مهدي مبارك
الحوار المتمدن-العدد: 3294 - 2011 / 3 / 3 - 09:09
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
الشعب يريد إسقاط النظام .
الشعب أسقط النظام !
الشعب فقط ، ولا أحد يستطيع أن ينزعَ منه بريق الثورة أو نورها ، فالتاريخ قد كُتِب والأيام ستقول وتحكي أنّ اثنين هما الذيْن انتزعا النار من بين الآلهة ، من موكب الشمس .. أولهما ، برومثيوس - الإغريقي - سرقها ليضيء عقل الإنسان ، ويمدّه بالسلاح .
وها هو السلاح ، في اليد ، لقد أخضعه برومثيوس للإنسان ، ليقف به أمام الظلم والظلام .. ليقف أمام الكبت والموت ، إنه الإنسان ، امتلك ما يملكُه الآلهة .. صار نصف إله أو إلهًا كاملاً ؛ هذه جريمة برومثيوس ، أنه جَرؤ ليحرِّض الإنسان على " لا " ، ليحرضه على الوقوف ضد القوى التي انفرضت عليه .. ضد الآلهة !
ومازال برومثيوس حيًّا ، يُعاقَب ، لم يمُت ولن يموتَ .. صدر حكمُ الآلهة بربطه في حجر ، ثم أتوا بنسر يأكل قلبه فإذا انتهى نبت له قلب جديد ليأكله النسر ، وهكذا ، إلى ما لا نهاية .. فخطيئة اللص العظيم شاهدةٌ عليه : لقد جعل للإنسان كلمة ، ككلمة الآلهة !
* * *
ربما كان هذا عدلاً سماويًا ، أن يتفرّج برومثيوس ، الآن ، على شبابه الضائع بعدما أمدّ شباب " التحرير " بالسلاح لينتزعوا النار والنور ، السلاح هو الكلمة .. " لا " .. لا لظلم الآلهة ، لا للأبقار المقدّسة ، لا للأصنام الفاسدة .
إنها الكلمة ، واحدة لا تتغيّر أو تهتز : " الشعب يجلس على العرش " .
ولا بدّ أن يقول ويقول ، مادام قد فعل ما لا يخطر على البال ، إذن من حقه أن يقول ما يخطر على البال وما لا يخطر .. من حقه أن يضع الأمور كلها بين أصابعه ، مجرّد عرائس " ماريونيت " .. وهو يقول كلمته - لا - بهدوء ، فتكونُ ، هكذا تبدو الكلمة .. صرخة وسيف وثورة ، انطلقوا معًا من بطن التاريخ لأنّ عظمائه صاروا مجرمين ، صاروا مجرّد جنديًا مجهولاً .. صاروا برومثيوس !
* * *
انتهى زمنُ " المخلِّص " .. البرادعي وأيمن نور والإخوان المسلمون ، رموزُ المخلِّص الذي لا يخلِّص !
كان طبيعيًا أن تخرج فكرة " المخلِّص " من شعبٍ ، يعيش في سلة الموتى ، جرى به وجرى عليه زمن طويل .. بلا حلم ، بلا أمان ، بلا حياة .
ترجع فكرة الخلاص ، أصلاً ، إلى عشرين قرنًا قبل ميلاد المسيح ، وُلِدت لدى اليهود ، تحديدًا ، فالتوراة تقول : " لِنَسْلَكُ أَعْطِىَ هَذِه الأَرْضِ ، مِنْ نِيِلِ مِصر إلَى النَهرِ الكَبِيرِ ، نهرِ الفرَاتِ " ، هذا هو الوعد الإلهي لليهود بأرض الميعاد ، التي نبتت من جبلِ " داود " - أو جبل " صهيون " - ومكتوبٌ لها أن تمتدَ شرقًا إلى نهر الفرات وغربًا إلى نهر النيل .
وقد ظلَّ اليهود يكتمون هذا الوعد ، ينتظرون ويتصبَّرون ، حتى مجيء " الماشيح " ، الشخص المُرسَل الذي سوف يحقِّق وعد الله ، فيمتلكون الأرض لتقومَ دولة " إسرائيل " في جوٍ طاهر ، ويتساوى على أرضِها كلُ خلقِ الله .
ولأنّ اليهود تعذّبوا كثيرًا ، بدايةً من القرن الثاني قبل الميلاد ، لأسبابٍ مختلفة : نسف الرومان لعاصمة اليهود " أورشاليم " ، ثم العقاب البشع الذي أعدّه المسيحيون لليهود على مساعداتهم للفرس ، خلال القرن السابع الميلادي .. إلخ .
ولأنّ المخلِّص لم يظهرْ بعد ، استعجلوا ظهورَه ، واستعجلوا الرب ليرسله ، فلم يحدث .. فصار ظهور " الماشيح " هو القشة التي سيتعلّق بها كلُ يهودي لتسحبه بعيدًا عن الخراب والخرائب .. وحين طال العذاب ، قرّر اليهود قيامَ " إسرائيل " بلا " ماشيح " وبلا مشيئة الله ، التي تأخّرت كثيرًا بل ربما تاهت ولن تحطّ على الأرض الموعودة !
هكذا طال العذاب في مصر : نهب ، سلب ، قمع ، إهانة ، جوع ، إرهاب .. ولا مخلِّص .
ادّعى واحد ، واثنان ، وعشرة أنهم المخلِّص ، الذي رضع من لبن القهر استعدادًا للخلاص ، وكانوا إما أشخاصًا " يتمرّغون " في ترابِ نظام الحكم القديم أو أشخاصًا تعمّد النظام أن يعفِّرهم بترابه .. المهم ، أنهم فشلوا .. وقد تأخرّت مشيئة الله في الخلاصِ كثيرًا ، حتى أدرك الشعب المصري أنّ مشيئة الله هي مشيئتُه .. وأن المخلِّص المنتظَر لن يأتي ، وإن أتى فلن " يخلِّص " .. أدرك ، أخيرًا ، أن المخلِّص واحد .. واحد فقط ، هو نفسه .
وبرومثيوس ، لم يمُت .. لم يمُت !
* * *
المصريون يحكمون أنفسهم ، بعد أن أزالوا شعرات الحكم الفاسدة بل أزالوا رأس الحكم كلها ، بعدما كانت مطالبُهم أولاً عن آخر تتلخَّص في " عيش . حرية . عدالة اجتماعية " ، شعار الخامس والعشرين من يناير ، ثم تطوّر إلى رغبة في إرهاب نظام الحكم ثأرًا لشهداء " التحرير " ، حتى وصل الأمر إلى رئيس الجمهورية ، أن تكونَ أحداث " جمعة الغضب " فاصلاً في حكمِ مبارك ، بمعنى أن ينقسم الرئيس وينقسم الحكم معًا إلى مبارك سابق ومبارك قادم ، والاثنان مختلفان تمامًا .. إلى أن أصبحت المطالب ، كلها ، مطلبًا واحدًا : " الشعب يريد إسقاط النظام .. الشعب يريد رحيل مبارك " ، حتى تمّ " خلع " الرئيس مبارك ، لتكتمل أركان ثورة 25 يناير .
يقول المفكر الأستاذ توفيق الحكيم : " مصر بعد ثورة 1919 في حضارتها وفكرها وفنها واقتصادها هي من صنع مصر ، وليست من صنع حكامها . أما بعد ثورة 1952 فإن مصر من صنع الدولة أكثر مما هي من صنع نفسها . فإرادة الدولة وقراراتها المطلقة التي لا معارضة لها ولا مناقشة هي التي
توجّه كل شيء في مصر ، حتى مجرد الفكر " .
انتهت ، أخيرًا ، ثورة 25 يناير السياسية الاجتماعية ، الفصل الأول .. سقط " الفتوة " ، أمّا أذياله فيتساقطون واحدًا واحدًا ، بعد أن استمرت فضائح ثلاثي " الأمن . المال . السلطة " تفوح من "رغيف العيش " عمرًا طويلاً .. الآن ، يبدأ الفصل الثاني ، ثورة شعبية أخرى : " مصر ، العلم والفكر والفن تتحدَّث ، من جديد " .
ومن جديد يقول جابريل جارسيا ماركيز : " الثوار الذين يتوقفون في منتصف الطريق ، يحفرون قبورَهم بأيديهم " .
فلا بدّ أن تنتهي ثورة " التحرير " إلى مصر تحكم نفسَها بنفسها ، ليست من إله إلى إله إلى فرعون إلى أب إلى قدّيس .. وإلاّ فالثورة كأن لم تكُن ، كأنها كانت أيام فراغ شعبي !
* * *
أحكي لك حكاية ، أدّت بعضُ مناورات سلاح الجو الإسرائيلي إلى سقوط طائرة حربية إسرائيلية عام 1967 بالقرب من " رفح " المصرية ، تحديدًا ، بمدينة " الشيخ زويد " .. وكانت الطائرة تضم أحد عشر طيارًا ، لقوا مصرعهم جميعًا .
فأمر موشي ديّان ، وزير الدفاع الإسرائيلي - آنذاك - بنحت صخرة من جبل موسى لتكونَ نصبًا تذكاريًا للشهداء الإسرائليين .
يعدُّ اختيار جبل موسى حيث كلّم أول المرسلين ربَه ، لإضفاء قدسية خاصة إلى أرواح الشهداء وإلى النصب نفسه ، كما تمّ بناء الصخرة ، صخرة ديان بأعلى نقطة بمدينة الشيخ زويد محفورًا عليها أسماء الأحد عشر جنديًا - شهيدًا بالعبرية .
أمّا القيادة الإسرائيلية ، فيما بعد ، اشترطت أن تتضمنَ اتفاقية " كامب ديفيد " بندًا يحظر المساس بصخرة " ديان " نهائيًا ويسمح بتوافد أفواج منظمة من إسرائيل سنويًا لزيارة شهداء إسرائيل بمدينة " رفح " .. في حين أن موقع الصخرة شهد وابتلع واحدة من أكبرِ خمس مذابح للأسرى المصريين عبر تاريخ الصراع الإسرائيلي - المصري ، بينما الأسرى الشهداء المصريون مجرّد ماضٍ .. بلا ذكرى أو ذكرٍ !
الرسالة وصلت .. ثورة " يناير " هي حقُّ شهدء التحرير والكرامة .. هُم لم ولن يموتوا ، لن يكونَ أحدُهم مجرّد نصبًا تذكاريًا ولا إكليلاً من الزهور على قبر الجندي المجهول ؛ لقد كتب كلٌ منهم تاريخ طلقة في رأس مصر ، وقلب الصفحة .. قلب كل الصفحات !
سأقفُ ، سنقف جميعًا ، بعد زمنٍ ، في ميدان " الشهداء " ، ونقول : كان ميدان " التحرير " .. وكنَّا عبيدًا ، نأكل العيش بالقهر ونشرب الماء بالفُجْر .
* * *
قدِّسوا الحريةَ حتى لا يحكمكم طغاةُ الأرض .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟