لحم العلماء مسموم (خاطرة)

أبوالعباس ابرهام

الحوار المتمدن-العدد: 3427 - 2011 / 7 / 15 - 17:29
المحور: كتابات ساخرة
    

عزيزي إيميل
الانتخابات على الأبواب. هذا خبر مفرح لأربع شرائح: مؤسسات كراء السيارات و الفنانين و الخطاطين و العلماء. كل هؤلاء سيحولون الأرباح إلى جيوبهم من ملحمة الضجيج هذه.
عزيزي إيميل، لا تنظر إلى السماء فرقا. إن هؤلاء العلماء الذين تخاف أن تخسف بك الأرض كلما ذكروا ليسوا أفضل عند السماء من البقية. كلهم يعمل لجيبه و كلهم يسعى للدنيا سعيها.
أعرف ستهز رأسك الصغير بأن "لحم العلماء مسموم".
عزيزي إيميل
إن نظرية أن "لحم العلماء مسموم" هي نظرية حديثة جدا. و قد سكها الأحبار الموريتانيون في القرن التاسع عشر ليبعدوا بها العامة عن الحديث في شؤون الخاصة، يخوفونهم بالنار المليئة بالأفاعي و العقارب و الزناجير و الشياطين التي تأز نقاد العلماء أزا حتى يتدفق الصديد و القيح من جلودهم. لقد أفلح العلماء الشناقطة بإبعاد الدهماء بهذه النظرية الرهيبة تماما كما أفلح الرهبان المصريون في تخويف الغوغاء من رع و آمون، بل و دفعوهم لبناء الأهرامات و المسلات الطويلة بفعل هذا الخوف.
إن نظرية أن "لحم العلماء مسموم"، يا عزيزي أميل هي نظرية غير مثبتة مخبريا. و في الحقيقة فإن الشيطان نفسه كان عالما. و ربما كانت هذه هي العبرة من قصة الشيطان و آدم، و هي أن العبرة ليست بالعلم بل بما يوظف فيه. و أن العالم عندما يوظف علمه في الشر فإنه لا يصبح شيئا غير شيطان.
عزيزي إيميل،
هذه النظرية الرهيبة كممت كثيرا من الأفواه. و عندما كان علمائنا المبجلون يشاهدون في وضح النهار بقرونهم الصغيرة السوداء في جباههم الحمراء، و و عندما كانت ذيولهم الطويلة تتدلى على شكل سهام طويلة، و يمسكون رماحا ثلاثية الرؤوس و هم ينظرنزن نظراتهم البعلزبوبية فإن لا أحد استطاع أن يصفهم بالشياطين لأن المقصلة المسماة بـ"لحم العلماء مسموم" كانت تجلجل فوق رأسه. و كان ينظر إلى السماء فرقا و ارتعابا مثلك أنت يتوقع نزول صاعقة من الإله آيجايوس.

عزيزي إيميل
إن علماءنا الأكابر كانوا يعرفون بعضهم بشكل جيد. و أول شيء عرفوه هو أنهم ليسو حواريي المسيح. كانت تتقاسمهم الأهواء. و كانوا يحققون الثراء بالبحث عن المال. و في كل مجلس سلطان كانوا يجلسون كجلوس البيروقراطيين على مكاتبهم، يفكرون في الأجر آخر الشهر. و عندما ذهب ابن بطوطة إلى مالي وجد فيها علماء البيضان يمدحون الملك فيحصلون لقاء ذلك على المال.
في الإمارات الحسانية كان هؤلاء القضاة يحققون المال بالإفتاء لصالح السلاطين، كفتوى العلماء الزوايا بجواز تعبيد الزوايا لأتباعهم المحاربين في الوالو و شمامة و بحرام التعبيد على أعدائهم في كايور و الفوتا. و عندما عبد الفوتيون نسوة أولاد امبارك و تنواجيو هز العلماء المستفيدون من المال الفوتي رؤوسهم تأييدا. و قبل ذلك بقرون هز العلماء المسوفيون رؤوسهم في حضرة منسا موسى ثم أكلوا لحمه في حضرة الأسكيا محمد.
في داخل البلاد كان هؤلاء القضاة الصغار يقومون بكل ما هو أيديولوجي و شرير. فكانوا يحاكمون العبيد الآبقين بتهمة الكفر و ارتكاب الكبائر. و عندما كانوا يفطنون لنية عبد الهرب أو المعاندة كانوا يتهمونه بـ"السل" أو مص الدماء و كانوا يستصدرون فتوى بقتله رجما. في القرن التاسع عشر قتل العلماء عشرات الجواري لأنهن كن "سلالات". لا ريب أنهم سبقوا برام ستوكر إلى رواية دراكيولا. ولكنهم لم يكتفوا بحياكة الخيال، بل كانوا ينخرطون في تراجيديا رمي الحجارة المسعورة على الجاريات المقيدات على الأشجار كقديسي القرون الأولى و هن يقتلن من قبل الكفار العتاة الظالمين.
كان الدم ينسكب على جلودهم وكانوا يمسحونه منتشين كأنه خمر قان.

***
إن ابن رازكَة هو امرؤ قيس العلماء الموريتانيين و كان متمرسا فيهم و في أفكارهم و أهوائهم، و هو نفسه كان مؤسس طبقة جديدة من العلماء و كان أول شيء فعله عندما صعد نجمه هو أن رفع من شأن علماء ترارزة الذين نُتفت عمائمهم الطويلة و رُميت في الوحل بعد هزيمتهم في شرببة. و لقد سمحت جهوده بانتشال العلماء المُذللين المُسخرين للمحاربين المغافرة ورفعهم إلى أشراف و قضاة فظهر فيهم قاضي ترارزة، محمد ولد اتشفاغة موسى، وقاضي لبراكنة الذي كان مستشار الأمير، اعلي شنظورة، ولم يكن غير ولد رازكَة نفسه. أما قاضي أولاد امبارك الذي رآه مونغو بارك فلم يكن غير "اشويدح" كبير يضرب الصبيان بشدة ولكنه كان يحقق عوائد هائلة من الهدايا كل يوم أربعاء،و كان ذلك المرابط من أغنى أغنياء الزوايا.
إن ابن رازكَة هذا يعرف الطبقة التي أنشأ كثر من غيره. و عندما اكتشف شر الكثيرين منهم، ألف فيهم قصيدة دانتية رهيبة، و هرطوقية من منظور نظرية "لحم العلماء مسموم":
تدوم غربان الدجى فتردها إلى الجويحات الشماع النقائض
زمان تواني في المصالح أهله و كلهم نحو المفاسد راكض
يقولون خير الدين و العلم سعيهم و سعيهم للدين و العلم هائض
و لكن الحقيقة أنه تعرض إلى جدارة العلماء بالعلم فبين حقيقة تسترهم بالحفظ و التكرار.
عجزت فأظهرت القبول كتابع عجوزا يصلى خلفها و هي حائض
إلى اليوم مازال هذا البيت يعبر عن أزمة العلماء و يؤرق الأدعياء البغاة الذين يشرعون كل شيء بالحديث عن كل شيئ دون أن يعرفوا أي شيئ.
في تلك الأيام البعيدة من القرن الثامن عشر عندما لم يكن لحم العلماء مسموما صاح ابن رازكَة بأنهم حمير:
على صورة الإنسان غطيت صورة الــــــ حمار وغطتها الثياب الفضافض
ثم ختم بهذا الإستنتاج العابر للزمن:
إذا مااللحى لم تسع في النفع أهلها لأهليهم فلتسع فيهم المقارض

****
عزيزي إيميل
النابغة الغلاوي كان عالما شنقيطيا ثائرا و "كان في شكل" كما يقول المغاربة. كان يمتلك اعتراضات كبيرة ليس فقط على علماء الشناقطة بل على مناهجهم العلمية. و ذات مرة هتف متضجرا:

فطرة ابن بون و الخطاط كلاهما في غاية انحطاط

هرطقة رهيبة.

***

آه، يا عزيزي إيميل. إنني أشتاق إلى أيام النابغة الغلاوي و أيام ابن رازكَة، أيام كان لحم العلماء طازجا و شهيا. الآن في عصرنا المتأخر عكر ثقب الأزون على جلود العلماء. الآن عزيزي إيميل لا نملك إلا أن ننظر إلى اللحى الكثة الشريرة تزنزن بدعم الشر و تبريره و نحن ساكتون.

و لكن إليك الخبر الجيد يا عزيزي إيميل. سيأتي يوم و تتغير فيه البيئة و يعود لحم العلماء إلى نضارته القديمة. ستتحول لحاهم الكثيفة إلى قمح و شعير، كما تمنى الشاعر العباسي:
ألا ليت لحيتك كانت شعيرا فنطعمها جياع المسلمينا

عزيزي إيميل، عندما يأتي ذلك اليوم- و حتما سيأتي- فلا تنس "عزومتي" لك إلى مطعم النخيل في قلب المدينة على وجبة المعكرونة بلحوم العلماء. ستأكل أصابعك بعدها.
أراك بخير

#أبوالعباس_ابرهام (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات