أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - ضرغام عبدالله الدباغ - قمر ابو غريب كان حزينا - الجزء الاول















المزيد.....



قمر ابو غريب كان حزينا - الجزء الاول


ضرغام عبدالله الدباغ

الحوار المتمدن-العدد: 1006 - 2004 / 11 / 3 - 11:47
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن
    


( الجزء الاول )

أبتسم..أبتسم..بعد شوية..أبتسم هكذا كان المصور يصدر تعليماته لي كمصور محترف ومشهور في بغداد بكونه مصور اللقطات الجميلة والسعيدة. وكان
ذلك بعد أيام قليلة من خروجي من السجن، صورة تصلح لجواز سفر، للذكرى، أو تلبية لرغبة العائلة بوصفها الصورة الأولى في الحرية. ولكن هذا المصور الماهر كان يجهل بالطبع مالذي يعانيه إنسان مثلي، يتعرض للتهشيم دون هوادة منذ عشرون عاماً ! ومن عذابات لا يمكن حتى تخيلها، منها: أنه لم يشاهد زوجته وأولاده طيلة هذه المدة، منها ستة عشر عاماً يرزح في سجن أبو غريب، لم يستلم فيها سوى رسائل معدودة لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة.
ستة عشر عاماً تقريباً، هي بالتحديد :ـ
189 شهراً
813 أسبوعاً
5960 يوماً
13560 ساعة
8193600 دقيقة

أفقت من أفكاري على صوت المصور … أبتسم …أبتسم، وتذكرت فوراَ الجملة الأخيرة التي بها أنهى كونستانتان جورجيو روايته الشهيرة " الساعة الخامسة والعشرين، عندما طالب المصور بطل الرواية يوهان مورتيز بالابتسام لكي تكون الصورة جميلة، كأن ما ينقصه هو فقط أن يبتسم ولتصبح الصورة جميلةSmile …. Just smile ، تلك الجملة كانت الخاتمة في رواية جورجيو، وها أنا أضعها كجملة أولى في هذا العمل الذي أقدمه إلى القراء في بلادنا بدرجة رئيسية … ولكن لماذا هذا الكتاب ؟
بادئ ذي بدء، أقول أنني لم أكن أريد أن أدون يوميات أو مذكرات عن تجربة سجن أبو غريب العميقة، وهي مؤلمة قبل أي وصف آخر، مرحلة وتجربة طالت واستطالت حتى بلغت ستة عشر سنة، هي من أكثر مراحل سجن أبو غريب ظلاماً وقهراً. لم أكن أشأ أن أكتب عن تلك السنين إذ لا شك أن ذاكرتي تحتفظ بذكريات مريرة … والمسيرة كانت تنطوي على صور مؤسفة إلى جانب الصور المشرقة، ولكننا نريد هنا تجاوز الصور المؤسفة لنركز على الصور المشرقة، على الطيبين من أبناء شعبنا وهي الصورة العامة الغالبة.
أنني لم أشأ أن يكون هذا العمل من أدب السجون، فأنا لم أتناول الموضوعة على شكل يوميات أو مذكرات، بل جوهر التجربة إنسانياً وسياسياً وثقافياً. لقد توخيت الدقة في المعلومات التي أوردتها، فما أؤكده فهو أكيد، أما تلك المعلومات المسموعة والمنقولة التي تدور في إطار الشائعات، والتي تسيئي، (برأي) إلى التاريخ أو تقلص من الحقيقة أو تعمد إلى المبالغة في الوقائع والمعطيات التي لا تفيد بلادنا ولا قضية الحقوق الأساسية للإنسان العراقي.
إن الرفاق والأصدقاء والأخوة والزملاء الذين عاشوا تجربة سـجن أبو غريـب، في الحقبة بين 1987-2002، وأقدر أعدادهم بحوالي 13000 – 13500 ، واحتمالات الزيادة والنقصان قليلة. وهناك نزلاء حصلوا على مراسيم عفو خاصة وعددهم بسيط، و من توفي في السجن لأسباب صحية، وهم بين عشرون وخمسة وعشرون نزيلاً، كانت وفاة البعض منهم مفاجأة كبيرة مثل الرفيق العزيز سالم حسن، والأخ عبد اللطيف والمرحوم نجم عبد الله السعدون، واستشهاد الرفيق معن وهيب، الذي أعدم لمواصلته النضال داخل السجن، وإعدام الشاب عوده ديوان والي، وانتحار المرحوم أحمد الغزي، وسوف لن يفارقني إلى الأبد منظر شقيقته التي جاءت إلى السجن للمواجهة ففوجئت بوفاة شقيقها، ولا يمكنني مطلقاً أن أصف منظرها، وتغالبني الدموع كلما تذكرتها. وهناك حادثة إعدام سبعة عشر من النزلاء عام 1991 كما أن عدداً محدوداً من النزلاء تمكن من الفرار من السجن …. إلى الجميع تحية وفاء.
هناك حشد كبير جداً من الرفاق والأصدقاء والأخوة الذين يستحقون التحية، وعددهم كبير جداً، وأخشى أن تخونني الذاكرة في بعضهم، لذلك وتجاوزاً لهذه الحالة …. تحية محبة لهم جميعاَ.

كل تضحية هي رخيصة من أجل بلادنا وشعبنا

( الأحد ـ 5 / كانون الثاني / 1987 -( الجزء الاول

عندما فتحت عيني، حيث كان أخي وسام يبذل جهده بإيقاظي بطريقة يخفف فيها الصدمة إلى أقصى قدر ممكن، ولكن أنى له ذلك، فقد فتحت عيناي على جندي يرتدي الثياب المرقطة يصوب بندقيته الآلية صوبي ولا تبعد فوهتها بأكثر من متر واحد عني، وكأنني عصفور نادر يخشى أن يفلت من يديه، بل من مرمى بندقيته.
والغرفة التي لا يمكن اعتبارها فسيحة، كانت مليئة بالجند المدججون بالسلاح، وهناك شاب، ربما في الثلاثينات من عمره يصدر الأوامر بصوت رزين، مما لا يدع مجالاً للشك بأنه قائد هذه المجموعة أو لنقل المأمورية.
لم نكن بحاجة لبرهة طويلة لمعرفة كيف حدث هذا الأمر، فهناك خرق ما في مكان ما من عملية لم تكن منسقة كما ينبغي، رغم أن أطرافها جميعا كانوا على درجة من الوعي والتجربة السياسية.
كانت السلطات قد منعتني من السفر للعودة إلى ألمانيا حيث تقيم عائلتي، وكنت قبل ذلك قد قدمت استقالتي من وزارة الخارجية احتجاجاً على سوء المعاملة، وبذلك قطعت كل صلة لي بأي دائرة من دوائر الدولة، كما حرمت أيضاً من راتبي ألتقاعدي وباءت كافة الجهود للخروج من البلاد بصورة شرعية بالفشل بما في ذلك محاولات بذلها أصدقاء لي، وحصولي على عقد عمل ممتاز وفي إحدى دول الخليج. وكانت السلطات تصر على إبقائي في بغداد وتعمل على كل ما يضايقني ويؤدي إلى هذا الهدف : البقاء في العراق والعمل في دائرة حكومية تعينها هي، بما يؤدي إلى وضعي تحت أنظارها وسيطرتها، وكان أفضل ما توصلت إليه بهذا الصدد هو العمل في الجامعات العراقية، فيما كانت عائلتي ( زوجتي وطفلان ) ما يزالون يقيمون في ألمانيا في ظروف صحية ومعيشية ونفسية يصعب فيها الانتقال إلى العراق، ثم تحول الأمر برمته إلى موقف مهين يصعب احتماله.
أما بالنسبة لي، فقد أتضح بصورة مؤكدة، أن الإقامة والعمل في بغداد هو ضرب من ضروب المغامرة ومجازفة لا حدود لها، فقد كانت الثقة في أوطأ درجاتها. وإذ لم تكن السلطات تمتلك معلومات مؤكدة عن نشاطي السياسي، ولكن تلك السلطات كانت واثقة بأنها قد تعاملت معي بقسوة وفضاضة بما يكفي ليضعني في صفوف المعارضة الناشطة في الخارج، وتلك السلطات لم تكن تريد أن تهديها شخصاً مثلي.
و الواقع فأن السلطات كانت قد تعاملت معي طيلة سنوات بريبة، فبالنسبة لها، للسلطات، ليس سوى العمل الحزبي والتعاون، وعدا ذلك يضع المرء في دائرة الريبة والشك، وكنت أساساً شخصية غير مرغوب بها، حيث كنت من القلة القليلة من موظفي وزارة الخارجية، خارج إطار عمل الحزب الحاكم، فيما كانت مواقفي وأرائي تبدو مزعجة، كما أنني لم أكن من هؤلاء الذين يحرقون البخور ويطلقون المدائح والتزلف للقيادات. فقد كنت أريد العمل وفق مقاييس العمل والكفاءة العلمية والوظيفية، لا أكثر ولا أقل … ولكن ذلك كان صعباً … بل يكاد أن يكون مستحيلاً .
بعد مضي ثلاث سنوات ونصف، كانت جهودي لمغادرة العراق بصورة نظامية قد ذهبت أدراج الرياح. وكانت عائلتي ما تزال في برلين (ألمانيا) وأظهرت السلطات إصراراً متزايداً على إبقائي في العراق خلافاً لإرادتي فقامت بتعييني مدرساً في جامعة المستنصرية(معهد دراسات آسيا وشمال أفريقيا) وكنت قد فقدت الأمل نهائياً في نيل معاملة عادية، بل أنني كنت أتوقع المزيد من تدهور موقفي حيال السلطات، وحتى العمل الجامعي الأكاديمي لم يكن ليخلو من احتمالات سلبية، ذلك أن العمل الجامعي كان مشحوناً بالفعاليات الدعائية والتحريض، وزج الكادر ألتدريسي في أنشطة لا علاقة لها بالتقاليد الجامعية الرزينة، بل وتتعارض معها في معظم الأحيان.
ومن نافلة الكلام القول بأنني لست معادياً للاتجاه القومي الاشتراكي، ولكن تباعداً في مواقعنا الفكرية والسياسية ضمن هذا التيار في مفردات وتفاصيل عديدة ابتدأت منذ عام 1963 ، واستمرت في التفاعل حتى عام 1968 فغدا تناقضاً وتنافراً، ثم تطور إلى ملاحقات وتصفيات، حتى طغت المفردات والتفاصيل لتصبح أولويات وشعارات رئيسية، ثم تعاظم دور الفرد في مصير الشعارات الرئيسية.
والاستطراد بعيداً في عرض هذا الموضوع، يقتضي سرد تاريخ الانشقاق الذي جرى في الحزب منذ الستينات وكان لي فيها موقف واضح بتفاصيل لا مجال لذكرها هنا، ولم أكن أشأ أن أوظف تلك المواقف 1964 – 1971 في المراحل اللاحقة، وعلى هذا الأساس، وكانت السلطة لا تقبل إلا بالعمل الحزبي والتعاون وهو ما كان يتعذر علي القبول به، غدت الحياة في بلادنا والعمل في مؤسساتها أشبه بالسير في حقل ملئ بالألغام شديدة الانفجار، أو كالتعايش مع نمر كاسر في قفص واحد لا تدري متى ينقض عليك فيلتهمك، وباختصار فأن الأمن والأمان والثقة كانت شيئاً مفقوداً، هذا بالإضافة إلى المتراكم التاريخي وموروث الذكريات المؤلمة، وفقداني شخصياً ونضالياً لعدد من الرفاق والأصدقاء أمراً يبعدني عن مواقع حزب السلطة، فعدا ذلك كله فأن تراكماً جديداً قد تحقق بفعل وشايات وتقارير عناصر تافهة كانت تناصب العداء كل شخصية تظهر الاستقلال في آرائها واحتراما لذاتها. وفي نهاية الأمر فأني لم أكن مستعداً للتراجع عن مواقفي الفكرية والسياسية والقبول بالتحول إلى مردد هتافات . فإن ذلك أمر يفوق قدرتي ذاتياً وموضوعياً.
إذن لابد من مغادرة البلاد، نعم، وبأي ثمن. وحسبي قول أحد ملوك إيطاليا في القرون الوسطي : "إنني أفضل الحرية مع الخطر على السلم مع العبودية"، لذلك قمت عن طريق صديق موثوق، هو صديق طفولتي وصباي، الأخ بيرود الطالباني بالاتصال بشخصية قيادية كردية معروفة، لتسهيل انتقالي إلى شمال الوطن، حيث هناك مناطق هي خارجة نسبياً أو كلياً عن سيطرة السلطة ومنها السفر إلى ألمانيا سواء عن طريق تركيا أو الاتحاد السوفيتي.
أما الآن، وقد اتضحت خيوط المسألة فيما بعد، وكان الشخص الذي كلفته الشخصية القيادية الكردية، كان للأسف عميلاً للأجهزة الأمنية، وقد كشف اعتقالنا أمر خيانته.وقد كشفت الأجهزة (الاستخبارات العسكرية) عمالته، إلا أنها اعتقدت أن الصيد كان ثميناً يستحق معه كشف شخصية هذا العميل وافتضاح أمره. وهكذا كشفت خيانة عمر علي جرمكه، وذلك أسمه الحقيقي، ولكن ثمن تلك الخيانة كان باهظاً، بل باهظاَ للغاية.
أركبونا جميعاً في سيارة واحدة، كل الرجال الموجودين في دار صديقنا، الشخصية الكردية المعروفة الأستاذ كمال الشالي، المدرس في كلية الزراعة / جامعة السليمانية، حيث كنا نبيت في داره استعداداً للسفر صباح يوم 5 / كانون الثاني، ألقي القبض علينا. أقول علينا، نحن الثلاثة المتوجهين للخارج، أنا وأخي وسام وصديقنا سلام مدلول، بالإضافة إلى الصديق بيرود الطالباني وصاحب الدار الأخ كمال الشالي. ثم أننا حاولنا على الفور رغم أن عيوننا كانت معصوبة وأيدينا مقيدة إلى الخلف بالإضافة إلى تأثير الصدمة، حاولنا أن ننسق بيننا موقفاً نواجه به التحقيق.
وفي غرف توقيف مكثنا فيها ربما لساعة أو أقل في مركز استخبارات السليمانية، تخلصت من بعض الأشياء كانت في جيبي، مادية ومعنوية، جرى تسفيرنا بحراسة مشددة إلى كركوك حيث أودعنا موقف استخبارات الفيلق في معسكر كركوك. والتحقيق الذي كان ابتدائياً، لم يكن القائم به يحرص على سماع تفاصيل، فقد اكتفوا بمعرفة هوياتنا معرفة دقيقة، وبعد التأكد منها جرى تسفيرنا بعد مبيت ليلة واحدة فقط إلى بغداد، مديرية الاستخبارات العسكرية في الكاظمية. وقد تمكنت من معرفة الطرق والشوارع التي نمضي فيها، رغم أن عيوننا كانت معصوبة، فبغداد هي روحنا وكيف لا يعرف المرء شرايين روحه.
الوقت كان ليلاً … فقد استغرقت الرحلة من كركوك إلى بغداد ردحاً من الزمن، وتمت عملية استلامنا في ظروف لا يمكن وصفها اعتيادية، لا تخلو من ضربات عشوائية لا معنى لها، مع شلال من السباب والشتائم التي تفتقر بصورة تامة إلى الأدب والأخلاق العامة، ناهيك عن القانون الغائب ذكره وتطبيقه والحقيقة أنني لم أكن أفهم مغزى ذلك فقد تكون مذنبين من وجهة نظر السلطات (بهذا القدر أو ذاك)، وقد نستحق المحاكمة والعقاب، ولكني لا أفهم معنى الشتائم والضرب الذي لا ينطوي إلا على معنى واحد، هو أن هؤلاء الحراس قد اعتادوا الإهانة، أخذاً وعطاء، وفقدوا حتما الكثير من صفات البشر المحترمين، ولكن من يهتم …؟ فلأمر لا يدور عن احترام هنا، بل أنني كنت في كثير من الحالات أتطلع بعمق إلى وجوه المضطلعين بعمليات الضرب والتعذيب وحفلات الشتائم والإهانات، ترى هل كنا نسير وإياهم في شوارع هذه المدينة، هل يضمنا جميعاً هذا الوطن الحبيب ..؟ أم ترى ويا للفزع ربما قد دخلنا مطاعم ومقاهي مشتركة. الأمر بحاجة حقاً إلى علماء في الهندسة الوراثية.
وإن شئت أن تطلق العنان لأفكارك وتتذكر روايات ومسرحيات وأفلام سينمائية، عن بشر تتقمصهم إلى حد غريب وخيالي، شخصيات وأخلاقيات حيوانات كاسرة، ذئاب، كلاب متوحشة، أو جرذان كبيرة الحجم مميتة في القرض، وتصيب من تقرضه بعدوى حيوانية … ولطالما تذكرت مسرحية "الرجل الذي تحول إلى كلب" وهي باختصار شديد، تراجيديا إنسان عاطل عن العمل تضطره الفاقة إلى العمل ككلب حراسه بدل الكلب الذي نفق في مخزن يملكه صناعي بورجوازي، ويدفع له ما كان يكلف الكلب من نفقات، وأندمج الرجل بدور الكلب فصار ينبح بمناسبة وبدون مناسبة، ويستخدم أطرافه ، وتفاصيل هي مؤلمة أكثر مما هي ممتعة، كنت أتذكر أشعار جميلة وموسيقى وأعمال فنية تحلق بنا بعيداً عن الواقع السخيف ولنهرب من الصورة البشعة، ولكن سرعان ما نستيقظ على وقع ضربة أو صراخ تعذيب وشتائم، وإياك أن تضحك أو تبدو عليك ملامح السخرية.
وموقف مديرية الاستخبارات العسكرية(السياسي) والذي يطلق عليه الشعبة الخامسة، هو أسوء موقف شاهدته في حياتي، وأنا أمتلك تجربة طويلة بالمواقف والمعتقلات، فهو أسوئها لجهة المكان والإدارة وتضيف الصرامة العسكرية مزبداً من الضلال القاتمة حتى ليغدو حالكاً وقاسياً. فالزنزانات الصغيرة التي لا تتسع منطقياً(وأي منطق !)، إلا لثلاثة أشخاص، كانت تضم ما لا يقل عن 12شخصاً. ولا يمكننا الحديث عن الراحة أو نظافة طعام مشبع، فتلك مصطلحات على المرء أن ينساها نهائياً.
ابتدأ التحقيق بعد يوم أو يومين، وأستغرق وقتاً طويلاً معي بالذات، لسبع مرات وعلى يد ثلاثة محققين. وقد ابتدأ المحقق في مستهل الجلسة الأولى قائلاً، بأنه يعرفني بصورة جيدة جيدا ويمتلك كافة المعلومات عن تاريخي السياسي … وأضاف بأنه متأكد بأنني أمين سر القيادة القطرية للحزب … حزب البعث العربي الاشتراكي (الجناح اليساري للحزب ومقر قيادته في دمشق ) ، وهم يطلقون على هذا التنظيم (المنشقين) فيما نطلق نحن عليهم …اليمين.
ومن هنا فقد تأكد لي بأنهم سيواصلون الإلحاح على هذه النقطة بالذات، فتلك تهمة خطيرة، وليس المهم مآل هذه التهمة بقدر ما هو الضغط ألبدني والنفسي الذي سوف يسلط علي، كما سوف يطلب مني الإجابة على أسئلة لا أعرف أجوبتها، لأنني كنت قد قطعت الصلة التنظيمية مع الحزب منذ عام 1974 بل وإني منذ عام1970 كنت أمارس واجبات حزبية لا علاقة لها بتنظيمات الحزب في العراق، وتنحصر مهماتي الحزبية، على متابعة العراقيين القادمين والمقيمين في سوريا، إضافة إلى واجبات قومية. ولكن من البديهي أن يبقى ولاء المرء وإخلاصه لحزب تفانى في خدمته، وهو حي في قلب وعقل الإنسان. وقد يختلف المرء مع أفراد وليس مع أهداف وشعارات الأمة.
فقلت للمحقق بكل برود، إن تصوره غير صحيح، وإني منصرف بصفة تامة للبحث العلمي والكتابة والترجمة، وإن مؤلفاتي وأعمالي تشير بوضوح كاف لهذه الفعاليات، وإن قدرة الإنسان ووقته لا يسمح له بأكثر من ذلك. فحدث انفراج بسيط عندما قال، نعم أنه لا يملك دليلاً مادياً واضحاً على ذلك، ولكنه وبناء على الأدلة الحسية ( كانت هناك تقارير كثيرة قد كتبت ضدي في ألمانيا وبغداد) فأنه سيظل على قناعته إلى أن بتوصل إلى إثباتها.
ثم أن التحقيق استغرق وقتاً طويلاً بسبب ضيق أفق أو سخافة المحققين.فأكثر من مرة يشتد حنق المحقق فينتفض قائلاً: بأنه هو مثقف أيضاً ولست أنت فقط. ولعل أن المحقق شعر بشيء من الهزل والسخرية في أقوالي، وأنا لا أنكر أنني كنت أحاول أن أحافظ على الفارق في المستوى: سياسياً، بين مناضل ومحقق، أو بين دبلوماسي وأستاذ جامعي وكاتب ( كنت في ذلك الوقت عضواً في اتحاد الأدباء والكتاب، وقد نشر لي حتى ذلك الوقت خمسة كتب وثلاثة تحت الطبع، وعضواً في الجمعية العراقية للعلوم السياسية)، وبين ضابط غاوي ثقافة مهنته الرئيسية الحرب والضرب ولكن ضرب أعداء البلاد، وليس إخضاع الناس إلى تحقيقات سياسية مهينة، نعم كان يحاول إهانتي ولكنه لم يبلغ ذلك قط، وكنت أبين له أنه أقل من يقدر على ذلك …أقل بكثير… فأنا ممتلئ كبرياء واعتزاز بنفسي وبما فعلت، وهذه ليست سوى خربشات على جدار عالي، وأنا حريص على إبقائه عالياً.
وعندما حاول أن يجرحني بشتم التنظيم الذي انتميت إليه وسب أبرز شخصياته: الأمين العام للحزب، أو الرفيق أحمد العزاوي والرفيق باقر ياسين، كنت أتعمد تحويل الموضوع وأجيب على أسئلة كان قد طرحها علي، فقد سألني عندما وجد بين أوراقي مخطوطة لعمل مسرحي بعنوان ( الناس والأمل والمستقبل ) وجوهر أحداث والعقدة الدرامية للعمل كانت تدور في مرحلة حرب حزيران /1967 ، وإن كانت تنطوي على رموز كثيرة. وبدا أن المحقق بالغ العصبية والضيق، ولم أكن أفهم معنى ذلك. فهو يسأل مثلاً بجدية تامة :لماذا أكتب مسرحيات، وكانت أي إجابة يمكن أن تؤدي إلى أسئلة أخرى، فأجيبه مثلاً :قتلاً للضجر والملل. ولكن الأمر لم يكن لينتهي بهذا الجواب، فيسأل مجدداً : هل تعتقد أنك كاتب مسرحيات جيد ..؟ فأقول له، لا أعلم فذلك أمر يقرره القراء والمشاهدون. فينتفض قائلاً : وهل كنت تنوي نشرها أو عرضها على خشبه المسرح ..؟ فأجيبه بكل برود : لا أعلم، فالأمر ستعلق أولاً وأخيراً بنشر العمل وتسويقه تجارياً.
كما أنهم عثروا بين أوراقي على مشاريع أعمال ذات طابع استراتيجي مثل: أخطاء استراتيجية فادحة، والبحث يدور عن أخطاء القيادات المتصارعة خلال الحرب العالمية الثانية. ولم يكن يسرهم وجود مثل هذه الأعمال، ولكني كنت أواصل اللعب معهم، معصوب العينين.
ذات ليلة طلبني المحقق، وكانوا يفعلون ذلك بطريقة مهينة(لمن يشعر بالإهانة) بتوثيق الأيادي إلى الخلف وتعصيت العيون والسير حافياً مرتدياً دشداشة آية في القذارة. وفور وقوفي أمامه، سألني بلهجة جادة تماماً : من يكون العقيد هشام ؟. ولبرهة وجيزة جداً، أذهلني هذا السؤال، ولكن أذني التقطت صوت تقليب أوراق، فأدركت على الفور أنهم يعبثون بمحتويات حقيبة الأوراق التي كانت معي. وأن هناك ظرفاً كبيراً كتب عليه العنوان باللغة الإنكليزية هكذا : Coll. Hesham ، وهكذا فأن السيد المحقق أعتقد (خطأً بالطبع) أن Coll. هي مختصر كلمة عقيد، ولم يكن يعلم ….. وما أكثر الأشياء التي لا يعلمها، أن مختصر كلمة العقيد هو Coll. . ووجدتها فرصتي للعب بأعصابه. فقلت له متسائلاً : عقيد ؟. قال نعم عقيد. فقلت بعد برهة تفكير ، كان فيها محققي يحرق فيها أعصابه، فقد أعتقد أنه وضع يده على سر خطير، قد يقوده إلى تنظيم عسكري . فقال بنفاذ صبر: عقيد أو غير عقيد، من هو، أعترف حالاً .فقلت له هناك مقدم أسمه هشام. فطار شوقاً وقال : ومن يكون. قلت له شقيقي هشام وهو مقدم في الجيش. فأصيب بخيبة أمل شديدة، ولكنه مع ذلك أعاد الكرة بغباء: لا، أنه عقيد فمن هو ؟ . فأدركت أن لابد من وضع نهاية لهذه المهزلة، و إلا فإن إثارة أعصاب المحققين بشدة، عملية غير محمودة العواقب، فقلت له بصوت تعمدت أن يكون هادئاً جداً : …أنت تقلب أوراق حقيبتي أليس كذلك ؟ وهناك ظرف كبير الحجم باللغة الإنكليزية ؟ فقال بضيق نفس، نعم، وهل تتصور إننا نجهل الإنكليزية ؟ . فقلت له : بالتأكيد لا، ولكن مختصر عقيد هو col. وما مكتوب على الظرف هو Coll. وهو مختصر كلمة زميل وهشام هو أستاذ في كلية التربية البدنية، والرسالة هي لي تتضمن الموسم القادم للدراسات العليا في جامعة بيتسبيرج في الولايات المتحدة الأمريكية، وفرصة المشاركة في كورسات الدراسات العليا.
ومن أهم ما عثروا عليه بين أوراقي، مشروع مقال بعنوان " النداء الأخير قبل غرق السفينة"وهو لما يكتمل بعد، أشير فيه إلى أزمة النظام العربي بصفة عامة والمشكلات التي تواجهها، وضرورة إتاحة سقف أعلى للحريات الفردية والثقافية. ورغم رصانة المقال وعدم تحديده لجهة معينة أو نظام معين، إلا أن المحقق(وفيما بعد الحاكم) أعتبر أن المقال يقصد القيادة في العراق، وعلى هذا الأساس بنى قناعاته اللاحقة وبموجبها أحلت وفق المادة 208 المتعلقة بالمطبوعات أو الكتابات إلى محكمة الثورة وحكم علي بموجبها.
مناقشات طويلة ومجادلات، ربما لم يكن لبعضها علاقة بالتحقيق، فقد كنت أشعر وكأنني حيوان جميل، نادر أو ثمين بين أيديهم. لسبع جلسات طويلة أشترك فيها عدد من المحققين، بينهم ضباط كبار من الاستخبارات العسكرية، وكان الحديث فيها يدور عن أشياء سخيفة أحياناً، أو في محاولات بائسة لاستعراض (ثقافتهم) . أما أنا، فقد كنت أدرك بأن نهاية مهزلة التحقيق هذه ليست هنا، على الأقل بالنسبة لي، وإن مصيري سوف يحسم في مكان آخر، ولا قيمة البتة لأراء هؤلاء المحققين، وعلى الأرجح فأن مصيري سوف سيكون الإعدام، إذ هي فرصة للتخلص مني، وإن كانت الأسباب الداعية لذلك لا تستحق ذلك، بل بناء على فواتير قديمة بعضها يعود إلى مرحلة 1964 وما بعد، ثم مرحلة السبعينات في سورية، وأخيراً مرحلة 1974 إذن المستحقات قديمة وجديدة، ولا علاقة لها (تقريباً) بموضوع مغادرة البلاد وما يدور من تحقيق أو ما سيسفر عنه من نتائج.
وفي ختام جولات التحقيق السبعة، أرغمني المحقق على توقيع إفادة كنت معصوب العينين خلالها بما لا يسمح لي بالإطلاع على مضمونها وما يمكن أن يكون مدون فيها، وكانت هذه آية في العدالة والأصول القانونية ! ولا أستطيع أن أفهم إلى الآن، لماذا كانت هذه الأساليب معقدة وسخيفة إلى هذا القدر ؟ على كل حال وقعت تحت التهديد، إلا إني قلت له، إنني أعلم أن هذا التوقيع يعني الإعدام وهو ما لا يهمني مطلقاً. فاعتقد المحقق إنني أبالغ في قولي مبالغة لا داعي لها ، فسخر من كلامي. فقلت له : إن هذا ليس مهماً، المقابر مليئة بقبور البشر، ومن المؤكد أن الإنسان يموت لأسباب مختلفة معظمها لا دخل لكم بها.
كان موقف الشعبة الخامسة في مديرية الاستخبارات العسكرية محطة، تسفر الموقوفين بعد انتهاء التحقيق معهم إلى جهة أخرى. وعلى هذا الأساس فقد كانت الزنزانات تشهد تبدلاً سريعاً في الوجوه، ولكن هناك وجوه لن تنسى، منها الشاب مصدق الذي كان مثالاً للنبل والأخلاق ومع الأسف فقد حكم على هذا الشاب الطيب بالإعدام .
كانت ليلة 1987 – 2 – 2، وبعد انقضاء التحقيق بيوم واحد، جرت فيه عملية نقلنا. وعملية التسفير كانت زاخرة بالشتائم والضرب العشوائي الذي لا معنى له، وكانت التسفيرات تعني أيضاً سرقة واضحة لما يمكن أن يكون في جيوب أو متاع الموقوف، فقد تم بهذا المعنى سرقتنا حتى من أبسط حاجاتنا … وكم هذه الأشياء مخجلة قبل أن تكون محزنة.
عندما وصلنا إلى بوابة السجن العسكري رقم واحد، ورغم أن عيوننا كانت معصوبة، وأيدينا مقيدة إلى الخلف، كان نسيم الليل البارد منعش ويتسلل إلى أعماق القلب، ولكن ما كان بانتظارنا
أمام بوابة السجن كان شيئاً فضيعاً، فقد وضعونا وسط دائرة تحلق الجنود حولنا وانهالوا علينا بالضرب بكل ما في أيديهم : عصي، أعمدة خيام، توصيلات كهربائية(كيبلات) ، أنابيب مطاطية(صوندات)، بل كان الحماس الوحشي ومتعة التعذيب قد أوصل بعضهم إلى خلع النطاق العسكري واستخدامه في الضرب. والآن وبعد انقضاء كل ذلك، أليس في هذا مدعاة للخجل … ترى ألا يخجل اليوم الذين قاموا بهذه الأعمال ؟ … لست مبالغاً على الإطلاق فيما أذكر من حقائق، بل على العكس، فأنني أتجاهل الكثير من التفنن في الإهانة والسرقات … ترى هل يصعب علينا إلى هذه الدرجة أن نخلق مؤسسات محترمة يقوم عليها رجال محترمون ؟ لا يأخذون الأمر على أنه أمر شخصي وعداوة بين المواطن والدولة ؟ وإذا كان هناك رجال غير محترمون أو مجرمين، فلتكن الدولة ومؤسساتها محترمة، لا يلجئون إلى الشتائم واستخدام الأطراف العليا والسفلي. إنني أسجل هذه هنا للعبرة فقط … ترى هل نستفيد ؟
كنت أعرف هذا السجن بدقة، فقد سبق وأن كنت هنا نزيلاً عام 1962، أي قبل خمسة وعشرين عاماً بالضبط. لذلك كنا نسير معصوبي العيون، إلا أنني كنت أعرف ممرات السجن وطرقه الداخلية. وهكذا يعيد الزمن نفسه، فقد أودعونا بالضبط في ذات القاطع الذي كنت فيه عام 1962 ولكن في الزنزانة المقابلة تماماً. ورغم فضاضة الحالة، إلا إنني كنت في يقظة ذهنية تسمح لي تذكر تلك الأيام والرفاق الذين قاسمونا تلك الزنزانات التي كنا فيها بكل روح نضالية، رفاقية وأخوية صادقة، فتذكرت فؤاد عبد الله عزيز ورياض محمد يحي، وخضير عباس وعدنان الجبوري، وصباح عبد الغني عرب، وطالب حمودي، وابراهيم سلمان القيسي وكثيرين غيرهم من الرفاق .
وفي اليوم التالي تكررت مهزلة تعصيب العيون وشد الوثاق، لنقلنا إلى مكان آخر تبين فيما بعد أنه معتقل خصص للاستخبارات العسكرية، وهو تابع أصلاً لقسم الحكام القصيرة في سجن أبو غريب العام. وهو عبارة عن قاعتين تضم كل منها عشرين زنزانة كل واحدة منها بحجم 4,5 × 5 متر، وهذا المعتقل كان مخصصاً لمن أنتهي التحقيق معه، وهو بانتظار المحاكمة، فهو إذن محطة نهائية وبوابة إلى محكمة الثورة(السيئة الصيت) ومنها يتفرع الموقوفين إلى ثلاثة ترع، أو جداول :
الأول : وهو الأكبر، حيث كان يحكم بنسبة تتراوح بين 80-70 % من الموقوفين بالسجن ، وعلى الأغلب بالحبس المؤبد(20 سنه)، أو بالإعدام وهو بنسبة10 %من الموقوفين، وأخيراً يذهب نسبة 10 – 5 % إلى السجون الجنائية لأن قضاياه لا تمت إلى السياسة بصلة ولكنها كانت تعرض أمام محكمة الثورة مثل السرقات الليلية، التزوير، انتحال الصفة، إيذاء النفس، الرشوة والعمولات …الخ.
وتنطوي أنظمة هذا المعتقل على قسوة شديدة تهدف إلى إبقاء المعتقل في خوف ورعب دائميين، وعندما يمثل أمام المحكمة، فهو يكون في حالة يرثى لها من الإرهاق النفسي والمعنوي بعد تعرض طويل(لا يقل عن أربعة شهور) للإهانة والضرب والضغوط من كافة الأصناف، بحيث يكون وقع الإعدام ليس مؤلماً بدرجة فضيعة كما هو متوقع( وإن كان الصمود والصلابة قضية نسبية ومتفاوتة بين الصلابة التامة والانهيار)، أما الحكم بالسجن، حتى المؤبد20 سنة، فيعتبر هدية تستحق القبلات والتهاني. ومن بين آلاف القضايا التي تعرفت عليها، لم تكن هناك أحكام تقل عن المؤبد، إلا نادراً.
الوضع الغذائي في هذا الموقف كان أفضل من موقف الشعبة الخامسة، وكذلك شروط النظافة(إلى حد ما )ولكنه ما يزال بعيداً عن الحد الأدنى. وبالطبع فأن مواجهة الموقوفين لذويهم كانت مستحيلة، وليس بالإمكان معرفة ما يدور خارج هذا الموقف، في انقطاع تام عن الحياة الخارجية. والأخبار كانت محصورة بالقادمين الجدد وهي تدور غالباً عن أمر واحد رئيسي : أخبار الحرب مع إيران، وكذلك المؤشرات، إلى صدور عفو، حيث كان هذا الهاجس ألدائمي للموقوفين، وكذلك للسجناء فيما بعد.
وصرامة الموقف وتشدد الحراس، لم يكن يحول دون قيام علاقات إنسانية ومن غير الممكن نسيان الشاب سامي. كان شيوعياً من العاملين في الوسط المسرحي، القي القبض عليه خلال عملية عسكرية في الشمال، لذلك كان الحكم بالإعدام أمراً متوقعاً، ولكنه مع ذلك كان محباً للحياة، متمسكاً بها حتى آخر لحظة. وفي ظهيرة يوم كان قد ابتدأ فيه القيظ في العراق، كان أخي وسام في الزنزانة المقابلة لزنزانتي تماماً رقم4))، يشير لي بالاقتراب من القضبان، تناهى إلى سمعي أغنية كنت أحب سماعها، وكانت تلك متعة تفوق التصور في تلك الصحراء البادية، وتصورت أن أحداً من الحراس قد رفع صوت المذياع دون قصد منه، على أية حال، كانت هذه هدية رائعة، وما لبثت أن علمت أن هذا الصوت الجميل ما هو إلا غناء سامي، الذي ما أن أنتهي من الغناء أن كلمني من وراء القضبان دون أن يراني، أنه فعل ذلك لأجلي. أين أنت يا سامي لكي أحتضنك اليوم …
سامي أعدم مع رفيقه حسين نهاية عام 1987 فآه ثم آه.
وباستثناء يوم الجمعة، كان الموقف يشهد معظم أيام الأسبوع احتفالية مؤلمة, يأتي الحراس وبأيديهم القيود الحديدية، ثم يبدءون بمناداة الأسماء، أسماء من جاء دوره للمحاكمة، وهنا فالاحتمال قائم بل مرجح، أن تنتهي المحاكمة في جلسة واحدة، في محكمة الثورة, والذاهبون يودعون ما أمكنهم ذلك الأصدقاء والزملاء من الذين تعرفوا عليهم هنا غالباً في الموقف … والباقون ينتظرون إلى ما بعد الظهر حوالي الساعة الرابعة عودة المأمورين من الحراس ليستعلموا منهم مصير زملائهم. لقد كانت مذبحة عواطف رهيبة …
كان يوم 6-4-1987 الاثنين، وهو من أيام النحس، كذلك يوم الخميس لأنها أيام القضايا الصعبة، والتي يحكم فيها (غالبا)ً بالإعدام، نودي علينا وكنا أربعه، أنا وأخي وسام وصديقي بيروت الطالباني، وصديقنا سلام مدلول. وفي محاكمة لم تستغرق ربما أكثر من 20 دقيقة أمام محكمة الثورة ورئيسها عواد البندر، عبارة عن إهانة للعدل والقانون ولأي نظام سياسي يقيم مثل هذه المحكمة المهزلة … وإنه لأمر غير مفهوم مطلقاً، لماذا يلجأ أي نظام مهما كانت شعاراته، طبقية كانت أو دينية أو قومية إلى تصفية (خصومه) ، وأضع كلمة خصومة بين قوسين، لأنها مسألة نسبية للغاية، ولا أستطيع أن أفهم لماذا يتحايل المحقق وحاكم التحقيق والحاكم على أحكام قانون وضعته الدولة بنفسها، وتتجاهل المبادئ الأولى للعدل والحق، وإن أي محاولة للتذكير بالعدالة والحق والقانون سيكون بمثابة نكتة سخيفة.
لا يمكن بلوغ الخير بوسائل الشر : هذه قاعدة ذهبية في السياسة والحياة.
لكن التطرف يدفع إلى التبرير ويستخدم مصطلحات براقة : محاربة الفساد ـ أعداء الثورة ـ إقامة الحد ـ (في هذه علقها على شماعة الشريعة ) وبذلك فأنه يطلق العنان لمنجله، مع الاعتذار الشديد لهذه الآلة المقدسة التي تأكل العرق وتطعم الخبز …! (أعتذر والأمثال تضرب ولا تقاس)، لحصد رؤوس الناس وإذا أهتاج لنظر الدماء وأعتاد عليها، يتحول الأمر كله إلى مأساة، و(الثورة) أي ثورة، إلى حفلة مجازر.
كانت محاكمة قصيرة كما أسلفنا، محاكمة فريدة من نوعها المتهم فيها مدان قبل بدء المحكمة. وأول حديث للحاكم مع المتهم بعد سماعه لأقوال المدعي العام، التي هي في معظم الأحوال افتراضات وخرافات وتخيلات، يطرح الحاكم سؤالاً : هل أنت متهم أم برئ. وإذا أجاب المتهم بأنه برئ، يرد الحاكم عليه : أثبت لنا براءتك …؟ وهذا يتجاهل بصورة غريبة قاعدة قانونية رئيسية ومتفق عليها في فقه القانون تنص : المتهم برئ حتى تثبت أدانته, ولكن في محكمة عواد البندر كان الأمر معكوساً…! وكانت محاكمتنا تتم بدون شاهد …! محاكمة بدون شاهد ، أعدم في نهايتها أربعة رجال !! ترى هل يمكن مسح هذه من الذاكرة والتاريخ ..؟
توصل الحاكم عواد البندر والمدعي العام إلى تفصيل مدهش لنظرية الشروع البائسة، وقد فندت، ويستطيع غيري أن يفعل ذلك أيضاً إذا كان على إطلاع على القانون بسهولة ويسر، ولم يكن بالإمكان مطلقاً تطبيق نظرية الشروع ، والمدخل العام لتفسيرها هو التعريف التالي : فعل خاب أثره بسبب خارج عن إرادة الفاعل. وهو وإن تحقق فيعاقب بالحبس لمدة لا تزيد على الخمسة سنوات، هذا إذا كان شروعاً بالقتل !! أما نحن فقد ألقي القبض علينا فجراً في بيت أستاذ جامعي، فحكم علينا وفق المادة 175 –157 ومادة إضافية بالنسبة لي هي 208 والمادة الرئيسية التي حكمنا بموجبها 157 تنص " كل من قاتل قوات الجمهورية العراقية مع قوات أجنبية خارج العراق” ، لن أزيد، فالزيادة كالنقصان …!
بدا لي أن الأحكام كانت جاهزة وليس لرئيس المحكمة( إن صح تسميتها بذلك) إلا شرف تلاوتها !، وهذه الفكرة كانت شائعة بين المتهمين، تعززها سرعة المحاكمة، وخفة يد الحاكم واتخاذ القرارات, فقد حكم علينا نحن الأربعة بالإعدام شنقاً وعندما غادرنا قاعة (المحكمة)، كان هناك عدد من الذين حكموا بالإعدام قبلنا، منهم على ما أذكر فائز، وهو رئيس عرفاء في شرطة البصرة، والسيد فرج من القرنة، وشباب آخرين، فبلغ عددنا في ذلك اليوم تسعه.
ومن المدهش أن الحراس والمأمورين يصابون برعب وهلع يعادل أو يفوق ربما في بعض الأحيان المحكومين أنفسهم، وكانت عملية تكبيل الأيادي إلى الخلف تتم في ظروف يعلو فيها الصراخ، والعصبية البالغة من الحراس، ويدهشهم كثيراً من يخرج من قاعة (المحكمة)وقد حكم عليه بالإعدام وهو هادئ الأعصاب متزن الخطوات. أما أنا، فقد كنت مستعداً أتم الاستعداد لمثل هذا اليوم الذي طالما تخيلته، وقد رضيت به دوماً، فأنت عندما تريد التغير، لابد أن تضع في حسابك رد فعل الآخرين .

الى اللقاء في الجزء الثاني



#ضرغام_عبدالله_الدباغ (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- مسؤولون إسرائيليون: نعتقد أن الجنائية الدولية تجهز مذكرات اع ...
- نتنياهو قلق من صدور مذكرة اعتقال بحقه
- إيطاليا .. العشرات يؤدون التحية الفاشية في ذكرى إعدام موسولي ...
- بريطانيا - هل بدأ تفعيل مبادرة ترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا ...
- أونروا تستهجن حصول الفرد من النازحين الفلسطينيين بغزة على لت ...
- اجتياح رفح أم صفقة الأسرى.. خيارات إسرائيل للميدان والتفاوض ...
- احتجاجات الجامعات الأميركية تتواصل واعتقال مئات الطلاب
- الأونروا: وفاة طفلين بسبب الحر في غزة
- لوموند تتحدث عن الأثر العكسي لاعتداء إسرائيل على الأونروا
- لازاريني: لن يتم حل الأونروا إلا عندما تصبح فلسطين دولة كامل ...


المزيد.....

- في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية * / رشيد غويلب
- الحياة الثقافية في السجن / ضرغام الدباغ
- سجين الشعبة الخامسة / محمد السعدي
- مذكراتي في السجن - ج 2 / صلاح الدين محسن
- سنابل العمر، بين القرية والمعتقل / محمد علي مقلد
- مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار / اعداد و تقديم رمسيس لبيب
- الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت ... / طاهر عبدالحكيم
- قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال ... / كفاح طافش
- ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة / حـسـقـيل قُوجـمَـان
- نقش على جدران الزنازن / إدريس ولد القابلة


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - ضرغام عبدالله الدباغ - قمر ابو غريب كان حزينا - الجزء الاول