حمزة رستناوي
الحوار المتمدن-العدد: 986 - 2004 / 10 / 14 - 08:08
المحور:
الادب والفن
ترى ما القاسم المشترك بين هذه الجمل " عناوين القصائد"وحيداً من الميتين – لمن أصلي ؟! – حفنة غبار لعام مضى – مراثي الديار – كنا كما الأنبياء .
إنه الخيبة و انسداد الأفق و الاغتراب الداخلي , و ربما الحنين إلى زمن مضى , إن القاسم المشترك بين عناوين قصائد الشاعر عباس حيروقة هي نفسها القواسم المشتركة بين عناوين قصائد و مجموعات شعرية للشعراء السورين في الربع الأخير من القرن العشرين و بداية هذا القرن , إنه انعكاس العام على الخاص في حركة تفرض نفسها , و تجثم في عقر شعورنا و تصدمنا بأعز ما نملك من جمال و خير و حقيقة و آدمية .
في هذه القراءة سأنتقي المختلف من قصائد الشاعر السابقة , و هي القصيدة الأخيرة المعنونة بـ " رباعيات للنبض " و أهمية هذه القصيدة كونها تقدم المختلف عند الشاعر أي الجانب أو الوجه الآخر الذي يحافظ فيه على التوازن الداخلي , باعتبار الأنثى هي الملاذ الأخير للذات الشاعرة الذكورية , و العكس صحيح.
قصيدة " رباعيات للنبض " هي قصيدة طويلة مؤلفة من أربعة مقاطع هي على التتالي " كلي رياح "أ" – كل هذا ..... و أكثر " ب " – حنين " ج " – لك ما مضى " د " . و القصيدة مقدمة بإهداء : لكِ وحدكِ .
إن هذا الإهداء يمكن النظر إليه من زاويتين مختلفتين ,
الأولى : أن المخاطبة هي أنثى تعرف نفسها , و يعرفها الشاعر , و لكنه لا يصرح باسمها , مما يحيلنا إلى أجواء تلتقي ذات طابع عام , تنطبق على كل رجل و امرأة , على كل شاعر و حبيبة , أو شاعرة و حبيبها , و هذه ميْزه .
أما الزاوية الثانية للقضية فهي كونه اهداء تقليدي و دارج , و المسكوت عنه هو عدم التعين , و هذا يتوافق مع مساحة الحرية التي يتيحها الشاعر لنفسه ضمن الإطار الاجتماعي , حيث نجد نماذج عديدة يعين الشعراء فيها أنثى محدده موضوعاً للإهداء سواء كانت هذه الأنثى زوجة , أو عشيقة واقعية , أو افتراضية , ابتدءاً من إقبال السياب , و عائشة البياتي , و بلقيس قباني , و انتهاءاً بشعراء سورين معاصرين كزينب منير خلف , و جوليت أديب حسن محمد , و عفاف محمد سعيد حماده , و كل نساء الأرض عند محمد خير داغستاني ......
إن قصيدة حيروقة "رباعيات للنبض " تتألف من أربعة مقاطع مرقمة أبجدياً , و سأعمد الآن إلى تفكيك هذا العنوان , إن رباعيات حيروقة هي رباعيات تراكم عددي , و لم أستطع تميز فروق واضحة سواء على مستوى الشكل أو مستو المضمون بين هذه المقاطع المستقلة على المستوى الشكلي , فقصيدة " رباعيات للنبض " قصيدة متدفقة ذات انسياب شعري عفوي لا يحتمل التقطيع , و كلمة " للنبض " تخبرنا أن للروح أسبقيتها , و أنها وليدة الأعماق , و في عالم الروح و اللحظة الشعرية من المتعذر وضع قواسم و مقاطع ، فكلمة " رباعيات " مستوحاة من القاموس الموسيقي , حيث يقوم تآلف جميل بين أربعة أصوات موسيقية , و لكن عند إضافتها إلى النص اللغوي النابض نحصل على تألف هارموني ذو بعد جواني, و هذا ما نجح به الشاعر حيروقة , حيث نقرا القصيدة كتيار متدفق من دون حواجز .
إن البؤرة المركزية في هذه القصيدة هو الجسد الأنثوي أولاً و من ثم الجسد الذكري التابع ضمن فضاء شبقي عشقي إيروسي صوفي تذكاري , حيث ينظر الشاعر إلى الجنس على أنه طقس شعائري مقدس , يتم من خلاله و لوج الحقيقة و الوصول إلى عالم العرفان .
"من أقاصي الحزن / و نحو الضوء جاء الله بي / ففرّت كل عصافيري / إلى السطح / و كلي فراش حزين / إليك اتجهت " ص 88
و كما ذكرت يبدو الجنس طقساً شعائرياً متميزاً في القصيدة .
و يمكن تلمس ذلك من خلال الأمثلة التالية :
" و بين يديكِ تقوم صلاتي لتعصف / و تترك كل الحقول على زندك / على خصرك / على .../ كما تشتهين " ص 89
" فا كتبيني تعويذة / أو قلادة في مجاريه / و اتركيني أكفر بالقباب و أقدس القباب / أطوف .....و أسعى " ص 96
" أنت .... صلاة يرتلها ناسك في آخر الليل " ص 99
حيث يكثر الشاعر من استخدام كلمات مثل " صلاة – تعويذة – أقدس القباب – أطوف – أسعى – ناسك " .
كما يبدو الجنس أشبه بمعركة يخوضها الجسد , ينتصر فيها دائماً الشاعر على جسد حبيبته و قلما ينهزم , و إن النظر إلى الجنس على أنه معركة , أي أنه انتصار يستحق المديح , أو هزيمة يذمها المجتمع , هزيمة لا تليق بالشاعر الفحل .
هذه النظرة ذات جذور ثقافية تراثية و شعبية جسّدها مظفر النواب في شعره إلى حد بعيد في قصيدته " وتريات ليليه "
أما حيروقة فقد تناول الموضوع ضمن السياق السابق , و لكنه أضاف الكثير من الناحية الفنية , لنتأمل هذه الصورة " أمتشق النهد " ص 93
" أعلن السرير راية / ندخله ..... تندفقين نحوي كتائهة عن غرير " ص 92
بالإضافة إلى الشعائرية يضفي حيروقة على الجنس بعداً صوفياً , باعتباره تصعيداً أسمي للغريزة البشرية. و دعوة مستمرة للتعرف على الذات في صيغة الآخر المتسامي
" فوق نهد مازال / يسمو نحو الله " ص 109
وإذا كان الحب عند ابن عربي جوهر واحد , و أشكال عديدة , حيث تعدو أماكن العبادة من مساجد و كنائس و معابد بمثابة أشكال لمعنى واحد فيقول :
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعى لغزلانٍ و دير لرهبان
وبيت لأوثـــان و كــعبة طائف و ألواح توراة و مصحف قرآن
أدين بدين الحب أنّى توجهت ركائبه فالحب ديني و إيماني
فإن حيروقة يعيدنا جزئياً إلى هذا المناخ حيث يغدو الجسد بمثابة الجوهر , و يغدو النهد جوهر الجوهر في لحظة الخلق
" و حول النهد ...... بكل الماء هذا الماء / أشكال الكنائس و المآذن و الهياكل / و الأديرة "
ص 110
فالنهد في المقطع السابق مركز الكون و بدء الخليقة و روح الحياة , و بقية المخلوقات ليست إلا توابع من حوله تدور . دوران الأجرام حول الشمس , إن كلمة " نهد " قاموسياً هي المرتفع من الأرض , و استخدام حيروقة لكلمة " نهد " أحد أجزاء الجسد الأنثوي و ربطها بالصعود و الكشف و التسامي و الرؤيا يدخلها في قاموسه الصوفي , و قد كان موفقاً في ذلك , فحيروقة شاعر مهوس بالنهود , و ما اشتق منها , إنه بذلك يفجر ما تراكم داخلنا من جوع تاريخي للجسد دفعة واحدة , حيث تكررت مفردة " نهد " في قصيدته ثمانية مرات بشكلها الصريح و أكثر من ذلك بشكل مجازي من خلال استخدام كلمات "تكوير – قباب – حلمات – حليب "و هو بذلك ينضم إلى قافلة الشعراء النهدين في العصر الحديث ابتداء من نزار قباني و مظفر النواب وصولاً إلى ما شاء ربي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سغب الضفاف – شعر- ص 112
حلب – دار المقدسية 2003
#حمزة_رستناوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟