟ .. لماذا تراجع الفن المسرحى ، وبالأحرى ، ما الذى تراجــع فى الفن
المسرحى تحديدا وأدى بدوره إلى تراجع الجمهور ؟ ..
إذا كان المســــرح هو(فن اللحظة الزائلة)- كما قال بيتر بروك- وإذا كانت اللحظة (الزائلة)
هى اللحظة (الراهنة ، الحاضرة ، الماثلة ...) التى ترتكز على (الآن) ، بما تتضمنه من زمن
غير متعين ، إذ سرعان ما تزول مخلية مكانها لـ (آن) أخرى ، إذن ، الذى فر من المســـرح
هو علاقته بالزمن الآنى ؛ أوبالوضوح اللغوى الآنى- بما هو الواقع نفســـه ؛ كما يحدث فى المحاورة الشفاهية بين إثنين ، فالمســــــتمع يفهم ما يقوله المتكلم فى التو واللحظة ، وهو
نفسه ما يحدث فى العرض المسرحى .. وهذه هى (ميتافيزيقا الحضـور) التى يتأسس عليها
المسرح عامة- مما يعنى أن مسرحنا يقدم خارج الشرط الذى يتأسس عليه فن المسرح !..
إذن ، الواقع الذى فر هاربا من المسرح ، ليس هو المشـــهد اليومى ، الحياتى ، الذى نحياه
منذ سنوات وسنوات ، وإنما هو ما ترسب فى وعينا من ذلك المشـهد ، بعد تحويله إلى لغة-
هذا ولو كان الواقع هو الأشياء والأحداث التى نراها ونلمســـــــها ونحياها بالفعل ، لكان قد
انعكس فى أذهاننا جميعا بكيفية مماثلة ، وما كان هناك ما يسـمى بالإختلاف ، أما الإختلاف
فينبع من اللغة ، نظرا لإنعدام التطابق بين اللغة والعالم ..
يولد الواقع فيما يفيض عن اللغة من وضـــــــوح- أى أنه يوجد فقط فى اللحظة التى تقوى
فيها ألسنتنا على الإمســـــاك به ؛ بما هو وضوح اللغة المضئ .. ومن اللغة المعتمة يهرب
الواقع ، يفر.. وهذا هو نفسه ما حدث لدينا حين بدأت (الدولة القومية) تتخبط- بشيخوختها
- فى تحولات التاريخ ...
أيعنى هذا أن أزمة الدولة القوميـة هى أزمة لغوية فى الأساس ؟.. أيعنى أن ثورة 25 يناير
، إنما انبثقت من تلك الآزمة تحــــــديدا ، بعد أن تفاقمت ؟.. ثم ما العلاقة بين أزمة (الدولة
- اللغة) وبين (المسرح) ؟ ..

اللغة والدولة القومية :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذا كان الواقع هو ما نفهمه بوضوح من خلال اللغة ، فغياب الوضوح ســــيصير هو غياب
الواقع- بماهو إشكالية اللغة نفسها- لكن غياب الواقع لايشير إلى (غموض المعنى) الناتج
عن (تعدد الدلالة) ، لأن تلك هى طبيعة اللغة ، فـ (الدال) بلا هوية دلاليـــة محددة ، وعادة
ماينفلت من قبضة جميع المدلولات التى تحاول الإمساك به- لذا فهناك دائما إمكان لتعايش
مجموعة لا حصر لها من المدلولات داخل الدال الواحد .. وذلك يعود- كما قال (بوتيتا) من
قبل ، تماهيا مع (نيتشه)- إلى أن ما يختبئ تحت الدال ، ليس المدلول ، وإنما دوال أخرى
- فالدال يقول بقدر ما يخفى ، كما أنه مستودع هائل لتاريخ إســـــتخداماته المختلفة ، أما
المعنى فعائم على السطح ، هكذا، فالتشعب ، هو سمة المعنى الذى ينطوى عليه الدال ..
أين الإشكالية إذن ؟..
الدولة القومية- تبعا للبنية العامة المؤســـــــــــــــسة لها- عادة ما تتبوء مكانة (المتعالى
الميتافيزيقى): راعى القيم العليا والمعانى الكبرى- الأصلية أوالمركزية- والمصائر... إلخ
؛ أى أن الأفراد والجماعات إنما يستمدون معنى وجودهم من الدولة نفســــــها- هذا على
الرغم من أن نظام المعنى الذى تنتجه الدولة القومية ليس أكثر من (تأويل) ، يسـتند فقط
فى شـــــــيوعه إلى قوة هذه الدولة ، إلا أنه تم التعامل معه على أنه هو المعنى الأصلى ،
المركزى ، أما ماعداه من تأويلات ، فلا تعدو كونها (ظلال معانى- أى معانى هامشية) ..
تلك الوضعية ، تعنى أن (سلطة- الدولة القومية) تستمد من النظرية اللغوية الأرســــطية
ماتؤسس عليه وجودها ؛ فالمعنى كامن بداخل الشئ نفسه ، دون أن يمنع هذا من وجود
ظلال معانى ، تسعى الدولة القومية لمحوها- كما أشرت من قبل فى الحديث عن (النسق
والفجوة) ؛ وهو نفسه ما يطلق عليه (بوتيتا) : (المجهـود التقنينى الذى يبذل بإستمرار
لكبح تلك الحريات) .. مما يعنى أن (سلطة- الدولة القومية) تمثل إمتدادا بنيويا للســلطة
بمفهومها اللاهوتى ، هكذا ، مما يعنى أيضا أن هناك (نظام) حاكم للعلاقة بين المركــــز
والهامش- بمقتضى قانون الثنائيات الميتافيزيقية- من خلاله تتم الهيمنة على(الفوضى)
الناتجة عن التداول المجتمعى المتعدد للعلامة اللغوية ..
يبدو أن إشكالية الدولة القومية ، لدينا- منذ بداية حكم مبارك إلى الآن- تتمحــور تحديدا
حول عدم إستطاعتها إنتاج وتمثيل (المعنى المركزى- الأصلى) ؛ الذى تتحدد بالنســــبة
إليه المعانى الأخرى المتصفة بالهامشية ، مما حول كل معنى على حدة إلى معنى أصلى
، مركزى ، بالنسـبة إلى المعانى الأخرى ، وبذا سـقطت الدولة القومية ذاتها فى تناقض
مع مايؤسس سلطتها .. وبتعبير آخر ، يمكن القول إن أزمة الدولة القومية لدينا تتجلى
فى أزمة الوعى بوجود واقع محدد ، يمكن الإمساك به ، بوضـوح ، من خلال اللغة- لذا
فأزمة الدولة هى أزمة اللغة- وكما سنرى ، فهذا تحديدا ، هو ما أدى إلى تراجــــــــــع
المسرح الرسمى ؛ التابع للدولة ؛ بماهو (مسرح الممارسة اللغوية) ، فى مقابل تنامى
الإتجاه نحو مسرح (الممارسة الجسدية) ..


(المظاهر المتعددة للأزمة) :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
ـــــــــ
(الاّراء الواردة فى الكتاب لا تعبر بالضرورة عن توجه الهيئة بل تعبرعن رأى وتوجــــــه
المؤلف فى المقام الأول)- هذه العبارة بدأت فى الظهور منذ سنوات على المطبوعات التى
تصدرها بعض المؤسسات التابعة لوزارة الثقافة .. مما يعرب- للوهــلة الأولى على الأقل-
عن وجود تحول مركزى فى السياسات الثقافية العامة لمؤسسات الدولة - على مرجعيــــة أيديولوجية مغايرة لتلك التى كانت سائدة من قبل- إذ تعيد أوتحاول أن تعيد تعريف نفسـها
؛ بماهى (راعى القيم الليبرالية العليا ، بكل ما يتعلق بها من :إختلاف وتعدد وتنوع ...)!..
لكن توجها كهذا يستحيل فهمه حق الفهم بمنأى عن الآليات العامة الحاكمة لعمليـــة إنتاج
(الحقيقة) ، عند النظام البائد نفسه ، فعلى سبيل المثال ، لقد رفع النظام شـــــعارات كثيرة
، من ضمنها : (الديمقراطية والتحول الديمقراطى ... إلخ) ، وفى الوقت الذى كنا نظن فيه
أن هذا التحول إنما يعنى إرتباط إرادة المواطن بما للقول من (أثــــــــر) على الرأى العام-
كمصدر لشرعية الســــــــــلطة- وفى هذا تكمن قوتنا ، وقوة الديمقراطية ذاتها فى إحداث
تغييرات فعلية على الأرض ، كما تنص على ذلك أدبياتها .. إكتشفنا أنها إتخذت تفســــيرا
خاصا عند التطبيق ، تمحور- كما لاحظ الجميع أيامها- حول مبدأ (حق المواطن فى القول
، فى مقابل حق النظام فى الفعل) ، هكذا ، ليتم الفصل بين (القول والفعل) ..
ولعلنا نتذكر أيام أن كنا نقبل بشغف على كل ما يقال فى وسائل الإعلام عن مسالب النظام
- لاسيما (سرد الفســاد) .. وكم ارتسمت فى أفق توقعاتنا مواقف قانونية عديدة وحاسمة
، فى إطار ذلك السرد !.. ولأن النظام الذى منحنا (حق التعبير- بالقول) ، كان قد استحوذ
لنفسه ، هو فقط ، على (حق الفعل) ، أدركنا أن (ديمقراطية- النظام) وكل مايترافق معها
من (حق القول ، الرأى العام ، شرعية الســـــــــلطة ، القانون ... إلخ) لا تزيد عن كونها
(لغة ، كلمات) مجردة من القوة- هنا إكتشفنا ضعفنا وهشـــــاشتنا ، فى مقابل قوة النظام
(نظام الفساد) ، المدجج بأجهزة الأمن- فهذه الأخيرة هى القوة الحارســــــــــــة (للحدود
أوللمسافة الإستبدادية) الفاصلة بين (حق القول وحق الفعل) ..
(ســرد الفساد) بتداعياته المختلفة ، (علامة لغوية) مكتنزة بالدلالة ، إذ تلعب دور(الذات
الفاعلة) فى سيميولوجيا النظام ، ونظرا لضيق المقام ، سأكتفى بالإشــــــارة إلى أن هذا
السرد تحديدا ، إستحوذ على كمية هائلة من اللغة ؛ فى الحياة اليومية عامة ، والكتابات
الإدبية ووسائل الإعلام المختلفة- لا يســــتثنى منها تلك المتعلقة بإعلام النظام (جرائد ،
مسلسلات ، برامج ... إلخ) ..
ما يعنينى هنا ، هو أن تفريغ المقولات السـياسية المتعلقة بـ (الديمقراطية) من محتواها ،
بقدر ما ألقى بنا فى خضم أكاذيب النظام ،إلا أنه كان يعنى أن(اللغة لم تعد تعنى ما تقول)!
، مما يضعنا قسرا أمام (الإفسـاد) المتواصل للغة ، الذى عمد إليه النظام ، بالتعدد الدلالى
(السلبى)- أى الذى لا ينتج عن (حوار إجتماعى) وإنما عن (أكاذيب)- الذى اشتعل بداخل
اللغة ، بقصدية ومنهجية نادرين .. فحرية إســـــــــتهلاك اللغة ، دون ضابط أورابط ، فى
المؤسسات الإعلامية والتعليمية المختلفة ؛ (تحطيم قواعد النحـو والصرف والبلاغة ...)
آلت بها إلى حالة من النزيف الدائم المحطم للبنية اللغوية ذاتها- وكم من أصــــوات علت
مطالبة بضرورة تدخل الدولة ، على نحو عاجل ، لإيقاف تلك المذبحة ؛ اللغوية !..
هناك شواهد لا تحصى تشير- بما لا يدع مجالا للشك- إلى وجود وإسـتفحال هذه الظاهرة
، سأخص منها فقط - بالذكر- تلك المتعلقة بتنامى اللجوء إلى اللغات الأجنبية ، لا ســيما
الإنجليزية ، كبديل عن لغتنا ، فى شتى مناحى حياتنا- (وأذكر أننى سمعت مسـئولا كبيرا
فى النظام يصرح ،ذات مرة ،بأن الباب مفتوح أمام من يريد أن يصير وزيرا دون شرط
سوى إجادة اللغات الأجنبية) ! ، وهناك حكاية أخرى- أكثر طرافة ودلالة- تروى عن أن
أحدهم قال بصلاحية (جمال مبارك) لأن يكون رئيســــــا لمصر لا لشئ سوى لأنه (يجيد
الإنجليزية إجادة تامة) !! ..
هكذا ، ووفقا لما ســـــبق يصبح بإمكاننا فهم التراجع (الرقابى- الأيديولوجى)- النسبى ،
لوزارة الثقافة ، فوراء المنحى الليبرالى يكمن مشــــــروع تبعثرى ، بمقتضاه تتم إعادة
توزيع الجماعات والأفراد على مواقع لغوية مختلفة- هى جزر لغويــة متباعدة ومنعزلة
، فى دولة قومية فاقدة للمعنى ..
(2)
ـــــــــ
طوال سنوات حكم مبارك تراجعت هيمنة الدولة القومية تماما وبشكل متصاعد على إنتـاج
المعنى ، لأسباب عديدة ، من ضمنها الظهور المتوالى للوســــــائط الإعلامية التكنولوجية
الجديدة ، لذا تميزت تلك الفترة بالصخب الجماعى- إذ كان الجميع يصيحــون فى كل مكان
تقريبا وفى وقت واحد ؛ كل بشكواه ... لكن أحـدا لم يكن يعر الآخـر إهتماما- كأنما لا يفهم
ما يقول ! .. حتى أنه يمكن الزعم بأن (الحوار- الإجتماعى ، الســــياسى ، الثقافى) تحول
إلى خيبة أمل ، لن يكشف الزمن سوى عن مرارتها المتفاقمة !..
فكل كان يتكلم لغة إجتماعية وسياسية مختلفة ، وكل لغة كانت تحتل موقعا هامشـــــيا عند
من يسمعها؛مقارنة بلغته هو المركزية ،وبذا تحولت اللغات الإجتماعية إلى أوهام إنفرادية
، إلى كهوف مغلقة على ساكنيها؛ على جدران كل كهف منها ترتسـم ظلال شبحية غامضة
لآخرين- كأنما كنا نتكلم دون أن تعنى كلماتنا ما تقول ، ولكى نسمع الآخرين أصواتنا فقط
.. هكذا، فـ (الآخر) كان يعانى من فقدان صفته الواقعية ؛ ذلك أنه لم يكن ينتسب إلى(واقع
الأنا) ، لذا كان غريبا وملتبسا ويدعو إلى الشك !.. لقد كان مطموسا فى الفجــوة الفاصلة
بين اللغات الإجتماعية المتباعدة والمتشظية والمبعثرة- هذا (الضجيــج الإجتماعى) ، كما
نلاحظ ، يتمحور حول(حضور الصوت الإنسانى)، وعلى الرغم من غياب التواصل اللغوى
(الأيديولوجى)، إلا أنه (أى الصوت) كان يشير إلى (الجسد)؛ ذلك الشبح الذى كان يقترب
من بعيد ، وسيظل يقترب حتى يحتل المركز (الإجتماعى ، السياسى ، الثقافى) ..
فى هذه المرحلة كنا نعانى من صمت اللغة عن قول الواقع بوضوح- لذا فقــــوات الأمن لم
تكن تحرس الواقع ذاته ،ذلك أن الواقع يغيب عن اللغة التى يعوزها الوضوح، قوات الأمن
كانت مدخرة فى أفق توقعات النظام ؛إلى أن تعثر الجماهير على الوضوح- الواقع،فتتجاوز
(اللغة- القول) إلى (الجسد- الفعل) ..
فى تلك الفترة ، بدأ بزوغ ما سمى بعد ذلك بـ (عصر الروايـــة)- فى مقابل الأفول المتزايد
لعصر (المسرح والشعر والقصة القصيرة)، ذلك لأن الرواية تنبنى على (تعدد المنظورات
أوالأصوات واللغات الإجتماعية ، الناتج عن إنفجار الوحدة الأيديولوجية) ، وما شــــهدته
تلك المرحلة هو الإنفتاح الفعلى للرواية على (ضمير المتكلم وتعدد الأصـــــــوات واللغات
والأزمنة ، عوضا عن ضمير الغائب والراوى العالم بكل شئ ... إلخ) ..
ولمزيد من التدليل على ما أقول ، فمنذ نهاية السـبعينات تقريبا- إن لم يكن قبل ذلك بقليل
- حدث فى (الشعر) نوع من (الهوس اللغوى)، إذ صارت اللغة بالنسبة إلى الشعراء هى
هاجسهم الأوحد .. فقد عمدوا- أفرادا وجماعات- إلى (نحت) لغات شعرية خاصة ،أطلقوا
عليها إصطلاح (الصوت الشعرى المنفرد)، وسرعان ما تحول إلى معيار جمالى جديد ..
وكما نلاحظ ،فإختلاف القاموس اللغوى للشاعر الفرد، عما عداه من الشعراء ،صار هو
(معيار القيمة الشعرية كلها !)، هذا ولم يقف هذا المعيار عند حدود النوع الشعرى فقط
، بل إمتد ليشمل الإبداع الأدبى والفنى بأكمله ..
وأيامها- كما نذكر جميعا- تعالت الأصوات منددة بظاهرة (الغموض فى الشـــــــــــعر) ،
وماترافق معها من تنظيرات إنصبت فى مجملها على إعلان إنتهاء جماليات الإنشـــــاد
الشعرى ، بما فى ذلك الغنائية ، وكذلك إختفاء النبوة الشـــــعرية ... إلخ ، هكذا لينتهى
الأمر بالجدل الطويل الذى شهدته الساحة الثقافية آنذاك،إلى أن تصبح القصيدة (صوت
فردى- مكتوب) موجه إلى (متلقى فردى- قارئ) ؛ مما تحول معه الشــــعر إلى جزيرة
لغوية معزولة ..
وإذا كان هذا تعبيرا عن وجود لغة تعانى غياب الوضوح الذى يمكن لنا أن نمســـــــــك به
كواقع ،فقد شهد المسرح ظاهرة مماثلة ،هى ظاهرة(المنودراما) كأفق جديد حاضن للذات
الفردية ؛ التى حكم عليها المسرح الأيديولوجى بالصمت ، .. فمسرح الممثل الفرد كان قد
بدأ فى مراودة عدد غير قليل من المسرحيين المصريين (سمير العصفورى ، سناء جميل
، عبد الرحمن أبى زهرة ... وغيرهم) ، كما شــــهدت تلك الفترة رواجا ملحوظا لمثل هذا
النوع من الدراما بين هواة المسرح أيضا ..
وإذا حاولنا تأويل ذلك المنحى ، فى سياقه التاريخى ؛ أى على مرجعية (الوهـم الإنفرادى)
- الذى أشرت إليه توا- سيتبين لنا أن أزمة (الوجود الإجتماعى) التى نعانيها كأفراد- وبما
هى أزمة لغة مهشمة ،متشظية(أومتجزرة)، كاذبة(لاتعنى ماتقول)- قد حولتها المنودراما
إلى (شـــرنقة- مطاطية) ، إن جاز التعبير ، يحاول من خلالها (الممثل) العودة إلى وجوده
الفردى (لا الشخصى)؛ كأنما يقول :(ها أنا أقف أمامكم وحيدا، بداخل لغتى- عالمى ، الذى
يتسع للجميع ...) ، لذا- وكما نلاحظ - كان لم يزل (فردا- يمثل) ؛ (يرتدى قناع شـــخصية
أخرى)، ولم يكن (شخصا)، ذلك أنه- فى تلك الفترة- كان لم يزل لديه أمل فى العثور على
تواصل مفقود ،أى أن علاقته بالشخصية كانت علاقة إستعارية مع(آخر)؛ يأمل أن تفضى
بهما إلى وحدة مفهومية ما ..
وبتعبير آخر،كان مفهوم المنودراما- فى ذلك السياق التاريخى- يتمحور حول بحث (الأنا)
عن (الآخر)، بماهو أحد مكونات وعى الأنا بنفسها، ليتحول الوعى لديها من مجرد وعى
بسيط ، تحصله بنفسها عن نفسها، إلى (حقيقة)- أى أن الذات العارفة بينما تحول نفسها
إلى موضوع للمعرفة ، فإنما تنفتح على (الآخر) أيضا، فى محاولة لتجاوز (ديكارت) إلى
(هيجل) ..
هذا المفهوم كان يستند ، مســرحيا ، إلى ما تتميز به المنودراما بوجه خاص عن غيرها
من الأنواع الدرامية الأخرى ، من ضرورة أن تتبوء (لغة الجســــــــد) موقعا مركزيا فى
العرض ، إلى جانب (اللغة الكلامية)- بما يختلف بها عن لغة الجسد المســـرحى النمطية
المعتادة ،التى دأب مسرحنا على تقديمها، كلغة تحتل موقعا هامشيا وتضاف من الخارج
- كأنما هى زائدة دودية- إلى الأداء العام ؛ المرتكز على (صوت الممثل) ..
ففى المنودراما ، عادة ما يجد الممثل نفسه مضطرا لإســتخدام جميع أدواته بكفاءة غير
معهودة- ماوسعه ذلك- نظرا لوجوده بمفرده طوال العرض على خشبة المسرح ؛ تعبيرا
عن مختلف المستويات التركيبية المتعلقة بالشخصية ، وحلا لإشـكاليات جمالية عديدة ،
يصير معها تنـوع الأداء أحد أهم العوامل الضابطة لإيقاع العرض ككل ، أما ملء الفراغ
المسرحى بعالم الذات الفردية للإستحواذ على المتفرج ، فهو الذى يضعنا أمام الحضور
الملموس للجسد نفسه ... إلخ ..
لكن الإشكالية كانت تكمن فى أن إستعارة (الممثل / الشـخصية- أوالأنا / الآخر) ، كانت
تفشل دائما فى العثور على وحدة مفهومية ما ، أى على (معنى) ، ذلك أن المعنى ليس
كامنا فى الإستعارة ذاتها وإنما فى مقارنتها بالواقع الحرفى ، ولإن الواقع الحـــــــرفى
(كوضوح لغوى) كان غائبا ، فسرعان ما انســـــحبت المنودراما من خريطة العروض
المسرحية المصرية ..
لكن ماتمخضت عنه تلك المرحلة،هو ذلك(الإزدواج- الإضطرارى) فى اللغة المسرحية
،والذى سيظل يتنامى بمرور الوقت حتى يصل- فى السنوات القليلة السابقة على ثورة
25 يناير- إلى حد التضاد ؛ فما تقوله (اللغة الكلامية)، ستكذبه ، بل وستفضحه (اللغة
الجسدية)- كما سنرى ، هذا فى الوقت الذى تحول فيه (الفرد) إلى (شخص) ..
(3)
ـــــــــ
فى ظل (التشظى اللغوى) العارم ، الذى انغمرت به حياتنا ، كان محتما على المســــرح
الرسمى- التابع للدولة- بما هو (مسرح الكلمة) ؛ بشـــقيه (الإيهامى وغير الإيهامى) ،
وبحكم إنبنائه على النظرية اللغوية الأرســــطية القديمة (كما أشرت سابقا) ، أن يصير
جزءا من أزمة (الدولة- اللغة) ..
ويبدو أن إشكالية مسرح الكلمة عامة- وفقا للمفهوم الفلسفى الخاص بنظرية العرض –
تتمحـــــــور حول أنه فى لحظة العرض ؛ أى فى لحظة التلقى ، إنما يعانى إنفجارا لغويا
يســتحيل حصره ، ذلك أن إنبناء نظرية العرض على تحويل (الإيهام الأدبى) إلى (إيهام
مسرحى) ؛ بإغلاق فم اللغة (النص) بصخرة التجسيد (العرض) ، يتناسى أن المتفرج-
فى لحظة تلقيه للعرض المجسد- إنما يحول الأشياء المادية التى يراها على خشــــــــبة
المسرح إلى لغة ؛إلى كلمات .. عملية التحويل هذه إن هى إلا ترجمة الأشياء إلى(وعى
لغوى- هو الوضوح الذى نمسك به كواقع) ، والإشــــكالية تكمن هنا تحديدا ، فالعرض
المجسـد تتم ترجمته إلى لغات إجتماعية عديدة ؛ هى جزر لغوية معزولة- كما أوضحت
من قبل- هذه اللغات لاتدخل فى علاقة حوارية معلنة مع بعضها البعض ، وتظل كل لغة
منها مغلقة على نفسها بالوضوح(أى بالواقع) الذى تقدمه للناطقين بها .. أى أن لحظة
العرض- هنا- تصير بمثابة تكرار شديد الكثافة للتجزر اللغوى الذى نحياه بالفعل خارج
المســــــرح ؛ بما يفضح غياب المركز التعريفى للعلامة اللغوية- الذى هو المعنى الذى
تنتجه الدولة عادة ، ويلعب دور (الواقع المركزى) ..
ومن ناحية أخرى ، فوفقا للنظرية العكســـية ؛ التى ترى بأن (الإيهام الأدبى)- المتعلق
بالنص- إنما يظل قائما طوال العرض ، دون أن يتخلى عن مكانه للـ (إيهام المسـرحى)
؛لأن هذا الأخير هو نتاج المقارنة التى يجريها المتلقى بين العرض الذى يتجسد خياليا
فى ذهنه ، وبين العرض المسرحى المجسد ، مما يجعل منه وضعا إحتماليا ونســـبيا ،
وفقا لهذه النظرية، سيصير العرض المجسد نفسـه مجرد عرض ضمن عروض أخرى
عديدة- هى العروض الخيالية التى تتجســـــد فى مخيلة المتفرجين- تتصارع معا على
إعطاء اللغة النصية تجسيدات مختلفة ..
مما يعنى أننا من الناحيتين المتعلقتين بـ (الإنفجار اللغوى والإنفجار التجسيدى- الفعلى
والخيالى) ، سنجد أنفسنا- فى مسرح الكلمة- أمام فوضى عارمة تنبنى على (خـــــرق
العلامة- اللغوية والمجسدة) ، هكذا ، دونما ضابط ما !...
وإن كانت هذه الظاهرة لصيقة الصلة بالعروض المسرحية عامة- مما يستدعى إعادة
النظر فى جميع النظريات المتعلقة بالعرض ،إلا أنها هنا- فى السياق التاريخى السابق
على ثورة 25 يناير- تتميز بمزيد من الفوضى ، مما يمكن معه القول : إن مشــــاهدة
عرض مسرحى ما ، إن هى إلا زج بالمتفرج فى متاهة لا مخرج منها- مما يضعه هو
نفسه أمام وجود شامل ، مأزوم بما لا يوصف ! (6) ..
هذا دون أن نتغاضى عن العامل الإضافى الذى يتوفر عليه مسرح الكلمة،فـ (النصوص
العالمية والستينية ، وكذلك النصوص التى تقدم عادة لمن يطلق عليهم الآن كبار كتابنا
المعاصرين)- وبما هى محتشدة بالحقائق الأيديولوجية الممســـك بها لغويا- إنما تتكلم
لغة متآكلة ؛ منهكة من كثرة الإستعمال ،وإن شئنا الدقة ، هى لغة قديمة تم إنتاجها فى
إطار مواضعات تاريخية لم يعد لها وجود؛أى كجزء من اللغات الإجتماعية العديدة التى
كانت تصطرع مع بعضها البعض للإستحواذ على واقع تاريخى قديم ،لذا صارت(اللغة)
صدئة ومخادعة- تقودنا إلى معان فات أوانها- ولا تصف ما نحياه هنا والآن ..
أما النصوص التى توفرت على قدر من النقد الإجتماعى والســـــــياسى لمجريات الحياة
اليومية ، فلم تفعل غير أنها رهنت نفسـها (للحدث) أو (للواقعة) ، دون أن تتجاوزه إلى
تحولات الأشياء والعلاقات ، لذا ظلت مفعمة بالإعتام اللغوى، لا بالوضوح (الذى نفهمه
كواقع)- ذلك أن السؤال الذى يؤرق الإنسان المصرى- فى ســـياقنا التاريخى هذا- ليس
هو (سؤال الوقائع) ؛ التى يعرفها جيدا ، وإنما هو (سـؤال الواقع) ؛ بكل ما يتفرع عنه
من أسئلة تتعلق بالمكان والزمان اللذين يحتلهما هذا الإنســــــــان على خريطة تتجاوز
الجغرافيا إلى التاريخ والوجود ؛ لأن الســؤال عن (الواقع)- فى حقيقته- هو سؤال عن
(الأنا)- والسـؤال (من أنا ؟) ، يتضمن أساسا السؤال عن (أين أنا ؟) ؛ دون أن تنحبس
(أين ؟) هذه فى الجغرافيا بمعناها البدهى .. وما أعنيه بهذا هو أن اللغة النصيــة ؛ لغة
الحقيقة ، عادة ما تفترض أنها اللغة الوحيدة التى يتكلمها أويجب أن يتكلمها الجميع ،
مما يجعلها تبدو متعاليــة على ما يعتقد المتفرج أنها حقيقته الخاصة ، فيصطرع معها
سعيا إلى تحطيمها ..
كل هذه الإشـــــكاليات لا تعنى سوى أن اللغة فقدت قوتها على (التعبير والتأثير) معا ،
مما أفضى بالجمهور إلى الإنصراف عن المسرح الرسمى ..
(4)
ـــــــــ
تكمن إشكالية غياب الوضوح الذى تضئ به اللغة ؛ والذى نفهمه كواقع ، فى تعدد الإحالات
، فتعريف الشئ بإحالته إلى شئ آخر، هو (المستعار منه)، يحوّل هذا الأخير إلى (مرجعية)
، وإشكالية عدم الوضوح تكمن أساسا فى تعدد المرجعيات- إذ يصير لكل منا مرجعيتــــــــه
الخاصة فى ظل غياب المرجعية العامة والمشتركة ..
هذه الوضعية هى ما أطلق عليه (نيتشه) من قبل إصطلاح (العدمية)، فبعد أفول المتعاليات الثلاثة(اللاهوت والميتافيزيقا والأخلاق)- فى الغرب- كان (موت الإله) يعنى(موت الإنسان
- العادى) ، وميلاد (السوبرمان) ؛ الذى سيتحمل مسئولية صناعة مصيره بنفسه ..
أى أن(العدمية)- لدى نيتشه تعد وضعية إيجابية ، ويبدو أن (مشروع فوكو)- الذى يستمد
العديد من مرتكزاته التأسيسية من نيتشه- يقول بإستبدال(الدولة الحداثية) بـ (الإله) ؛ مما
بدد إمكانية الحضور التاريخى للسوبرمان ..
الآن- وفى ظل العولمة- تعانى الدولة الحداثية،أوالمسماة بـ (القومية)، من التحلل والأفول
، بينما يحضر الإنسان بعد أن أعيد تأسيس وجوده على مبدأ (أنا جســد إذن أنا موجود) ،
كبديل عن التأسيس الديكارتى (العقلانى) ؛ (أنا أفكر إذن أنا موجود) ..
هذا المنحى يتمدد الآن (كونيا) ، وإن اتخذ فى كل مجتمع شكلا خاصا به .. هذا الشــــــكل
الخاص بمجتمعنا المصرى هو ما أتناوله هنا ..
(المركز الدلالى)- الذى تمثله الدولة القوميـــة لدينا- والذى تنتظم فى محيطه جميع اللغات الإجتماعية عادة ، أدى غيابه إلى إحداث فوضى لغوية هائلة ، هى ماأطلقت عليه (التجزر
اللغوى)- أوالتشظى والتبعثر ... وبمرور الوقت أمكن تحديد هذا الغياب كـ (فراغ مرجعى)
،ومن الغريب أن هذا الفراغ نفسه إمتلك لغة خاصة به- هى لغة المركز الدلالى الغائب !..
ذلك أن السؤال (من أنا ؟)- بما هو سؤال عن التيه فى فوضى اللغات المتجزرة التى ضاع
معها (الوضوح- الواقــــــــــع)- بقدر ارتباطه بالسؤال عن (أين أنا ؟) ، إنما يشير أيضا-
وبالأساس- إلى (غياب الآخر) ؛ الذى هو (الدولة) نفســـها ، لذا فـ (أين أنا ؟) تعنى (أين
الدولة ؟) ..
غياب الدولة- كمركز دلالى أوكفراغ مرجعى- أدى إلى وجود لغة (سياسية) موحدة ؛ ذات
وضوح خاص تم إدراكه كواقع .. أى أن الوضوح اللغوى الذى أمسكنا به كواقع، كان هو
(الفراغ) ؛ وهو نفسه ما إلتقينا عنده جميعا ، متخذين منه مركزا دلاليا ، تتحدد بالنســبة
إليه الدلالات الأخرى (الهامشية) ؛ التى نتبناها ..
ولعل هذا هو نفسه مايقف وراء الدوى (الإجتماعى- السـياسى)- لا الأدبى- الهائل ، الذى
أحدثته رواية (عمارة يعقوبيان) ، ففيها نطالع لغة إمتثاليـة تماما ، إذ تنغلق بإحكام على
موضوعها، بتقريرية ملفتة- دونما إيحاءات أوظلال ؛ لذا فهى لغة شهيدة- تقاتل وتموت
فى سبيل ما تروى عنه .. وبتعبير آخر ، يتم توظيف طاقة اللغة برمتها فى إبراز وإظهار
وبلورة وإيضاح وتمثيل وتجسـيد الشئ نفسه ، عند درجة الصفر.. هكذا بلا أحالات ، بل
إن الأمر كان يبدو كأنما اللغة تسعى لتخليص نفســـها- أى لتخليص الأشـياء والعلاقات-
من تلك الإحالات ، لكى نراها كما هى ؛ إلى الحد الذى يمكن معه القـول إنها رواية بدون
أدب (وهذا هو ما أثار إسـتنكار كثير من الأدباء والنقاد للإحتفاء الجارف بها- خاصة أن
تاريخ الرواية لدينا لم يشــهد نظيرا له من قبل)- ذلك أنها تنتهك لغة الأدب ؛ أعنى اللغة
الأدبية المعيارية التى تعتمدها المؤسسات الأدبية (الرسـمية وغير الرسمية) لدينا ، تلك
اللغة التى تعد واحدة من اللغات الإجتماعيــــــة التى تعانى الإنغلاق والعزلة ، مثلها مثل
سائر اللغات الإجتماعية الأخرى ..
هذا الموقف من (عمارة يعقوبيان) ، يعود إلى (المفارقــــة) التى انطوى عليها وجودنا
الإجتماعى نفسه ؛ ففى إطار إشكالية اللغة- التى عرضت لها فيما سبق- تحول الواقــع
المراوغ (لغويا- أى المنفلت من قبضة اللغة) إلى أحجية أســــطورية غير معقلنة ، إلى
الحد الذى يمكن وصفه به بأنه تحول إلى (سـرد خيالى- أكثر خيالا من الخيال المعهود)
، نعم ،لقد كنا نحيا فيما يشبه رواية واقعية سحرية ؛ تتحول فيها الأشياء والشخصيات
والعلاقات والأحداث ، وفقا لمنطق غرائبى - وقد أشرت من قبل إلى أن (الآخــــر) كان
يعانى من فقدان وجوده الواقعى- وهذا، فى حد ذاته ،ليس غريبا، فقد كنا نقرأ(ماركيز)
دون أن ندرى أننا نقرأ فيه ما نحياه بالفعل ؛ وأذكر أن (محمد إبراهيـــــم مبروك) كتب
مقالا ، أيامها ، بعنوان (جارثيا ماركيز كاتبنا) !..
(ولعل هذا هوالسبب وراء تحول كائنات الواقع الإفتراضى،أومايعرف بـ (الفيس بوكيين)
إلى أبطال حقيقيين فى واقع تاريخى فقد واقعيته ومن ثم حقيقته وصار أقرب إلى(الوهم)
- وإن صح هذا التأويل ، فهو يعنى أن الطرح الذى تقدم به(بودريار)؛ الخاص بإستحالة
الثورة فى الواقع الإفتراضى الذى حل محل الواقع الحقيقى ، قد تحطم ، ذلك أن التاريـخ
نفسه قد أثبت أن المنطق الحاكم للواقع الإفتراضى يتضمن هو الآخر أفقا ثوريـــا خاصا
به) ..
وما أعنيه بهذا هو أن (عمارة يعقوبيــــــان) ذهبت فى الإتجاه المعاكس تماما لما نقوله
ونكتبه ونقرأه ونفكر فيه ... فما تتميز به تلك الروايـــــة تحديدا هو أن (الراوى- ضمير
الغائب ؛العالم بكل شئ)، والذى كان يبذل كل ما بوسعه للإشارة إلى نفسه ،إلى حضوره
؛إذ يربطنا به ، بصوته ، بشدة .. ظل يعانى الغياب- الذى بلغ حد الإمحاء- أمام الحضور
الكثيف ، بل والعنيف ،للأشياء والشخصيات والعلاقات والأحداث ؛ إذ بدت أشبه مايكون
بالنحت البارز .. هذا الغياب الذى إتصف به الراوى ، هو الذى جعله يتماثل مع صــورة
(الآخر) عند (الأنا)الخاصة بكل منا ، فهو يسمعنا صوته ، مشيرا إلى وجوده ، دون أن
يجعلنا نراه أونعبأ بما يقول- ذلك أن الأشياء والشخصيات ... إلخ ، هى التى كانت تقول
نفسها ، بلغتها هى .. غير المأهولة بالأيديولوجيا (أى غير المرمزة- وبالأحــــرى غير
المتضمنة لمرجعية ما ، سوى نفسها هى ؛ فهى مرجعية نفســـها ، أى أنها لم تكن لغة
إستعارية ، ذلك أن هذه الأخيرة إنما تصنع مع الزمن وبحكــم التراكم الدلالى والعلائقى
، طبقات تلو أخرى ، شديدة السـماكة ، تحول بينها وبين المعنى الأول ؛ المباشـــــــر ،
التمثيلى ، الدال على الأشياء ، ذلك المعنى الذى عادة ما نصمه بالتقريرية ونســــــعى
لطمسه وتجاوزه) ..
ما الذى يعنيه هذا ؟ ..
إنه يعنى أن(عمارة يعقوبيان)أعادت للواقع الحرفى- الذى هوالمعجم الثقافى والإجتماعى
العام- الثقة التى كان قد افتقدها ... لقد بلورته تلك الرواية وحولته إلى اليقين المـــراوغ
الذى أمسكنا به أخيرا ، فى وضوح لغوى بدهى !.. كلمة (بدهى) هنا ، تعنى أننا أمام لغة
قشرية ، مبتذلة أدبيا، حاول الجميع تجنبها ، لكنها هى ،دون غيرها، كانت العمق الخفى
نفسه ، الذى أعيانا جميعا البحث عنه !..
هكذا، فعلى العكس من الإتجاه المعتاد للأدب ، تحركت(يعقوبيان) من الخيال إلى الواقع ،
لتتميز- دون (أو أكثر من) غيرها من الروايات- بالإمســاك بواقع عادة ما كان يفلت منا
، كأنما فاجأت الواقع فى إنطفائه اللغوى العام وأمسكت به ، صانعة ما يمكن تســــــميته
بـ (تركيز الواقع) - أعنى الواقع المعجمى ، الحرفى ،العام ،الموحد الذى أمكن بواسطته
لكل واقع آخر ، متصف بالهامشية ، أن يتخذ موقعا منه ..
غير أن هناك ملمحا هاما يتجلى بوضوح فى تلك الرواية ، ويتعلق بتركيز الواقــع ، هو
إدماج التعدد اللغوى أوالصوتى ، فى صوت الراوى ، فمن خلال تقنية (المنولـــوج الحر
غير المباشر) تمكن الراوى من الربط بين اللغة الخاصة بالشــخصية واللغة العامة- فى
محاولة منه لتوحيد اللغة كى تضئ بوضوح هو واقع عام - لكنه الواقع كوضـوح لغوى
مؤلم- كلمة (مؤلم) هنا تشير إلى (الجسد) ؛ فالمشـــــاعر تدل عليه وتستحضره ، لنجد
أنفسنا من جديد أمام لغة تعنى ما تقول ، بقدر ما تتوفر على طاقة تعبيرية خاصة جدا ،
تضع الجسد- بأثرها (المؤلم)- أمام الواقع ..


اللغة والجسد
(سرد الجسد)
ــــــــــــــــــــــــ
عندما عاد الوضوح من جديد إلى اللغة ؛الوضوح الذى أمكن الإمساك به كواقع (عند درجة
الصفر) .. حضر الجسد ؛ كعبور من اللغة إلى (الفعل- الثورى) ..
ولا شك أن وضعا كهذا تمشهد- لدينا- تاريخيــا ، عبر صيرورات عديدة ، يصعب حصرها ،
وما إشارتى إلى(عمارة يعقوبيان) كعلامة فارقة على الإمساك بالواقع كوضوح لغوى ، بما
تضمنته من إعادة تعريف للســـــــرد الخيالى- جعل منه إمتدادا للوقائع والأحداث الجارية ،
ينبنى على إستعارة (السرد الصحفى)- سوى إشارة إلى تحويل الرواية إلى سجل لليومى ؛
وهى عودة لأصل القص ؛ أى للخبر ، فى محاولة للبحث فى تفاصيـــــــــل ذلك اليومى عن
(الواقع- الضائع)- هذا على الرغم من إنتسابها إلى الســـــرود الخيالية .. مما يجعل علاقة
الرواية نفســها باليومى- أى بالحقيقى- تنطوى على (مفارقة) ، ستدشن من الآن فصاعدا
تحولا مفصليا ؛ إذ ســتجذر الإبداع برمته فى تربة اليومى والجارى ؛ ليس فقط لأن اللغة-
بعد الثورة- أصبحت تعنى ماتقول وهناك من ينتظرها بشغف- بعد عودة الحوار الإجتماعى
- لتجيب عما يجب أن يكــــــون عليه نظام العلاقات الجديد بين الدولة والأفراد والجماعات
(مما سيعيد مســـــرح الكلمة ليتبوء مكانا لائقا به) ، وإنما لأن (المذهب الواقعى) سيسعى
لإستعادة نفسه من(الفنتازيا- لاسيما الواقعية السحرية)؛ فالحقيقة لديه لاتتخذ من الخرافة
القديمة- أومن الخيال عامة- مكانا لإقامتها ، وإنما من الحياة اليوميـــة ، بعد أن تحولت ،
هى نفسها ، إلى خرافة ! ..
ويبدو أن هذا المنحى يرتبط بشكل ما بـ (الواقع الإفتراضى) الذى حل محل الواقع الحقيقى
، ونظرا لعدم إقرارى بالإنقسـام الثنائى للواقع إلى (حقيقى وإفتراضى)- كما يذهب بودريار
- لأن هذا المنحى يمثل إســتمرارية واضحة للميتافيزيقا التى أسعى إلى تقويضها ، فسوف
أبادر إلى القول بإن ما أعنيه بالواقع إنما هو (التمثل) الذى نمسـك به عن طريق (التمثيل)
- الذى هو الوضـوح اللغوى- أما تحوله إلى (واقع إفتراضى) فيعنى أن اللغة تتوالد بمنأى
عن (الواقع اللغوى المعجمى- أوما يسمى بالواقـــــــع الحرفى ؛ الذى هو الأصل) ، منتجة
تضاعفا علاماتيا منفلتا ؛ مطلق الســراح ... وهذا ما حاولت (عمارة يعقوبيان) تحديدا أن
تنأى بنفسها عنه ؛ عائدة إلى الأصل ..
وسأضرب مثلا بـ (سرد الفساد) فى علاقته بـ (الديمقراطية) ، وفقا للمفهـــوم الذى عمدت
الدولة القومية لدينا ، فى مرحلتها الأخيرة ، إلى تكريسه :
(الفساد) فى إطار السرد وإعادة السرد إلى مالا نهاية ، على مرآى ومســـمع من الجميع ،
فى (الجرائد الرسمية وغير الرسمية والمسلسلات التليفزيونية والأفلام والروايات ...إلخ)
، بلغات إجتماعية وأشكال تعبيرية مختلفة ، أنتج عددا لا حصر له من الصور المتناســـلة
من بعضها البعض ؛ عن الفساد كموضوع للممارسة الديمقراطية ..
ففى أطار مبدأ (حق المواطن فى أن يقول مايريد ، مقابل حق النظام فى أن يفعل ما يريد)
، تحولت كلمة (الفســاد) إلى رمز لا يكف عن التوالد والتضاعف والإتساع ، صارت معه
الديمقراطية هى حرية إنتاج الصور وإعادة إنتاجها وتداولها والتعليق عليها وتأويلها ...
بمنأى- أو فى إستقلال تام- عن (الواقع الحرفى للفساد نفسه- كوضوح) !..
ففى هذا الإطار كانت صور الفساد المختلفة تدعى قول الحقيقة- بماهى مناط الديمقراطية
، على الرغم من أنها تتظاهر بذلك فقط .. وفى حالة كتلك ، ننزلق إلى العماء ،إذ لا نقوى
على التمييز بين الفساد (الأصل- الذى تمسك به اللغة الحرفية) والصور الإستعارية التى
تمثل إنحرافا عنه ، فنقع تحت هيمنة صـــور مخادعة ، مصطنعة ، شبيهة بالأصل- هكذا
تتظاهر الصور بأنها الحقيقة أوتزعم بأنها الحقيقة ؛ بديل عن الحقيقة ، لا تخفى الحقيقة
، تتبدى وكأنها الحقيـقة- فهى [العلامة النافية للعلامة وتزعم إحتواءها على دلالة] (7) -
هذا الإنتقال من عالم الرموز التى تخفى شيئا وراء ظاهرها إلى الرموز التى تتظاهربأنها
لا تخفى شيئا على الإطلاق ، لدى (بودريار) ، [يعد علامة على نقطة التحول الحاسـمة ،
تتضمن الأولى نظاما كهنوتيا للحقيقة والكتمان (لا تزال تنتمى إلى فكرة الأيديولوجـيا) ،
وتعد الأخيرة بداية لعهد من الصور الزائفة والمحاكاة ...] (8) ..
فالفساد- كواقع حرفى ، تم إغتياله من قبل الصور الإسـتعارية التى إنتحلت هويته ، مما
يعنى أن السرد التشبيهى للفساد لم يعد صورة فى المرآة عن (الفساد- الأصل)، بل على
العكس من ذلك ، إذ تحولت تلك الصــــور إلى علامة على إنتفاء وجود الأصل ... أى أن
الصور المتناسلة ، الشبيهة ، إمتصت الأصل تماما .. هذا الإمتصاص (للفسـاد- الأصل)
يعد هو نفسه إمتصاصا (للديمقراطية- الأصل) ..




السرد الجســدى
قبل الثــــــورة :
ــــــــــــــــــــــــ
الواقع المؤلم- يدفع بالجسد إلى الدخول فى علاقة مع اللغة ، مما يحولها إلى إفراز للجســــد
نفسه ، وبذا يتحول الواقع إلى وضوح لغوى مشفر للجسد ؛ أى أن الوعى (علة الفعل)، يعاد
بناؤه على الجسد (شرط الفعل) ، بعد إعادة تأسيس السؤال (من أنا ؟) ..
ذلك أن القفز فوق اللغات الإجتماعية الخرساء،التى تكلست على نفسها- نظرا لإنعدام الحوار
فيما بينها- أخذ معنى التحول فى مفهـــــوم (الذات) ؛ من (حدود عالمى هى حدود لغتى) إلى
(حدود عالمى هى حدود جســـدى)- دون أن يعنى هذا إلغاء اللغة الكلامية ؛ فما حدث تحديدا
هو إعادة تأسيس تلك اللغة على الجســد (الذى يوحدنا) بدلا من الأيديولوجيا (التى تفرقنا)-
فالجسد المعيش ؛الذى بدونه تكف الحياة عن أن تكون ممكنة ،والذى أكون به هو ذاتى ؛ إذ
يجذرنى فى العالم ويمكننى من الإدراك ، هذا الجســد سيصير هو منبع (الوعى- اللغة) ؛ أى
أن (المعنى)- منذ الآن- سيستمد وجوده من الجسد ، أو أن (الواقع) سيصير هو (الوضـوح
الذى نمسك به من خلال جسد هو لغة كلامية) ..
وبتعبير آخر ، أجسادنا بالنسبة إلينا هى (ما يتأسس عليه الواقع الذى نعيه بوضوح من خلال
اللغة)، أى أننا طوال الوقت نحيا مع الأشياء بأجسادنا ، عبر لغة هى بطبيعتها متشابكة كغابة هائلة؛فالمفردة اللغوية الواحدة تنفتح على القاموس اللغوى بأكمله ،مما يجعلنا نتلقى الأشياء المتحولة إلى لغة عبر الثقافة بأسرها؛ ممايعنى أننا نتعامل مع الأشياء عبر حضورها(اللغوى
- الثقافى) المفعم بحمولات دلالية- لا آخر لها- يقع الجسد فى مركزها تماما ، وبكلمة واحــدة
: الجسد يقيم وراء الأفكار والمشاعر وهو الذى يجعلها ممكنة ..
(1)
ــــــــــ
منذ منتصف السبعينات وطوال الثمانينات ، إنغمرت حياتنا بســــــــــيل هادر من (المذكرات الشخصية) ، وكلها تقريبا كانت تتحدث عن مرحلة الستينات ؛ متخذة من (الجسـد المصرى
المنتهك : الأنثوى ، فى غرف النوم- مذكرات إعتماد خورشيد- والذكورى ، فى المعتقلات-
مذكرات اليساريين والإخوان المسلمين وغيرهم) موضوعا لها ..
وما نلاحظه هنا ، هو أن تلك المذكرات إنطوت- وللمرة الأولى فى تاريخنا- على أمرين :
الأول ــ تحول التأريخ للوطن إلى (ملكية فردية) ؛ إذ صار بإمكان أى فرد أن يكتب شهادته
عما عاينه مباشرة ، من خلال تجربته الذاتية ..
الثانى ــ تمحور هذا التأريخ حول (الجسد الفردى) ؛ إذ صار الجسد (المسيس)- كمستودع
للذكريات- هو أحد موضوعات التاريخ ..
ففى إطار صيرورة تحول الهوية من الأيديولوجيا إلى الجســــــد ، أصبحت التجربة الذاتيه
مصدرا للوعى ؛لقد ارتكزت (المذكرات) فى فضحها لعملية تسييس الجسد- التى قامت بها
النخبة العسكرية الحاكمة فى الستينات- على (الســؤال : عن قيمة الفرد ؟) .. وكان تحديد
تلك القيمة يتم من خلال فك الرموز الأيديولوجية الإســـــــــتبدادية المطبوعة على الجسد-
كرهينة لدى السلطة ..
فالفرد كان يدلى بشهادته على التاريخ ، مستندا إلى جســـــده ، كأنما هو (آخر) ؛ لقد كان
يتحدث بضمير المتكلم عن جسده ،وعلى الرغم من أنه كان يكتب(جسد- ى)،إلا أن الجسد
كان يلعب دور ضمير الغائب ؛ أى أنه كان يدلى بشهادته على الجسد- ذلك لأن الجســد لم
يكن ملكا للأنا ، ولم يكن مصدرا للهوية الذاتية ، وإنما أحد ممتلكات السلطة الســـياسية ؛
إذ عمدت إلى تأميمه وشحنه بهويتها هى ؛بالتموضع فى (المسافة الحداثية) التى أحدثتها
بين الأنا والجسد ..
ونلاحظ أيضا أن (الفصل) بين الأنا والجسـد ، تم لدينا فى إطار الثقافة العالمة التى ترافق
ظهورها الأول مع بدية ظهــور الدولة القومية الحديثة فى عهد محمد على ، والذى تبلور
واكتمل فى الحقبة الناصرية ، وها هو الفرد يكتب عن جسـده ؛ يكتب تاريخ هذا (الفصل)
نفسه ، بماهو المكان الخفى الذى تقيم فيه السلطة ..
(2)
ــــــــــ
المنظور الجديد المتعلق بالجسد ، فى عالم مابعد الحداثة ، بدأ يتنامى لدينا على مستويات
ثقافية شتى ، منذ نهاية الثمانينات تقريبا ، فى إطار التحـــــول الجديد إلى ما عرف أيامها
بعالم (المســكوت عنه) .. إلا أن ما يمكن قوله بهذا الصدد هو أن الأدب- لدينا ، إلى الآن-
لم يصل بعد إلى إعادة تعريف (الذات) بالإستناد إلى المرجعية الجسدية ، وكل ما نقـــــرأه
لا يزيد عن كونه محاولة لإستكشاف عالم الجسد أيديولوجيا- أعنى أن الجســـد تحول إلى
موضوع للأيديولوجيا ؛ لدرجة يمكن معها القول أن الأدب لدينا يقف بالجســد عند مرحلة
(الضرورة) لا (الحرية) ؛ أى أنه ينظر إلى الجســــد كجزء من الطبيعة ، لا كمنتج للثقافة
، لذا عادة مانرى الجسد موضوعا للقهر من قبل بنية ثقافية إستبدادية عتيقة- فالجسـد لا
يفكر ولايدل على الذات ، بقدر ماهو أداة قياسية كاشفة عن حقيقة الأوضاع السائدة ؛ أى
أن الذات (أوالأنا أفكر) لم تزل ماثلة أمام الجسد (كموضــوع للوعى) ، ومن ثم فما نقدمه
إلى الآن لا يخرج عن فكرة (العالم كتمثل) ..
هذه الإشكالية تعد جزءا لايتجزء من إشكالية اللغة- التى أشرت إليها من قبل- فلغة الأدب
، مجرد لغة مثل ســـائر اللغات الإجتماعية الأخرى ؛ التى تعانى التجزر والعزلة .. وعلى
الرغم مماسبق ، إلا أن الجسد- كما نلاحظ- تحول من موضع إقصاء إلى موضع بؤرى ..
(3)
ــــــــــ
منذ نهاية التسعينات وبداية الألفية الثانية ، ومع رواج القنوات الفضائية وانتشـــار ثقافة
الصورة ، بدأنا نلاحظ تنامى الإهتمام بالجسد عبر (الفيديو كليب) ، فظهرت (بوسى سمير
وهيفاء وهبى وروبى وغيرهن) ، ليضعن أجســــــــادهن فى تقاطع مع النسق الإجتماعى
(الدينى ،الأخلاقى ...) السائد ،محطمات بذلك إستقراره وإنتظامه التقليديين ،وعلى الرغم
من كل ما يقال بهذا الصدد عن (تســـليع الجسد) ، إلا أن ما لا ريب فيه هو أن الجسد فى
أعمالهن الفنية،لم يعد ملحقا- كزائدة- بكلمات الأغانى ،بل على العكس من ذلك ،فالكلمات
أصبحت تستمد معناها من الجسد نفسه ، مما مثل نقلة نوعية فى التحول إلى الجســــــــد
كمصدر للهوية ..
(4)
ـــــــــ
مسرح (الممارسة الجســدية)- الذى تنامى لدينا بكثافة واضحة فى السنوات القليلة السابقة
على ثورة 25 يناير- كان بمثابة علامة فارقة ، خط فاصل ، أوقطيعة معرفية مع مســــــرح (الممارسة اللغوية)؛ ذلك أن هذا الأخير لم يعمد فقط - طوال تاريخه- إلى التعامل مع الجسد
كـ (زائدة) ملحقة بالوعى الأيديولوجى ، بل إنه عد هذا الوعى سابقا فى الوجود على الجسد
نفسه ؛ ففى أطار ثنائية (العقل / الجسد) ، تم إعتبار (الذات)- فى هذا المســــرح- هى (الأنا
أفكر)- أى الفكر المحض- مما أعلى من قدر العقل وعده معيارا للحكم على الجســــد ؛ الذى
عانى طويلا من التبخيث من قدره ، وبذا تم تأسيس الذات والهوية على العقل ..
أما (مسرح- الممارسة الجسدية) فقد أعاد الإعتبار إلى الجسد ، أى أنه منح الجســـد صوتا
خاصا به ،وعده موطن الهوية- ذلك أن علاقة الجسد بالأنا تكشف عن تجربة ذاتية جسـدية
، تسجل إعادة إعتبار للجسد الذى كان مقصيا من قبل ..
لذا، فى المسرح الجسدى يصير الجسد هو لغة التعريف بالذات ، أى أن الذات هنا تبدو وقد
عثرت على لغة الهوية الجسدية ،المضادة للغة الكلامية السائدة (التى لا تعنى ماتقول ، بل
وكثيرا ما تكذب) ؛ مما أدى إلى وجـــــود ما أطلقت عليه (الفراغ المرجعى- الذى إمتلك لغة
خاصة به ؛ هى لغة المركز الدلالى الغائب) ..
وبتعبير آخر ، السؤال (من أنا ؟)- الذى أشرت من قبل إلى إرتباطه بالســـؤال (أين أنا ؟) ،
الذى إتخذ فى سياق محدد معنى (أين الدولة ؟)- أعيدت صياغته ، بعد إكتشاف (الفــــراغ
المرجعى- الذى هو غياب الدولة) ، فى إطار نقلة نوعيــــة من (الدولة- كأيديولوجيا) إلى
(الجسد كموطن للأنا) ؛ الجسد الذى صار حضوره بمثابة سياسة جديدة للرغبة ...
هذا و(الرغبة) تفترض وجود (أنا راغبة)؛ بقدر ما هى (رغبة فى الآخر)، وما بين (الأنا)
والآخر) يوجد ما تسعى الرغبة لإشباعه ، وهو (الإعتراف- إعتراف الآخر بالأنا) ..
سنلاحظ- كما أشرت من قبل- أن المنودراما،حاولت- قبل ظهورالمسرح الجسدى بسنوات
طويلة- الإستحواذ على هذا الإعتراف ، لكن اللغة الكلامية مثلت عائقا يستحيل تجاوزه ..
إعتراف الآخر بالأنا ، فى المسرح الجسدى ، كان يعنى إعادة طرح الســـــؤال عن إمكانية
(التواصل) بينهما عبر (الواقع- عند درجة الصفر؛ الذى مثله الوضوح اللغوى النسبى فى
عمارة يعقوبيان والسرد الصحفى) ، الذى يعد هو نفسه بديلا عن الفراغ المرجعى ..
هذا الفراغ المرجعى هو ما تم التعبير عنه (رمزيا) بـ (الفراغ المســرحى) ؛ إذ صار إطارا
لعرض سردى ذاتى ، لحبكة منتظمة متعلقة بالجســد ، تسعى لإحياء جذوة الحياة الداخلية
- خارج اللغة الكلامية ، بل على الضد منها ، ترسيخا لمعيارية مختلفة ترتكز على الجسـد
(كنموذج جمالى) ؛ يستعرض من خلاله (الشــــــباب الراقص) مفاتن الجسد الحى ، وقوة
حضوره ، بل وقدرته على إمتلاك الفراغ وملئه بالمعنى ؛ بما هو قوام وجود الذات ..

(5)
ـــــــــــ
المسرح الجسدى- تبعا لما سبق- إنما يموضع الجسد فى مركز اللغات الإجتماعية المتعددة
والمختلفة ، بحيث يمكن القول إن الجسد يصير هو النقطة التى تتقاطع عندها تلك اللغات ،
بما يعيد توزيعها على مواقع التمثيل الإجتماعى ، المتعلقة بخطاب الجســــــد نفسه ، على
أسس جديدة .. ذلك لأن الدلالات التى يتيحها العرض الجسدى،وعلى الرغم من جسدانيتها
، إلا أنها لغوية أيضا ؛ فما نراه (بصريا) يتحول عند تلقينا له إلى لغة كلامية- كى نمســك
به على مستوى الوعى ، وإذا كانت العروض المسرحية عامة ، الجســــــــدية منها وغير
الجسدية ،يتم ترجمتها إلى تلك اللغات الإجتماعية ،فما يتميز به المسرح الجسدى ؛ بماهو
إمتلاك وملء (الفراغ المرجعى- المسرحى) بالجسد الحى ، إنما يتمحور حول سؤال (جذر
الحياة نفسها) ويدعه يتفاعل فى القلب من تلك اللغات ..
أى أن العرض الجسدى يضع اللغات الإجتماعية أمام مركز تعريفى أودلالى محدد ، يمكن
لها عبر العلاقة معه أن تكف عن التشــرنق حول نفسها، وتنفتح على بعضها البعض فى
حوار جذرى ..
فالنقد الأخلاقى الذى تعرضت له العروض الجســــدية- التى حفل بها المهرجان التجريبى
- والذى ظل يتكرر كل عام بنفس الآلية ، وعلى الرغم من عدائيته الشـديدة ، إلا أنه كان
حوارا أيديولوجيا إشتبك فيه الأخلاقيون- بمرجعياتهم الدينية- مع الأيديولوجيات الأخرى
حول (الجسد) ؛ فالجسد بالنســـبة إليهم هو (بيت الداء الأخلاقى) ، وهو ما جاهدوا- منذ
إزدهار ثقافة النفط ودنانيره- فى سبيل مداراته وحجبه ، وتحويله إلى (شبح) ؛أى طمس
هويته بالأيديولوجيا ، دون أن يعلموا أنهم بهذا ، وبلغة الســياق التاريخى الحاوى لهم ،
إنما يقيمون علاقة بين اللحظة التاريخية وبين الجسد نفسه ، مما يحول أيديولوجيتـــهم
إلى إفراز جسدى- أعنى أنهم حولوا (الجســـــــــــــد- الشبح) إلى رمز لوجودهم اللغوى
والأيديولوجى ؛ فهو يعنى إخفاء الجســــد من اللحظة التاريخية فى اللغة المقدسة (التى
يجعلهم وضوحها يمسكون بواقع أســـطورى) ، بقدر ما يعنى الإشارة إلى الجسد كشبح
يقترب من بعيد ؛ فى أفق التاريخ- أى أن المنحى الذى اتخذوه ، كان جزءا لا يتجــــــزء
من الطرح العام المبشر بالتحول إلى مركزية الجسد ..
(6)
ــــــــــ
إزدياد بروز الواقع كوضوح لغوى-ذلك الواقع الذى اتخذ هيئة فراغ مرجعى- أدى إلى العودة
من التيه اللغوى إلى الواقع (كفراغ) مُدرَك ؛ تمثل فى غياب الدولة .. هذا(الفراغ- الواقع) بدأ
يفرز تمثيلاته الخاصة التى كان من أبرزها(المؤسسات المترهلة والخربة ،القاصرة عن أداء
مهامها الوظيفية تجاه مواطنيها) .. مما يعنى أن الفـــراغ- الذى امتلك لغته أخيرا ؛ وهى لغة
الواقع الحرفى- صار يعنى (السقوط - تحت جبل الدويقة) و(الحرق- فى قطــار الصعيد أوفى
مسرح بنى سويف) و(الغرق- فى العبارة سالم إكسبريس)وانتشار الأمراض والفقر والبطالة
والدعارة ونهب المال العام ... إلخ ..
هكذا صار الفراغ المرجعى مرادفا لإسـتراتيجيات الموت المجانى ، بحيث يمكن القول- بكثير
من الثقة- إن تاريخ الدولة القومية لدينا ، فى مرحلتــــها الأخيرة ، هو تاريخ تعاقب الموت والخسران .. إنه تاريخ تحول اللغة إلى فراغ عامر بأشلاء المصريين ..
(التسلط على الجسد)- أوعلاقة الجسد المتحول إلى جثة بالدولة- هنا ، لاعلاقة له من قريب
أو من بعيد بما أطلق عليه (فوكو) من قبل (الحداثة السلبية) ؛ التى تعنى إرتباط الســــــلطة
بالمعرفة للهيمنة على الجسد ، لتنميطه وضبطه وإخضاعه لمتطلبات الإنتاج الرأسمالى ..
بل العكس هو الصحيح ،أعنى إرتباط السلطة لدينا بـ (غياب المعرفة)؛ ولعل موقف الرئيس
المُقال (حسنى مبارك)- بما هو رأس السلطة فى النظام البائد- حين أمســــك بكتاب فى علم
الإقتصاد ؛ فى واحدة من زياراته السنوية لمعرض الكتاب ، ثم علق سـاخرا :[هو الإقتصاد
محتاج لكتب !!] ، هذا فضلا عن إنهيار المنظومة المؤسـسية التعليمية والعلمية والثقافيـة
بأكملها ، إنما يكشف عن (سياسة العقول المحروقة) التى إتبعها النظام بمنهجية سافرة ..
(التسلط على الجسد) ؛ بقتله ، دونما إجـــــــــــــراء محاكمات عادلة للفاعلين المؤسسيين
أوللمتحالفين مع النظام ، بقدر ما كان يدل على تراجع المؤسـسات الحقوقية (أوالقانونية)
عن أداء دورها فى ضبط العلاقات بين قوى المجتمـع ، فإنما كان يدل أيضا على أن النظام
البائد قد تماثل تماما مع الدولة ، وأن هذه الأخيرة قد تخلت تماما عن شـــرط حداثتها (ألا
وهو القانون)، مما أدى إلى دمج الجسد فى نظام بدائى ، وحشى ، مميت ، أسست سلطته
شرعيتها على العنف فقط ..
(7)
ـــــــــ
العنف القصدى الذى مارسته المؤسسة الأمنية- ذلك الذى شرعنته المسوغات السـلطوية
لدينا ، جعل من (الجسد)- عبر تراكمات لا حد لها- واقعا محددا (أى وضــوحا جذريا)- إذ
صار علامة على المفارقة الحاوية لوجودنا كله ؛ تلك التى يتبادل فيها (الحياة والمــوت)
موقعى (الظاهر والباطن) ..
ففى إطار الهيمنة الأمنية على المسافة الفاصلة بين (القول والفعل)- فى ظل العمــــــــــل
الدؤوب للنظام على حجب(الواقع- كوضوح)- تحول الجسد نفسه (شرط الفعل) إلى (علة
الفعل) ؛ أى إلى مصدر للوعى بالهوية الذاتية- أعنى أن الجسد صار بمثابة (واقع جذرى
- تأسس عليه الوضوح اللغوى الذى يمثل الواقع الحرفى العام) ...
لذا لم يكن غريبا أن ترتفع وتيرة المد الجســــــدى فى المسرح فى ترافق تام مع تصاعد
العنف الأمنى تجاه أجساد المواطنين المصريين .. هذا وبالإمكان القول أن تلك المرحلة-
السابقة على الثورة مباشرة- شهدت نوعين من العروض :
الأول ــ (العرض الأمنى) ؛ البدنى الوحشى ، المرتبط بالتعذيب وإلحاق الأذى بالأجســـاد
- أوكما يقول (فوكو) :[آلام تعلن عن هوية الجلاد ، بما يتجلى من علامات واضحة على
الجسد] (9) ؛ إذ يعود (القصاص) لأن يكون مشــــــــهدا أمام الملأ- من خلال التكنولوجيا
المعاصرة : فيديو ، إنترنت ، موبايل- كما رأينا فى وقائع تعذيب (عماد الكبــير) فى أحد
أقسام الشرطة ، ذلك التعذيب الذى بلغ مداه بتحويل الجسد الحى إلى جثة (خالد سعيد) ،
هكذا فهو(عرض- إعلان : موت الجسد المصرى) ؛ الذى فقد كل قيمة ممكنة ..
الثانى ــ (العرض المسرحى الجسدى) ؛ الذى ازدهر وانتشر فى الأوساط المســـــــرحية
الشبابية (غير الرسمية) ، فى القاهرة والأقاليم ، إلى الحد الذى صار معه بمثابة ظاهرة
مهددة لمسرح الكلمة ؛ مما أثار غضب وحفيظة وقلق المســــــرحيين والنقاد التقليديين
(حراس الأيديولوجيا).. وما يمكن قوله هنا- بالإضافة إلى الإشارات المتناثرة فيما سبق
- هو أن ذلك المســــــرح يرتكز على عرض الذات ؛ لا كأيديولوجيا- أى كقوة خارجية-
وإنما كقوة داخلية ، تمكن من بناء ورصف علاقات بين ذوات حــرة ، لذا يبدو المؤدى
أوالعارض كأنما هو عائد من جثة الممثل ؛ بعد دفنه- ذلك أنه لايمثل (إذ لا وجود لنص
وشخصية وحوار ... إلخ) ، وإنما يعرض ذاته ؛ فهى الرسالة نفسها ..
تلك الذات لا ترتكز على الجسد ،ذلك أنها هى الجسد نفسه ،وهذا الجسد لم يعد تجسيدا
للأنا أفكر الديكارتية فى إتيانه بفعل ما ، أى أنه لم يعد خادما للأنا ، وإنما القابـع وراء
تلك الأنا ..
ولفهم الإندفاع نحو ذلك النوع من المسرح عند الجيل الجديد من المسرحيين الشبان ،
يمكن القول إنه الخروج- الجماعى تقريبا- من اللغة (من الأيديولوجيا) ، إلى الجســــد
(علة الفعل وشرطه فى آن واحد) ، حتى إنه بالإمكان النظر إلى العروض الجســـدية ،
كـ (بروفات) على الفعل السياسى (الثورى) ؛ أعنى أنها تدريبات جســــدية- على ذلك
الفعل- أمام الملأ .. لقهر الفراغ الرمــــــزى (بكل ما ينطوى عليه من إخضاع وهيمنة
تفرضها ســــــطوة القوة الأمنية- الممثلة للدولة) بقوة الجسد الذى ما فتئ يستعرض
مفاتنه ؛ أى أن الجسد- فى ذلك المسـرح- (كواقع جذرى) ، إنما كان يتدرب على قهر
أسباب موته ..


الجسد والفعل الثورى
(سرد الفعل)
ــــــــــــــــــــ
حين يصير الجسد هو علة الفعل وشرطه فى آن- فى الســــياق التاريخى المشار إليه- فهذا
يعنى أن الإنسان المصرى إستطاع الإمساك بالواقع بما هو جســـده نفسه ، كوضوح لغوى
- أى كوعى ؛ هذا على مرجعية عدم أمكان الحياة بدون الجســد- فهو شرط الشروط كلها ؛
أو كما يقول (نيتشه) : [الجسد هو قيام وجودنا ، وولوجنا إلى العالم المادى كان بالجســـد
، وهو الضامن لإستمرارية بقائنا ...] ، إذن [... لا مجال لأن تنفصل الأشياء عن الإنســان
ولا الإنسان عن العالم ، فلا يفهم العالم إلا من خلال الإنسان ولا يفهم الإنسان إلا وهـــــــو
متجذر ومتموضع فى العالم بحواسه وجسده] (10) ..
وإذا كان الإرتباط بين (الأنا والجسد والعالم) هو على هذا النحو ، إذن فالتحــول المفصلى
لدينا إرتكز فى الأساس على أن (وعيى بذاتى كجسد ، إنما هو نفســـه وعيى بالعالم)- لقد
عاد الإنسان لدينا إلى الإلتحام بالعالم ؛ يقول (دافيد لوبروتون) : [إن التفكير فى الجســــد
هو طريقة للتفكير فى العالم والعلاقات الإجتماعية ، فأى خلل يدخل على صورة الجســـــد
هو خلل فى تناغم العالم] (11) ..
هنا تحديدا ، تغدو إعادة التناغم بين (الجسد والعالم) رهنا بـ (الفعل) ...
(1)
ــــــــــ
الدولة القومية التى انتهت من (العمل الدؤوب على تمزيق اللغة- لإخفاء الواقع) ، إنتقلت إلى
(العمل على تمزيق الجسد بأبشـع الطرق) ؛ عندما تبين لها أن هناك واقعا ما تم الإمساك به-
أعنى أن تحول الدولة إلى (إحكام القبضة على الجســــد) لم يكن سوى محاولة للحيلولة دون
إنتقال الجسد إلى الفعل ..
وبالإمكان الحديث عن أن خرق الدولة- السافر- (للتابو الجســدى) ، أدى إلى خرق الجماهير
(للتابو السياسى)؛ عبر ما يطلق عليه (فوكو) تعبير (الفضاء المقدس)- [ذلك أن التعذيب ...
دخل فى أزمة عجلت بانفجاره ، نظرا لإنخراط الشـعب كشاهد ومشارك ، ثم كضحية محتملة
فى عملية التعذيب] (12) ؛ وهو ما تمثل لدينا- كما أشرت من قبل- فى تســـريب وقائع تعذيب المواطنين فى أقسام الشرطة ،إلى مواقع الإنترنت ،مما أضفى عليها نوعا من العلنية ،وبذا
[تحولت طقوس التعذيب من فرجة غايتها أخذ العبرة والتذكير بجبروت الحاكم ،إلى تعاطف
الجمهور مع الإنسان المعذب]، وبعبارة أخرى،[إن الجمهور لم يعد يحضر إلى فرجة لتنفيذ
التعذيب ، بل إلى فضاء مقدس للتعاطف والتسـامح مع المحكوم عليه . خاصة عندما يكون
بريئا ومناضلا يشـــــــــتاق للإنعتاق من الطغيان وعبادة الإستبداد ، حيث تتعالى الأصوات
الرافضة للظلم والشاتمة للقضاة والجلادين . ويتحول المدان إلى بطل للتحرير من جبروت
الطبقة الحاكمة ...] (13) ..
غير أن هناك عاملا إضافيا أدى- لدينا- إلى الدفع بوجود ذلك (الفضاء المقدس) ، وأعنى به
المركز التعريفى الدينى (فهو الإحتياطى البنيوى ، التاريخى ، العتيق- الســابق على الدولة
القومية فى الوجود ، والذى عادة ما تتصارع معه جميع المعانى الأخرى ، غير الدينيــــة ؛
فهو المعنى المرجعى العام،الذى هو قوام اللغة العربية- وفقا للتأويل السائد- قبل أن تنقسم
وتتفرع إلى لغات إجتماعية عديدة) ، وعلى الرغــم من أنه فى مجتمعنا المعاصر تحول إلى
معنى ضمن معانى أخرى ، إلا أن ذلك لم يحوله تماما من أصل إلى فرع ، أو أنه (الفــرع)-
بحكم تحوله إلى لغة إجتماعية ضمن لغات أخرى- الذى لم تزل تحتفظ به الذاكرة كـ (أصل)
؛ إنه (الأصل الإحتياطى) ؛ الذى يتقدم لسد الفراغ ، كلما تعرض المعنى المركزى (الخاص
بالدولة القومية) لأزمة ما ..
وما يعنينى هنا ، هو أن العودة القوية للمعنى الدينى- عند قطاعات جماهيرية عديدة ؛وهو
ما أطلق عليه البعض (الصحوة الإسلامية)- كمحاولة للإمساك بالواقع كوضوح لغوى ،هو
نفسه الذى مهد لوضع (القمع الجسدى) فى (الفضاء المقدس) ..
(2)
ــــــــــ
وفقا لما سبق ، فكرة (الفضاء المقدس) ؛ الكاشفة عن توق الجماهير إلى الحريــة والعدل
، إنما تضعنا أمام (معيــار أخلاقى) يقترب ويبتعد عن المرجعية الدينية بدرجات متفاوتة ،
ترتد إلى نظام إنتاج الحقائق فى المجتمع ، ولدينا- جماهيريا على الأقل- تعد الأخـــــــلاق
مرادفة للدين ؛ أى أن النظام الأخلاقى- لدينا- لا معنى له خارج السياق الدينى ..
هذا وخرق (التابو الجسدى)- من قبل الدولة- أدى إلى تحويل الجسد إلى (علامة) تتنازع
على تأويلها القوى (الحداثية وما بعد الحداثية)- التواقة إلى إحداث تغييرات بنيويـــــــــة
عميقة فى المجتمع ككل- من جهة ، والقوى التقليدية- الممثلة للبنية الثقافية الإسلامية -
من جهة أخرى ، أى أن الجسد كعلامة كان حقلا لصراع عقائدى ؛إذ يتنازع على ملكيته
(الإنسان والله) ؛ وإذا كانت القوى الدينية تعد الدين نفسه هو مصدر الهوية ؛ إذ الجسـد
لديها ليس أكثر من(علامة رمزية) تخفى شيئا وراء ظاهرها (فهو- بلغة بودريار- جزء
من نظام كهنوتى للحقيقة والكتمان- لايزال ينتمى لفكرة الأيديولوجيا)؛ ومع هؤلاء تقف
القوى الحداثية ، بحكم إنتمائها هى الأخرى إلى فكرة الأيديولوجيا ، فما بعد الحداثيــون
يعدون الجسد نفسه هو مصدر الهوية ..

(3)
ــــــــــــ
من هنا نجد أنفسنا أمام (الفعل- المتصف بالثورى) باعتباره إشكالية ..
فإذا كانت ثورة يناير قد انبثقت من المسافة المتلاشية بين اللغة والواقع(كوضوح)؛ على
مرجعية الجسد (بماهو علة الفعل) ، فالتحرر من الأوضاع القائمة ، يتأسس على الجسد
أيضا (بما هو شرط الفعل) ..
وما يعنيه (الفعل) هنا- هو الأداء المحدد لمجموعة من العمليات ، بهدف إحداث تغييرات
إيجابية مقصودة ، تكتمل بها الحرية ؛ بما هى إنعتاق (الجسد- الذات) ..
يقول (برجسون) : [الفعل ليس سوى ملكة تغيير الأشياء]؛ [ملكة يشهدها الوعى والتى
تتمركز فيها كل قوى الجسد المنظمة ،لتصبح الأجسام التى تحيط بجسـدى محل إنعكاس
الفعل المحتمل لجسدى عليها]،وإذا كان الإدراك هو المعرفة ، فـ [جسـدى هو ما يرتسم
فى مركز هذه الإدراكات،وشخصى هو الموجود الذى يجب أن نرجع إليه هذه الأفعال] ،
ويقول أيضا ؛ حلا لإشكالية العلاقة بين الجســــد والفكر- تلك التى انشغلت بها الفلسفة
طويلا- وعلى ضوء فلسفته فى (الدافع الحيوى للتطور الخلاق) :[إن الجسـد يتوجه ...
دائما نحو الفعل ،ووظيفته الحد من حياة الفكر،لأن مهمته هى إنتقاء الصور والتمثلات
ومن ثم إقصاء البعض منها...] ويضيف [يقتصر إدراكنا على المواضيع التى تؤثر فى
أعضائنا وتهئ حركاتنا وأفعالنا؛ مما يعنى أن دور الجسـد لا يكمن فى تخزين الذكريات
، بل فى إختيار الذكرى المفيدة ، تلك التى تكمِّل وتوضح الحالة الراهنــة من أجل الفعل
النهائى ، ويكون هذا الإختيار من أجل نقل الذكرى إلى الوعى عن طريق الفاعليــــــــة
الواقعية ، لأن القانون الأساسى للحياة النفسية هو:(التوجه من وعينا نحو الفعل)...] (14) ،
هكذا ، فالثورة المصرية ،فعل(علته وشرطه) جسديان خالصان- أى أنها ثورة جسدية
بجلاء ، وبتعبير آخر، إن ماتتميز به تلك الثورة تحديدا ،هو أنها ثورة (الجسد- كذات)
؛ بما يتجاوز بها(الذات الأيديولوجية المجردة)؛ التى تأسست عليها الثورات الحديثة-
تلك التى تنظر إلى الفعل الثورى باعتباره(المظهر الخارجى للإرادة ، أو أنه تعبير عن
إرادة) ؛ بمعزل عن (الجسد)- إذ يصير بمثابة أداة تابعة للفكر ..
إن التنحى النسبى للأيديولوجيات عن المشـــــهد السياسى المصرى ، هو الذى أفسح
المجال للجسد كى يتصدر المشهد- أى أن أزمة الدولة القومية كأزمة لغة مستحكمة ،
كانت فى حقيقتها أزمة عقل تناسى أنه يرتكز فى الأساس على الجسد، بل وراح يعمل
ضد الجسد ؛ هكذا ، فى إنفصال صارخ بين (العقل والجسـد) ... هذه الثنايئة الضدية-
الميتافيزيقية- كانت هى التى تقبع فى العمق من أزمة الدولة القومية لدينا، مما دفعنا
إلى اللجوء إلى الجسد ، ومن الجسد إنفتح الطريق أمام (الفعل- الثـــــــورى)- لإلغاء
المسافة الفاصلة بين العقل والجسد ؛ وبالأخرى لإعادة العقل إلى الجسد ؛ ليصير هو
نفسه الجسد ..
ولعله يبدو واضحا هنا أن الفصل بين (العقل والجســد) هو نفسه الفصل بين (الكلمة
والفعل)- الذى أشرت إليه فيما سبق- لكننى أضيف هنا،بإن تلك الإشكالية هى نفسها
ما تتمحور حوله الحداثة فى مجملها ، على النحو الذى أبان عنه مشروع (فوكـــــو)
المتمحور حول (سؤال العقل) ..
فإذا كان الجواب الذى قدمه (كانط) عن سؤال : ماهو التنوير ؟ ، ينحصر فى ضرورة
خروج الإنســـان من (قصوره) ؛ الذى هو الخضوع للوصاية الفكرية للآخرين- تحت
شعار (تجرأ على إستخدام فهمك الخاص) ، فى إطار (الطاعة) للســـلطة .. فقد أضاء
فوكو التناقض الحادث بين حرية الفكر(المعرفة ،العلم) والحدود التى تفرضها الطاعة
.. وغنى عن البيان أن مشروع (فوكو) بأكمله ينصب على محاولة فهم (الســـلطة) ؛
تلك التى تؤسس وجودها على (المعرفة) ، للهيمنة على (الجسد) ..
ومايعنينى هنا،هو أن(كانط) أقر- فى شروط ما- بضرورة الفصل بين (الفكروالجسد)
، إذ لم يعد الفكر علة للفعل ولم يعد الجسد شرطا للفعل ، أما (فوكو) فكشــف عن أن
(المعرفة عامة) تتحول إلى ســــلطة مكبلة للحريات ؛ أى أن المعرفة عادة ما تتحول
إلى(علة) لتأسيس وترسيخ السلطة ذاتها ، فى مصادرة كاملة للفعل- أى أن المعرفة
والسلطة تتواطآن على الجسد ، لتدجينه وإخضاعه ؛ وهو ما أطلق عليه إصطـــلاح
(البيو- سياسى) ..
وتأويلا لما قال به (فوكو) ، بالإمكان القول أن فكرة الحداثة- المرتكزة على النزعة
الإنسانية ؛ أى التى ترد كل شئ (فكرا كان أم فعل) إلى إرادة الإنســان ؛ المتضامنة
مع النسق الكلى الحاكم ، السابق علينا فى الوجود ، هى نفســها التى أسست عليها
الحداثة فكرتها عن (السلطة) .. أعنى أن الإنسان كذات فاعلة ، كان هو نفســـــــــه
ما أدركت (السلطة الحداثية) مدى خطورته ، ومن ثم ســعت بدأب لتحويل منجزاته
التاريخية إلى أدوات للهيمنة عليه والحد من فعاليته ، هكذا لتنقلب الحداثة- بأفقها
التحررى الواعد- على نفسها وعلى الإنسان الذى أنتجها ..
لذا يمكن الزعم بأن الثـــورة المصرية إنما قامت بتدشين مبدأ جديد ، لا يفصل الفكر عن
الجسد،أى أنها ثورة أكبر كثيرا من الإختزالات التى يلجأ إليها البعض،فمبدؤها المؤسس
، أوشعارها، هو :(سأمارس جسدى- ذاتى ، دون الخضوع لسلطة ما).. وليس أدل على
ذلك من إستخدام (المعرفة- التكنولوجيا :إنترنت ، موبايل ، فضائيات ...)كأدوات لإشعال
الثورة- الفعل ، لتحرير الإنسان- الجسد ..
أى أن الإنسان المصرى تحول- بمقتضى الفعل الثورى- عن قصوره(الكانطى)إلى (ذات
سياسية) ..
(4)
ــــــــ
بالنسبة إلى القوى الدينية ،(الفعل- الأداء) فى المشهد السياسى للثورة ،يتحول إلى فعل
مقدس (فريضة جهادية) أوطقس دينى يمارس فى فضاء مقدس- يســـتمد مرجعيته من
اللغة المقدسة نفسها (لغة العقيدة)؛ المتحولة إلى لغة إجتماعية- أيديولوجية ؛ أى أنهم
لا يرتكزون على الجسد نفسه ، وإنما على التأويل الدينى للجسد (فاللغة المســــــــكونة
بالعقيدة إن هى إلا مجموعة من التابوهات المتعلقة بالجســــــد ، بما يكشف عن وجود
تناقض بين القوى الدينية والجسد- بما فى ذلك أجسادهم هم أنفسهم) ..
وإن جاز لى إلقاء مزيد من الضــوء على هذا الأمر ، فبإمكانى القول إن ما يذهب إليه
البعض من أن وصول القوى الدينية إلى ســـدة الحكم فى مصر - فى المرحلة القادمة-
سيرتكز فى الأساس على (تطبيق الحدود) ، لا يعد إختزالا لمشروع الإســـلامولوجيا ،
ذلك أن القوى الدينية تحولت تاريخيا إلى قوة سياســـــية- ضمن قوى أخرى (ليبرالية
وإشتراكية) ، فى أعقاب الإحتلال البريطانى لمصر ، لاسيما فى الربع الأول من القرن
العشرين ، هكذا ،ليكتمل بهم التكوين التاريخى للنسق السياسى المصرى القديم- الذى
يحظى بالوجود إلى الآن ،خارج الشرط الداعى لوجوده- وإذا كان ذلك النسـق يتمحور
أيديولوجيا حول التعاطى مع الحداثة(إن معها أوضدها)،فالقوى الدينية تستمد شرعية
وجودها الآن من معاداتها لما بعد الحداثة- مثلما كان ظهورها نفسه ،فى الربع الأول
من القرن العشرين ، مجرد رد فعل مضاد للحداثة ..
أعنى أن القوى الدينية إن هى إلا حارسة الهوية العتيقة المرتبطة بالمجتمـع الطبيعى
(الصحراوى والزراعى) المعادى للمجتمع الصناعى ومابعد الصناعى ،هكذا (فصورة
الله عزوجل- لديهم- لاتتجاوزصورة الآلهة القديمة المرتبطة بالطبيعة- أى أنها تقصر
عن إدراك فكرة الإله المجرد) ، لذا فما ستفعله تلك القوى ، مستقبلا ، لن يخرج عن
إعادة إنتاج الإستبداد ، على طريقتهم ، لحصار الجســـــــد- الذى هو محط حمولتهم
الأيديولوجية ..
وما يمكن إضافته هنا ، بلورة لما سبق ، هو أنه إذا كانت علاقة الإنســان بـ (الغيب)-
تلك التى لاينكرها أحد- تعد أحد أبعاد الوجود ،فما سيحدث هو أنها ستتحول لديهم إلى
علاقة الإنسـان بـ (الغياب)؛ مما يعنى تحول الدين نفسه إلى أداة لقهر الجسـد- أى أن
(الغيب) سيتحول إلى(غياب) الجسد ؛ فى إنتهاك فاضح ومروع لوجود الإنسان نفسه
..
أما شباب الفيس بوك أو(الفيس- بوكييون) ، فلديهم ، (الفعل- الأداء) لا يحول المشـهد
الســــياسى ، إلى فضاء مقدس ، وإنما يحول الفضاء المقدس- الذى يتم تفعيله لديهم ،
بموجب إنتمائهم إلى البنية الثقافية التقليدية- إلى فضاء ســــياسى ؛ تاريخى .. ذلك أنه
مجرد عنصر مضاف إلى العناصر الأخرى المشكلة لوعيهم ..
ومايمكن قوله هنا ، هو أن القوى الدينية ، تتبنى مفهوما عن (الحرية) ، يعنى الإمتثال
والخضوع لمدلول مقدس ؛سابق عليهم فى الوجود(منفصل عن أجسادهم- إذ يرهنونها
لهذا المدلول) ، مما يحترق معه التاريخ (كتجربة بشرية متراكمة)؛ فى مبخرة المقدس
نفسه- وفى الأبخرة المقدسة تأتلق الأسطورة وتســــــــــيح أرواحهم الهائمة- أى أنهم
يختزلون أنفسـهم فى ذلك المدلول ، مما يعنى إختزال الآخر أيضا ؛ ولعله يبدو واضحا
هنا أنهم لايتجاوزون مبدأ (الأنا أفكر)، الذى تجاوزته اللحظة التاريخية المحلية بأفقها
الما بعد حداثى ..
ويبدو أن (الشعب المصرى) قد تجاوزه أيضا ، على مستويين :
الأول :المستوى(الجماهيرى)العام؛ إذ يمتح الآن من المعطيات مابعد الحداثية بطابعها
(الكوكبى) ؛ ويتجلى ذلك بوضوح فى الحياة اليومية- وسـوف نرى بعد قليل ، كيف أن
(الفيس- بوكيين) ؛ مفجرو الثورة ، هم أنفســـــــــهم ما أفرزه الواقع الثقافى الكوكبى
(أوالوضوح اللغوى) ..
الثانى : المستوى (الثقافى الشعبى) ؛ فالثقافة الشـــــــعبية لدينا ، مثلها مثل أية ثقافة
شعبية أخرى ، تتأسس على مبدأ (وحدة الأنا والجسد والعالم)، هذا ولم يخرج التأويل
الشعبى للأديان (مســيحية ، إسلام) عن هذا المبدأ ، فيما يطلق عليها إصطلاح (الدين
الشعبى)- ومفجرو الثورة أنفسـهم ، يتماهون مع الثقافة الشعبية ، بماهى التربة التى
تتجذر فيها الأطروحات ما بعد الحداثية ..
وما أعنيه بهذا،هو أن الثقافة الشعبية لاعلاقة لها بماتطرحه القوى الدينية الإسلامية
، والإشكالية تكمن فى (اللغة) فقط ؛ فالمقولات المقدسة : (الله ، الدين ،الجنة ، النار
،الآخرة ... إلخ)، هى ما تلتقى عنده القوى الدينية والثقافة الشعبية ، من حيث(الدال)
فقط ، لكنهما يختلفان جذريا من حيث (المدلول) ، أعنى أن هناك مرجعيتين داخليتين
مختلفتين؛إحداهما دينية والأخرى شعبية،أما إلتقاؤهما والدمج بينهما فنتاج الإلتباس
اللغوى ..
ويبدو أن المفاهيم التى تتردد على الساحة الثقافية بقوة ، مثل (الشعب المتدين)،إنما
تدفع بهذه الإشكالية إلى مزيد من التعقيد،إذ يبدو معها كأنما الشعب المصرى ،طوال
آلاف الأعوام ، التى هى تاريخه ، كان شعبا مسلما ؟!!! ..
عموما ، هذه الإلتباسات اللغوية ، هى التى تشــــــــتغل عليها القوى الدينية- لاسيما
الإسلامية- ويبدو أن ذلك يعود إلى طبيعة الدين الإســـــلامى نفسه ، إذ يتأسس على
اللغة (بما هى حمالة أوجه- دلالية) ، فبها يصنـــــــع تاريخه وعلاقاته ، واحتواءاته
المختلفة للثقافات الشعبية وغير الشعبية !..
هذا على العكس من (الفيس- بوكيين) ؛ إذ يندمجون فى فكرة عن (الحرية) تتجذر فى
(العالم الإفتراضى) ، بحثا عن (الجســــــد) ؛ بما هو الآخر ، الغائب ... المتعذر عليهم
الإمساك به- كمصدر للهوية غير المتطابقة مع نفسـها- ذلك أن حضور الجســـد يعنى
حضور الأنا والآخر معا ..
إن تمزيق (الجسـد)- من قبل الدولة- للحيلولة دون إنتقاله إلى (الفعل) ، كان يعنى أن
الجسد قد أصبح مطاردا، وأن الدولة تحشد أجهزتها وقواها ، كلها، لحصاره وإخافته
وسلب قواه وشل فعاليته ،مما حتم على(المطارَد) إخفاء جسده ومن ثم هويته ،فرارا
من كافة الإرغامات والإكراهات ...
الموقع الذى عمد (الفيس- بوكييون) إلى إخفاء (أجســـادهم- هوياتهم) فيه ، كان هو
(اللغة) ذاتها- تلك اللغة الممزقة ؛إذ كان عليهم إعادة ترتيقها، عبر الحوار المتواصل
مع بعضهم البعض ، وقد استطاع (مواطنو الإنترنت) بالفعل ،إنجاز لغة شفرية خاصة
بهم ، تمتد على رقعة هائلة من الفضاء الإفتراضى ، العابر للحدود- تتميز بالمرونـــة
الشديدة وبالقدرة الهائلة على إحتواء اللغات الأخــــــرى (الإجتماعية والقومية) على
السواء، مما جعلها بمثابة الأرض الرحبة التى يمكن للجميع أن يلتقوا فوقها وينعموا
بالحرية .. (حرية الحصول على المعلومات ، حرية التعبير ، حرية إختراق التابو ...)
، وكذلك (حرية تغيير الهوية) : التى تعنى التحرر من التمركز حول الذات ، من خلال
إفساح المجال للآخر للدخول إليها ولعب دور (الفجـــوة) التى تحول دون تطابقها مع
نفسها .. وكان من مظاهر اللعب بالهويات ، تجريب الذات هوية أخـــرى ؛ عبر تغيير
الإسم والمهنة والصفة والصورة والجنس والدين والسن واللغة والوطن ... إلخ ..
مما أدى إلى تدشين مبدأ جديد ، قوامه (حرية إختيار الهوية- أو- عدم وجـــود مركز
للهوية) ؛ ولعله كان المبدأ الذى صنع به (الفيس- بوكييون) ثورتهم ، المتمحــــورة
حول (رفض- القمع والقهر وجميع أشكال العقاب والرقابة والمطاردة والملاحقة ...)
، وكل ماهو (مركزى- أمنى ، سياسى ، إجتماعى ، إقتصادى ، ثقافى ...) ..
أى أن تغيير الهوية الشخصية ، تطور لديهم إلى رغبة عارمة فى تغيير الهويــــــــة
التاريخية ، الشاملة ، للمجتمع ككل ..
(5)
ــــــــــ
النزاع على الجسد بين القوى الدينية والفيس- بوكيين ؛ أى بين (الله والإنســــان) ،
نشب ،لدينا، على مرجعية التأويل الذى تقدم به النظام البائد للجسد نفسه .. فالجسد
المقموع- لاسيما الجسد الشاب- هو حامل آثار السلطة(حامل هوية الجلاد- على حد
تعبير فوكو) ؛ أى المسكون بهوية الجلاد ؛ المسكون بهوية قاتله !..
العلامات التى يتركها الجلاد على الجسد ؛ تلك التى تعلن عن هويته ، هى (كتابة) ؛
كتابة الهوية ؛ (هوية- الجلاد) ، على (جسد- الضحية) .. مما يعنى أن الجلاد يكتب
ذاته على جسد الآخر ؛ أو أن الجســـــــــــد الذى يستمد منه هويته هو جسد الآخر
(الضحية) ، وليس جسده هو ..
والإشكالية تنبثق هنا ، من ذلك الإغترار بالذات ، أو من التمركز حول الذات ، الذى
يبديه (الجلاد- السلطة)،إذ يبغى بالعلامات التى يتركها على جسد الضحية ،الإشارة
إلى نفسه ؛ إلى قوته وجبروته وقدرته على أخضاع الآخرين وإقرار النظام ... إلخ
، إنه يقدم نفسه باعتباره (مركز المشهد الســـياسى ، التاريخى) ؛ ونحن نعرف أن
التاريخ السياسى للأمم عادة ما يتمحور حول التاريخ المتتابع للســـــــلطة الحاكمة
(الملوك والأمراء والولاة ...)، مما يتحول معه جسد الضحية إلى(قطعة رق) يكتب
عليها الجلاد تاريخه ، باعتباره (التاريــــخ) العام للأمة- أى أنه يطابق بين تاريخه
وبين التاريخ ..
لكن المفارقة تكمن فى أن قطعة الرق ذاتها- أعنى أجســــاد الضحايا- لابد أن تبقى
كـ (أثر) ، لأنها حاملة العلامات التاريخية الدالة على وجود الجــــــلاد ! ، أعنى أن
مأزق الجلاد يكمن تحديدا فى عدم إســـتطاعته الإحتفاظ بالضحية كمرجعية صامتة
لتاريخه- هكذا ، فالتاريخان يشكلان معا تاريخا واحدا ؛ هو (تاريخ القهر) ..
غير أن هناك مفارقة أخرى ، أكثر دلالة ، تتمحور حول أن (الجلاد- القاتل) يستمد
صفته ؛ (أعنى تعريفه بوصفه جــــلادا) ، من (الضحية- القتيل)- ونحن نعرف أن
جرائم (التعذيب ، القتل) ؛ تنتفى (جنائيا) فى حالة عدم وجود (الجســـد ، الجثة) ،
فهى دليل أوعلامة على الفعل (التعذيب ، القتل) ، وبذا تدل على (الفاعل- الجـلاد)
.. إذن ،(الجلاد) يُعرف ذاته بالنسبة إلى (الضحية)؛ أى أنه ينتسب إلى (الضحية)
، وهذا هو نفســــه ما يجعل (الضحية) كآخر- بلغة (دريدا)- تلعب دور (الأصل) ،
وبلغة(فوكو)- تلعب دور(سلطة السلطة) ؛ ذلك أن (الجلاد) يعرف ذاته عن طريق
نقيضه (الضحية) ؛ فالجلاد لا يكون هو ذاته إلا بإمتلاك الضحيــــة ؛ أى أنه يكف
عن تعريف نفسه بنفسه ..

(6)
ــــــــــ
إذا كانت الفقرة السابقة تكشف عن أن(الجسد- الضحية) هو المسكوت عنه بداخل
الخطاب التاريخى للطبقة الحاكمة ، بما يفضح (المأزق المنطقى) الذى ينبنى عليه
ذلك الخطاب.. إلا أنها تعنى أيضا أن(الفيس- بوكيين) يقيمون فى موقع المسكوت
عنه ، فى ذلك الخطاب .. أى أنهم- وبحكم إنتسابهم إلى (الجســــد- الضحية)- هم
الذين يمنحون خطاب السلطة إمكانية الحضور ..
هذه الوضعية الميتافيزيقية التى تحيا فيها السلطة- كعادتها- كان لابد من تقويضها
، بتحول (الذات الفيس- بوكية) إلى (ذات سياسية) ؛ بتجاوز (القول) إلى (الفعل)
... وهو ما حدث بالفعل ..
ولكن كيف حدث هذا التجاوز ؟..
إستعادة الجســد من السلطة ، وبالأحرى- تحريره من هوية الجلاد ، وإعادته إلى
الذات ،يعنى إعادة الإعتبار إلى الجسد،بداخل بنية ثقافية تقليدية تتجه نحو التغير
- فى بعض جوانبها على الأقل ، لإنتاج تحديد جديد لجــــزء من ذواتنا ، فى إطار
الصيرورة التاريخية نفسها ..

الفعل وسرد الجثة :
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هناك صورتان لـ (خالد سعيد) تم عرضهما على الفيس بوك ، فى إحداهما يبدو: شابا فى
مقتبل العمر، حيا ، وسيما ، نضرا ، مشرقا، مقبلا على الحياة ... إلخ، وفى الأخرى يبدو
: جثة مشوهة ...!..
فى المسافة بين هاتين الصورتين يكمن سرد الثورة كله ، ذلك أن التحـول من الحياة إلى
الموت ، لا يعنى فقط تحويل الجسد الحى إلى جثة ، بقدر ما يعنى النظر إلى الجسـد الحى
كجثة !..
فالدولة أوالسلطة- التى تم الدمج بينها وبين النظام الحاكم- إمتدت ملكيتها إلى الجســد ،
هذا الجســــــد المنزوع ملكيته من صاحبه (سياسيا) ، هو حى خاضع أوميت ، وفى كلتا
الحالتين ، تنطبع عليه هوية السلطة (التى هى هوية الجلاد) ..
هنا تحديدا ، تتحول قضية الهوية الذاتية إلى قضية سياسية ..
كيف تم التفكير فى ضرورة إعادة الجسد إلى الذات ، أوكيف أصبح الفعل هو الحتم الذى
صار على الذات أن تتحول بموجبه إلى (ذات سياسية)، فى سبيل إستعادتها لما تتأسس
عليه- أعنى الجسد ؟ ،
بادئ ذى بدء ، يجب أن نتساءل : (ما هى الجثة) ؟..
يقول (فانسان توماس) :[إذا كان الجسد مايزال يكتنفه الغموض- فقد يكون حيا أوميتا-
فإن الجثة ،بالمقابل ، ترفع كل لبس ،لأنها تجاوزت بوضوح القطيعة التى تفصل الحياة
عن الموت] ويضيف :الجثة [تولد المواقف السلبية نحو الفظاعة والرفض والإنكار...]
، هكذا ، فالجثة هى (النتانة ، القذارة ، التعفن ، التحلل ... إلخ) .. لذا فالثقافـــات عامة
[تتعامل مع الجثة لتتجاوز الفظاعة التى يثيرها تعفنها المحتــوم الدال على الإبادة التى
تنتظر الأحياء] (15) ، ومن ذلك لجوئنا الدائم إلى (الحجب الإســـــتعارى للعفونة) ؛ إلى
إخفاء دال الجثة فى دوال أخرى ، تفاديا للحديث المباشر عنها ..
ذلك لأن الموت يحول الجسد الحى إلى جثة ؛ إلى شئ ، مجرد شئ (خالى من الذات) (16)
،هكذا ، فالجثة فراغ من الذات ؛إنها المكان الذى كانت تقيم فيه الذات- ومن ثم ، يصير
(الفعل الثورى) هو الوسيلة الوحيدة الممكنة لتحرير (تخليص) الجســـــــد من الجثة ،
وإعادته إلى الذات ..
ـــ تحولت صورة جثة خالد سعيد إلى صور متناسلة على الفيس بوك ؛إلى مستنسخات
للجثة ، دون أن تنفى تلك الصور عن الجثة كونها جثة ؛ أى أنها لم تخضع لما تخضع
له الجثث عادة من[إدماج الموت فى المألوف البشرى](17) ؛ ولم تتحول إلى(دال خفى)
،لأن موقف الذات من (جثة الآخر) إنما يمر عبر تصور الذات عن جسـدها نفسه ، لذا
لم تتحول تلك المستنسخات إلى صور كاذبة ؛ تدعى قول الحقيقة- أى أنها لم تضـــــع
مسافة ما بيننا وبين الجثة ، ولم تخفف من وطأتها ، وإنما صارت هى نفسها الحقيقة
(الموت)؛الذى يحمله (النظام- الشرطة)إلى الجميع ؛إلى الأحياء (كضحايا محتملين)..
من هنا تحولت مشــــــــاعر الخوف من جبروت النظام إلى تعاطف مع الضحية- وهو
ما فتح الطريق أمام تحول خالد سعيد إلى رمز لنا جميعا ..
ـــ كل من الفيس- بوكيين كان يمتلك صورة لجثة خالد سعيد ؛ بما هى موته المحتمل
، مما أدى إلى قيام علاقة منولوجية بينه كشـــخص حى وبين جثته المتخيلة- فالحى
يحاور موته !.. مما يفضى إلى تماهى الحدود بين الحياة والموت ومن ثم تشــــوش
الهوية المضطربة أصلا .. والإشــــكالية تكمن فى أن منولوجى- أنا الحى مع جثتى -
يتكرر مع الأشخاص الآخرين (الأحياء) أيضا ؛ الذين شاهدوا الجثة .. وعبر تواصلنا
معا ، على شبكة التواصل الإجتماعى ، يتحول المنولوج الفردى إلى حوار ، بمقتضاه
تتحول الجثة إلى قضية : (جثتنا المشتركة)- وبذا نصير (كلنا خالد سعيد) ..
ــــ إعادة نسخ صورة الجثة ، هو نوع من تضخم الجثة- فيما يشـــــبه (الورم)- مما
يجعل الجثة تقتحم حياتنا بكل ما تدخره من رائحة وقشعريرة ، ويمنحنا الإحســـــاس
بأنها لم تدفن بعد ،هذا فضلا عن الشعور بالمطاردة الشبحية التى تمارسها تلك الجثة
على الضمير الجمعى - مما يضعنا حتما أمام (القصاص) من (القاتل- الشــــــرطة) ؛
كضرورة لا مفر منها ..
ــــ وبذا يكتشف (الفيس- بوكييون) أن الجسد الذى خبأوه ، عثرت عليه الشــرطة ،
واتخذت منه مسكنا لهويتها ، هنا تحديدا ، أدركوا أنه يتوجب عليهم إستعادته ..
ــــ سمعت أحد الفيس- بوكيين ، فى برنامج إذاعى ،يتحدث عن الأيام الأولى للثورة
، وبينما يروى ، قال : (ومن أغرب ما رأيت ، أن جندى الأمن المركزى ، المدجــج
بالســلاح ، ما أن التقت عينى بعينه ، فى لحظة المواجهة ، حتى فر هاربا ... وظل
يجرى ويجرى .. حتى ابتعد ...رغم أننى لم أكن مدججا بشئ غير جسدى فقط !..)..
هذه اللحظة هى الثورة كلها ، فهى التى فرت فيها هوية الجلاد من الجسد المصرى
، ليعود إلى الذات ..



خاتمة :
ــــــــــــ
سقوط وازدهار المسرح المصرى ، يتعلق دائما بموت أحد أشـكال الدولة ، ولا شك
أن شكل الدولة يعد شكلا للقوة (الإجتماعية والمعرفية)، وهو ما تشرعن به الدولة
سلطتها ...
وماحاولته هنا- فى حدود ما- هو تفكيك شكل الدولة ؛ ممثلا فى النظام البائد، سعيا
للكشف عن بعض مما سكت عنه ذلك النظام .. هذا وليس (الواقع)- بما هو (الدال)
الذى حاول النظام البائد إخفاءه فى الغموض اللغوى إلى الأبد،دون أن يفلح، سوى
معادلا للجسد- المتحول إلى (جثة) ؛ إذا حاول النظام أيضا الإســتحواذ عليه ، دون
أن يفلح فى دفنه فى(الحجب الإستعارى)؛على نحو ما أشرت من قبل .. وكما صار
(الواقع- كوضوح لغوى) شرطا ‘ صار (الجسد) علة (للفعل) ..
هكذا ، فى (الفعل) يلتقى الواقع بالجســــــــد- مما يعيد بالضرورة تأسيس (الفعل-
الثقافى :الأدبى ، المسرحى ... إلخ)؛ ففى السياق الثورى الراهن ،لم يعد بالإمكان
النظر إلى الجسد بمعزل عن الواقع- فمن الجسد ينبثق (الواقع- كوضوح لغوى) ؛
بما هو اللغة المشفرة للجسد ..
أشرت من قبل ، إلى أن (مســــرح الكلمة) سيكتسب- فى السياق الثورى- قوة لم
تكن له من قبل ؛ نظرا لحاجتنا الملحة إلى (الحوار) ، أما المســرح الجسدى فهو
ذاكرة ورمز للثورة ، إنه شرطها الدائم وشارة إســــتمراريتها ومبدؤها الأعظم ؛
المتمحور حول (إعادة تأسيس الهوية الذاتية على الجسد) ، وليس على أى شئ
آخر ..



*

الهوامش :
ـــــــــــــــــ
(1) ، (2) ، (3) ــ إنظر (أندرى بوتيتا) ( التبادل الرمزى والتاريخية) ت : حسن أحجيـج ، العدد (40) ، على الموقع التالى : http://www.fikrwanakd.aljabriabed.net
(4) (ملحوظة : نظرا لخلو العربية من صيغة الجمع لكلمة (واقع) ، لعدم تصور العرب لوجـــود
أكثر من واقع واحد- وتبعا للمنظور الفلسفى الذى أتبناه هنا ، والذى يقـول بتعدد الواقــع ، ربما
أمكن إقترح كلمة (واقع- ات) كصيغة جمع للكلمة ، هذا والأمر برمته متروك للغويين) ..
(5) بإمكان القارئ العودة إلى هذه الدراسة على موقع أكاديمية الفنون- على الشـــــــــــــــــبكة الآليكترونية ، وهى بعنوان (الإستعارة المسرحية ، مقاربة وتقويض) للكاتب ..
(6) يعكف الكاتب الآن على إنجاز كتاب جديد بعنوان (تقويض نظرية العرض المسرحى)، وفيه
يتناول العرض المسرحى على ضوء هاتين النظريتين ،محاولا تفكيك النظريات السائدة المتعلقة بالعرض المسرحى ..
(7) د . صبرى حافظ (كلمة ، جائزة البوكر : الأصل والصـــورة) ، جريدة أخبار الأدب ، العدد
(728) ، 24 يونيو 2007 ..
(8) بيتر بروكر (الحداثة وما بعد الحداثة) ، ت : عبد الوهاب علوب ، منشورات المجمــــــــع
الثقافى ، أبو ظبى ، 1995 ، ط 1 ، ص 240 ، 241 ..
(9) إزارينى (ميشيل فوكو وشاعرية النزعة الإنسانية) ، موقع صدى الزواقين ، على الشبكة الاليكترونية ..
(10) د . عبد الرحمن التليلى (عنف على الجســد) ، مجلة عالم الفكر ، الكويت ، المجلد 37 ،
العدد (4) أبريل ، يونيو ، 2009 ، تصدر عن المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب ..
(11) د . يوسف تيبس (تطور مفهوم الجســـــــــد : من التأمل الفلسفى إلى التصور العلمى) ،
المرجع السابق ..
(12) ، (13) إزارينى ، مرجع سابق ..
(14) د . يوسف تيبس ، مرجع سابق ..
(15) (16) (17) فانسان توماس (الجثة واللغة والصور) ، ترجمة : أحمد الفوحى- موقــع
سعيد بنكراد ، مجلة علامات ، العدد (4) ، 1995 ..



#محمد_حامد_السلامونى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد حامد السلامونى - الثورة المصرية ، تمثيلات (اللغة والواقع والجسد)