أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - ضرغام عبدالله الدباغ - لعبة الكريات الحديدية















المزيد.....


لعبة الكريات الحديدية


ضرغام عبدالله الدباغ

الحوار المتمدن-العدد: 1008 - 2004 / 11 / 5 - 11:20
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن
    


قصه قصيرة لملحمة طويلة

تتألف السنة من 12 شهراَ، والشهر الواحد من 30ـ31 يوماَ عدا شهر شباط الذي يتألف من 28 يوماً عادة إلا إذا كان حظك رائعاً مثل حظي، فتزيد يوماً واحداً
لتصبح 29 يوماً ولتصبح السنة آنذاك سنة كبيسة .
ثم أن الشهر الواحد يتألف، أكثر من أربعة أسابيع والأسبوع يتألف حتماً من سبعة أيام واليوم الواحد من 24 ساعة، والساعة من 60 دقيقة والدقيقة من 60 ثانية، وبذلك تصبح أنت بلحمك الغض أمام آلة الزمن المعقدة التي تتألف من سنوات وأشهر وأسابيع وأيام وساعات، ودقائق وثواني، ريشة في مهب الريح.
وللزمن سطوته وسلطته، فلا تستطيع استعادة الزمن الضائع، أو تجميده، أو تأخيره، ولذلك عليك أن تكون دائماً في أتم اللياقة البدنية والفكرية، لكي لا تتأخر حضوراً أو فكراً.
ولكن من أنت…؟ أنت ذلك المخلوق الذي ليس بوسعه أن يعطل قدوم أي لحظة ولا استعجالها
وبعبارة أخرى، ليس عليك سوى الانتظار والقبول بمعادلات الأمر الواقع سواء كانت قاسية أم لا. ولكن لماذا لا …؟ أنها دائماً قاسية بدليل أنها لا تستأذنك، بل أن الأحداث والوقائع تحصل في كثير من الحالات دون تدخل مباشر منك، وقد يكون في حالات نادرة أو بالصدفة لصالحك أو أنك قد تدخلت بهذه الدرجة أو تلك في صنع الأحداث، أو في ما يؤدي إليها. ولكن في معظم الحالات فأن الرياح تأتي بما لاتشتهي السفن. فما عليك سوى الانتظار وإبداء حسن وأدب الاستسلام .
أما إذا كان حظك رائعاً، ( وإني سأفترض ذلك لكي نمضي في القصة قدماً ) وتحتم عليك أن
تصارع الفولاذ والزمن لمدة 20 عاماً، فأنك بعد تأمل ستجد نفسك أمام آلة رهيبة من الأرقام المخيفة، وهي عبارة عن معطيات مجردة لا جدال في دقتها وواقعيتها، عليك أن تتحملها بأي وسيلة كانت، بل أن مقدرتك وشجاعتك تعتمدان على تحمل معطيات هذه الآلة، فأنت أمام عشرون عاماً من السجن، قضت فيها السلطات بمصادرتك لأنك مصاب بعمى الألوان، أو لأنك دسست أنفك فيما لا يعنيك، أو ربما لأنك لست بمستوى الذكاء المطلوب …تصور المطلوب …!
والعشرون عاماً هذه تمثل ثلث عمر الإنسان، وإذا اعتبرنا أن الثلث الأول من عمره20 ـ1
هي سنوات تحضيرية ليس إلا، وأنت لست مؤهلاً فيها بعد على خوض المعارك واتخاذ القرارات، بين طفولة ومراهقة أما العمر الحقيقي فأنه يبدأ من سن العشرين فصاعداً، وهكذا فأن مدة الحكم 20 سنة تمثل نصف العمر على أساس أن الإنسان يعتزل العمل ويحال على التقاعد بعد سن 60 سنة ويرتكز نشاطه الحقيقي على مراجعة الأطباء والمستشفيات.
وإليك هذه التفاصيل المزعجة (أذكرها لك فقط لكي لا تؤخذ على حين غره) : 20 سنه=240
شهراً، وهي أيضاً = 1020 أسبوع، وتساوي، 7200 يوماً ( تصور سبعة أضعاف ألف ليله وليله )، و= 172,000 ساعة و= 7,320,000 دقيقه، و 199,260,000 = ثانيه، ترى ما هي القيمة العملية الواقعية لهذه المعطيات الفلكية…؟ ولماذا هذا الحساب الدقيق للسنوات والأشهر والأسابيع والأيام …؟
سنوات…؟ عندما استولت عليك السلطات وصادرتك باسم القانون، قالوا لك : تفضل رجاء ،
مجرد خمس دقائق …! ولكن لاحظ كم استغرقت هذه الدقائق الخمسة، والمسألة هي في النسبية…!
كانت زوجة العالم الرياضي آينشتاين، تجهل ويا للغرابة مفهوم النظرية النسبية. وفي لحظة صفاء وهناء مع زوجها، قالت له : أليس من الغرابة أن تكون هي زوجته، وأن لا تعرف النظرية النسبية. التي وضع زوجها أسسها ..؟ ، وهنا أحتار العالم الكبير، كيف له أن يوضح نظرية لا تخلو من التعقيد، وبعد هنيهة من التفكير، قال لها وهو يحاول بالطبع أن يقرب الأمر إلى أقصى درجة من مستوى تفكيرها ومصالحها أيضاً…!
قال لها متسائلاً إن كانت تذكر فترة خطوبتهما وكم كانت رائعة بالنسبة له قائلاً : كانت كل ساعة أقضيها معك تمضي بسرعة وكأنها دقيقة أو ثانية واحدة. ابتهجت زوجة العالم وأجابت مبتسمة، أن نعم. فأستطرد آينشتاين قائلاً : ولكن بعد مرور سنوات طويلة على زواجنا أصبحت كل دقيقة أقضيها معك، تعادل ساعة من الزمن. ومع أن ملامح الفرح والابتهاج غادرت ملامح الزوجة، إلا أنها استوعبت بدقة النظرية النسبية التي أجاد زوجها العبقري في شرحها لها. فزواجه منها قد لا يبدو لي من نتائجه المنطقية كارثياً، لكنه قد تحول إلى ساعة زيتية ثقيلة. إذن بماذا يمكننا أن نشبه حياة السجن…؟
سأقول لك، قولة المجرب العارف الذي لم يفقد عقله، إذ أن هناك من يرى الوهج الفتان، ولكنه يخسر عقله فلا يقدر بعد ذلك على وصفه. وهناك من يقابل الوحش الخرافي، ولكنه سوف لن يقدر على وصفه، لأن الوحش ، ببساطه سوف يلتهمه ولن يبقي منه شيئاً. ولكنني مازلت صافي الذهن متقد الذاكرة، واضح البصر والبصيرة، رغم أنني أنهيت ثلاثة أرباع المباراة (16 جولة ) .
دعني أشرحها لك : السجن عبارة عن مطرقة هائلة يحملها وحش خرافي، هل لاحظت يوماً في الأخبار التلفازية صورة الكرة الحديدية الهائلة التي تستخدم في هدم العمارات والأبنية، فتنهال هذه الكرة المطرقة على من تصيبهم تهشيماً وتحطيماً وسحقاً. وبقدر الصلابة (ذاتياً) في من تصيبهم المطرقة لمدة معلومة من السنوات (أتحدث هنا عن عشرين عاماً) وهناك من يتمكن من مقاومة المطرقة أو يتفاداها، ولكنه قد لا ينجح كلياً في مساعيه تلك، فيبدأ بالتداعي و التهشم بعد خمسة سنوات أو عشرة أو خمسة عشر، فيخسر قدراً من تكوينه، كلياً أو جزئياً وينتهي الأمر به محطماً، كسيحاً .
موضوعياً، يعتمد الأمر أين تقع ضربة المطرقة، فأن أصابت الضربة الأولى الرأس كان مستوى الضرر الذي لحق بالمصاب كبيراً (وبالطبع أني أقصد بالرأس هنا ما أقصد …!!) أو
أن لا تصيب الضربات منك إلا الأطراف، الأيدي والأرجل، فيكون مستوى الضرر أقل، أو عندما ينجح الفرد بتغطية رأسه وأطرافه، فلن تكون تأثير الضربات خطيرة، فتنتهي المباراة (وبحسب عدد الجولات)، بأقل قدر من الأضرار.
لنفترض أن هناك لوحة سريالية من فكر سيغموند فرويد وريشة سلفادوردالي، ( كان دالي متأثر فعلاً بفرويد)، لنفترض أن الكرة الحديدية تروح وتعود في حركة بندولية رتيبة، ولكنها قاتلة، تزيل فيها دائماً الصف الأعلى من الجدار (طابوق أو حجارة أومن البلوك) ولكنك إذا كنت ذكباً أو خبيثاً (لسنا بصدد هذا الموضوع ألان)، عليك أن تدرس بدقة متناهية آلية عمل وحركة الكرة الحديدية الهائلة، ثم تسجل حركتها بالثواني، أو ربما بأجزاء الثواني وقد تبدو لك العملية لأول وهلة معقدة وصعبة، وقد لا تخلو من الملل أيضاً، ولكن مالعمل…؟أنك مرغم على ذلك في إطار الحفاظ على النفس والنوع أيضاً…! فهناك مخاطر الانقراض للحيوانات النادرة، أو تلك التي لم يعد وجودها شائعاً…!
بعد أن تسجل بدقة، ومتناهية كما قلنا، ستجد لاحقاً وبعد أن تعتاد على هذه العملية المعقدة حتى دون الاعتماد على الحاسوب، إنك قادر على الانتصار على هذه الكرة الحديدية الهائلة بسهولة ويا للعجب ..! ولكن ليس قبل أن تصبح في قمة لياقتك البدنية والفكرية، بحيث أنك ستجد أن من المشين، أو المثير للسخرية أن تدع هذا الوحش ينتصر عليك، آلة حديدية تنتصر على إنسان …؟
لنعد إلى الموضوع…ها أنت قد أعددت تصوراً واضحاً، وجدول توقيتات مفصلة عن الحركة البندولية القاتلة للكرة الحديدية، ووضوح الهدف ودقة الخطة. أمران في غاية الأهمية لنجاح خطة الإفلات من الوحش الحديدي، وهدفك يتناقض مع هدف الكرة الحديدية، أنت تريد أن تمضي قدماً في بناء الجدار، فيما أن هدف الكرة هو تقويض الجدار حتى الأساس، مبتدءاً من الصفوف العليا للجدار ( من رأس الجدار،حسب أرقى نظريات التقويض )، وبأجراء عمليـة
حسابية (ربما تستغرق بعض الوقت) تحسب فيها الزمن الذي تقطعه الكرة الحديدية من أعلى ذروة لها شمالاً إلى أعلى ذروة لها جنوباً، ولا بد أن يكون حاصل قسمة الزمن على أثنين هو أقصى مدى تصله الكرة في حركتها إلى الأسفل، وهي نقطة ملامسة الكرة لأعلى صف من الطابوق في الجدار. وهنا عليك أن تقيم سباقاً مع الزمن .
سباق مع الزمن…؟ هذا مصطلح لم يخطر على بالي قط حتى عند شروعي بشرح آليات العمل المقاوم للكرة الحديدية. إن قدرات الإنسان تتضاعف بشكل مثير وتفوق التصور، والمهم هو إرادة العمل. إني لأرجو من القارئ الكريم أن ينتبه لمصطلح سباق مع الزمن، لأنني سوف أعود إليه بمزيد من التركيز والتفصيل .
في السباق مع الزمن، وأنت ألان تتنافس في ذلك مع الكرة الحديدية الهائلة عليك أن تناضل من أجل تشيد صفين اثنين يومياً ليرتفع الجدار، فالكرة تزيل صفاً في صعودها وصفاً عند نزولها، وإذا نجحت في بناء صف واحد فقط، فهذا يعني أنك سوف تخسر المباراة بعد مدة معينة بحسب ارتفاع جدارك أصلاً .
إلى هنا يبدو الأمر محتملاً، صحيح أنك، تخسر ما تشيده إلا أنك بالمقابل لم تسمح للآلة أن تحطمك نهائياً. ولكن لابد من الاعتراف أنها أوقفت عملية النمو في جدارك. أما إذا شيدت صفين فأنك متعادل مع الكرة الحديدية، أما إذا نجحت بتشييد ثلاثة صفوف، ستزيل منها الكرة اثنين، فسيبقى لك دائماً صف جديد، أي أنك تسجل انتصاراً ولو بسيطاً في المباراة .
ولكن هناك احتمالات أخرى للوضوح، أقصد أيقاظ الوعي، هو أنك لو كنت عارفاً بقواعد الاقتصاد السياسي فأنك ستعلم أن هناك مصطلحاً يسمى بالإنتاجية، إنتاجية العمل، أي أن قدراتك الإنجازية يمكن أن تتصاعد تلقائياً، أو بالحث، مع إتقانك العمل. في حين لايحتمل أن تغير الكرة الحديدية (أخلاقها) آليات وإيقاع عملها لأن في ذلك فساد نوعها…!
وبناء على ذلك، فأن ارتفاع معدلات التشييد أو الحذاقة في توزيع الجهد، فأن بناء ثلاثة خطوط أو أكثر خلال حركة البندول صعوداً أو هبوطاً، يكون معدل البناء أعلى من معدل التقويض، أي أن الكرة لا تكف في الواقع عن التقويض، ولكنك لا تكف أيضاً عن التقدم وإحراز الانتصارات .
أحقاً ذلك ممكن…؟ نعم بالتأكيد ، أقولها لك بلهجة الواثق المجرب.
ولكنني أريد أن أقول لك أمراً آخر، دعنا أن نشبه التجربة بشيء آخر. لنقل انك قد حشرت في زاوية أمام رماة ذوو وجوه حجرية. وأنني إذ أسر لك نبأ الرجال ذوو الوجوه الحجرية، كي لا تضع أي قدر من الاحتمال بمناشدة ضمير أو رحمة الرماة. قلت لك أن وجوههم حجرية وذلك ما يمكنك رؤيته والتبين منه بوضوح، وما لا تراه ببصرك، هو أن قلوبهم هي حجرية أيضاً وذلك مؤكد بدرجة مماثلة ، لذلك وكما يفعل رياضيو اليوغا، لا تحاول التركيز على وجوههم وضمائرهم، بل ركز على نفسك وضميرك، عليك أن تنسى، أو تحاول أن نسيان أن هناك شعيرات حساسة وشرايين ناقله عبر الدماغ تجعل المرء يشعر بالألم، عليك أن تغير الكثير من المفاهيم. ليس هناك ما يدعو للألم بفعل عوامل خارجية. أن الألم باعتقادي يحدث فقط عندما يشعر الإنسان بتأنيب الضمير، هذا هو الألم فحسب، وليس هناك شيء آخر، أم الوخـز والألم الخارجي، فهو محض هراء .
أذن، فأنت أمام رماة ذوو الوجوه الحجرية، أو بالأحرى القلوب الحجرية، وبأيديهم بنادق صيد رائعة، وكلاب صيد مذهلة وكمية هائلة من الخرطوش. وكما تعلم ربما، أن الخرطوش يتألف من عبوة تحتوي على كرات حديدية / رصاصية، صغيرة أو كبيرة، حسب عيار الخرطوش فقد تضم الخرطوشة 12 كرة رصاصية أو أكثر، 24 أو 50 أو ربما ثلاثة أو أربعة كرات فقط إذا كانت مخصصة لصيد حيوانات قوية مثل الفيلة أو الأسود والنمور .
والخرطوش له أسماء وأرقام كثيرة ومعرفتها، ومعرفة آليات انطلاقها مهمة جداً لكي تخفف من وقعها عليك. فهناك سنة بسيطة وسنة كبيسة وأسماء أثنا عشر شهراً وسبعة أيام وأربعة فصول وأزمنة، ساعة ودقيقة وثانية، هل تعلم ما وقعها عليك...؟
سوف لن أغضب أن كنت تجهلها، فأنا نفسي الذي أجلس في قدر الضغط العالي سنوات طويلة، لم أكن أدرك حركتها المحورية الدقيقة. وإليك مثال على ذلك : قالوا لك يوم القي القبض عليك ( يوم مصادرتك)، إن الأمر سوف لن يستغرق أكثر من خمسة دقائق، وها هم يعتصرونك, ويتعاملون معك وكأنك رقماً لا قيمة له ولا معنى هنا للألم النفسي وتوجه لك الإهانات في مسرحية هزلية لا نهاية قريبة لها، وأنت تنتظر نهاية هذه المهزلة، مهزلة تعرضك إلى ألم خارجي تافه (هم يعتقدون أنهم يلحقونها بك) .
وقد ينهال عليك أحد الأوغاد مستخدماً كالقرود المتطورة، مستخدماً أطرافه العليا والسفلي، هو إنسان في هيئته الخارجية، ولكنه تحول إلى حيوان متوحش ضار، بسبب المهنة والتربية والجو المحيط به، ربما بسبب إعجاب دفين بالمهنة وعداء كامن للجنس البشري، أو ربما بسبب خطأ عابر من الوالدة ..!! والله أعلم ..!
ها أنت تقف الآن أمام سد من سدود وميادين الرمي، أمام دريئة ( إن كنت عسكرياً، فسوف تفهم معنى هذا المصطلحات )، ويبدأ الرماة بالتصويب عليك، وينهال عليك الخرطوش من كل العيارات، سنوات، فصول ،تمر عليك، أشهر، أسابيع وأيام وساعات في أوضاع ومواقف كثيرة، ودقائق طويلة طويلة، وليس نادراً ثواني يكون فعلها كالثواني التي مرت على آينشتاين…!
ما العمل…؟ كيف تنجو من خراطيش مليئة بكريات حديدية أو رصاصية كثيرة من كافة الأحجام، ورجال حجريون، وبنادق ممتازة…؟
هل سترتدي سترة واقية من الرصاص …؟ كلا بالطبع لأنك لا تمتلك واحدة منها، بل لأنهم قاموا بتفتيشك، وجرد مقتنياتك البسيطة ليتأكدوا أنك لا تمتلك شيئاً يجعلك قادراً على صنع طائرة مروحية …!
قلت لك قبل قليل، أن الألم الخارجي هو شيء تافه ووهم كبير. أن من يسلط عليك هذا الألم يريد أن يوهمك بأنه العنصر الأهم في العملية، في حين ينبغي عليك أن تستوعب أن ذلك ما هو إلا فخ لك ولبصيرتك، وهنا تكمن عناصر قوتك أن تتجاهل الألم الخارجي تماماً، وقدرتهم على توجيه الإهانة لك، وأن تصرفها عن ذهنك نهائياً وأن تفصل نفسك ومشاعرك وأخلاقياتك بصفة نهائية عن هذا الوسط المنحط الذي يراد منه دفعك إليه، تجاهله تماماً، أنني سأجعلك تنظر إلى المسألة برمتها بصفتها لعبه، وكلما أتقنت ممارستها سيتوقف عليها انتصارك أو اندحارك وهزيمتك .
لاحظ…إن معظم التقاويم الجدارية تتألف من ورقة واحدة، الأشهر فيها مرتبة على أساس رباعي وتكون بذلك ثلاث صفوف أو على شكل ثلاثي، وبذلك تصبح لأربعة صفوف، ليس ذلك مهماً، فأي كان الحال علينا أن نقطع هذا البحر سباحة اعتمادا على قوة الذراعين فحسب .
عندما ينتهي الشهر الأول (كانون الثاني)، يبدأ الشهر الثاني (شباط)، آنذاك سيكون عليك قطع الشهر الثالث فقط لأنك تسبح في الشهر الثاني ومع نهاية الشهر الثالث تكون قد أنهيت ربع السنة، وأنت تقوم بهذه العملية ( واقعياً أنت في الشهر الرابع )، وبمرور أيام معدودة فقط تكون قد أنهيت الشهر الرابع وهو ما يمثل ثلث السنة حينئذ لك أن تقرع على صدرك العامر، وتقول : ها أنت قد أنهيت ثلث السنة، فيما تكون أنت في الشهر الخامس الذي بمجرد انقضائه تكون في الشهر السادس آنذاك لك أن تصرخ بجذل : ها أني قد أنهيت نصف السنة، وبانقضاء نصف السنة فأنك تكون قد نحرت السنة في الواقع، تدغدغ مشاعرك في شهر تموز الذى مع نهايته تكون في الشهر الثامن الذي يمثل ثلثي السنة، ولم يتبق منها سوى ثلث واحد فقط .
وفي غمرة هذه المشاعر اللذيذة، تكون قد أنهيت الشهر الثامن، ومع بداية الشهر التاسع تكون قد أنهيت ثلاثة أرباع السنة، أي أنك قد وضعت السنة خلف ظهرك، وأنهيت بكل اقتدار جولة جديدة من الملاكمة أو المصارعة انتصرت فيها لتقول : أن ما بقي لي هو أقل بكثير مما قد مضى، أو : الأمر كان في غاية البساطة وإذا كانت الجولات القادمة كلها على هذه الشاكلة فالأمر بسيط حقاً .
نعم بسيط حقاً، لأنك لا تملك خياراً آخر…هذا إن أردنا أن نكون واضحين ونتوخى الدقة في أحكامنا، وغير ميالين إلى التلفيق كما يفعل بعض الذين لا تحمر وجوههم خجلاً، ولكن دعنا لا نركز على هذه النقطة أفترض انك كنت مبحراً على ظهر باخرة، ثم سقطت فجأة من سياجها، وها أنت وسط المحيط الأطلسي، فالسباحة حتى البر المقابل هو خيار مجنون طبعاً ولكن مالعمل…؟ فالخيار الأخر هو أكثر جنوناً، فأنت لا تستطيع ببساطة أن ترخي يديك وتسدل ذراعيك وتدع نفسك تغطس كصخرة إلى قعر المحيط، لا سيما أنك تجيد السباحة . تخيل الأمر، أنت في وسط المحيط تسبح على سطح الماء وتخيل كم هو عمق المياه تحتك والوحوش التي يزخر بها المحيط، تخيل وحشة الليل وأنت تضرب بيدك على صفحة الماْء، تخيل كم سفينة مرت بالقرب منك أو بعيداً عنك ولم تلتقطك لأنك لا تمتلك ثمن التذكرة، أو لأنك نسيت جدول ضرب ( 9 )، أو أحد الأناشيد المهمة هذه الأيام …لا فائدة من الحديث كثيراً، فذلك يضيع طاقة أنت بأمس الحاجة لها ….واصل السباحة ثم ضع عيونك تجاه عيون الرجال الحجريين وإن لا فائدة ترجى من ذلك ولكن لتعرف نفسك على الأقل بأنك لم تهزم لأنك لم تصبح حجرياً ولكي تعرف من الان بأنك المنتصر في المباراة وكل الجولات…! كيف…؟ نعم أنك أنت المنتصر، لأنك : لم تصبح حجرياَ، أولاً، ولأنك لم تشايعهم ثانياً، ولأنك لم تؤيدهم ثالثاً، بل لأنك عملت ضد الحجر …!!! فطب نفساً وواصل السباحة في المحيط الأسود .
ألان وبعد أن تمتعت بوجبة عامرة منحتك شحنة معنويات، أستعد لالتقاط الكرات الحديدية أو الرصاصية المصوبة نحوك وكلما تقدمت في إتقان اللعبة سوف يستخدم الرجال الحجريين ضدك خراطيش من عيارات ثقيلة، على أساس معرفة بدائية أكتسبها الحجريون، أن الخراطيش ذو الكريات الناعمة لا تنفذ في جلدك .
ومثل أبطال الأساطير، عليك أن ترقب وأن تقدر الوقت بين إملاء بندقية الصيد والتصويب ثم أن تقدر بدقة جهة التسديد، تمد يدك وتلتقط بكف يدك الكرة الرصاصية قبل أن تلامس جسدك ثم تضعها في جيبك، أو أن تضعها في أي مكان ولكن إياك أن تبتسم بشماتة، فذلك يغيظ الرجال الحجريين ويزيد في عدوانيتهم وشراستهم .
لا تتصور الأمر معقداً، هكذا هي الأحوال، في البدء نتصورها أشياء صعبة ولكنك سوف تعتاد عليها بحيث أنها تصبح بمرور الوقت السلوى الوحيدة لك في هذا المحيط الأسود أو هذه الصحاري القاحلة، وأنها الوسيلة الوحيدة لأثبات نفسك وذاتك، وهذه الكرات الحديدية ، صغيرها وكبيرها هي بمثابة صخور ضخمة تحملها كل يوم إلى قمة الجبل، حيث تسقط من جديد إلى السفح. ليس هناك هدف محدد، الهدف هو مواصلة اللعبة فحسب. هذا هو قدر سيزيف في الألفية الثالثة وليس لهذه العملية من نهاية وليس لك أن تلوم أحد حتى ذلك الوغد الذي خانك وقبض ثمن خيانته منصب مدير عام ماسحي الأحذية .
واصل البناء، واصل السباحة، واصل التقاط الكريات الحديدية، واصل إظهار احتقارك وأدانتك للقتلة والخونة والمرتشين والقوادين وممتهني دعارة السياسة والسماسرة والجواسيس. ليس لهذه العملية من نهاية، ليس لك أن تلوم أحداً، فأنت طرحت نفسك هكذا رقماً غير قابل للصرف،منتوج لا سعر له، ورأس ينبت مثل ذنب الأفعى كلما تعرض إلى البتر. عمرك ملايين من السنوات، أنك لست لحماً ليشوى ويؤكل، أو كومة عظام لتسحق وتطحن …لست عشباً يابساً لتحرق وتذروك الرياح ….فكن على قدر هذه القضية وقدرك….
فكر …!

أرجوك …

تحياتي

ضرغام عبد الله الدباغ
سجن الأحكام الخاصة / سجن أبو غريب
بغداد المنصورة
20 / 10 / 2002 --- 5 / 1 / 1987



#ضرغام_عبدالله_الدباغ (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قمر أبوغريب كان حزينا..الجزء الثاني
- قمر ابو غريب كان حزينا - الجزء الاول


المزيد.....




- سوناك: تدفق طالبي اللجوء إلى إيرلندا دليل على نجاعة خطة التر ...
- اعتقال 100 طالب خلال مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين بجامعة بوسطن
- خبراء: حماس لن تقايض عملية رفح بالأسرى وبايدن أضعف من أن يوق ...
- البرلمان العراقي يمرر قانونا يجرم -المثلية الجنسية-
- مئات الإسرائيليين يتظاهرون للمطالبة بالإفراج عن الأسرى بغزة ...
- فلسطين المحتلة تنتفض ضد نتنياهو..لا تعد إلى المنزل قبل الأسر ...
- آلاف الإسرائيليين يتظاهرون في تل أبيب ويطالبون نتنياهو بإعاد ...
- خلال فيديو للقسام.. ماذا طلب الأسرى الإسرائيليين من نتنياهو؟ ...
- مصر تحذر إسرائيل من اجتياح رفح..الأولوية للهدنة وصفقة الأسرى ...
- تأكيدات لفاعلية دواء -بيفورتوس- ضد التهاب القصيبات في حماية ...


المزيد.....

- في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية * / رشيد غويلب
- الحياة الثقافية في السجن / ضرغام الدباغ
- سجين الشعبة الخامسة / محمد السعدي
- مذكراتي في السجن - ج 2 / صلاح الدين محسن
- سنابل العمر، بين القرية والمعتقل / محمد علي مقلد
- مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار / اعداد و تقديم رمسيس لبيب
- الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت ... / طاهر عبدالحكيم
- قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال ... / كفاح طافش
- ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة / حـسـقـيل قُوجـمَـان
- نقش على جدران الزنازن / إدريس ولد القابلة


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - ضرغام عبدالله الدباغ - لعبة الكريات الحديدية