|
الذكرى في قصة ( ضريح السرو )
جاسم محمد ضامن
الحوار المتمدن-العدد: 3354 - 2011 / 5 / 3 - 17:17
المحور:
الادب والفن
الذكرى في قصة ( ضريح السرو ) دراسة نقدية مع نص القصة سطور تسافر عبرها روح الكاتب لتدق على أبواب الزمن ، تصرخ في وجه الطغاة مرة ، وتبتسم في وجه الفقراء مرة أخرى . ( السرو ) الصديق الذي أجبروه على الهزيمة والاستسلام ، ( السرو ) الذي جذوره الحنين ، الذي لم يتآلف مع الموت والاحتضار ، الآن نراه أسير الصمت بين الانبهار والفجيعة ، بين الهزيمة والانتصار . يصور لنا " محمود يعقوب " لوحة ً شبيهة ً بالموناليزا تعج بالبكاء والسخرية ، وابتسامة ذابلة من الماضي تبحث عن ملاذ .. عن شفاه تليق بها .. فنرى الكاتب يحول القلوب القاسية بمفرداته إلى قلوب تأسى وتتألم ، عندما بضعها وجها ً لوجه مع مأساة إنسانية ، فيعود الإنسان إلى طبيعته البكر النقية العذبة ولو للحظات ، عندما يخترق الحزن اللافح قلوب المتسلطين . يجعلنا " محمود " بحاجة إلى البكاء وذلك عندما يصور لنا بطلا ً نبيلا ً ، شهما ً ، وصادقا ً في حالة انكسار وهزيمة وضياع في ذاته وفي بيته .. لقد عاد الأسير محملا ً بالهم والغبار الذي رمته على وجهه معارك لا يعرف سببها ، ولم يتبين له من المنتصر فيها !.. عاد صفر اليدين ، ليحكي للآتي قصة عمر وحياة ضاعا بين القضبان والسواتر الترابية والملاجئ .. جاء ليبدأ من جديد ، لكن الأبواب لا تنفتح بوجه ( الغرباء ) والبيوت لا تستقبل المشرّدين !.. كان شاخصا ً " وقف صامتا ً ، محدقا ً في بقايا الأصباغ العالقة في صفحة وجه زوجته ، التي تقهقرت إزاء نظراته الجامدة المخيفة " . وكم تمنينا أن يبقى هكذا ، ولكن صمته تحول إلى هزيمة ، نريد أن نستنطق صمته فخاب أملنا ، فالذين يشعرون بعدم جدوى الكلام يستهويهم الصمت واختلاس النظرات . إذا ً عليه أن يجد " عنوانا ً جديدا ً " ، اسما ً أو رقما ً ليعيش في ظله ، ولكن البحث في المجهول أو عن المجهول يمثل له انتحارا ً بطيئا ً .. لقد فقد لذة الحديث والبحث ، وإنه في المكان الخطأ . أن تنسى إنسانا ً أمر يحتمله البعض ، ولكن أن تنكره تماما ً فإنك ترسله في تابوت مرّات ٍ ومرّات إلى مقبرة وهو مقتنع بذلك . وعندما تنكره وأنت تبتسم فإنك تدخله صالة تشريح رغما ً عنه ، لتتعرّف على أسباب بقاءه على قيد الحياة !.. لقد مزج الكاتب بين الرغبة والوهم والإصرار والخنوع ، فإن رغبة زوجة ( السرو ) بالتعويض المادي عنه أدخلها في وهم الزواج الثاني ، وإصرارها على موته ، وإنه في المكان الخطأ ، دفع بالسرو إلى القبول المشين والمذل وهو يرى بيته وعائلته في الضفة الأخرى مغادرة ً الماضي .. الماضي الذي أضحى هو جزءا ً منه رغما ً عنه .. إن مرض السرو لم يكن فسلجيا ً ، بل كان روحيا ً ونفسيا ً ، فهزائم الحروب وهزائم التشرد والضياع قد دوت في رأسه أعلى من أصوات البنادق والمدافع ، حتى ضاقت رئتاه وبدأ يتوسل بنسمات الهواء أن تزوره ، فيأخذ شهيقا ً طويلا ً تدخل خلاله المدنية أعضاءه ثم يلقيها زفيراً ويتقيأ الزمن معها.. إن اسمه المكتوب على قبر مؤرخ بتاريخ قديم كان يؤرقه كثيرا ً ، إذ أن اسمه سبق جسده إلى العالم الآخر .. إن الألم الممض واللغز الذي جعل السرو يسلم كيس العظام إلى زوجته يجعلنا نشعر بأنه مهدّد وممزق ، فالزوج الجديد احتل بيته وزوجته ، والعظام الراقدة احتلت قبره ، فأراد من الأضداد أن تكون في الأماكن المناسبة ، فأتى بكومة العظام إلى زوجته وزوجها الجديد ليكونا جميعا ً في طرف ، وهو ، السرو ، في طرف آخر ، ليهدأ قليلا ً ويتخبط في الزمن متأملا ً .. اسمه .. قبره .. وتاريخ وفاته !.. وبهذه القصة سجّل " محمود يعقوب " للأجيال القادمة معاناة جيل بائس ومضطهد آملا ً أن لا يبساها أحد ٌ من أجل الغد ..
جاسم محمد ضامن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ضريح السُرو : قصة محمود يعقوب
لا ريب في أن أعماقكم المتأججة سوف تقذف حممها ، وأنتم تبصرون الحقيقة ـ لكن الريب كل الريب من أنكم ستصبون اللوم على رأسي بجزع ٍ ، لأنني لم أفلح بكلماتي الرثـّة الخاوية ، وعباراتي المزرية ، من رفع النقاب عن هذه الحقيقة كاملا ً، وأنا أدلو بدلوي في آبار التعاسة ، أنزفها حد الوشل في هيجان عطشي الحارق . أستميحكم العذر ، لا حيلة ً لي في الأمر ولا مناص .. لا حيلةً ، مائة شيطان ٍ ، كلما خلدت إلى النوم ، مائة شيطان يهبطون معا ً ، يقلقون نومي ، يهزّون جسدي بعنف ويجرجرونني . لا أبالغ إن قلت لكم إنني حين أتصفح شحوب وجهي أمام المرآة ، كل صباح ، لا أرى سوى آثار الصفع والكدمات عليه !.. إنهم يستثيرونني .. يستثيرون في سباخ تربتي جذور الحنين ، حتى صرخت ُ في أعماق الليلة البارحة ، قبل أن أفيق لاهثا ً متيبس العروق : ـ حسنا ً .. حسنا ً توقفوا أيها الأشقياء .. بعد عودة الشاحنة الكبيرة من الطواف المبهج ، لم يكن فيها سوى ثلاثة أشخاص ، رجلان يجلسان خلف السائق مباشرة ً .. يجلسان بملابسهما الحكومية .. جذلين وسمينين ، امتلأت جيوبهما بالحلوى وخدودهما بالقبل !.. كانا يهذران ويمرحان طوال الوقت . بين آن ٍ وآخر يلتفت أحدهما ليرمي سؤالا ً سريعا ً إلى الرجل الجالس خلفهما ، البعيد عنهما بثلاثة مقاعد ، دونما أن يحظى بجواب . فقط كان هذا الأخير يجلس منفردا ً ، يلوي رقبته شمالا ً ويمينا ، صامتا ً بإصرار ، نظراته غير أليفة ٍ ، يشبه ظلا ّ نسيته الشمس ملقى فوق الطرقات بعد غرولها .. كان بإمكانه أن يسمع أحد الرجلين وهو ينحني يخبر السائق ساخرا ً منه ( إنه شارِب ماء السكتة ) .. يجلس خلفهما .. طويلا ً .. هزيلا ً .. وخطه الشيب ، يتكئ بمرفقيه على حقيبة ٍ صغيرة ٍ وضعها في حجره . كان يلوح مثل ديك ٍ هرم بعلوه وتقاطيعه الصارمة . انعطفت الشاحنة عدة مرّات ٍ ، قبل أن تتوقف أمام منزل ٍ قديم ، كان ذلك في أحد أمسيات الخريف المملـّة الصامتة . هرع الرجلان الرسميان من الشاحنة بنشاط ، رغم ما بذلاه من جهد ٍ وتعب طيلة الساعات المنصرمة . لديهما قائمة عناوين مجموعة صغيرة من أسرى الحرب العائدين إلى الديار ، يصطحبونهم إلى منازلهم . توجه أحدهما نحو الباب مباشرة ً ـ طرقه بضعة طـَرَقات ٍ ثم تنحـّى جانبا ً . إثر ذلك أطلّ وجه امرأة سمراء ، تتساءل بصوت ٍ جريء .. حيـّاها الرجلان مستبشرين ـ ومن دون أية مقدمات ٍ ، أشار أحدهم إلى الشاحنة وقال : ـ جلبنا لك ِ الحاج .. رفعت نظرها سريعا ً إلى الشاحنة بشيء من الصدمة ، تمعنت عبر زجاج النافذة حائرة ً . كانت نظرتها ثقيلة ً مشوشة ً . تمعنت إلى الحد الذي استشاط القلق في ملامحها ، وجعلها تهتز قليلا ً . دكنت سمرتها في لحظات ، ومع أنها تمالكت روعها ، إلا ّ أن صوتها ظلّ يرتعش وهي تقول : ـ أي حاج جلبتموه ؟ .. ـ ما قضيتك يا امرأة ؟ .. إنه زوجك العائد من الأسر .. ردّ عليها أحد الرجلين باندهاش . من الواضح أنها كانت قادرة على ضبط نفسها ، والتصرف بترو ٍ . برزت لهم من خلف الباب ، وتقدمت دون تردد أو احتشام .. تقدمت سافرة ً بضع خطوات ٍ نحو السيارة ، لتوهم الجميع بأنها تريد التأكد من الرجل الأسير عن كثب ٍ .، ثم استدارت إلى الرجلين قائلة ًيصوت ٍ مكمود : ـ ليت رجُلي كان أسيرا ً ، لست محظوظة كالنساء ، زوجي استشهد منذ سبعة عشر عاما ً .. عقدت الدهشة لساني الرجلين ، اللذين سارعا إلى الشاحنة وأنزلا الرجل القابع فيها . حين ترجـّل ووقف بينهما بدا أطول مما توقعا . وقف صامتا ً ، محدقا ً في بقايا الأصباغ العالقة في صفحة وجه زوجته ، التي تقهقرت إزاء نظراته الجامدة المخيفة . وعلى هذا النحو .. على هذا النحو المرتبك ، أصاب صمته وجموده الجميع بالتوتر . وقف بكبرياء ، كابحا ً جميع مشاعره ، لم تند عنه أية رغبة في تبديد صمت المساء وصفائه . جموده هذا وفــّر للمرأة دفقة جرأة ٍ للمضي في الجدل وشرح موقفها .. أكـّدت لهم أن زوجها سبق أن لقي حتفه في الحرب .. دفنته بنفسها ، وهي اليوم امرأة متزوجة .. ثم تقدّمت بضع خطوات ٍ مرتبكة ٍ، وقفت حيال زوجها ، متحاشية النظر في عينيه المغبرتين ، التفت بحركة ٍ مسرحية ٍ قاتلة ، وقالت : ـ أما هذا المسكين فالأفضل التأكد من عنوانه جيدا ً .. تراجعت قليلاً وهمست : ـ بل الأفضل التأكد من سلامته .. أن عاهات الأسرى باتت لا تــُخفى على الجميع .. مثل جذع شجرة ٍ أُجتِز َّ ووضع على قارعة الطريق ، ظلّ صامتا ً وساكنا . عيونه لم تبرح المرأة . استشعر على الفور ما تضمره له . بالرغم من الإلحاح التحفيزي للرجلين ، لكنه لم يجد في نفسه رغبة ً للتحدث عن أيما شيء . فقط أعار اهتماما ً دقيقا ً إلى امرأته ، وهي تؤدي أمامه مشهدا ً قصيرا ً ، بائسا ً ومقززا ، حاولت المرأة أن تجعله طبيعيا ً ، تلقائيا ً ، تنجبّ معه الشبهات . في ثوبها الليموني الفضفاض ، وبقايا الأصباغ الرديئة التي كانت تجعلها تبدو مثل ممثلة ٍ تؤدي دور الساحرة الشريرة .. كان الأمر مستعصيا ً على الفهم .. مستعصيا ً على التصديق . أحاط الرجلان بالأسير وراحا يستحلبان الكلمات من بين شفتيه . أخيرا ً فتح الرجل فمه ، وأعلن بصوت ٍ هادئ جسور ( إن المرأة التي تقف أمامهم ليست زوجته ، وإن هذا البيت ليس بيتهم ، وإنهم بالتأكيد قد جاءوا به إلى هنا خطأ ً ) !.. على الفور غادروا المكان ، تاركين المرأة وقد بلغت في الحيرة مداها . في داخل الشاحنة رج ّ الأسير مشاعر الرجلين رجـّا ًعنيفا ً، حين أخبرهما بأن هذه المرأة كانت زوجته ، وإن هذا البيت بالتحديد بيته !.. كانت كلماته كبيرةٌ .. أكبر من أسماعهما بكثير ، ففي الحال غصـّا فيها .. غصـّا إلى حد الاختناق !.. سألاه عمّا ارتكب بحقها حتى تركها تفعل كل هذه الأفاعيل ؟.. شبـّت فوق شفتيه ابتسامة ٌ مريرة ٌ وهو يجيبهم بأنه كان قد رماها بوردة ٍ .. في الشارع الذي يتوسط المدينة ، استوقفهم مترجـّلا ً بعد أن اعتذر لهم وشكرهم بكلمات ٍ عفوية ٍ صادقة . تمنوا له الحظوظ السعيدة ، وقد اخترق قلبيهما الحزن اللافح وهما يودعانه . حين ابتعدت الشاحنة ،كان الرجلان السمينان يلوذان بالصمت وقد غاب الجذل من عيونهما ..
* * * لم يكن ليعرفني قبل شهر ٍ .. بالتأكيد إنه عاد من الأسر بذاكرة ٍ مبددة ٍ ، لكنها رغم وهنها لا يمكن أن تطيش بشأن زوجته . كان واحدا ً من تسعة أسرى ، مجموعة غريبة ، مجهولة ، عادت بعد أوان ٍ طويل .. بعد وقت ٍ طويل ٍكانت قد طُوِيت فيه ملفـّات الأسرى . مجموعة تائهة ، أو هم على الأقل ، جرى تدوينهم في قيود الشهداء والمفقودين من ذلك الزمن ، ونسيتهم الأيام .. أخذ يتذكرني .. يتذكرني على جرعات .. يتذكرني من القعر .. في صغره ، كان يعيش مع والديه في الحي نفسه الذي كنا نسكن فيه . لا أدعي صداقته ، لكن في الواقع ثمة معرفة قديمة بيننا . كان مميزا ً بجذعه السامق المستقيم . أغلبنا لم يكن يناديه إلا ّ بذلك الاسم الشاعري الجميل ، حين كنـّا ندعوه ( السرو ) .. يبدو أنه تلقى تربية صارمة مبكرا ً ،أودعت في قسماته تجهما ً ثابتا ً ، وفي نفسه ميلا ً إلى إطالة الصمت على الرغم من روح السخرية والهزل الدفينين في أعماقه .. عقب ترجله من الشاحنة ، عند طفول الشمس ، في كآبة الخطوط الداكنة التي تتخلل السماء ، راح يتوغل في الشارع وهو مطعونا ً بطعنة ٍ نجلاء فاهقة ، غير مبال ٍ كثيرا ً للجراح الفاغرة في صدره . استمر المساء فاترا ً وصافيا ً ، يعتم أكثر وأكثر دون إثارة ٍ . مضى وحيدا ً ، غريبا ً وأسيرا ً ، كابحا ً السخط المشبوب في داخله . حين ارتقى سلالم الفندق أحسّ بالوحشة الكاسحة ..وحشة من يبحث عن ملاذ ٍ في فندق ٍ وبيته على بعد خطوات ٍ منه ، ومتى ما شرّع نوافذه ، فإن صدره يمتلئ بروائح البيت التي لا تنسى . كان ( السرو ) من الناس القلائل الذين عاشوا بلا أصدقاء حقيقيين . ظل يحتفظ بعلاقات ودية طيبة مع من حوله ، غير أنه لم يقترن بصديق ٍ حميم بما في هاتين الكلمتين من مشاعر ٍ ومعان ٍ إنسانية عملية . تعارفنا مجدّدا ، استذكرنا أياما ً خلت . ضحكنا كثيرا ً .. ضحكنا إلى حد النشيج ، لقد دحرَجَتنا الذكريات على منحدر الحنين نحو عشب المرارة والسعادة الحقيقيين ، الذي كنا نرعى فيه صغارا ، وفوق هذا العشب كان يغمرنا الشعور الفيـّاض .كان قانطا ، أضاع مفاتيحه ، متلهفا ً للعثور على قبره !.. قال ( أن زوجته جمعت قبل سبع عشرة سنة ٍ أشلاء من أحد مراكز الإخلاء ، إبان الحرب ، دفنتها بسرور ٍ غامر، ونقشت فوق ترابها أسمه ، وأسدلت الستارة على حياته ) . خابت مساعينا في العثور على عمل ٍ مناسب ٍ له ، فيما كانت إعاناتنا له تبدو طفيفة غير مجدية . وفي الوقت الذي لوّح فيه الشتاء بنفحه القارس ، كان السرو قد وطـّد عزمه على ترك الفندق والبحث عن مأوى مناسب . أمسى بسترته المزرّرة يبدو مثل شبح مومياء بالغة الطول تخطف بانكسار ٍ في أزقة الفقراء . لم يمض ِ وقتٌُ طويل ٌ حتى تهيأت له غرفة ملحقة بحقل دواجن في طرف ٍ قصي من المدينة .. غرفة مزرية ، عارية ، ليس فيها سوى سرير حديدي أسود ، كان يصر ّ على الدوام ، وانخفاض سقفها جعل يضايق طوله المفرط . لجأ إليها ، ولم يعد يشغل باله ويكده سوى هوس البحث عن قبره . مر الشتاء قاسيا ً ، و الأزمات تضرب بمخالبها دون رحمة ٍ . سرعان ما خارت قوى السرو ، بعد أن مزق الداء رئتيه .. الداء الذي ورثه من الأسر الطويل . صار يغرق في الانطواء على نفسه ، يحرص أن يسعل بصوت ٍ مكتوم . لم تنفع نصائحنا في هذا الأمر ، كان يتجاهل الدواء والاحتراز ، على الرغم من تفاقم مرضه واضطرام سعاله . لعله كان ماضيا ً إلى حتفه بعناد .. بعناد قاس ، غير عابئ بأي شيء .. سافر مرّات ٍ عدة إلى مدينة المقابر ، باحثا ً عن قبره دون ملل ، حتى عثر عليه أخيرا ً .. عثر علية باشتياق ٍ لا يُوصف ، كمن يعثر على وطنه الضائع !. مافتئ يروي تلك الحادثة التي لا تـُنسى بكثير ٍ من التأثر والسخرية . قال ( إنه وقف مليا ً أمام القبر ، مسح شاهدته المرمرية براحتيه ، نفخ وهو يسعل كل بقايا الغبار عنها ، وقرأ أسمه الكامل بوضوح ٍ ورهبة ٍ ، ومن دون أن يدرك ، رفع كفيه وقرأ سورة الفاتحة على روحه !.. إن رعشات متوثبة راحت تسري في طول جسده تباعا .. رعشات مشاعر جمة ، ربما كانت رعشة الشفقة على ذاته هي اتي جعلته يئن ويسح الدموع مدرارا ) .. لازم ذلك الارتعاش جسده الهش إثر عودته من المقابر ، فكان يتحدث ويسعل ويرتعش . وما لبث المرض اللعين أن حاصره وأخذ يدك جسده دكا ً ، وما هي إلا ّ أيامٍ قليلةٍ حتى ذبل السرو واصفرت أوراقه ، واشتد صريف الريح بين أفانينه اليابسة .. قبل أن تفيض روحه بيومين فقط ، غادر إلى المقبرة مرّة ً أخرى . تظاهر بأنه معافى ، وأنه قادرعلى الحركة ، رغم انحطاط جسده وقواه الخائرة . نهض في عتمة الغبش ، وسار بخطى متئدة ساعيا ً إلى هم ٍ تساـّط على عقله وجعله يعتقد أنه لم ينعم بموت ٍ هادئ إلا ّ بتنفيذه .. سافر وعاد في مساء اليوم نفسه .. عاد في الظلام ، مع تواري السماء خلف السحب الحالكة ، ورذاذ المطر الناعم البارد . توجه في الظلام إلى بيت زوجته مباشرة ً، ينوء بحمل كيس على كتفه ، متلفعا ً بلفاع ٍ أسود َ ثقيل يتوقا به المطر ، غطّى معظم وجهه . تقدم إلى باب البيت ونقر عليه ، أطلّ سريعا ً وجه فتاة صغيرة . على الفور غرزت نظراتها في هذا الشبح المتشح بالسواد ، المنتصب أمامها في الظلام بكل غموضه واصطفاق لفاعه في الريح . ارتعدت فرقا ً وتراجعت مرتبكة ً خلف الباب ، وقبل أن تنبس بشيء طلب منها أن تنادي أمها . في لحظات ٍ أسرعت الأم وهي تحمل فانوسا ً مضيئا ً تعبر به مجاز البيت . عند فرجة الباب رفعت الفانوس قليلا ً ، فتبدت صورة السرو المروعة : وجه متخشب ، ناشف من ماء الحياة ، عينان غائرتان يترقرق ماء ٌ لمـّاع في مآقيهما ، نظراتهما مخيفة ، ثم تلك الشفتان المنطبقتان اللتان يوشك أن يثور من بينهما شيء عنيف ، وكانت تلك الصورة المظلمة مصحوبة بصوت المطر الذي يشبه النشيش . بهتت المرأة ، أرادت التراجع لولا أنه ابتدرها بسلام ٍ جاف مقتضب ، أردف من نون أية مقدمات قائلا ً : ـ لقد ذهبت اليوم إلى المقبرة ، هيأت قبري ، وعثرت فيه على هذه الأشياء التي تخصكم . ثم رفع الكيس الذي كان يحمله ووضعه بين يديها ، استدار بجفاء مغادرا ً ، ليترك الخوف يلجم المرأة ويكبلها الحرج . لم تقو َ على الرد بأي كلام ، افترت شفتاها عن كلمة مبهمة .. كلمة واحدة نطقتها وعادت تمضغ حروفها حرفا ً حرفا .. لم يكن ( السرو ) يبغي تضليل المرأة ولا مباغتتها ، وما كان يفكر بالانتقام . ولم تخامره الخواطر الشريرة ، أو يخرجه الحمق عن طوره ، لكن لا أحد يعرف الأفكار التي ساورته ودارت في مخيلته وهو يفعل ذلك ، إنه يبدو شيئا ً لغزيا ً بالغ الغرابة !.. سحبت المرأة الكيس إلى داخل مجاز البيت بحذر ، فتحته على وسعه ، وأدنت الفانوس إليه ، هالها مرآى جمجمة كبيرة فوق كوم عظام .. جمجمة مكشرة ، تبدو ساخرة ، تلمع لمعانا ً عاجيا ً تحت ضوء الفانوس !.. ارتعدت المرأة ، وأفلتت الفانوس من يدها ، أنهدت قواها ، وارتد جسدها إلى الجدار .. ثم ما لبث أن مسح الجدار هابطا ً بها إلى الأرض هبوطا ً عنيفا .. فيما كان السرو يخبط في الوحل بحذائه المطاطي في عرض الطريق ويغور في الظلام ..
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
يحصل على جائزة أفضل فيلم صيفي لعام 2025 “فيلم مشروع أكس”
-
رابط مباشر نتيجة الدبلومات الفنية الدور الاول برقم الجلوس فو
...
-
في ليبيا: السوريون يواجهون أوضاعا إنسانية وقانونية صعبة في ظ
...
-
Maturity: ألبوم لنادر بن عن المنفى والإنتماء بإيقاعات الفولك
...
-
الرابط متوفر من هنا.. نتيجة الدبلومات الفنية 2025 الدور الأو
...
-
قرار تاريخي للجمعية الدولية.. إدانة الجامعات الإسرائيلية لدع
...
-
صدر حديثا ؛ لجوانيتي ليست سلعة
-
جيوبوليتيك من الجنوب: دعوة لتحرر الوعي وبناء مشروع حضاري جدي
...
-
القصة الكاملة لأخطر جاسوس مصري في إسرائيل
-
الفنان الرائد سعد الطائي يدعو وزارة الثقافة لإستلام إحدى لوح
...
المزيد.....
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
المزيد.....
|