أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسن النواب - حميد الزيدي الذي علمني الجنون















المزيد.....

حميد الزيدي الذي علمني الجنون


حسن النواب

الحوار المتمدن-العدد: 3293 - 2011 / 3 / 2 - 23:30
المحور: الادب والفن
    


تأكد لي الآن ان العظماء لاتنتهي سيرتهم مهما تبدلت الأمكنة و الأزمان ، وأحد هؤلاء العظماء هو صديقي حميد الزيدي الذي التقيته لأول مرة في اعدادية زراعة كربلاء عام 1974 ، كان في صف آخر غير الذي كنت اتلقى دروس الزراعة فيه ، لكن قاعة القسم الداخلي جمعت سريري الى جنب سريره ، وكنت اراه يستمر بالقراءة بعد انتهاء فترة المطالعة الإجبارية مساء وكانت لساعة واحدة ولكنه لم يكن يقرأ منهاج الدروس الزراعية البته ، بل كان دولابه الحديدي الذي كتب على بوابته الرصاصية بخطه الأنيق " ابو جراح " مليئا بالكتب الأدبية المختلفة ، ولما كان يتوجب علينا اطفاء مصابيح القاعة بعد الساعة العاشرة للخلود الى النوم ، كان حميد الزيدي يشعل شمعة حمراء صغيرة ويواصل القراءة واذكر مرة مع استغراق جميع الطلبة في النوم داخل القاعة سمعته يردد بإعجاب :
- تستيقظ لارا في ذاكرتي قطا تتريا ..
وعرفت فيما بعد ان ذلك المقطع الشعري انما كان للشاعر عبد الوهاب البياتي ، صحيح ان سريري بجوار سريره لكنه لم يفكر ذات يوم ان يقيم اي حوار معي لقناعته ان الطالب الذي ينام الى جنبه مازال غرا ولم يقرأ اي كتاب ادبي في حياته ، كنت اراه في البدلة الزرقاء التي يحرص ان لا يخلعها عن بدنه النحيل ، تلك البدلة التي لابد ان نرتديها اثناء الدورس العملية في الزراعة ، لكنه كان يرتديها على الدوام ويدخل بها ايضا الى الصف في الدروس النظرية وحتى ينام وهي على جسده الطاعن بالذبول والهواجس والجنون، وكنت ارى في عينيه الذابلتين المتورمتين القا عجيبا وخارطة وجهه التي تشير الى جنس غريب هبط من شرق المدن الأسيوية علينا ، فقير القوت والحال مثلي بل اشد عوزا بينما ضحكته الساخرة المستهجنة تملأ قاعة المنام طولا وعرضا ، شخص غريب ونافر ولكن وداعة ورقة العالم كلها تسكن في خطواته وهمساته وملاحظاته وصوته المشبع بالأسى ، ذات نهار اقترح على مسامع الطلبة في قاعتنا اصدار نشرة مدرسية ، تلقى اقتراحه البعض بفتور لكني كنت من بين المتحمسين لتلك الفكرة ربما لأنه جاري في المنام ، جاء بكارتونة بيضاء عريضة وانكب مع صديق آخر يدعى علي ناصر عطية على تحرير تلك النشرة ، ولما طلب من جميع الطلبة ان يرفدوه بمواد مختلفة لتلك النشرة ، اعطيته مادة كتبتها عن المسرحي العربي " ابو خليل القباني " وعن ريادته في المسرح العربي ، فصعق تماما بعد قراءته للمادة .. وجلس على سريري يتوددني ثم قال لي ساخرا :
- كنت اظنك زعطوطا لاتفقه اي شيء ؟
- انا احب المسرح .. والتمثيل .
- ومن اين تعرف ابا خليل القباني ؟
- من مسرحي اسمه حسن الفؤادي جاء من اكاديمة الفنون الجميلة الى كربلاء قبل سنة واراد اخراج مسرحية لسعد الله ونوس .. وكنت احد الممثلين فيها .
- وهل تجيد التمثيل ؟
- كنت اخرج المسرحيات واكتبها في دراستي المتوسطة
نهض فجأة وقبلني من وجهي وقال :
- انت مفاجأة بالنسبة لي .
واكمل تحرير النشرة والتي اذكر ان حميدا عنونها "اقلام الطلبة "، وكتب فيها مقالا صغيرا عنوانه وهكذا فاز ريغان ؟ كان حميد يتمتع بموهبة الخط خاصة الحديث منه ، وكان يرسم حروفه برشاقة لاحدود لها ، هكذا شدني للوهلة الأولى ، ولما رآني على خشبة المسرح بإول احتفال للإعدادية ، ازداد اعجابه بي وانخرط معي في فرقة التمثيل تهربا من ساعة المطالعة الإجبارية التي اصبحت للدروس المنهجية حصرا في قاعة القسم الداخلي والويل لمن يقرأ كتابا بعيدا عن المنهج الدراسي، اذ كنا نذهب في ذلك الوقت لإجراء التمارين المسرحية على خشبة المسرح في قاعة الإعدادية حتى ساعة متأخرة من الليل، وهناك بدأ حميد يزقني بمفاهيم الإنسان شيئا فشيئا ، وصرت بتوجيه منه ازرع الأفكار الثورية بالعروض المسرحية التي نقدمها في الإحتفالات ، وصار يرفدني بكتاب إثر آخر ومازلت اذكر ان اول كتاب شعري وضعه بيدي كان بعنوان نهايات الشمال الإفريقي للشاعر سعدي يوسف ، وصرت اقرأ بشغف تلك الكتب التي تنهال على يدي من صديقي العجيب ، كان حميد يكبرني بسنتين وقد تجاوز فترة المراهقة تقريبا بينما كنت اعيش ذروتها ، ولذا كان يجد صعوبة احيانا بإقناعي لزق هذه المسرحية او تلك بفكرة خطيرة من ضمن سياقات الحوار التي تكتنفها ، واذكر في مسرحية كنت قد كتبتها بعنوان الديكتاتور ، اقترح ان يكون مشهد تعذيب السياسي على ضوء شمعة حمراء ، بينما كنت اصر ان تكون الإنارة زرقاء شاحبة ، ولم افهم ما كان يرمي اليه في لحظتها ، اذ كان يريد ان يصل بخطاب غير مباشر الى الجمهور ، ان هذا المعذب السياسي انما هو ينتمي الى الحزب الشيوعي !! اخيرا اقتنعت بفكرته وعرض المشهد كما اراد ولكن بإدارة مسرحية خالصة مني ، لكن الذي حدث بعد العرض ان اللجنة الإتحادية استدعتني للإستجواب .. سألوني لماذا عمدت الى اشعال شمعة حمراء اثناء تعذيب السياسي ، قلت لهم هذا هو فهمي الإخراجي للحالة المأساوية التي يمر بها السجين السياسي ، وسألوني بصراحة : الم تكن تقصد الحزب الشيوعي ؟ قلت لهم زيفا : لأول مرة اسمع بهذا الإسم صدقوني .. فتركوني بحالي .. ومن تلك اللحظة فكرت ان اكون شيوعيا ولكن هيهات . الواقع ان الحزب الشيوعي كان قد مر على مسامعي يوم كنت صغيرا بعمر السابعة عندما كانت عائلتي في مدينة " ابوصخير " المناذرة حاليا ، وكان الشيوعيون يملأون المدينة بقمصانهم الحمر ، بل ان الشيوعي كانت منزلته مشعة ومحببة جدا بين الناس ، ولكن بعد سنة تغيرت المشاهد امام عيني وصار الشيوعيون يصعب ذكرهم على الألسن وان ذكر احدهم يعني ان المصائب حطت من جميع الجهات على ذلك الذي يلهج بإسمهم .. ومازلت اذكر مشهد اضرام النار بمنزل من القصب لأخوين شيوعيين " خالد وطارق " في قضاء المناذرة ، وكان ذلك المنزل الى جوار الجسر الخشبي القريب من بيت قائمقام المدينة ، واذكر ايضا كيف ان شرذمة من الناس هجمت على شعار الجمهورية القديم و على تمثال نصفي لعبد الكريم قاسم المشيدان في حديقة امام قائمقية المدينة ، وكيف ان المعاول هشمت آجرهما واحالتهما الى ذرات تراب . في تلك اللحظات شعرت ان ثمة شيء بدأ يجز جسمي بموسى حلاقة .. تلك الشفرة الحادة والمرعبة انما هي من استولت فيما بعد على سعادة الشعب وبددت احلامه لمدة جاوزت الثلاثين سنة . ذات ظهيرة دعاني حميد الزيدي لرفقته الى المرسم في القسم الداخلي وكان كعادته يرتدي البدلة الزرقاء .. اخذ بيدي الى لوحة رسمها وقال لي :
- قل لي ماهو رأيك بها ؟
كانت اللوحة بإرضية سوداء وثمة قطعة " كلينكس" مغموسة باللون الأحمر وضعها صديقي في منتصف اللوحة وقد سال خيط رفيع منها الى اسفل اللوحة وكتب تحتها بخطه الحديث الرشيق .. ان جراح الضحايا فم .. اثارت دهشتي اللوحة ولم اتمكن من ايجاد كلمة مناسبة اعلق بها ، ويبدو انه ادرك ارتباكي فأخذني الى لوحة اخرى كانت بإرضية بيضاء وقد شهق منها صليب أحمر وكتب تحتها جنبلاط يسري بدمي ..شعرت ان جلدي يقشعر وان الشعيرات النابتة على ذراعي تنتصب مرتعشة ، فجلست في ركن المرسم ادخن وجلس الى جانبي يشاركني سيجارتي ثم استدار نحوي بعينيه المتورمتين وقال باسما :
- ها .. ماذا تقول عن هذا الجنون ؟
- لأول مرة ارى جنونا بهذا السحر ..
نهض حميد مبتهجا عند سماعه كلماتي .. وقال لي بفرحة لا حدود لها :
- والله ان عبارتك اجمل من لوحاتي ..
ورحت اتأمل باقي اللوحات التي رسمها .. كانت معظمهما تحمل كلاليب واقفال وشفرات حلاقة وثمة خيط رفيع من الدم يسيل منها .. وسألته :
- ماذا تعني بهذه الأقفال والكلاليب وشفرات الحلاقة ؟
نفث دخان سيجارته على الأرض كمن يريد ان يتقيأ .. ثم فتح فمه وقال :
- هذا الوطن يشبه الفم المليء بتلك الأشياء .
حين نهضت رأيت يده النحيلة تمسح الدموع عن خدي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* حلقة من رواية مستمر بتدوينها بعنوان حياة لا تنتهي .. وهي الجزء الثاني من رواية اكملت جزءها الأول بعنوان حياة باسلة .. يرد حميد الزيدي في احد فصولها ايضا .
* هذه الحلقة بتصرف .



#حسن_النواب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسن النواب - حميد الزيدي الذي علمني الجنون