أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فارس كمال نظمي - سيكولوجيا الفوضى المرورية في المدينة العراقية















المزيد.....

سيكولوجيا الفوضى المرورية في المدينة العراقية


فارس كمال نظمي
(Faris Kamal Nadhmi)


الحوار المتمدن-العدد: 993 - 2004 / 10 / 21 - 09:17
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


عـُرف عن العراقيين شغفهم المميز بشوارع مدنهم وأزقتها،لما تضمه من رموز وطنية وثقافية،ومن أسواق ومقاه ومطاعم وحانات،حتى أصبحت سيكولوجيا ((المكان)) واحدة من مرجعيات المختص في العلوم الاجتماعية عند محاولته دراسة شخصية العراقي في إطارها المعرفي والعاطفي والسلوكي.كما عـُرف عن العراقيين حرصهم على إدامة هذه الأمكنة والعناية بها،بوصفها فسحاً جمالية يمارسون فيها تفريغاً انفعالياً مشروعاً،ما دامت أمكنتهم الخاصة (أي بيوتهم) تحجر على الكثير من أفكارهم ورغباتهم وعواطفهم وأحلامهم.لكن هذه الشوارع والأزقة ومنذ أكثر من ربع قرن،بدأت ترتبط تدريجياً لديهم بالاعتقالات السياسية ومآسي الحروب والرعب من السلطة التي بثت عيونها في كل بقعة كانت تشكل جزءً عزيزاً من ذاكرة المكان لدى هذا المجتمع،حتى تحولت سيكولوجية الانتماء للشارع والزقاق إلى حالة من الاغتراب والتوجس والنفور من كل شيء يقع خارج بوابة الدار الذي يسكنه الفرد.وحينما شعر العراقيون في لحظة انتهاء الحرب الأخيرة أن عصراً جديداً بانتظارهم،وأن بمقدورهم العودة من جديد إلى شوارعهم/ ذواتهم لاحيائها واستعادة نكهتها وتجديدها،فما الذي حدث؟
ها قد مر عام ونصف على انتهاء تلك اللحظة الفاصلة بين عصرين،والعراقيون لم يعثروا بعد (في ظل غياب سلطة القانون) على طريقة ينظمون بها تلقائياً فوضاهم المرورية في شوارع مدنهم المرويـّة بـ((الدم والشمس والحزن)) كما يقول (مظفر النواب). ونقصد بالفوضى المرورية: العشوائية واللانظام واللاأعراف واللاقانون،التي صار يتميز بها سلوك أغلب شاغلي الطرقات العامة في مدننا العراقية،من سواق مركبات عامة أو خاصة،ومن عربات يجرها البشر أو الحيوانات،ومن مارة راجلين على أقدامهم،ومن باعة متجولين يفترشون معظم المساحات المخصصة للمركبات،مما أدى إلى إعاقة تامة أو شبه تامة لحركة المرور الطبيعية. ثمة رؤى متـنوعة في مستوياتها التحليلية،يمكن الاستعانة بها لتحديد أسباب هذه الفوضى وأبعادها الحضارية والاجتماعية.فالبعض يرى أنها ((فوضى حتمية،كان لا بد منها بعد عقود من الحروب والمجاعات وإشاعة اللاعقلانية واللامعيارية في كافة نواحي الحياة)).والبعض يجادل بأنها ((فوضى مفهومة ومبررة في ظل الاحتلال وتآكل مؤسسات الدولة وغياب سلطة القانون)).ورأي آخر أكثر شكوكية يقول: ((إنها خطة أمريكية لتقطيع أوصال المدن،وإغراق سكانها بالفوضى،وقتل التواصل النفسي بين الإنسان والإنسان،وتشويه ذكريات العراقيين الجميلة عن رموزهم المكانية والحضارية،وصولاً إلي تعطيل فعلهم الجمعي التقدمي نحو تحديات الحياة الجديدة)).
لكلٍ من هذه الرؤى منطقه الخاص ومرجعيته في التحليل والتشخيص والتفسير،مما يصعب رفض أي رؤية منها أو تفضيلها على غيرها،ذلك أن ظاهرة الفوضى المرورية في العراق تجاوزت حدود التصديق في غرائبيتها وتعقيدها ولا عقلانيتها،مما يحتم عدم تبسيطها أو اختزالها أو ردها إلى عامل واحد منفرد،بل ينبغي تحليلها في موشور التجريد للكشف عن صلتها الجدلية ببضعة عوامل أساسية،تتمايز عن بعضها وتكمّل بعضها البعض في آن معاً،هي:
1. عامل سياسي: يتمثل بالاحتلال الأمريكي للعراق وما رافقه من سقوط النظام السياسي السابق،الذي ترك وراءه فراغاً أمنياً وقانونياً ومؤسساتياً هائلاً،جعل الفرد العراقي عاجزاً عن تطبيق روح القوانين ومضامينها طواعية،ما دام شكلها المتمثل بالرقابة القاسية المباشرة لرجل الأمن بات غائباً.
2. عامل اقتصادي: يتحدد بتدفق حوالي (650– 750) ألف سيارة مستعملة خلال أقل من عام،إلى شوارع المدن العراقية المحدودة الاستيعاب من دول مجاورة،تعبيراً عن فلسفة اقتصاد السوق وعولمة رأس المال وزوال الحواجز الجمركية،وإنقاذاً لبعض مصانع السيارات الموشكة على الإفلاس في الغرب،وامتصاصاً لملايين الدولارات التي اقتطعها الرعاع من لحم دولتهم العراقية في خضم أعمال السلب والنهب لحظة انهيار النظام السياسي السابق وإيداعها في أرصدةٍ وراء الحدود متخمة بدماء الفقراء،وإحياءاً لنزعة استهلاكية وسواسية ضمرت لدى العراقيين بعض الشيء بفعل سنوات طويلة من الحصار الاقتصادي.
3. عامل عمراني – بـيـئي: يتضح بغياب التخطيط خلال الحقبة السياسية السابقة والحالية لأي شكل من أشكال التنسيق بين النمو السكاني وما يتصل به من الحاجة المتزايدة لوسائل النقل،وبين معمارية المدن وما يتصل بها من تصميم سعة الشوارع وتنفيذ مشاريع الأنفاق والجسور والمترو،وبين الالتزام بمعايير المحافظة على البيئة من التلوث المناخي الذي يسببه تزايد أعداد السيارات.فكان التدفق المفاجيء لهذا الكم الهائل من السيارات خلال مدة زمنية قصيرة،بمثابة إعصار أجهز على ما تبقى من البيئة الحضرية العراقية المخربة أصلاً.
4. عامل نفسي اجتماعي: يتمثل في النظر إلى هذه الفوضى المرورية بوصفها:
أ) نتاجاً لعدد من ((الخصائص النفسية)) المستحكمة في شخصية الفرد العراقي،بمعنى إنها مسطرة نفسية يمكن أن يقاس عليها مقدار ما يمتلكه هذا الفرد أو ما يفتقده من تسامح،وإيثار،وتفكير عقلاني،وروح مواطنة،وشعور بالمسؤولية الاجتماعية،واحترام للقانون،ووعي بالمصلحة العامة؛
ب) و/أو.. كونها شكلاً من أشكال ((السلوك الجمعي)) المتصل بسيكولوجية الحشود المنفعلة والهائجة.
إن تفسيراً شاملاً لهذه الظاهرة يتطلب صهراً للعوامل الأربعة السابقة الذكر في سبيكة فكرية واحدة تمتزج فيها مستويات التحليل في إطار تحليلي متماسك.وهو أمر يقع خارج متطلبات هذه السطور وحدودها،مما يستدعي منا التركيز على العامل النفسي الاجتماعي بوصفه ميدان تخصصنا،دون إهمال ذكر العوامل الثلاثة الأخرى عند الضرورة. وسنجعل مبضع التشريح النفسي يغور مرتين في جسد هذه الفوضى السلوكية ليكشف لنا في كل مرة عن نسيج من أنسجتها.

* سيكولوجية إذا لم تكن ذئباً
(أو النسيج الفردي للفوضى)
أشار الدكتور (علي الوردي) في كتابه ((دراسة في طبيعة المجتمع العراقي)) إلى أن ((طابع التغالب)) هو أحد خصائص الشخصية العراقية،ضمن تحليله لصراع البداوة والحضارة في هذه الشخصية.ولسنا في إطار التبني لهذه النظرة السوسيولوجية،إلا أن الملاحظة العلمية الدقيقة لما يجري في شوارعنا اليوم يجعلنا لا نستطيع أن نتجاهل نفاذ بصيرة أستاذنا الوردي.فعندما ينهمك كل سائق تقريباً في التقاطعات المرورية الملتحمة بالسيارات،بمحاولة التقدم ولو لشبر واحد إضافي داخل الحشد،مستخدماً كل مهاراته العدوانية في السياقة (لفظاً وسلوكاً)،حتى لو أدى ذلك إلى انغلاق السير لساعاتٍ بوجهه أو بوجه غيره من السواق،ودون أدنى مراعاة لامكانية التريث لثواني أو لدقائق لفسح المجال لباقي المركبات في الاتجاهات الأخرى للمرور تباعاً بما يحقق انسيابية السير للجميع،ففي الغالب إننا أمام حالة متقدمة من سيكولوجية ((إذا لم تكن ذئباً أكلتك الثعالب))،المصنفة بوصفها واحدة من أهم بنود شريعة الغاب. ومع ذلك ،يجدر بنا التريث قبل المصادقة على هذا الحكم النفسي الصارم على الفرد العراقي،إذ ينبغي أن نجيب أولاً عن هذا السؤال: ((هل تعـزى نزعة التغالب هذه لدى السائق العراقي إلى دافع أناني ذي صبغة انفعالية مضمونها الفظاظة والعدوانية وعدم الصبر،أم تعـزى إلى جهله بنوايا السواق الآخرين المحاذين له في الشارع؟)).
تشير التنظيرات الحديثة في علم النفس الاجتماعي إلى وجود خاصية نفسية واسعة الانتشار وذات اثر حاسم في تحديد بعض مظاهر السلوك الاجتماعي،هي ما يطلق عليه بـ((الجهل بتعددية آراء الآخرين))،أي جهل الفرد بالاتجاهات الحقيقية للناس حوله نحو موضوعات اجتماعية لها أهمية قصوى مشتركة.فالنتائج الانتخابية الساحقة التي يحققها الرؤساء في الأنظمة الاستبدادية مثلاً،لا تعزى جميعها إلى ((خوف)) الناخب ورعبه من إبداء المعارضة فحسب،بل أيضاً إلى اعتقاده (بسبب التزييف الإعلامي وعمليات غسل الدماغ الجمعية) بأن معظم الناخبين الآخرين لهم رأي مؤيد للرئيس المرشح،ولذلك لا جدوى من امتلاكه رأياً مخالفاً ما دامت الأغلبية الساحقة ترى عكس ذلك،وأن عليه أن ينصاع لهم حفاظاً على سلامته أولاً من عقاب السلطة،ولأن إيمانه بوجهة نظره الخاصة اضمحل وبهت إلى حد كبير ثانياً.ولو افترضنا أن غالبية الناس في هذه المجتمعات يمرون بهذه التجربة النفسية الخادعة في مواقفهم من السلطة،لأصبح مفهوماً ومفسَّراً واحد من أهم أسباب إذعانهم السلبي لأوضاع تقع على الضد تماماً من اتجاهاتهم الحقيقية.وقد ينطبق هذا المفهوم إلى حد كبير على السلوك الفوضوي للسائق العراقي أيضاً،إذ يمكن تفسير نزعة ((التغالب)) لديه،والتي قد تصل حد العنف والاعتداء،في ضوء جهله وإنكاره بأن للسواق الآخرين اتجاهاً تسامحياً نحوه،متوهماً أن جميعهم ((ذئاب)) في دوافعهم،وينبغي عليه أن ((يتغدى بهم قبل أن يتعشوا به))،حتى لو أدى ذلك إلى الإضرار بمصلحته الذاتية في الشارع (عليّ وعلى أعدائي).ومما قد يبرهن على صواب هذا التفسير،أن أي سائق مركبة عندما يُطلب منه أن يقدم اقتراحاته ونصائحه للسواق الآخرين بهدف التخفيف من الفوضى وتنظيم حركة المرور،نراه يطلب منهم التحلي بالهدوء والتسامح والتساهل والتخلي عن المصلحة الذاتية الضيقة حفاظاً على المصلحة العامة،وكأنه بذلك يقر بافتقاد الآخرين لهذه الخصائص الإيجابية،التي يعتقد انه الوحيد الحائز عليها.فعندما يعتقد كل إنسان أن الطيبة والخير والصدق والتعفف والمروءة خصائص أصبحت شبه مفقودة لدى الآخرين،وإنها لا تتوافر إلا لديه ولدى نفر قليل جداً من معارفه،فذلك إيذان له بانتهاج أي سلوك مهما كان فوضوياً أو منحرفاً،مادام الآخرون لا يتعاملون – من وجهة نظره – إلا بلغة الغاب. وهكذا،يمكن أن نعزو جزءً كبيراً من نزعة ((التغالب)) لدى السائق العراقي إلى جهله بوجود نوايا طيبة لدى السواق الآخرين،بدلاً من عزوها إلى دوافع أنانية انفعالية خالصة لديه،بدليل أن العديد من هؤلاء السواق (العدوانيين) كثيراً ما يتخلون عن أنانيتهم ويتخذون مواقف سلمية و إيثارية مع الآخرين بمجرد شعورهم أن هؤلاء الآخرين يثمنون ما لديهم من صفات التعاون والشهامة،معبّرين عن هذا التثمين بالكلام المباشر أو باستخدام إشارات الامتنان باليد أو الرأس. ومن الواضح أن انتشار نزعة الشك هذه بنوايا الآخرين،إنما تعود جذوره إلى أزمة الثقة الشاملة التي يعاني منها المجتمع العراقي.

* سيكولوجية الحشود الهائجة
(أو النسيج الجمعي للفوضى)
السلوك الجمعي Collective Behavior مصطلح يراد به توصيف العدوى السلوكية بين أفراد الجماعة الواحدة،أي تماثلهم في الانفعالات والأفكار والتصرفات،أو تقليدهم لنموذج معين.وغالباً ما يكون هذا السلوك محملاً بالانفعالات الغريبة والشاذة والحادة،مما يجعل من الصعب التنبؤ بمساراته،إذ تظهر لدى الأشخاص المنخرطين فيه صفات مختلفة كل الاختلاف عن صفاتهم الشخصية الاعتيادية في حالة انفرادهم بأنفسهم بعيداً عن الحشد.والسلوك الجمعي قد يبدو للوهلة الأولى غير خاضع لمعايير محددة واضحة،إلا أن البحوث النفسية الحديثة أثبتت أنه ليس تلقائيا أو مشوشاً،بل يخضع لمحددات اجتماعية وثقافية تعمل على إطلاقه.وهو يتضمن في معناه الشامل :انتشار الشائعات،والتغيرات في الرأي العام،والموضة،والتقليعات،وأعمال الشغب من نهب وسلب وحرق،وحالات الهلع أثناء الحروب والزلازل والأوبئة والحرائق،وكل أعمال القتل والعنف ذات الطابع الجمعي،وأي جمع محتشد يعتمد في استمراره على تبادل التأثيرات غير العقلانية لسلوك الأفراد المشاركين فيه.وهناك من يصنف الحركات الاجتماعية والنقابية والتجمعات السياسية والثورات على أنها شكل من أشكال السلوك الجمعي القائم على أسس فكرية واجتماعية ذات طابع عقلاني له أهدافه ومنطلقاته.
ويمثل السلوك الجمعي الشكل الأكثر تطرفاً للعلاقة بين الفرد والوضع الاجتماعي الاقتصادي المحيط به،إذ غالباً ما ينبثق أثناء الأزمات ومراحل التغيرات الاجتماعية المهمة،أو عندما تحبط دوافع الناس ورغباتهم الأساسية،أو عندما تغدو المعايير الاعتيادية للسلوك الاجتماعي غامضة وغير محددة.وقد تنوعت النظريات المفسرة لأسباب هذا السلوك،فبعضها يرى فيه انتشاراً لا شعورياً لنوع من ((العدوى)) الانفعالية،وهذا ما دعا (غوستاف لوبون)،إلى القول : ((قد يكون الإنسان الفرد مثقفاً ومتحضراً،ولكن وسط الجموع يصبح بربرياً)).أما نظرية ((التقارب))،فترى أن سلوك الجموع ينشأ من التقاء عدد من الناس ممن يتشابهون في الحاجات والأهداف والدوافع وفي ما يحبون وما يكرهون،مما يتيح لهم التنفيس عن انفعالاتهم وتوتراتهم بأسلوب لا يتاح لهم في الظروف العادية.فيما ترى نظرية ((المعايير المنبثقة)) أن السلوك الجمعي يمكن أن يكون تعبيراً عن مظالم جماعية يتعرض لها الناس لا تشنجات نفسية لأفراد مضطربين.وتذهب نظريات ((اللافردانية))Deindividuation(أي انتفاء الهوية الفردية) إلى أن الظروف المحيطة بالفرد في حالات معينة يمكن أن تمنعه من الوعي بذاته،فلا يشعر بكيانه المستقل من مشاعر وأفكار،ويتعذر عليه مراقبة سلوكه،فيندفع في سلوكيات غير عقلانية نتيجة ضعف الشعور بالهوية الفردية وغياب القدرة على التوجيه الذاتي.
ولو أردنا توظيف بعض هذه التنظيرات للتأمل في الفوضى المرورية الحالية للمدينة العراقية،بوصفها سلوكاً ذا نسيج جمعي لا فردي،لأمكننا استنتاج أمرين بشأن هذه الفوضى:
1. إنها نتاج سلوكي لحشود هائجة تتحرك كتلياً بتأثير التفريغ الانفعالي لمشاعر عدوانية مكبوتة أوجدها ((الإحباط))Frustration النفسي والاجتماعي لفرد عاش أعز سنوات عمره في ظل الحروب والحصارات (المتوسط الحسابي لعمر السائق العراقي قد لا يتجاوز سن الخمسين)،إذ لم تتوافر بعد مسارب سوية لمعالجة هذا الإحباط،بل انه يزداد يومياً ويحتقن بفعل التدهور المستمر للوضعين الاقتصادي والأمني لغالبية المجتمع العراقي.ومما يؤكد هذا الاستنتاج أن الأسابيع الأولى بعد انتهاء الحرب الأخيرة،شهدت مظاهر إيجابية نسبية في حركة المرور تمثلت بمبادرات ذاتية صدرت عن بعض السواق والمارة معاً لتنظيم السير،بسبب تنامي شحنة الأمل وتراجع مشاعر الإحباط آنذاك ترقباً لحياة جديدة كريمة،وهي آمال سرعان ما احترقت بنار الأزمات اللاحقة المتتالية.
2. و/أو … إنها نتاج لازدواج المعايير في الشخصية العراقية،مما أدى إلى حالة من ((اللافردانية)) صار يعيشها السائق العراقي في شوارع مدينته،تجعله يترك هويته النفسية الخاصة به في بيته بكل ما تحمله من ضبط ذاتي ومحددات عقلانية للسلوك،ويخرج إلى المدينة مستغرقاً في حشودها الفاقدة لمشاعر المسؤولية والاهتمام بالمصلحة العامة.فقد يكون هذا السائق أباً صارماً في بيته،يطبق أدق معايير الالتزام والانضباط مع أفراد أسرته،لكنه سرعان ما يصبح شخصاً منفلتاً وعشوائياً في سلوكه بمجرد أن يتوغل بسيارته في زحام المدينة.ولعل السبب وراء هذه الازدواجية ،هو تلك الفجوة القيمية التي جرى تعميقها خلال الحقبة السابقة بين الحياة الخاصة والحياة العامة للفرد العراقي.فقد تعلم هذا الفرد الطاعة العمياء الممزوجة بالخوف،لكل ما يصدر عن السلطة السياسية والاجتماعية،حتى أصبح سلوكه في الحياة العامة ((مشروطاً)) في معظمه بالرموز العقابية خارج الذات،لا بالاقتناع الضميري داخلها.وعندما غابت هذه الرموز العقابية بعد احتلال بغداد في نيسان 2003م،واضمحلال سطوة المؤسسة الأمنية إلى حد بعيد،اتضح أن الضمير الجمعي العقلاني بات في حالة سبات في الأماكن العامة،ابتداءً من جرائم السلب والنهب والحرق لمؤسسات الدولة والمجتمع،وانتهاءً بالفوضى المرورية الغامرة.وهكذا فأن الحشود التي دأبت على تنظيم سلوكها جمعياً بتأثير إشارة ((عقابية)) من إصبع الشرطي،وجدت نفسها فجأة بلا إشارة وبلا شرطي أصلاً.فأصبح المنظم الداخلي لسلوك الفرد العراقي بلا رقيب ولا سلطة خارجية بعد إدمانه عليهما،فاكتفى بالانسحاب إلى داخل إطار حياته بين أسرته ومعارفه بوصفها الحيز الوحيد لممارسة شيء من الضبط الذاتي القائم على عقلانية السلوك ومعياريته،فاقداً القدرة على تحقيق الاتساق والاستمرارية والتوحيد بين سلوكه ضمن حياته الأسرية والاجتماعية الخاصة وبين سلوكه ضمن الحشود العامة.

ما الحل؟
سواء تبنينا النسيج الفردي أو النسيج الجمعي في تشريح فوضانا المرورية،أي سواء قلنا أن سبب هذه الفوضى هو التباس يبديه سائق المركبة في إدراكه لاتجاهات السواق الآخرين ودوافعهم نتيجة شكه بسلامة مقاصدهم ونواياهم،أو قلنا هو سلوك ذو طبيعة حشدية هياجية نتيجة غياب الرقيب الخارجي (أي السلطة) وتهميش الرقيب الداخلي (أي الضمير)، ففي كلتا الحالتين يمكن الـتأشير أن ظاهرة الفوضى المرورية في المدينة العراقية لم تنتجها أحداث ومتغيرات آنية فحسب، بل أنتجتها بالأساس الحروب،والأزمات الاقتصادية الطاحنة،و إحلال سياسة أقصى القوة بدل منطق الإقناع التربوي،وتغييب النهج العلمي في تسيير شؤون البلاد،منذ أن استولت العقلية العسكريتارية العقابية على مقاليد الحكم في العراق منذ ما يقارب نصف قرن وحتى اليوم.ولذلك ليس من المتوقع أن يعثر قريباً شاغلو شوارعنا من سواق ومارة على أسلوب طوعي لتنظيم واقعهم المروري وفق أسس المصلحة العامة المشتركة،بل لا بد من إعادة فرض قوانين المرور بأبعادها الثوابية والعقابية معاً على أسس تربوية وإنسانية،بالتوازي مع عملية إعادة بناء ثقة الفرد بمؤسساته وبني مجتمعه. وهي عملية يبدو أن التوجه الحالي في إدارة شؤون البلاد،ما يزال مصراً على تجاهلها،بل وحتى تكريس نقائضها في حالات كثيرة.وهذا يعني أن هذه النزعة الفوضوية سواء كانت قائمة على سيكولوجية (إذا لم تكن ذئباً)،أو على سيكولوجية (الحشود الهائجة)،ستظل خاصية (كامنة أو ظاهرة) في الشخصية العراقية،ما لم يتم إعادة تجسير الثقة بين مختلف إحداثيات هذا المجتمع،مع التوكيد على أن يبدأ هذا التجسير أولاً ضمن إطار علاقة الحاكم بالرعية،ذلك أن نوع ((الأنموذج))Model الذي تطرح السلطة شخصيتها من خلاله،يسهل تعميمه واكتساب خصائصه من فئات مجتمعية كثيرة،مما يؤثر مباشرة في تقوية أواصر النسيج الاجتماعي أو إضعافه على حد سواء، تبعاً لنوع الرؤية الأخلاقية التي يبشر بها ذلك الأنموذج.



#فارس_كمال_نظمي (هاشتاغ)       Faris_Kamal_Nadhmi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التحليل النفسي لشخصية العسكري الأمريكي في العراق


المزيد.....




- كوريا الشمالية تدين تزويد أوكرانيا بصواريخ ATACMS الأمريكية ...
- عالم آثار شهير يكشف ألاعيب إسرائيل لسرقة تاريخ الحضارة المصر ...
- البرلمان الليبي يكشف عن جاهزيته لإجراء انتخابات رئاسية قبل ن ...
- -القيادة المركزية- تعلن إسقاط 5 مسيرات فوق البحر الأحمر
- البهاق يحول كلبة من اللون الأسود إلى الأبيض
- آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /29.04.2024/ ...
- هل تنجح جامعات الضفة في تعويض طلاب غزة عن بُعد؟
- بريكس منصة لتشكيل عالم متعدد الأقطاب
- رئيس الأركان الأوكراني يقر بأن الوضع على الجبهة -تدهور- مع ت ...
- ?? مباشر: وفد حركة حماس يزور القاهرة الاثنين لمحادثات -وقف ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فارس كمال نظمي - سيكولوجيا الفوضى المرورية في المدينة العراقية