أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عزيز التميمي - شناشيل















المزيد.....

شناشيل


عزيز التميمي

الحوار المتمدن-العدد: 983 - 2004 / 10 / 11 - 08:31
المحور: الادب والفن
    


تنزل هكذا، أصابع مبهمة تشير إلى قاع الأشياء، تتهمني بالضياع، باللاّمبالاة، لاأدري لماذا تجرّأت هذا اليوم ولوّثت براءة كلماتها، كانت تندلق مثل عبوة طرحها التعب، تنساب شظايا رمادية صوب قاعدة الجدار الأخرس، ولحظة لمسها حلمة الماء المدورة في قطرة الندى تستغيث الأشياء، تدق درفة نافذتي بحنوٍ باهت بحثاً عن ملاذٍ يقيها جلافة الفجر، كانت تتخفىّ ببقايا خصلات متناثرة تنسج غموضاً طيلة الليل، تتوارى أحياناً خلف غيوم تتدلى منهكة بالعمود الخشبي الذي يربط بين الحائطين المتشحين بالسواد، حين تتحرّك أشعر بحيرتها التي تفضحها صغار العناكب، بصمات فيها حداد ناحل وشكوىً تمهد للبوح، أحدس بمرارة كلماتها حين تجف سبابيح اللبلاب حول معاصمها لتؤشر عنوسة جديدة في قاماتها المعلقة كل الوقت ضمن طوابير الغسيل فوق سطوح البيوت الشعبية، كانت تختلس النظرات صوب نافذتي، كائنة مغمسة بالخجل، تتحرّك الستائر، يتضاءل ضوء الشمعة المزروعة في خاصرة الزاوية المعتمة، وحين تتهيأ الشمس للنهوض من وراء حدبة الكون أقرأ هطولها في عباءة الظلّ المتوارب بين القامات.
الظهيرة الجائعة تفتت تماسك الأشياء، تغزل خيوطاً زجاجية حول صلادة الأبنية الإسمنية المغروزة في قلب الطين والحجر، العربات الصغيرة التي تحمل أكياس الطحين والذرة والشعير تتسلل خارجة من طرف الحي الذي يرقب إبتعاد سرب من الحمام الأزرق قاصداً القباب والمنائر المذهبة في منطقة السوق القديم، أتحسس لزوجة الدبق أسفل قميصي، القطرات الثقيلة التي تزحف فوق جلدي تثير غيظاً في أعماقي فتستعر في ذاكرتي ألسنة الإنشغال، أشعر أن المسطحات الحجرية التي تهندس قاماتها من حولي تتخلى عن هيبتها وسكوتها الدمث، ترشقني بكآبة طلائها المتهرئ، تستفز فيّ روح المشاكسة وجدل اللحظة التي لاتحتكم على تاريخ معرّف، فأرفع رأسي كمن يتجرّأ على ممارسة رغبة في مغادرة الوقوف، أو محاولة التسلل من عيون قاسية ترقب الحدس مثل الحركة في رزنامة معطلة، وحدها النافذة المكربنة الحواف تستميل وهج الفكرة التي أوشكت تتشظى في رأسي وعيني وفمي هستيريا رعشة ودمعة وصرخة، التفت كمن يهيئ شتاته للبوح أو النطق بشيء يجيز له الإنزياح الذي يؤدي به لحالة أخرى، الجدار الخلفي الذي تخلى عن أرديته بعد رحيل قرص الشمس بدا معتماً غامضاً لايعد بأي مبادرة للحلم أو لمجرد ممارسة التفكير في خضم أشياء تلد منعكسة بوجوه أخرى، وأعلن سواده مع انكفاء الأشياء في دوامة الليل، كنت أجد فيه متنفساً وملاذاً طيلة ساعات النهار إذ تجود عليه الشمس بملامح بائسة تحتوي بعضاً من بؤسي، وتنثر على امتداد قامته شناشيل تعرِّف في ذاكرتي الوجع والحنين، كنت أقف قبالة تجهمه وأقرأ تراتيل شيخ قبيلتنا حين يقترب موسم الحصاد، وأتوسم في شعاب الظل المندس في تجاعيد عباءة والدتي التي تخفي وجه أخي الرضيع الذي لايملك حينها إلا تشكيل النغمات وفق سلم موسيقي لم يذكر أنّ ملحناً تجرّأ ونسبه لنفسه، وفي وقت آخر من النهار تهتز قامة الجدار فتشظي كسلي معها.
لحظة وقوف الشمس في أعلى القبة المقابلة لنافذتي يصخب الكون، رائحة الشواء مع صوت عبد الباسط في أقاصي الحارات، ونغمات عبد الحليم في الشرفة المقابلة، هرج ومرج يتخلل الفجوات، الدروب، الفضاءات، يشعرني أن الكائنات تحتفل لتنسج فرحاً من خيوط ذاكرة ونسيان، وربما تهيئ لفاجعة توشك أن تحين، فأتمعن في صحوة الجدار، هامته العارية تفضح تداعي السنين في تأريخه، يبدو متهالكاً كأنه بدّد كل تواريخه وهيباته التي كانت معلقة في نواصي الأبنية الشاهقة، أو في واجهات الأسواق التجارية، لم يعد أحد يعبأ لوجوده الهش، ذلك الوجود المعلن الهشاشة، ربما حتى قسوة قامته التي نزفت قشورها لم تعد قادرة على حمايته من إستهتار العناكب والخنافس والديدان المجهولة التي تمر بغتة فتترك عبثاً في طيات الطلاء المتهرئ، لم يكن لدي دافع للإسترسال في إستفهاميتي هذه مثلما لم يكن لدي دافع أن أفتش في متاهة عباءته عن حكاية حب محرمة أو تدوينة كاذبة وربما مغلوطة لآية قرآنية كانت بمثابة الحجر الذي أطاح بحلم إبنة الجيران فاستبدل حكاية رجمها إثر تهمة زنا مفتعلة بحفرة مظلمة كفيلة بردم المسافة المملوءة بالرماد بين ذاكرة الأب وذكورة الإبن في تدوينة غسل العار والبراءة من سواد الوجه.
كانت ملامحه تتوسل سكوتي، عيناه المنطفئتان ترسمان رحيلاً غامضاً ينشب في روحه المرحة، فلاذ في صمت قاس، سمد في تجهمه وظل هكذا، يقف بقامته المتضائلة أمام نظرات الجميع، الرؤوس ماعادت تتداول حكاياته وأحاديثه الشجية، واستحالت مفرداته قبائل حروف لسجع غريب الإشارات والرموز، فكان سكوته حسن ختام خطبه وأحاديثة، وحينما بدا كئيباً في تداعيه لم أعد متجاسراً في إستفهاميتي عن أسباب موته بهذه الطريقة المقيتة الباردة، لويت رقبتي ويممت وجهي صوت الجدار الآخر، الوجه الذي لم يشأ أن يفتعل الوقوف قبالة وجهي، بل كان دائماً متلبساً بحالة هروب ساخرة، كأنه خارج حقيقة هذا المكان، يطيل النظر لذوائب الظل الممزق في صورته المنعكسة التي تتولد لحظة إنفلات قرص الشمس من سطوة بنايات السوق القديم، لحظات مشاكسة تتبعثر في تشابك الأصابع الحجرية لشناشيل الشرفة المقابلة لنافذتي، أراه يبسم بشيخوخة متشظية ناحلة، كأنه يمارس طقوس عاطفته مع تلك الأخاديد والبثور التي تنشرها الصدفة في بحيرة سكوته وصمته، يلتفت، يستحضر رزمة أوراق صفر لتاريخ يعتقده حياً، يصرخ، يحاول أن يهيء الجميع للحظة تعريفه، وحين ييأس منهم يلطم رأسه، يبعثر أوراقه الصفر التي تطير في الفراغات والممرات الضيقة المتعفنة، تحملها الريح المتسللة خفية إلى الساحات العامة وسطوح البيوت والسواقي الرمادية التي تنسحب خارج أحشاء الأزقة المتلاصقة حد الإختناق، أحاديث وملل، أمثال تؤطر الخراب والخيبة، وبعد محاولاته الخائبة في إستحضار ماضيه في ذاكرة الناس قرر أن يكتفي بعبثه اللحظي هذا، كل يوم يحاول أن ينكأ جراحي بحركة شدقه المتهدل مبتسماً إبتسامته العاهرة كتمهيد لمناورة عشق تسطو على خبايا ذاكرتي، حتى تبخر حلمه العقيم وأستحال لحظة غاربة تمر في صمت سويقات اللبلاب الجافة التي تطوق معاصم الحجر، وحين تعلن الجدران كنيتها ألتفت صوب النافذة التي تبادرها الريح، خشخشة الأوراق اليابسة تلامس بصمات الإنحدار، أصابع خاملة اعتادتها نظراتي تتعلق بطرف الحبل الواصل بين قامتين، وتبتعد، أشياء ترتب الزمن رؤوس مجسات تشير صوب الوجوه، الوجوه التي تنسل من فوهة أخرى لتشكل حكاية تأريخ لا يأتلف وحكاية الجدران من حولي، في البعيد نغمات تنشب لحناً سماوياً يتلمس هامة الدخان، جسدها الهش يلهث معلقاً بأصابع إسمنتية صلدة، بين العمودين المتشحين بالسواد تهتز الأغصان الجافة متدلية مستسلمة كأنها تودع رعشة الحياة، وثمة بريق يغادر عينيها الباردتين بعد أن فقدت كلماتها واستحالت أهداباً مكفهرة بين قوسين.



#عزيز_التميمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذاكرة السنين العجاف
- منظومة القراءة / سلطة القارىء


المزيد.....




- حضور وازن للتراث الموسيقي الإفريقي والعربي في مهرجان -كناوة- ...
- رواية -سماء القدس السابعة-.. المكان بوصفه حكايات متوالدة بلا ...
- فنانون إسرائيليون يرفضون جنون القتل في غزة
- “شاهد قبل أي حد أهم الأحداث المثيرة” من مسلسل طائر الرفراف ا ...
- تطهير المصطلحات.. في قاموس الشأن الفلسطيني!
- رحيل -الترجمان الثقافي-.. أبرز إصدارات الناشر السعودي يوسف ا ...
- “فرح عيالك ونزلها خليهم يزقططوا” .. تردد قناة طيور الجنة بيب ...
- إنتفاضة طلاب جامعات-أمريكا والعالم-تهدم الرواية الإسرائيلية ...
- في مهرجان بردية السينمائي.. تقدير من الفنانين للدعم الروسي ل ...
- أوبرا زرقاء اليمامة.. -الأولى- سعوديا و-الأكبر- باللغة العرب ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عزيز التميمي - شناشيل