أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ساسي سفيان - الـساحة الـثقــــافية العربيــــــــة















المزيد.....



الـساحة الـثقــــافية العربيــــــــة


ساسي سفيان

الحوار المتمدن-العدد: 993 - 2004 / 10 / 21 - 09:24
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


بــين الواقع و الحقيقة
مما لا شك فيه أن الأفراد ضمن مجتمعات القرن الحادي والعشرين إلى أن يكون لها دور مهم ومشرف في التاريخ البشري حيث انهم يمثلون الأمم التي تنظر إلى الأمام بعين رائية، الأمر الذي يعني وضع استراتيجيات مستقبلية للتنمية الشاملة، إستراتيجيات تعي الماضي وتعرف ما فيه من علامات وثغرات، وتدرك الراهن ومتطلباته، وتستقدم الآتي عبر مجسات شديدة الحساسية والأبصار. ولعل التنمية الثقافية هي من أبرز وجوه التنمية المجتمعية التي تسعى المجتمعات إلى بلورتها واستدامة حيويتها ومركزيتها ، لأنها هي التي تصوغ التراث عبر وجوهه الأنقى والأكثر إنسانية وشفافية من جهة، وهي التي ترعى الراهن وتحتفي به باعتباره المرآة التي تضبط حراكها الاجتماعي الكلي من جهة ثانية، وهي التي ترسم الحياة المتوقعة لمستقبل مقروء بذهنية لا تعرف التجميل و التزويق ولغة المبالغة من جهة ثالثة. وذلك لأن الثقافة تشكل القصة الإطارية الأولى لحياة أي شعب من الشعوب، أو أية أمة من الأمم، بمقولة أخرى هي الاستهلال الأولي الذي يأخذ الآخر إليه تعريفاً، وإدراكاً، للماضي والراهن، وتجسيداً لعتبات أولى موصلة إلى المستقبل الحلم . لا بل قل إن الثقافة، وبعيداً عن ضرورات التعاريف التي عنيت بها من مختلف العلوم والعلماء وصرامتها، هي الصبغة الأساسية لشعب من الشعوب أو أمة من الأمم بعد معرفةٍ وإدراك القيم والعادات، والأعراف، وأنماط السلوك، والنوازع، والإسهامات على اختلاف أنواعها و زمانها، أي أنها المرجعية الحقيقية، أو البنك الأزلي لذلك المجتمع !
.لكل هذا، تجتهد الأمم وتحرص في الوقت ذاته على الاعتناء و الاهتمام بالثقافة كعنوان الأمم وسجلها الأبرز وحسب، وإنما لأن الثقافة هي الوعاء الحاضن لكل مصير الأمة وحراكها الاجتماعي من جهة، ولأنها هي قوة شديدة الأهمية من قوى الإنتاج للأمة نفسها من جهة ثانية، ثم لأنها بمثابة الكتاب الذي يوجّد المشتركات ليس بين الأحياز الاجتماعية داخل المجتمع الواحد ( الفرد، الجماعة، المجتمع ) و تفعيلها من أجل تعزيز المشاركة في الحراك العام للمجتمع وحسب، وإنما من أجل إيجاد المشتركات وتعميمها بين المجتمعات الإنسانية كافة طلباً لإذابة الفوارق أو تقريب المسافات بينها مع الاعتراف بسطوة الأفكار وتعددها، وكثرة المذاهب والتوجهات و العرقيات وتنوعها، وتباين القيم وأنماط السلوك واختلافها، و صراع التيارات السياسية والاقتصادية والدينية و تدابرها على السلطة.. من جهة ثالثة!
- وفي ظني - ، أن الاهتمام الكبير بالتنمية إن الاعتناء بالساحة الثقافية يتبدى من خلال إدراكنا للدور الخطير لها الذي تقوم به الثقافة والمتمثل في صياغة إنسان المستقبل- مهما تم تسميته مواطن صالح فرد الألفية الثالثة أو إنسان المعلوماتية - فالثقافة هنا، وهنا بالضبط هي الكفيلة بالإجابة عن هذا السؤال المؤرق : أي إنسان مستقبلي نريد ؟! إن تحديد ماهية هذا الفرد الذي نريده...... هو الذي يرسم لنا الاستراتيجية التي ستعمل الثقافة بموجبها.. لصياغة هذا الفرد.. في زمن متسارع في مراحله، متزايد في معارفه، متطور في تقنياته و وسائل اتصاله، مليء بتحدي الثقافات وصراعها، متنوع في البيئات والأعراف والفنون والتقاليد وأنماط السلوك. وبذلك تصير الثقافة، من وجهة النظر المستقبلية، هي العامل الأهم والجوهري الذي يربط بين الأفراد والمجتمعات والثقافات. لا بل إن استراتيجيات التنمية الثقافية، لأي مجتمع من المجتمعات ، أو لأية أمة من الأمم، ولدى فحصها وكشف مستبطناتها، هي التي تحدد غايات تلك الشعوب والأمم من حيث قبولها للآخر كشريك لها في مجتمع بشري واحد، يقرُّ بالاختلاف والتعدد والتنوع أو تجاوزه تحييداً، وإقصاءً، ومحواً.. طلباً للتفرد والسيادة والاستعلائية، في آن معاً.
أقول، وكي لا أفسد هذا الموضوع الهام ، بكثرة الكلام العام، إن أبرز التعاريف التي وضعت للثقافة، ذلك التعريف الذي اختزله إدوارد تايلور في كتابه (الثقافة البدائية) والذي يقول: "الثقافة هي كل مركب يشتمل على المعرفة والمعتقدات، والفنون والأخلاق، والقانون والعرف، وغير ذلك من الإمكانيات أو العادات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في المجتمع ". إن قراءة هذا التعريف وتفريغه ينتجان معاً التوكيد على اصل الفرد والجماعة في صناعة خصوصية مميزة تسم الفرد والمجتمع معاً بميسمها الذي يعطيهما معاً هوية ذات أبعاد وصفات تغني التفاعل الاجتماعي وتعلي من شأنه، فالفنون ، الأخلاق، العادات، والأعراف، وأنماط السلوك، والمعتقدات و إلى غيرها من ما ينتجه المجتمع من أنماط ، لا هواء لها خارج التفاعل الاجتماعي ، وهناك أيضاً تعريف آخر للثقافة أشير إليه لأهميته، قدمه رو برت بيرستد في كتابه ( سلطة المجتمع )(2) يقول فيه: " الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه، أو نقوم بعمله، أو نتملكه كأعضاء في مجتمع"! هذا التعريف يؤكد على اجتماعية الفرد، وأهميته المستلّة من تفاعله الاجتماعي، ودوره المشخص كفرد في مجتمعه.
من هذا المنظور إلى تعريف الثقافة تصير المشاركة التنمية الثقافية ضرورة إنسانية لا بد من مماشاتها و الفوز بها، كما تصير صبغة إنسانية لا بد من التحلي بها، أو السعي للتحلي بها لاكتساب الميزات والخصوصية. إن الثقافة فعالية يتعاون على إيجادها و تفعيلها ثلاثة أطراف أساسية، أولها : " منتج الثقافة ومخرجها إلى أحيازها الاجتماعية ؛ و ثانيها : متلقي الثقافة والمتعامل معها سلباً أو إيجاباً ؛ وثالثها : المجتمع باعتباره مرآة عاكسة للتفاعل الاجتماعي بين المنتج والمستهلك، وبين المرسل والمرسل إليه، وعيناً راصدة لقبول الثقافة أو رفضها."
الثقافية الثقافية وتوسيع رقعة المستفيدين من الأنشطة إن البحث في تعزيز المشاركة في الحياة يقتضي منها تحديد ماهيات ثلاث هي :" الفرد، والجماعة، والمجتمع "، وتحديد متطلبات الراهن وفق مقتضيين أساسيين،
الأول: قراءة الماضي باعتباره تراثاً فيه المنار والمعتم، وفيه الأصيل والدخيل، وفيه الجوهري والهامشي معاً، ثم تخيُّر ما يفيد منه الذات الفردية والجماعية ويقويهما من أجل إيجاد مكانة اعتبارية للشخص والمجتمع معاً في المستقبل الذي سنمشي إليه طوعاً أو كراهية.
والثاني: استشراف المستقبل، بوضع الاستراتيجيات الثقافية الكفيلة بتخطي أفخاخه و أشراكه ومنعرجاته، وتقلباته الحادة. فالأمم والشعوب، ومنذ أزمان بعيدة، لا تخطط من أجل تجميل الماضي أو تحسينه وترويجه، ولا من أجل مديح الراهن والتصفيق الطويل له، وإنما تُخطط من أجل رسم أدوار أفرادها ومجتمعاتها في المستقبل الذي لا يهاب التقدم نحونا، وإن كنا سادرين في الخدر الكاذب، أو النوم العميق. فالمستقبل هو النهار الذي سيأتي.. و النهار عادة، يخص ضوءه بالكائنات الحية.
الثقافية العربية عموماً تشير إلى ثغرات عديدة، ومثالب كثيرة إن نظرة مدققة فاحصة للساحة ، وأزمات مستعصية الحل، ومقلقات صارت ندوباً، وأوهام صارت حقائق، ونسخ صارت أصولاً، ومتاعب لا طائل من ورائها، ، ومنظمات واتحادات ثقافية تجعل من الهامش متناً، ومن المتن هامشاً، تطبع كتباً كالخراف والأرانب جميلة وملساء.. لا صوت لها، ولا رأي، وتدير ندوات ومحاضرات ومؤتمرات تغيّب عنها العارفين بها، وتبدي الجهلة، فيصير الحضور غياباً، كما يصير الجهل نشاطاً وحضوراً،
الثقافية يتمثل أولاً: في الأديب، والمفكر، والشاعر، والمنظر، إن الثالوث المعني بالساحة والفنان، أي من ينتجون الرسالة الثقافية.. وثانياً: في المتلقي للكتاب، والخطاب الثقافي، والبرنامج التلفزيوني، والصحيفة والمجلة، وثالثاً: فيما يتموضع على مرآة المجتمع من تأثير أو عدم تأثير، من تفاعل أو عدم تفاعل، من قبول أو رفض؛ عبر هذا الثالوث في تعاونه أو عدم تعاونه تتجلى الساحة الثقافية في صورة قد لا تكون كاملة، أو بأدق العبارات قد لا تكون صادقة، ولكنها صورة تعطي انطباعاً وافياً (مع، أو ضد) حول الساحة الثقافة العربية الراهنة !
إن مجسات عديدة يستخدمها الباحث لاستخلاص حقيقة الواقع الثقافي عربياً لبيان صورته (أياً كانت طيوفها ) من أجل قراءتها القراءة الواعية التي تبصرنا بالواجبات الملقاة على عاتقنا للقيام بها تثبيتاً ومحواً، توكيداً ونفياً، تحييداً واجتماعاً، استقطاباً وإبعاداً، تثميراً وتعطيلاً، إلى آخر هذه الثنائيات التي تجول في عوامل الظاهر والباطن، ، والعالم والمتعالم، والقوي (بمعارفه وموهبته) والمقوّى (بالتغذية الراجعة.. الخ)..! ولعل من أبرز المجسات التي يذهب إليها الباحث تتمثل في معرفته بالمثقف وظروف معيشته اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، ثم معرفته بالمثقف وحركة النشر والتداول والموضوعات التي ينشغل بها، بعد ذلك معرفته بالمراكز الثقافية.. عددها ودورها، وانتشارها، و استقطاباتها، والصحف والمجلات وما تنشره، ثم رصده للمهرجانات والندوات والمؤتمرات واختياراتها للأفكار والقضايا التي تقام من أجلها، ثم متابعته لتلفزيون والمحطات الفضائية وما تقدمه من وجوه الثقافة و طيوفها، لنصل بعدئذ إلى الضفة الأخرى، أعني الترجمة وما تعنيه بالنسبة للمثقف العربي الذي يتطلع إلى أن يصل صوته إلى الآخر، بالنسبة للمبدع العربي وما يعنيه حضوره في المحافل الثقافية العالمية من تأثير في موهبته وثقافته وتجربته أيضاً.
لو بدأنا نفحص الحال التي هي عليها الكاتب ( أو الفنان أو المفكر.. الخ ) العربي لوجدنا أن الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية جميعاً تتعاون كي لا يبرز الصوت الحر المثقل بالموهبة والحضور والصدق لسبب بسيط فحواه أن الذائقة السياسية لا تحتمل وجوده ، موهبته، وحضوره، وصدقه.. وحين يصرخ المثقف بالصوت العالي سائلاً أليس هذا هو الواقع والحال التي وصلنا إليها أم هي الحقيقة التي توهمونا بأنها غير موجودة ؟!
يقال لـه: نعم!.. ولكن.. ثقافتك تضّر بالمصلحة الوطنية. وتعطي الآخر (وهو هنا العدو، تحديداً )، الفرصة ليمسك بهذه المثالب والعثرات والعورات التي تكشف عنها ليشتم البلاد ، راهناً ، وماضياً... وشتمه هذا سيؤدي إلى شلل الحياة التنموية في المجتمع أيضاً. يناضل المثقف العربي مرات ومرات وكلما أحس بأن فرجة ديموقراطية تفتح هنا أو هناك.. لكي يقول رأيه، لكي يكتب عن الأذى الذي لحق بالأرواح، الأذى الذي شوَّه مصداقية الحياة الإنسانية ، والأذى الذي يطول الإنسان يوماً بعد يوم، حتى استحال إلى كائن يرضى بتلبية بعض حاجاته العضوية و الغرائزية مثل (الطعام والشراب، والهواء، والزواج)، وبشق الأنفس، حتى هذه الدوافع الأولية، ما عادت متاحة للجميع.
أشفق كثيراً على الذين يتحدثون عن ضرورة دعم الإنتاج الثقافي و العلمي وتأييده ليصل إلى أفراد المجتمع ، ولكي لترتفع أرقام المثقفين و المتعلمين و المبدعين ، أشفق عليهم لأنهم يقفزون عن الأهم وهو المثقف ، فالكاتب والفنان، والمفكر، والمنظر.... هو الذي بحاجة إلى المؤيدات والتأييد. إن إعلاء شأن الكاتب، ووضعه في الدائرة الاجتماعية والاقتصادية اللائقة به اعتبارياً هي التي ستقود إلى تأييد التنمية الثقافية وإيجاد الاعتبارية المهمة له في المجتمع، إن المثقف العربي الأصيل الذي لم يرضَ بالتدجين، أو الخضوع للإملاءات السياسية والأمنية، والذي لم يسعى إلى وصل كاذب منافق مع أصحاب القرار والمسؤولية... يظلُّ مهملاً، ومغفلاً من الذكر... يعيش أو يموت سيان، يكتب أو لا يكتب سيان. يعيش مخموراً أو صاحياً سيان... الأصيل، وهو يرى من أسميناهم بـ(الجهل النشيط) وهم يمثلون بلده في الفكر، والشعر، والرواية، والمسرح، والفنّ!!... جهلة ينشطون ليل نهار في المراكز الثقافية والندوات، والصحف والمجلات، والتلفزيون.. إلى الحد الذي يجعل الناظر إليهم، على كر الأيام وتواليها، يصدق بين الوهم والحقيقة أنهم ذوو ثقافة، ومكانة، وموهبة!...
إن حالة الإقصاء التي يتعرض إليها غالبية الكتّاب العرب، هي العطالة عينها التي تعني مواتهم ثم موتهم إبداعياً وفكرياً. وبالتالي إصابة المشهد الثقافي بجلطة ثقافية كبيرة وقوية... قد لا تميته ولكنها تلغي جزءاً مهماً منه من الانشغال بالفكر، والإبداع، والخصب، كثيرون هم لاعبو كرة القدم (الذين قرَّ لهم العرف العام بالموهبة والحذق) الذين لا يعرفون من الملاعب إلا محيطاتها الخارجية، والجلوس فوق مقاعد الاحتياط يراقبون نشاط من هم أقل منهم كفاءة وموهبة... داخل الملاعب فيحترقون مباراة بعد أخرى، وتضمر موهبتهم مرة بعد أخرى... إنهم أشبه بالخيول الأصيلة التي ترى ملاعب السباق ملأى بالجواميس، كدت أقول بالتماسيح، هذه الحال هي حال الكتَّاب الأصلاء الذين يدمرون يوماً بعد يوم بخرافة الصحف والمجلات، والندوات والمؤتمرات، وبرامج التلفزيون... ومقاهي النميمة!...
والمدهش حقَّاً، أن دخلاء الكتابة يصدقون يوماً بعد آخر.. خرافة حضورهم التي يجسدها التلفزيون، والصحف، والمشاركات الكثيرة في الندوات، والمؤتمرات، والمهرجانات.. وتسلمهم مقاليد أمور الناس الثقافية
إنني على قناعة أن العارفين بشأن الكتابة والفكر والإبداع والفن ليسوا هم الذين يوجهون دفة الحياة الثقافية في بلادهم، وأن لا دور لهم في رسم خططها، واستراتيجاتها.. ليس لجهلهم في مقتضيات الشؤون الإدارية ومتطلباتها، وإنما لأن جرأتهم، وصدقهم، وعدم سكوتهم عن الأغلاط والقبائح المرتكبة بحق الثقافة.. أبعدتهم عن هذه المجالات الحيوية التي يشغلها في أكثر الأحيان سادة الجهل النشيط. والمصيبة التي تقل هولاً عن إقصاء الكتّاب المهمين عن الحياة الثقافية تتمثل في استقطاب هؤلاء الجهلة الآخرين الذين لا يقلون عنهم جهلاً وعماءً... وبذلك تصير دورة الجهل النشيط ناشطة عبر أجيال متتالية، بعضها ينطفئ، وبعضها الآخر يتوهج للتو. ومن أسف أن هؤلاء الجهلة يظلون مفتونين بغياب أصحاب الفكر النير، والإبداع الأصيل.. ينتظرون، مشهد إيابهم الأخير! دون أن يعوا فداحة الخسائر الكبرى التي يصاب بها المشهد الثقافي حينما يفقد رجاله الحقيقيين، وحينما يفقد المبدعون الطالعون خبرات هؤلاء المبدعين الأفذاذ.
بلى، إنها لطامة كبرى، وفاجعة ما بعدها فاجعة أن تدرك العين الرائية أن أدباء، وكتاباً، ومبدعين، وفنانين عرباً لهم قامات عالية... في بلدانهم... لا يكتبون في صحفها ومجلاتها، ولا يشاركون في ندواتها ومؤتمراتها ومهرجاناتها، ولا يقيمون معارض للوحاتهم فيها، ولا يطلون من قنواتها التلفزيونية.. في الوقت الذي يملؤها الجهلة بنشاطهم المحموم!...
أما الكتاب في البلاد العربية، فحاله تمضي من تدنٍ إلى تدنٍ أكثر بؤساً ورخصاً، فالعلاقة مابين الكاتب والقطاعات العامة للنشر محكومة بشروط الرقيب الذي تطور تطوراً عجيباً في موهبته الرقابية بحيث أنه صار قادراً على قراءة مالم يكتبه الكاتب... فيرفض الكتاب (وهو ما يزال مخطوطة) لأن نوايا الكاتب قصدت أموراً لا يسمح بها!... لا بل إن بعض المشتغلين في الرقابة أصبحوا ممثلين صالحين لأؤلئك الذين يعملون في التنجيم، وكشف البخت، وضرب المندل... فهم لا يقرؤون مابين السطور وحسب، وإنما يقرؤون قراءات تأويلية يحيل النص إلى انزياحات واقعية فيرون في الشخصيات الأدبية محاكاة أو تمثلاً لشخصيات، واقعية... لكن تحايل الكاتب وخداعه، كما يقولون، جعل الشخصية الأدبية صلعاء... وهي في الواقع مكسوة الشعر، أو جعلها بشاربين وهي في الواقع من دون شاربين... وهكذا تُقدم الأعذار والحجج الحاجبة للكتاب. والمخيف حقاً هو أن بعض الكتّاب العرب راحوا يقومون بمهمة الرقيب على كتاباتهم، ليس الرقابة الفنية، وإنما رقابة الأفكار وجولانها والحدود التي تتعدَّاها، والشخصيات النمطية التي تجسدها.... والحوادث التاريخية التي تستعيدها.. وكل ذلك يحدث من أجل تجاوز عقبة الرقيب.. بسلام.
أما الحال الأخرى فهي حال الكتاب عندما يتجاوز حواجز الرقابة.. فهو لا يطبع إلا بشروط صعبة غايتها الاقلال من النفقات فيأتي الكتاب بورق رديء، وكرتون رديء، وغلاف رديء، وتركض فيه الأغلاط الطباعية كقطيع من الذئاب... لأن التصحيح لم يستوفِ شروطه كاملة. والأدهى أن الكتاب يخرج عبر ألف نسخة فقط... من المفترض أن يقرأها ملايين الناس. وللذين يعرفون في الأرقام أن يوزعوا ألف نسخة على (250) مليون عربي... وليقولوا لنا هل أ صاب الفرد العربي كلمة واحدة من الكتاب أم أنه كان من المحرومين والمغضوب عليهم. ثم ما الذي يأخذه الكاتب من وراء هذا الكتاب الذي تعب في كتابته سنوات، أو لنقل سنة واحدة فقط؟!... بالتأكيد لا شيء سوى عشرين نسخة سرعان ما سيوزعها على الصحفيين الذين صاروا، ولله الحمد، نقاداً أو مراجعين، وهو في الأساس لا يوزعها عليهم من أجل نقدهم أو مراجعتهم فهذا ما لا يحلم به، وإنما يوزعها عليهم من أجل أن يكتبوا خبراً عن هذا الإصدار الجديد، خبراً لا تتجاوز مادته سطرين بالتمام والكمال... وإن بقي لدى الكاتب بعض النسخ يتكفل أ ولاده بتوزيعها على أساتذتهم في المدارس أو على أصدقائهم في أحسن الحالات رخاءً. ولو أراد الكاتب أن يسأل الناشر عن حركة توزيع كتابه لوجد الإجابة الجاهزة بانتظاره: سوق الكتب واقفة، وكتابك على حاله! لم نوزع منه نسخة واحدة! هذا ناهيك عن عدم تخطي الكتاب لحدود بلده، وعدم تواجده فيالمراكز الثقافية أو المكتبات العامة، وبذلك يصح توصيف الكاتب العربي، بأنه ليس كاتباً قطرياً، كما أنه ليس كاتباً عربياً. فهو غير معروف وغير منتشر في بلاده، كما أنه غير معروف وغير منتشر في البلاد العربية أيضاً.
أما فعالية القراءة فالحديث عنها ذو شجون، فهي لم تصبح حتى يومنا الراهن عادة من عادات السلوك العربي لا في البيت ولا في المدرسة، ولا في المجتمع، هذا إذا ما تركنا وراء ظهورنا نسبة الأمية المخيفة في المجتمعات العربية... والتي تشكل بمفردها معوقات من أهم معوقات القراءة... والتنمية الثقافية.. لا بل باتت في زمننا الراهن، زمن التلفزيون، والانترنيت، والكمبيوتر، والبحث عن اللقمة... فعالية تحتاج إلى الكثير من التعب والتربية لنقطف جدوى من ورائها، أو قل لتصير فعالية مهمة لها وقتها وأنصارها في وقت واحد. لأن السؤال المُرَّ يتعالى بوقاحة : القراءة من أجل ماذا؟! فالزمن صار مادياً وحسياً إلى حدّ السؤال عن النتيجة الفورية للحالات المعنوية، كأن تسأل، ماذا وراء العدالة؟! إن عدم الاهتمام بالقراءة كأحد أنماط السلوك البشري اليومي كارثة متوالدة الضرر بالكتاب والكاتب والثقافة معاً. أقول هذا دون أن أوجه الانتباه العميق، إلى أمراض القراءة، في حال وجودها، تلك التي تتمثل في قراءة جانب من جوانب الثقافة والاقتصار عليه دون الخوض في قراءة جوانب أخرى بدواعي عدم الفهم، أو الاستفادة، والجدوى، كأن ترى شاعراً لا يقرأ إلا الشعر.
وإن كان مختصاً بالرثاء أو المديح لا يقرأ إلا قصائد الرثاء، أو قصائد المديح.
والأمران معاً، الكاتب والكتاب لا يؤيدان التأييد المرغوب به، فكلاهما لا يحضيان بالمكانة اللائقة بهما، فالجوائز العربية المخصصة للكاتب والكتاب قليلة جداً، بل تكاد تكون معدومة ومجهولة في بعض البلدان العربية، وإن وجدت لعبت بها التيارات، والأحزاب، والمكائد.. كأن تعطى جائزة دولة التقديرية الكاتب صحفي بهلوان ويحرم منها أديب أفنى عمره في خدمة اللغة والأدب والثقافة!!
الآن، والحال هي كذلك الكاتب الجيد لا يعتبر، والكتاب لا يصل. ما الدور الذي يقوم به التلفزيون بتنشيط الحياة الثقافية؟! حقيقة، لا أظن أن عاقلاً يعمل في الوسط الأدبي (لأن العقلاء في الحقول المعرفية الأخرى كثيرون) يتجاهل أهمية التلفزيون باعتباره أهم مروّج للسلعة، وأهم معلن عنها. لكن النفاذ إلى التلفزيون دونه حبل الوريد كما يقولون على الرغم من وجود برامج عديدة جميعها تشير إلى أنها برامج ثقافية بدءاً من البرامج التي ترصد حركة إصدارات الكتب، وانتهاء بالبرامج التي تخصص وقتاً طويلاً لجلوها ومعرفة ما في بطونها؛ فالنفاذ إلى التلفزيون يتطلب استيفاء للشروط التي يفرضها المشرف على التلفزيون أولاً، ثم المشرف على البرنامج ثانياً، ثم صاحب البرنامج ثالثاً.. هذه الدوائر الثلاث من الصعب جداً النفاذ منها ولاسيما إذا كان الكاتب أو الفنان بعيداً عن مهنة العلاقات العامة،و التزلف، وفن التخاطب، واسترخاص الروح والكرامة. لهذا نرى ابتذال غالبية البرامج الثقافية آتياً من أمرين أساسيين، أولهما: اختيار الأشخاص. وثانيهما: الرضا عنهم. فمن يعمل في التلفزيون، في أي دائرة شئت، يريد تنفيذ برنامجه بأقل التضحيات، والتوصيات، والخسائر، والقال والقيل. صحيح أنه مهموم بأن يأتي بكاتب أو فنان أو مفكر من وزن ثقيل.. لكن ما الفائدة إذا كان هذا الكاتب المهم سيوقعه في ورطة الموافقة على البث أو ورطة الموافقة على الاستمرارية في تقديم البرنامج أو بثه، وأنا أعتقد أن الورطة الكبرى في مجال التلفزيون يقع فيها المشرف على البرنامج الثقافي وليس الكاتب أو الفنان.. لأن على المشرف أن يعرف تاريخ ضيفه السياسي، والأمني تحديداً.. ومن ثم عليه أن يفكر في النواحي الثقافية الأخرى! ثم لنفترض أن حالة من المداهنة أو الحظ العميم كفلت للكاتب أو الفنان أو المفكر النفاذ إلى البرنامج التلفزيوني، فسجل ما شاء من كلام، وأحداث، وأخبار، ومعلومات.. فهل يبث البرنامج من دون رقابة أو قراءة ما بين التضاعيف. إن قراراً إدارياً بسيطاً يلغي البرنامج ويستبدله بأغنية أو رقصة، أو مشهد عن قصّ الأشجار في إحدى غابات الأمازون! ذلك لأن العمل في التلفزيون يتعامل مع مبدأ السلامة، أي الابتعاد عن الصريح والمضمر وما هو قابل للتأويل.
إن كتباً مهمة، وكتّاباً مهمين، لا يعرفهم التلفزيون إطلاقاً فلا يتحدث عن محتوى الكتب، ولا يعرّف بالكتّاب، ولذلك أقول إن حصة الكاتب العربي على قنوات التلفزيون العربية عموماً لا تتجاوز نصف دقيقة كل سنتين، بينما تتراوح حصة أقل المطربين شأناً على شاشات التلفزيون العربي 8 ساعات كل ستة أشهر، والسبب يعود إلى طبيعة هذه البرامج فمن يتحدث عن الآه، والأوف، وألبسة الفيديو كليب وأمكنته.. هو غير من يتحدث عن الثقافة السائدة والثقافة المتنحية، وعن الحرية والهواء المكربن في الأقبية المعتمة. فالرقيب يدرك حالة التخدير التي يتركها برنامج مسل على التلفزيون، وحالة التدمير التي يتركها برنامج ثقافي حقيقي. إنها صورة التضاد ما بين الرؤية والعماء.
ولعل من يتابع النشاط التلفزيوني العربي يجد تسابق الفضائيات لدينا يدور في فلك أمرين اثنين الأول: حول البرامج الخفيفة خصوصاً برامج المسابقات التي راحت تبدو وكأنها صالة قمار متنقلة ما بين محطة وأخرى، والثاني: حول البرامج الدينية التي تصل فيها بعض الأسئلة والأجوبة إلى حد الإهانة الشخصية والمجتمعية معاً. حيث تنتشر الفضائح، وقلة الحياء، والسذاجة، والفرقة المذهبية على الملأ دونما رادع أخلاقي أو إحساس بالمسؤولية؛ وكأن الدين ملك لشخص، أو مذهب، أو برنامج تلفزيوني!
لا أشك إطلاقاً أن وسائل الإعلام أداة من أدوات المقاومة المهمة إذا ما أريد لها خصوصاً بعد أن بلغت ما بلغت من الحيوية والحضور في حياة الناس. فاليوم ما عاد إلا الجهل المعرفي يقف جداراً يحول دون وصول صوت المظلومين إلى شتى بقاع العالم من جهة، وكشف جرائم الظلم والاستكبار الواقعة عليهم من جهة ثانية. وذلك بافتراض أن الحرية حقٌّ متاح لجميع أبناء البشرية، وأن الدول الكبرى المزودة بأحدث أنواع التكنولوجيا لا تمارس الغطرسة الغاشمة محواً، وإقصاءً، وتزويراً تجاه الدول والشعوب المستضعفة.
أقول هذا، لأن محطات التلفزيون الأمريكي، وفي أثناء الاجتياح الإسرائيلي الغاشم للجنوب اللبناني سنة 1982، ومحاصرة العاصمة اللبنانية بيروت... كانت تعرض أفلاماً تاريخية وثائقية مفبركة في استديوهات السينما والتلفزيون... تقصُّ أخبار وأحداث المجازر التي تعرض لها اليهود عبر التاريخ، وقد راحت تعرض الأفلام التي تلت الحرب العالمية الثانية والتي تصور قصصاً عن بعض يهود ألمانيا، وغيرها من بلدان أوربا الشرقية.. في الوقت الذي كانت مقابر الفلسطينيين تمتلئ بالشهداء الجدد، ومخيماتهم تدمر في عين الحلوة، والراشدية، وبرج البراجنة، والبداوي، ونهر البارد، والمية ومية، لا بل إن الجرائم التي اقترفها شارون في صبرا وشاتيلا في /أيلول/1982، وعلى مدار يومين متتالين لم تعرض على المحطات الأمريكية والغربية إلى هذه اللحظة، وكأنها جرائم حدثت في كوكب آخر. إنني لا أنكر إطلاقاً أن بعض وسائل الإعلام المهمة في العالم يسيطر عليها الرأسمالي اليهودي، أو النفوذ الإداري اليهودي، لكنني أنكر أن يظل الإعلام العربي والإسلامي في كثير من جهوده، وفعالياته.. إعلاماً موجهاً للداخل العربي والإسلامي معاً، فالعالم العربي والعالم الإسلامي يدركان حقيقة ما يفعله الكيان الصهيوني، ويعرفان جيداً ما ينفذه من خطط وأعمال تخدم الغرب وتخدمه في الوقت ذاته لتشارط المصالح وتلاقيها.. لذلك تصير هذه الجهود الإعلامية العربية والإسلامية... خبراً باهتاً مكروراً كأن يتحدث أخوان عن موت والدهما وقد شهدا هذا الموت بتفاصيله الدقيقة... المطلوب هو أن يصير الإعلام العربي والإسلامي إعلاماً خارجياً أي موجه للخارج، للمواطن الغربي الذي يدفع ضرائب يومية من أجل دعم ترسانة الأسلحة المخيفة في الكيان الصهيوني، علينا، وبوساطة الإعلام أن نبصّر هذا المواطن الغربي بأنه أداة تدور من أجل المصالح الصهيونية، أي أن نكوّن رأياً عاماً رافضاً، في العالم الغربي لما تقوم به الدول الغربية من دعم واحتضان للكيان الصهيوني. أجل أعرف كما تعرفون، أن الكيان الصهيوني مشروع أوربي، وليس مشروعاً صهيونياً... فهو أصلاً نما وتطور في الذهنية الغربية من أجل الخلاص من استهدفات اليهود لاقتصاديات الغرب بعامة، ومن قرأ أدبيات الصهيونية قبل أن تصبح كتاباً لهرتزل في (الدول اليهودية) مثلاً يدرك أن المشروع الصهيوني تبلور في الأدب، والشعر، والدراسات الفكرية الغربية، بدءاً من القرن السادس عشر مع ظهور المذهب البروتستانتي... حين استبدل كتّاب الغرب أساطير العهد القديم (التوراة) بأساطير اليونان والرومان وأشاعوها في أدبياتهم ومناقشاتهم التي كانت امتداداً لآراء الكنيسة البروتستانتية التي قالت بأن إيمان المسيحي لا يصح إلا بالإيمان بالعهد القديم لا بالعهد الجديد فقط وبذلك دخلت المفاهيم اليهودية كل بيت غربي وصارت جزءاً رئيساً من سلوك أبنائه وثقافتهم، لا بل إن حقائق تاريخية، وملاحظات مسيحية مسجلة تدين الممارسات اليهودية حيدت، أو صححت بعدما تسلل الكثير للأسف من اليهود إلى كراسي البطريركية والتكلم باسم رأس الكنيسة. هذه أمور معروفة ومع ذلك نعول كثيراً على الراعي الأمريكي ونزاهته، وعلى الرأي الأوربي ودوره، ومساعي الروس ومشاغباتهم... وهم جميعاً متفقون على مصالح تهمهم... إذا ما عرفناها سنصاب بالدهشة لأنها جميعاً في صالح الكيان الصهيوني.
أشير إلى هذا التمهيد التاريخي لأنفذ إلى الواقع الراهن، أعني وسائل الإعلام العربية والإسلامية ومواكبتها لأحداث الانتفاضة الفلسطينية الناشطة اليوم في الوطن الفلسطيني المحتل.
بدءاً، أقول أن ما من عاقل يتجاهل الدور المهم والبارز الذي قامت به الفضائيات العربية والإسلامية تجاه ما يحدث في فلسطين تسجيلاً لبطولات الاستشهاديين، وأفعال المقاومة اليومية لأبناء الشعب الفلسطيني في القرى والمدن الفلسطينية كافة، فهذه الفضائيات. أدخلت أحداث الانتفاضة الفلسطينية المباركة إلى كل بيت عربي وإسلامي، فهيجت الروح المألومة وهي ترى أبناء فلسطين يذبحون ليل نهار، بيوتهم تدمر، ومدارسهم تعطل، والمعامل تخرّب، وأشجار زيتونهم تقطع، وجامعاتهم تغلق، والدروب والطرق تسد... والحياة تتوقف... والمقابر يزداد أهلها وزوارها معاً، وبذلك يتساوى الموت والحياة. إن التغطية الميدانية لأحداث الانتفاضة وتصدر مشهدياتها لنشرات الأخبار العربية والإسلامية... عمل كبير أنجزته الفضائيات العربية والإسلامية، وخدّمته من خلال الحوارات، والمناقشات، المستفيضة حول الواقع الفلسطيني، وبذلك صارت الانتفاضة الفلسطينية حاضرة في كل بيت عربي وإسلامي. لكن هذه الفضائيات عادت وأخرجت الانتفاضة من كل البيوت بسبب من تنحيتها لأخبار الانتفاضة، وأحداثها، وظروف الحصار البشعة التي يمارسها الكيان الصهيوني.. فقد صار خبر الانتفاضة يأتي هامشياً في النشرات الأخبارية كخبر رابع أو خامس... أو أخير، وباتت له طبيعة تكرارية وكأن ما يحدث هو جزء من هذه الحياة... فتآلف الناس وهذا الخبر... بعد أن كان في البداية يمنع طالب الطعام من تناول طعامه، أو طالب النوم من الإخلاد له... قبل أن يعرف ماذا حدث، وماهي ردود الأفعال تجاهه. ولعل السبب الجوهري الذي أدَّى إلى هذه الحالة هو أن الإعلام العربي لم يعمل على إيجاد حيثيات فاعلة تعمل على كتابة تاريخ ثقافي حقيقي للدم الفلسطيني عن طريق تعزيز الذات المقاومة، باستحضار التواريخ والأحداث العظيمة المحقبة للأمم والشعوب المطالبة بالحرية والاستقلال، وإيجاد كينونة من المكانة والاعتبارية لأدب الانتفاضة والمقاومة في صلب الثقافة العربية والإسلامية، والتوكيد على قيم الفداء والتضحية والتعاون والإيثار. إن اكتفاء وسائل الإعلام العربية بحيثيات أخبار الانتفاضة الفلسطينية فقط، ضيّع فرصةً حقيقيةً لخلق ثقافة مقاومة تصير أنموذجاً وطنياً مهماً لكل شعوب العالم المستضعفة.
أقول ذلك لأننا لم نصادف، وفي فترة الانتفاضة الأولى 1987، والانتفاضة الثانية الناهضة اليوم على دم الشهداء وتضحياتهم، في الإعلام العربي والإسلامي برامج وثائقية، ومعلومات حيَّة تؤرخ لقضية الصراع مع الصهاينة، لا بل إن الإعلام العربي والإسلامي اليوم، أعني وهو في عزِّ نشاطه وفورته وقدراته، لم يقدم لنا حقيقة الحصار الصهيوني للمدن والقرى الفلسطينية... لم يقدم لنا امرأة فلسطينية واحدة تضع مولودها عند مفارق الطرق، وعلى الحواجز الصهيونية مع أن مثل هذا الأمر حدث كثيراً، ولم تدخل أفلام الإعلاميين العرب والمسلمين وكاميراتهم إلى البيوت الفلسطينية لتقص علينا بالصورة والكلمة... أشكال التجويع والمعاناة والموت الفلسطيني اليومي، لم تقل لنا وسائل الإعلام العربية كيف أن الشبان الفلسطينيين يعيشون حالة من الموات بسبب من العطالة والبطالة.... وأن الفقر والجوع والظلم ثلاثة أقانيم تضافرت ضد الفلسطيني الذي لا يمتلك سوى دمه للمواجهة والخلاص.
لقد اكتفت وسائل الإعلام العربية والإسلامية، بالرؤية المباشرة، بالحدث المرئي... ولم تذهب إلى الأعماق وبذلك ظلَّ الخبر السريع هو المسيطر... الأمر الذي بدد الدهشة، والإعجاب، وقلل من روح المناصرة للمقاومين... فأصيب المتلقي بالبرود، والعجز، وتنحى إلى الحياد... وإلا ما الذي ينتظره العرب والمسلمون جميعاً من آلة الحرب الصهيونية التي احتلت المدن والقرى، وخربت المزروعات، وقطعت الأشجار، ودمرت البيوت، ونسفت المستشفيات، ودمرت المؤسسات المدنية، والإعلامية، والاقتصادية، والأمكنة الدينية. إنها شراسة المحتل التي تتعالى وتيرتها، ويزداد سمّها وما من أحد يفعل شيئاً، ثم ما الذي ينتظر من الفلسطيني؟!... الموت... ربما، وهو الذي يقاوم ويقاوم يومياً ولا نصير له... ولو بوسائل الإعلام العربية والإسلامية...
أمام هذه الحالة المؤسسية... لابدّ من عمل عربي وإسلامي جاد وفاعل وعميق عبر وسائل الإعلام الموجهة للغرب تحديداً، فالجميع يعرفون جيداً أن الفلسطيني يستشهد يومياً، وسيظل يستشهد يومياً، وأنه صاحب حق، وتاريخ، ومقدسات، وحضارات... ولكن على العرب والمسلمين، أن يزودوا الغرب، أعني الشارع الغربي، كل بيت غربي، بهذه المعارف، والأخبار، والأحداث... وبلغتهم ليكف الغربيون عن مناصرة الكيان الصهيوني وحمايته... لا بل لفضح ممارساته التي فاقت ممارسات النازية والفاشية لأن ما يفعله الكيان الصهيوني اليوم وما فعله قديماً بالأرض والشعب الفلسطيني... أمر لا مثيل له في تاريخ الشعوب... فالكيان الصهيوني، وعلى مرأى من العالم أجمع، يقوم بإبادة شعب وحضارة، وتاريخ،... إبادة جماعية... وبدم بارد، وخطط معدة... تنفذ خطوة خطوة وما من أحد يعوّق هذا التنفيذ.. حتى الدول الغربية المعنية بالزبدة و الأجبان, أو الموسيقا والورد... تقدم الإعانات المالية والعينية الكبيرة جداً للكيان الصهيوني من أجل ديمومة ممارساته العنصرية تجاه أبناء فلسطين الذين بنوا حضارة عمرها آلاف السنين.
الأمر الآخر الذي أود الوقوف عنده هو أن الإعلام العربي والإسلامي معاً وقع ضحية الكثير من المصطلحات التي روجها الإعلام الغربي فاقتفوا أثره وكأنها مصطلحات أزلية.... فشاعت عبارات مثل (الدولة العبرية)، و(العنف المتبادل)، و(المستوطنات)، و(الدولة الإسرائيلية)... و(العمليات الانتحارية)... واختفت تعبيرات مثل (جيش الاحتلال)، و(الكيان الصهيوني)، و(العدو المحتل)... وبذلك أسهمت وسائل الإعلام العربية والإسلامية، عن جهل أو وعي، بإشاعة مصطلحات أراد لها الصهاينة أن تشيع، وتخلَّوا من مصطلحات أراد لها الصهاينة أن تتوارى وتنطفئ. والذي يغيظ أكثر أن بعض وسائل الإعلام العربية تحديداً... أدخلت الإسرائيلي إلى البيوت العربية باعتباره صاحب وجهة نظر مضادة لوجهات النظر الفلسطينية، وهذا أسهم في الحد من تجليات الحق الفلسطيني وظهوره وتأييده، صحيح أن وجهات النظر الإسرائيلية المقدمة لم تكن ذات حجة أو منطق ولكن وسائل الإعلام العربية قدمت الرأي الإسرائيلي، والعلم الإسرائيلي بطريقة أو أخرى وأدخلتهما إلى البيوت العربية والإسلامية... وبهذا أصابت الذهنية العربية، اليائسة أصلاً، بأنواع جديدة من العطب....
إن دور وسائل الإعلام في متابعة أحداث الانتفاضة والمقاومة الفلسطينية دور يحسب لها فهو يعد علامة مهمة في تاريخ الإعلام العربي والإسلامي، ولكن وسائل الإعلام العربي والإسلامي، هذه ما زالت وقفاً عند مجريات الحدث المرئي بحثاً عن التغطية السريعة وتأدية الواجب، ولم تذهب بعد إلى أعماق الحياة الفلسطينية من أجل تصوير وجوه التراجيديا الفلسطينية كافة، هذا من جهة، ومن أجل خلق ثقافة مقاومة تعلي من شأن كفاح الشعوب والأمم الباحثة عن أحلامها في الحرية والاستقلال من جهة ثانية. كي لا تصير التضحيات وأفعال المقاومة مجرد خبر فقط... ما أن يلد حتى يموت!...
الثقافية المراكز أما ، الثقافية أو الجهات الثقافية ، فقد انتشرت في المدن، والمناطق العربية، وبعضها انتشر في الأرياف أيضاً، لكن حصيلة انشغالها الثقافي تظل محكومة بالموافقات التي تأخذها من الجهات المعنية بها من أجل استقدام الكتّاب والفنانين والمفكرين، أو من أجل إقامة ندوة حول موضوع معين أو قضية معينة.. ولا يخفي المرء فرحه بانتشار هذه المراكز أو الجهات الثقافية في المدن البعيدة، والمناطق النائية ومحاولاتها الأولى في تعريف الناس بالثقافة، والأدب، والفنون، وتيارات الفكر عموماً، ووضعها الكتاب بين أيدي الطلبة والمريدين، لكنه لا يستطيع إخفاء حجم الهزيمة الكبيرة التي منيت بها هذه المراكز والجهات الثقافية حيث تحولت فجأة، ودونما تمهيد إلى أمكنة محنطة.. لا حيوية فيها ولا روح. جديدها نادر، ونشاطها شحيح، وفعاليتها في تراجع دائم. فبعد أن كانت المراكزالثقافية تهتم بتنشيط المرأة، والطفل، والناشئة، تراجعت فاقتصر دورها على استضافة بعض الأسماء العاملة في المجال الثقافي وإعارة الكتب.. ثم تذهب في سبات ثقافي طويل.
وحال المهرجانات والندوات والمؤتمرات كحال هذه المراكز فهي تعمل وفقاً للطقوس المبوّبة والمحددة، ووفق المناسبات والتواريخ التي يحتفى بها القطر العربي الواحد دون غيره.. وأغلبها مناسبات مرتبطة بوقائع سياسية، أو بتواريخ لها علاقة بالعاملين في الحقل السياسي. إذْ من النادر أن يرى المراقب الثقافي مهرجانات أو مؤتمرات أو ندوات تدار حول الكتب والكتّاب والفنون والأفكار والتيارات مثلما كانت تعقد حولها في الأزمان الغابرة.. ربما لأننا أتينا بسرعة عجيبة على كل الأدب الجاهلي، وفكر المعتزلة، والمتصوفة،وعلم الكلام، والفلسفة العربية، والأدب الشعبي، وأفكار عصر النهضة كالوحدة والقومية، والمشروع النهضوي، والتراث، والترجمة..
لا بل أن هذه المهرجانات والندوات والمؤتمرات ما عاد يدعى إليها إلا من يؤمن جانبهم، أي من هم بعيدون عن المفاجآت غير المستحبة.. وذلك طلباً للنجاة من أسئلة ومساءلة أولي الأمر وأصحاب الشأن. لهذا صارت المؤتمرات المهمة نادرة على الرغم من انتظارها الطويل. ولعل من المؤسف في هذا المجال أن يذكر المرء أمرين اثنين، الأول: أن تصير هذه المؤتمرات والندوات والمهرجانات الوسيلة الوحيدة، الوحيدة بالضبط، للتعارف ما بين أدباء وكتاب وفنانين ومفكرين عرب.. يتبادلون فيها الآراء والأفكار والكتب التي لا تصل إليهم دائماً. والثاني: هو أن تصير هذه المؤتمرات الفرصة الوحيدة، الوحيدة بالضبط، للاستجمام والراحة وزيارة البلدان العربية والأجنبية.
بلى، هذان الأمران هما من يوقف سيل الكلام الكثير المرّ عن معظم تلك المهرجانات والندوات والمؤتمرات الباهتة في أغراضها وطروحاتها، وسذاجتها في الاستهلال والاختتام.
والحديث عن الصحف والمجلات العربية في السنوات الأخيرة يدعو إلى الأسى الحقيقي، وذلك لأن التعامل مع هذه الصحف والمجلات يفضي إلى إهانة مزدوجة، فالنشر فيها إهانةٌ، ودلقٌ لماء الوجه كأن ترى أديباً، أو شاعراً أو فناناً، أو مفكراً يرسل مقالته لصاحب منبر أمي أو يكاد.. يرجوه أن ينشر له مقالته طمعاً في الذيوع والانتشار،.. والمكافأة.. وهنا.. تغدو المكافأة، الوجه الآخر للإهانة، فهي ليست قليلة وحسب، وإنما هي لا تصل في أكثر الأحيان. ولو كانت الطبيعة تدور في دورتها الاعتيادية لما قبل أديب محترم، أو مفكر مرموق أن يكون صاحب ذلك المنبر الذي يرجوه ويتوسل إليه (فراشاً) عنده، لكن الطبيعة تدور في غير دورتها.. لهذا يستنسر البغاث!
ومن عجب أن الصحف التي تدفع مكافآت أكثر هي التي تستقطب ألمع الأسماء العربية ثقافياً ليس باعتبارها الأكثر انتشاراً أو أهمية، بل باعتبارها المانح الأكثر في هذا الزمن الرديء. لذلك لا مدعاة للدهشة إن راح الأدباء، والكتّاب، والمفكرون، والفنانون في بلد ما يتفاجؤون في اليوم الواحد مرات ومرات وهم يرون أسماء جديدة من بلدانهم تكتب في تلك الصحف والمجلات الأكثر منحاً، وترافق أسماءهم ألقاب من قبيل الكاتب السياسي المعروف، والمفكر فلان، والأديب الكبير.. وهؤلاء جميعاً غير معروفين في بلدانهم. بل باتت ليست مفاجأة أن ينشغل كاتب رواية بتحليلات حول الفقه الإسلامي وهو مسيحي، فقط لأنه ينشر في صحيفة ذات مرجعية إسلامية تدفع بسخاء. أجل، من قال إن الكدية وأدبها يتجليان بصور عديدة في هذا الزمن.. صدق.
الثقافية الأمر الأخير الذي أودّ التوقف عنده يتعلق بالترجمة، فالبلاد العربية جميعاً تقريباً لم توجد إلى يومنا الراهن هذا وإلى ما شاء الله من أزمان المؤسسات المعنية بالترجمة من العربية إلى اللغات العالمية الأخرى، وكأن عالم الترجمة، أو المثاقفة أمر لا يعنيها أبداً، وإن كانت بوادر الاهتمام الرسمي بالترجمة من الآداب العالمية، والفكر العالمي إلى اللغة العربية قد بدأت تظهر في بعض الأقطار العربية إلا أنها ما تزال بعيدة عن الطموح، أما ترجمة بعض نماذج الثقافة العربية إلى اللغات العالمية فأمرها متروك للعلاقات الشخصية، والظروف بصفة عامة.
وقناعتي الأكيدة في هذا المجال تتبدى في ضرورة إنشاء مؤسسات ثقافية عربية تعنى بالترجمة المتبادلة ما بين اللغة العربية واللغات العالمية كي لا تظل الترجمة عرضة للتشويه والارتزاق والأغراض المذهبية والسياسية.
كثيرة هي الكتب العربية التي ترجمت إلى اللغات المعروفة كالإنكليزية والفرنسية والروسية والألمانية.. التي لا تخدم أهداف المجتمع العربي، ذلك لأنها اختيرت بعين المستشرقين الذين لديهم قوائم مواصفات للنصوص التي يراد ترجمتها.. لذلك كثرت المترجمات الناقدة للواقع العربي، والمتقولة عليه، والمشوّه لصورته.. لأن أعين المستشرقين بحثت عن النصوص التي تشك في الأديان، وخصوصاً الدين الإسلامي، وعن عوالم الرغبة والشهوات والفحولة، التي تحاكي مشهديات ألف ليلة وليلة. وعن مناخات السجون، والمعتقلات، والحريات المفقودة، وتعدد الزوجات، وعالم الجواري.. في العصور العربية القديمة والحديثة في آن معاً.
وهنا أودّ أن أسرد حادثة شخصية تماماً جرت لي.. قبل سنوات، فقد زارتني في علمي إحدى المستشرقات الأجنبيات المهتمات بالأدب العربي. قالت لي: أبحث منذ سنتين عن نصوص قصصية متميزة من أجل ترجمتها إلى اللغة الفرنسية. قلت: أهلاً وسهلاً، سأعطيك بعض قصصي المطبوعة في كتب. قالت: قبل أن تعطيني الكتب أودّ أن أعرف الموضوعات التي تكتب فيها؛ ما القضايا التي تطرحها؟! وما الذي يؤرقك ويهمّك ككاتب؟! قلت: أنا من الكتّاب الذين لا يعرفون الكتابة إلا في موضوعات حساسة، أي موضوعات تهمُّ شرائح اجتماعية كبيرة. قالت: مثل ماذا؟! قلت: أحد موضوعاتي التي توجع قلبي، وتقضُّ مضجعي زرع الكيان الصهيوني في الوطن الفلسطيني، والظلم الفادح الذي تعرض له الفلسطينيون والعرب معاً طوال مائة سنة ماضية. قالت: هذا موضوع غير جذاب، لا يهمُّ القارئ الفرنسي. عن ماذا تكتب أيضاً؟! قلت: أكتبُ عن تخوفي الشديد من اندياح حمَّى الاستهلاكية وتسليع الكائنات، وتراجع القيم النفيسية أمام الأغراض الخسيسة.
قالت: هذا الموضوع تعرفه أوربا كلّها بعدما أشبع طرقاً حتى تلاشى!..
قلتُ: أنا فزع أيضاً من أقفاص الاسمنت التي التهمت الطبيعة، وأطفأت ألق العفوية والبكورة، وجعلت الصباحات كالمساءات انعتاماً. قالت متبرمة: وهذا الموضوع لا يهمّنا أيضاً. قلتُ: غياب روح الحب وطيوفِهِ، وفيوَضُ المشاعر وهيفُها... أمران يشغلان بالي لإيماني بأن المحبة، هي وراء كل حضارة ذات سمو، وعمران ذي ديمومة. كما أنني شديد التأثر بالنتائج المدمرة لحالات الفقد والوحدة، وانقطاع الصلة مع الناس. قالت: وغير هذا..؟! قلتُ: هناك المرأة ودورها الحيوي في الحياة، والصيغ الجديدة لإعادة كتابة تاريخنا ونضالنا ضد المستعمرين على اختلاف أزمانهم، وتوجهاتهم. قالت: وماذا أيضاً؟! قلت: أبني آمالاً على دور الحوار العقلاني بين الحضارات والشعوب لقناعتي بأن لكلَّ أمة تراثَها وخصوصيتَها وموقعَها على خريطة العالم. قالت: وماذا أيضاً؟! قلتُ: لابدَّ للمرء من أن يتخوَّف من زمن الشيخوخة، والبطالة وآثارها، واللهاث المرعب وراء المال! قالت: توقعت أن أسمع منك كلاماً جديداً مختلفاً، لكنك تتحدث عن موضوعات وهموم... إما هي لا تعنينا مثل حربكم مع الآخرين، وإما هي موضوعات معروفة لدينا... والحديث عنها صار مكروراً ومملاً. قلتُ: وعن ماذا تريدين أن نتحدث. هذه هي مواجعنا، وهذه هي تحذيراتنا ومخاوفنا، وهذه هي آمالنا وتطلعاتنا؟! قالت: لكي تصبح كاتباً قابلاً للترجمة ومقروءاً في بلادنا نريدك أن تتحدث عن موضوعات نحن نريد لأهلها أن يخوضوا فيها. قلتُ: مثل ماذا؟! قالت: أن تتحدث عن الأديان، واختلاف المذاهب، وتضاد الراهن مع الأديان؛ وأن تتحدث عن تعدد الزوجات والآثار التي يتركها في المجتمع؛ وأن تتخلص من عقدة الكيان الصهيوني، وأن تظهر إنسانيتك تجاه المعايشة المشتركة، وقبول هذا الكيان بينكم جغرافياً، واجتماعياً وتاريخياً [هممتُ لنفسي إنها تمحوني]... وأن تتحرر من عبء الموضوع الوطني والقومي، فمفهوم الوطن والقومية يلغي مفهوم العولمة؛ وأن تحذو في كتابتك حذو(ألف ليلة وليلة)، أي أن تقدم لنا الشرق الساحر بنسائه، وفحولة رجاله، ومغامرات العشاق، والحروب التي نشبت لديكم بسبب (ناقة)، أو بسبب فرس سبقت أخرى...
هذه موضوعات شديدة الطرافة بالنسبة إلينا، وهي ما نبحث عنه في قصص الشرق عموماًِ. قلت: هذا يعني أن لديكم قائمة فيها نقاط متفق عليها حول ما يجب توافره في النص الأدبي العربي! قالت: نعم، وهذا من حقنا، لأن المادة ستقدم لقارئنا، ونحن نعرف ذوقه ومتطلباته. قلت: لكننا نكتب عن موضوعات مشتركة بيننا وبينكم مثل (الوحدة والفقد)، و(عوالم الشيخوخة)، و(مشكلات الأسرة)، و(قضايا البيئة)... قالت مقاطعة بحدة: لا نريد موضوعات من هذا القبيل لأنها معروفة جيداً لدينا. قلتُ: لكن دفاعنا عن حقنا في فلسطين أمر آخر، ومن واجب كلّ أحرار العالم أن يتضامنوا معنا من أجل نصرة الفلسطينيين المشردين في المنافي. قالت: أرجوك هذا أمر خاص وليس أمراً عالمياً. قلتُ: لكأنكم تريدون كتابات حسب الطلب! قالت: نريد الموضوعات التي نرغب بها!! وطال الحوار... الذي كان خلاصته أن بعض الغربيين يستكثرون علينا مشاركتهم في بعض الموضوعات والشواغل والتطلعات... وكأنها حكر عليهم، وهم يريدون أن نكتب في موضوعات هم اختاروها لا نحن، كي لا تتغير صورتُنا في مراياهم، الصورةُ التي صنعها مستشرقوهم الذين شوّهوا وسوّدوا الكثير من صفحات تراثنا الأصيل المشرق، والذين وصفونا بصفات لا تليق بنا، هم ابتدعوها، وهم روّجوا لها... فقرّت في أذهانهم وكأنها حقيقتُنا الأبديةُ؛ وهم يقولون عن همومنا الوطنية بأنها هموم داخلية، وهم يبحثون عن هموم خارجية. بالمختصر هم يريدون منا أن نحطّب أدياننا بأيدينا، وأن نتعلم إدارة الظهر للأوطان والقيم السامية، وأن نلحق بهم كالعميان، وأن نجلس ـ كلما فرغنا من تنفيذ أمر لهم ـ بانتظار أوامرهم الجديدة!
إذن، هي ذي حال الحياة الثقافية العربية في أكثر مشاهدها وظهورها، وهي حال لا تسرّ أبداً، لذلك لابدّ من سد الثغرات، وتجاوز الفجوات، وإيجاد الأدواء المناسبة لكل أمراضها التي راح بعضها يستفحل بشراسة. ولعل من أهم الخطوات الواجب اتخاذها في أية استراتيجية عربية ثقافية.. يتمثل في إعلاء شأن الكاتب، والفنان، والمفكر، والشاعر.. الخ الذي استوت تجربته فاستوفت أدواتها، ووضحت رؤيته وتوجهاته. وحمايته من كل آذى، أو شرور دنيوية، وضمان مستقبلة، وكفل عيشه، وحريته، ومنحه تعزيزاً خاصاً في المجتمع.. تماماً كما كان يحدث في القبيلة العربية، في سالف الأزمان، حيث كانت تقام الأفراح لمولد شاعر فيها؛ أي أن توجد له حضوراً في وسائل الإعلام المكتوبة والمقروءة والمسموعة والمرئية. وأن نبعده عن كل معوق يحول دون ظهور كتاباته وأفكاره، وأن نجعله مثالاً يسعى إلى محاكاته من يتحسسون في أنفسهم الموهبة والمقدرة في الكتابة والإبداع معاً.
وأن نذلل العقبات أمام نشر الكتاب وطباعته وتوزيعه والترويج له بعيداً عن هوس المذهبيات وحمّى الأحزاب، وأن نؤيده بالأسباب التي تكفل له التقدير والاحترام، ولعل في طالع في هذه الأسباب أن نسهم بشكل فعال في محو أمية الناس، أو الحد من توالدها، وأن نربي الذوق الاجتماعي العالم على صداقة الكتاب في المرافق العامة جميعاً، وفي البيوت، والمدارس بحيث لا تصير المراكز الثقافية، أو المكتبات المدرسية و البيتية (إن وجدت) مجرد ديكور ليس إلا. وأن تتطور فعالية القراءة لتصير جزءاً أساسياً من السلوك البشري. وأن يتم رفع الرقابة عن الكتاب والكاتب معاً لأن معظم البلاد العربية بلغت سن الرشد في هذا المجال، فالخوف الثقافي مجرد فيروس لا وجود له أساساً، والنفخ فيه نفخ في المجهول. فالكتاب الرديء سينفض عنه الناس حتى ولو كان مسيّجاً بكل الحيل الكتابية.. مثله في ذلك مثل الطعام الفاسد المغطى بأحسن التوابل وأفخرها نكهة! وقد علمتنا التجارب مع الكتب الممنوعة، أنها صارت أكثر انتشاراً من الكتب التي سمح بطباعتها وتداولها، وأنها ذاعت وانتشرت لمجرد التهويل والتخويف مما حملته من مضامين.
وأنه لابد من محو بعض الأغلاط التي قرّتها بعض الذهنيات العربية والتي منها أن الثقافة خاصية النخبة والمتعلمين تعليماً عالياً، وأنها حكر على الأغنياء الذين يجري في عروقهم الدم الأزرق. وهذا المحو لن يتم إلا بتوسيع رقعة الثقافة بحيث تصير مساوية في حجمها حجم المجتمع بكامله، فتغطي جميع الفئات العمرية، وجميع الشرائح الاجتماعية ليس بحثاً عن علة المساواتية بين الناس كما يحدث في بعض المجتمعات الاشتراكية، وإنما كتجسيد لمبدأ أساسي فحواه أن الثقافة حق لكل إنسان.
ولكي تتعزز المشاركة في الحياة الثقافية لابدَّ من ربط الاستراتيجيات الثقافية بالواقع أولاً، وبالعالم ثانياً كي لا تصير ثقافتنا العربية تدور في كوكب، وثقافة العالم في كوكب آخر، وجعل الأفكار تمشي على أقدامها في الأرياف والمدن، كي لا تظل شأناً خرافياً. فالأرياف التي تخترمها الأمية لابدَّ من نهوضها، وإزاحة ثوب الجهل و العماء عنها، وفي المدن لابدّ من عقلنة السلوك البشري الذاهب طحناً في حمّى المادية والاستهلاكية. ولن يتم ذلك إلا بأنسنة السلوك الإنساني وحقنه بالمضادات الحيوية ليعود الإنسان إلى صورته الأولى في التفكير، والتعلم، والتأمل.. وما من مضاد حيوي فعال لهذه الحالة الاستهلاكية سوى الكتاب.
إن مستلزمات الثقافة كثيرة وعديدة، لعل في رأسها حماية القيم النبيلة واستدامة وجودها في المجتمع، فلا ثقافة حقيقية في مجتمع لا يكفل الحرية لأبنائه، ولا ثقافة من دون شيوع مناخات الديموقراطية، ولا ثقافة من دون احترام الفكر والإبداع ومنتجيهما. ولا ثقافة من دون صوصية وتميّز وطموح من أجل المضايفة و المراكمة الأصيلتين.



#ساسي_سفيان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الـتـنـمـيــة الـثـقـافـيــة والـمـسـتـقـبــل


المزيد.....




- مسؤول: أوكرانيا تشن هجمات ليلية بطائرات دون طيار على مصفاة ن ...
- -منزل المجيء الثاني للمسيح- ألوانه زاهية ومشرقة بحسب -النبي ...
- عارضة الأزياء جيزيل بوندشين تنهار بالبكاء أثناء توقيف ضابط ش ...
- بلدة يابانية تضع حاجزا أمام السياح الراغبين بالتقاط السيلفي ...
- ما هو صوت -الزنّانة- الذي لا يُفارق سماء غزة، وما علاقته بال ...
- شاهد: فيديو يُظهر توجيه طائرات هجومية روسية بمساعدة مراقبين ...
- بلومبرغ: المملكة العربية السعودية تستعد لعقد اجتماع لمناقشة ...
- اللجنة الأولمبية تؤكد مشاركة رياضيين فلسطينيين في الأولمبياد ...
- إيران تنوي الإفراج عن طاقم سفينة تحتجزها مرتبطة بإسرائيل
- فك لغز -لعنة- الفرعون توت عنخ آمون


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - ساسي سفيان - الـساحة الـثقــــافية العربيــــــــة