أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - سامر سليمان - في تشريح الصراع الاجتماعي والسياسي في مصر















المزيد.....



في تشريح الصراع الاجتماعي والسياسي في مصر


سامر سليمان

الحوار المتمدن-العدد: 979 - 2004 / 10 / 7 - 10:27
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


مسودة المشروع السياسي لمركز جديد
النظام التسلطي المصري هو الامتداد الطبيعي لنظام الضباط الأحرار الذي أسسه جمال عبد الناصر عام 1952. لقد اختار عبد الناصر السادات، واختار السادات مبارك. وها نحن قد عشنا تحت حكم السادات وتحت حكم مبارك. هذا الانتقال السلمي والهاديء للسلطة السياسية يشي بأن النظام الحاكم لم يتغير ولكنه كان يجدد نفسه من فترة إلى أخرى. صحيح أن السادات قد انقلب على بعض سياسات عبد الناصر، وأن مبارك قد كبح الساداتية والساداتيين بعد وصوله للسلطة. ولكن تلك هي طبيعة الأمور. فلكل رئيس شخصيته و ميوله. كما أن هذا الرئيس يستجيب لظروف مختلفة تماماً عن سلفه. فالنظام التسلطي تحت حكم عبد الناصر كان يعيش في بيئة داخلية وخارجية مختلفة تماماً عن بيئة السادات ومبارك. لذلك فإن التجديد في إيديولوجية النظام وتوجهاته الداخلية والخارجية كان حتمياً و إلا لكان على هذا النظام أن يلقى حتفه.
نحن ما زلنا نعيش تحت حكم البيروقراطية التي وصلت إلى الحكم عام 1952. ولا يمكن فهم التاريخ المعاصر لمصر إلا من خلال هذه الحقيقة. المشكلة أن هذه الفئة تخفت وراء عدة أقنعة وجددت من أرضيتها الاجتماعية عدة مرات، ولكنها ما زالت تحكم مصر حتى هذه اللحظة. أحد أهم التجديدات جرت في السبعينات. كان ذلك بسبب تعرض حكم البيروقراطية لهزات عنيفة أعقبت هزيمة 1967. هذه الهزيمة التي فجرت ما كان مكبوتاً من مطالب سياسية واقتصادية. فمن مظاهرات طلبة تنادي بالحرية والتعددية الحزبية بعد أن ارتضت طويلاً حكم الزعيم الملهم، ومن عمال يناهضون البيروقراطية الفاسدة والجاهلة التي تتحكم بالقطاع العام والتي اعتقدوا في يوم من الأيام أنها ستكون أفضل من الرأسمالية الخاصة، ومن فلاحين معدمين في الريف يتحركون (كمشيش مثلاً) بعد أن فهموا أن الإصلاح الزراعي، أي القسمة العادلة للأرض الزراعية، لم يتحقق إلا بشكل محدود. لقد انفجر الصراع الاجتماعي في السبعينات مما وضع المجموعة الحاكمة في اختيارات صعبة لإنقاذ سيطرتها على الحكم. وهنا ظهر اتجاهان يمكن تلخيصهما في شخصية على صبري والسادات. الاتجاه الأول ("اليساري") يدعو إلى الانحياز بشكل أوضح للاتحاد السوفييتي على المستوى الخارجي وللطبقات العاملة على المستوى الداخلي. والاتجاه الثاني ("اليميني") يريد الاقتراب من الولايات المتحدة (كما كان حسنين هيكل يدعو) وإعادة إحياء الرأسمالية. لقد فاز هذا الأخير واستطاع أن يحل بشكل كبير قضية احتلال سيناء (معاهدة السلام) وأن يصنع رواجاً اقتصادياً لبعض فئات المجتمع، خاصة الرأسمالية العائدة من جديد. لم يكن مقتل السادات هزيمة لهذا المشروع. ولم تكن جنازته الرسمية والباردة، بالمقارنة بالجنازة الشعبية والمتفجرة بالألم لناصر، دليلاً على أن نظام السادات ليس له مؤيدين. لقد كان له العديد منهم... ولكنهم أثروا البقاء في منازلهم لعدة أسباب: أما لأن وسيلتهم في تأييد النظام لا تتم بالهتاف للقائد حياً والبكاء عليه حين يموت. وأما لأن البعض قد يشعر بالعار في النحيب على رئيس ارتكب الخطيئة الكبرى وهي وضع يده في يد الأعداء اليهود الملوثة بدماء الشهداء.
كان للسادات أن يرحل. فقد أنجز مهامه بنجاح. لقد ارتاح الكل لنهاية الصراع المسلح مع إسرائيل. ارتاحت البيروقراطية من صراع كان يقتضي منها ليس فقط التضحية بمواردها المادية ولكن أيضاً بدماء أبنائها، الأمر الذي كان يضطرها لانتهاج أساليب منحطة مثل التزوير والتحايل لتهريب أبنائها من الخدمة العسكرية ومن ثم إنقاذها من الموت. ارتاح الشباب الذي قضى عدة سنوات في الصحراء يستعد للقتال وارتاح أهاليهم من القلق عليهم. ارتاح القطاع العام الذي توقفت خزانة الدولة عن إمداده بالمال لأن جل الموارد كانت تذهب للجيش. وارتاحت الرأسمالية التي عطلت الحرب من مشروعاتها في التوسع والتجارة والربح.
ولكن الثمن الذي دفعه السادات لاستعادة سيناء كان باهظاً. لقد ذهب للحل مع إسرائيل وحيداً، فظهر بصورة الخائن. وكان عليه أن يقبل بوجود سفارة إسرائيلية في قلب القاهرة، قائدة العرب. هذه الخطيئة كانت تثقل كاهل النظام. لذلك برحيل السادات تنفس النظام الصعداء. فقد أتي إلى الحكم أحد قيادات حرب أكتوبر المشهود له بالكفاءة، والذي لم يذهب مرة واحدة إلى إسرائيل ولم يصافح العدو. كما أنه (في هذه الفترة) لم ينغمس حتى النخاع في علاقات مع بيزنس الانفتاح كما فعل سلفه. كان مجيء مبارك هو التجديد الثاني للنظام بعد التجديد الأول الذي قام به السادات. فقد استطاع أن يحافظ على "منجزات" السادات ولكن بدون التمادي فيها لأن قدراً غير محسوب منها هو شيء مضر. وزاد على ذلك أنه أعاد بعض التقدير لجمال عبد الناصر وأطلق الحرية في الهجوم على السادات. وعاش نظام مبارك بهذه الصيغة مستقراً وسعيداً عشرة سنوات، حتى جاءت عدة ظروف في أواخر الثمانينات لتدفع النظام نحو الأزمة. فالموارد التي تعتمد عليها المجموعة الحاكمة لشراء سكوت الناس قد شحت. البترول سعره انخفض، والمساعدات الخارجية لم تعد تكفي، وقناة السويس أصبحت عاجزة عن أن تدعم شعب يتجاوز عدد سكانه خمسين مليون نسمة. لهذا كان غزو العراق للكويت هو طوق النجاة للنظام التسلطي المصري، وذلك حينما تدفقت المعونات الخارجية عليه وألغيت نصف ديونه، فجاء الرواج من جديد. هذا الرواج أعطى له الفرصة في توزيع العطايا من جديد، وفي الإنفاق على الآلة العسكرية التي استطاعت في النهاية سحق الجماعات الإسلامية المسلحة. ولكن ما لبث النظام أن عاد مرة أخرى إلى الأزمة. لقد شحت الموارد من جديد، وكسد الاقتصاد وزاد التذمر. البحث عن حل خارجي (مشابه لحل 1990) كان يقتضي من النظام أن يتعاون بشكل علني وواضح مع الإدارة الأمريكية المحافظة والعدوانية. وهو ما لا يستطيع النظام أن يقوم به لعدة اعتبارات منها أن صيغة نظام مبارك تقول أنه في علاقته بالولايات المتحدة يقف في منطقة وسط ما بين عبد الناصر والسادات، لا يخاصمها كما فعل عبد الناصر ولكن لا يرتمي في أحضانها كما فعل السادات. لذلك فقد اكتفى النظام بالتعاون السلبي أو السري مع الإدارة الأمريكية وأخذ يدعو للسماء بأن تتعثر مشروعاتها في المنطقة ومن ثم أن تدرك من جديد أنها لكي تنفذ عملياتها الجراحية في الشرق الأوسط تحتاج إلى مشورة وتعاون ليس فقط إسرائيل ولكن أيضاً القوى الإقليمية الكبيرة وهي مصر والسعودية وسوريا. هذا هو موضوع التوتر والصراع المكتوم الذي لا يزال يدور بين الولايات المتحدة ومصر. وهذا ما يفسر لماذا تميل السياسة المصرية لتأييد السياسة الأمريكية تارة ومعارضتها تارة أخرى.
المهم أن البيروقراطية المصرية الحاكمة تمر بأزمة عميقة. فهي تفتقد لأي شرعية داخلية في ممارسة الحكم، وأصبحت تفقد تدريجياً دعم ظهيرها الدولي، الولايات المتحدة، والتي عاشت سنوات من فضل احساناته، وهي بذلك تفتقد للموارد اللازمة لشراء سكوت كل من لا يؤمن بشرعية النظام، وهم كثيرون. ما العمل إذن؟ الحل الوحيد لإنقاذ النظام يكمن في توسيع قاعدته الاجتماعية وإمداده بموارد يستطيع من خلالها أن يدير بكفاءة أعلى جهاز الدولة، وأن يشتري سكوت بعض المتذمرين. وهنا تبدو الرأسمالية المصرية باعتبارها الفئة الأساسية التي يلجأ إليها النظام لتجديد تسلطه وديكتاتوريته.

الرأسمالية المصرية: تملك ولا تحكم
من حق الرأسمالية أن تتملك كل شيء في مصر... إلا السلطة. تظل البيروقراطية العليا هي الطبقة الحاكمة في هذا البلد. وهي تتحكم في كل فئات المجتمع، حتى الرأسمالية. فهي لا تزال تمسك بعصب اقتصاد السوق وهو البنوك. وهي التي تستطيع أن ترفع رجل أعمال إلى السماء كما أن بمقدورها أن تسقطه إلى الأرض. تتمتع الرأسمالية في مواجهة بيروقراطية الدولة بمميزات تحسدها عليها كل فئات المجتمع. أنظر كيف تتعامل الشرطة مع رجل الأعمال من جانب وكيف تتعامل مع سائقي الميكروباصات من جانب أخر. ولكن هذه المزايا لم تصل أبداً إلى إعطاء الرأسماليين حق تقرير الأمور السياسة الاستراتيجية للدولة. الرأسمالية تستطيع أن تفرض مزايا هنا أو هناك، وتستطيع شراء البيروقراطية في كثير من الأحيان، ولكنها تملك ولا تحكم. وهي حتى الأن تقبل بحكم البيروقراطية التي لا تريد أن تخرج السلطة من يدها. فرجل الأعمال مثله مثل العامل يقبل أن تحرمه السلطة من حقه في الترشح لرئاسة الجمهورية، بل حتى وقت قريب لم يكن لرجال الأعمال أي فرصة في الوصول إلى منصب وزير أو محافظ. ويبدو أن العقد غير المكتوب بين النظام وقطاعات واسعة من الرأسمالية هي الأتي: فلتتربحوا كما تشاءون، فلتعيثوا فساداً في الأرض، ولكن إياكم والتفكير في المشاركة السياسية الحقيقية. عندما واتت أحد الكتاب الجسارة سأل الرئيس مبارك لماذا لا يفتح المجال أمام المنافسة الحرة على منصب رئيس الجمهورية، قال أنه لا يريد للمال أن يسيطر على هذا المنصب. عندما يتكلم الرئيس عن قوة المال فهو يتكلم عن رجال الأعمال. وهل يملك المال إلا رجال الأعمال؟ معنى ذلك أن القوة الرئيسية التي يمكن أن تزيح النخبة المحتكرة للسلطة في منافسة "حرة" هي الرأسمالية المصرية. في انتخابات 2000 زاد رجال الأعمال في تمثيلهم بالبرلمان إلى 77 في مقابل 37 في عام 1995. وكان سقوط الحزب الوطني مدوياً في مقابل المستقلين. من المرجح أن الانتخابات الحرة لن تأتي إلا بالرأسمالية في الحكم. الأمر بسيط: بسبب أزمة الدولة المالية وتناقص مواردها تتقلص قدرة المجموعة التي تحكم على شراء الأصوات بالمال. في الوقت التي زادت فيه القدرة الشرائية لرجال الأعمال. المال يمتلك قوة إقناع رهيبة. هل يجهل أحد في مصر أن الأصوات تشترى بالمال في هذا البلد؟
النظام التسلطي المصري له ميراث ثقيل من الشعبوية أو البونابرتية التي ارتدت ثياب الناصرية. نقصد بالشعبوية هنا تلك الايديولجيا التي تؤسس سيطرتها على المجتمع بادعاء أنها تحقق مصالح كل الفئات الاجتماعية إلا فئة محدودة من المستغلين. هذا ما يسمى بتحالف قوى الشعب العامل في اللغة الناصرية... ذلك الذي يشمل العمال والفلاحين، والجنود والمثقفين والرأسمالية الوطنية. يحاول النظام الشعبوي أن يقيم التوازن بين هذه الفئات حتى يتحقق الاستقرار السياسي. ولكن مشكلة هذا النظام تكمن في أنه يدعي تمثيل مصالح كل الفئات الاجتماعية. ففي الواقع تتعارض هذه المصالح في عدد غير قليل من الأحيان. لذلك فهذا النظام يتأرجح في انحيازا ته للفئات الاجتماعية. فالناصرية انحازت في البداية للرأسمالية (لا ننسى الامتيازات التي قدمت للرأسمالية المصرية والأجنبية و إعدام قيادات العمال المضربين في كفر الدوار عام 1952 ). ثم انقلبت بعد ذلك عليها وصادرت معظم أملاكها. ثم عادت بعد هزيمة 1967 إلى الانحياز التدريجي للرأسمالية الأمر الذي تسارعت خطاه بعد موت عبد الناصر ومجيء رئيس جديد متحرر جزئياً من بعض قيود سلفه، ويملك الرغبة في المغامرة في إعادة إحياء الرأسمالية وبذلك تجديد الأرضية الاجتماعية للنظام. الساداتية هنا يجب أن تفهم باعتبارها أحد أشكال تجديد النظام الشعبوى الذي أسسه جمال عبد الناصر، حتى ولو كان خطابها يحمل هجوماً شديداً علي مؤسس النظام. هي محاولة للتجديد السريع والجريء. أما المباركية فهي في بدايتها محاولة لإبطاء وتيرة إعادة إحياء الرأسمالية، لأن التغيير السريع الذي قاده السادات عرض النظام لهزات مخيفة. ولكن ما لبثت المباركية أن تعرضت لضغوط شديدة داخلية وخارجية لتسريع هذه العملية. لذلك فهي ارتأت أن الحل الوحيد هو قبول التسريع من حيث المبدأ ولكن التسويف فيه من حيث التطبيق. التسويف هنا يقدم دائماً على أنه "مراعاة للبعد الاجتماعي". أي أن عملية تنمية الرأسمالية في مصر يجب أن تتم بحذر، وبمراعاة دقيقة للحد الأدنى من مصالح العمال، و إلا فستكون الكارثة على المجتمع كله. هذا صحيح في بعض الأحيان. فقانون العمل تأخر كثيراً في الصدور خوفاً من ردود أفعال عنيفة في أوساط العمال. ولكن في أحيان أخرى كثيرة يكون التسويف نابعاً من مخاوف من تطور سريع للرأسمالية الخاصة وتبلورها كطبقة مسيسة تستطيع طرح بديل للنظام القائم. هذا ما يفسر على سبيل المثال أن الخصخصة اتخذت الإيقاع الأبطأ في البنوك. فالنظام المصرفي هو عصب الاقتصاد الرأسمالي، خاصة عندما تكون أسواق المال الأخرى كالبورصة مثلاً متخلفة كما هو الحال في مصر. فقدان سيطرة الدولة على النظام المصرفي يهدد سيطرة النظام على رجال الأعمال. فبنوك الدولة هي التي خلقت معظم رجال الأعمال الكبار في مصر، حيث أنها تسيطر على ثلاثة أرباع الودائع في البنوك. أي أن استمرار سيطرة الدولة على الاقتصاد نابعة من الخوف من ظهور مراكز قوى اقتصادية مستقلة عن النظام التسلطي وتلعب لحسابها الخاص. النظام يملك جسارة في تقليص حقوق الفقراء أكثر من زيادة حقوق الرأسماليين. أنظر على سبيل المثال كيف انخفض نصيب الدعم من الإنفاق العام من 12% عام 1981/82 إلى 4% عام 2001/2. "الإصلاح" هنا كان جذرياً. أما "الإصلاح" الأخر الذي يفتح المجال أمام الرأسمالية لتبلورها كطبقة متحررة من الدولة، مثل خصخصة النظام المصرفي، فهو في حالة تعثر.
مشكلة النظام الشعبوي الذي يقوده مبارك أنه مضطر لإبداء تعاون أكبر مع الرأسمالية المصرية. لقد اعتمد هذا النظام في الماضي على شراء سكوت الطبقات الفقيرة بمجموعة من الرشاوى المالية: توظيف، دعم، منح، الخ. ولكن بسبب أزمة الدولة المالية أصبح النظام غير قادر على منح هذه الرشاوى. ولا يملك إلا حلاً واحداً: اللجوء للرأسمالية لكي تساعده في إطعام الأفواه الجائعة وبذلك يتحقق الاستقرار الاجتماعي. هكذا نسمع كثيراً منذ فترة عن "الدور الاجتماعي لرجال الأعمال"، ونرى بشكل أكثر فأكثر أعمال الخير والتقوى مثل موائد الرحمن في رمضان. والوضع الآن هو الأتي: نصف سكان مصر من الفقراء ونصفها الأخر من الأغنياء أو المستورين. في دولة ديمقراطية حديثة ستتوسط الدولة بين الأغنياء والفقراء، ستأخذ من هذا لتعطي لذاك. ستذهب صباحاً إلى رجل الأعمال لكي تأخذ منه ضرائب لكي تعطيها في أخر النهار للجوعى من الفقراء والعاطلين عن العمل. بالطبع هناك مؤسسات أخرى في الدول الديمقراطية الحديثة تلعب دور الوسيط بين الأغنياء والفقراء كالجمعيات المسيحية والإسلامية. ولكن يظل القدر الأعظم من النقود التي تتدفق من أعلى الطبقات إلى أسفلها يمر عبر خزانة الدولة. أما في الدول المستبدة التي تسحق الفقراء تتم العملية بشكل مختلف: فالنقود تذهب بشكل مباشر من يد الغني إلى يد الفقير دون أن تمر في الدولة. هكذا تصبح مهمة الفقراء هنا شاقة جداً. فبدلاً من الذهاب لتسجيل أسمائهم في سجلات العاطلين والمحرومين، عليهم الذهاب بأنفسهم للأغنياء في عقر دارهم أو في حوانيتهم أو في سياراتهم لطلب الإحسان.
حالة مصر خاصة جداً. في نصف القرن الفائت أتاح تدفق الكثير من الموارد الخارجية للدولة أن تقوم بمساعدة المحرومين والفقراء، واستطاعت بذلك أن تحررهم من الوقوف على أبواب المحسنين. ولكن قدرة الدولة على ذلك تناقصت بالتدريج، فاتبع النظام المنهج الأتي:
أولاً: أن يفتح باب الاجتهاد الفردي في مجال البحث عن الخبز. من يستطيع أن يذهب للخليج فليذهب. من يستطيع أن يستغل وظيفته البيروقراطية في فرض إتاوات على الناس فليفعل، من يستطيع أن يجبر المستهلك على دفع ثمن السلعة المفترض أن تقدمها الدولة مجاناً (كما يتقاضى المدرسون أجورهم من أولياء الأمور في شكل دروس خصوصية) فليفعل. من يستطيع أن يقتات من خدمة السادة وأبنائهم (غسيل سياراتهم وقضاء مطالبهم) فليفعل. ومن فشل في كل ذلك يستطيع أن ينزل إلى الشارع لكي يبيع الفل والمناديل أو يستجدى الميسورين لكي يقذفوا له ببعض الفتات حتى يتخلصوا من الحاحه و"رزالته". "الرزالة" إذن هي أحد الأدوات التي يلجاً إلى فقراء المصريين لكي لا يعودوا إلى أطفالهم في الليل خاويين الجيوب.
ثانياً: قرر النظام أن يشجع الأغنياء على الإحسان، لأن الحسنة كما تفيد في العالم الأخر فهي أيضاً تفيد في عالمنا. فهي تحمي الأغنياء من حسد الفقراء ومن تطاولهم على ملكيتهم الخاصة سواء في شكل شديد الفردية مثل السرقة والإجرام، أو في شكل جماعي (حقيقي أو زائف) مثل تأميم أملاك الأغنياء. ولكن هذه الاستراتيجية لها مخاطر سياسية كبيرة. لأن من يعطي، يملك سلطة ونفوذ على من يأخذ. فالنظام التسلطي لا يمكن أن يترك خصومه السياسيين يشكلون قاعدة من المناصرين والأتباع باستخدام ثرواتهم. المثال الواضح على ذلك هو موقف النظام من الأخوان المسلمين. فهذا النظام لا يقيد فقط حركتهم في الدعوة، ولكن أيضاً في توزيع العطايا على الناس. حينما ضرب مصر زلزال في أوائل التسعينات خف الإخوان المسلمون لمساعدة الضحايا. وهنا أسرع النظام بإصدار أمر عسكري ينظم جمع التبرعات. على من يريد أن يعمل في مجال الإحسان والدور الاجتماعي أما أن يبدي إخلاصا للنظام القائم (كبعض رجال الأعمال) وأما أن يكون غير معني بالمشاركة في السلطة مثل الراقصات التي زادت مساهماتهن في تنظيم موائد الرحمن. ولكن الضغوط تتزايد على النظام من أجل قبول تبرعات من قطاعات أكثر فأكثر، قطاعات لا تنتمي للحلقة الضيقة التي أسسها النظام. وهنا المشكلة.
مصر تعيش إذن في عصر أفول الدولة وصعود رجال الأعمال. أنظر إلى انتخابات مجلس الشعب في عام 2000 والتي أظهرت القدرة الطاغية للمال على تحقيق مكاسب انتخابية في مواجهة الحزب الحاكم. لأول مرة في تاريخه اقتصرت نسبة المقاعد التي حصل عليها على 40% فقط. ولم يستطع تحقيق الأغلبية الانتخابية إلا بضم المستقلين. معظم هؤلاء المستقلين ينتمون بالطبع للحزب الوطني، ولكن الحزب رفض ترشيحهم، فربحوا الانتخابات بمواردهم الخاصة ("بفلوسهم"). معظمهم هرول للعودة للحزب الوطني بالطبع لأن تسيير مصالح دوائرهم تحتاج إلى علاقات خاصة بالنظام. هل يمكن نقل تلميذ من مدرسة إلى أخرى إلا بتوقيع وزير التعليم؟ هل يمكن تعيين أحد الأبناء في وظيفة بدون واسطة من مسئول كبير؟ نائب مجلس الشعب ما زال يحتاج إلى البيروقراطية لخدمة أبناء الدائرة. ولكن كما قلنا من قبل، هذه البيروقراطية تملك موارد أقل لشراء رضاء الناس. هي تعتمد الآن على قدراتها في تعطيل مصالح الناس لكي تحصل على منهم على رشاوى أو لكي تفرض عليهم الخضوع. ماذا ستكون علاقة النائب بوزير التعليم إذا لم يعد يحتاجه لإجراء عمليات نقل التلاميذ؟ خلاصة القول النظام السياسي يفقد أحد أهم وسائل سيطرته السياسية: النقود.
الفقراء يوجهون أنظارهم أكثر فأكثر إلى رجال الأعمال لمليء بطونهم. الانتخابات في مصر سوق كبير للبيع والشراء. صوتك مقابل عشرة جنيهات. أو صوتك في مقابل وجبة. أو صوتك في مقابل وظيفة لابنك (إذا كان صوتك مهم). خد وهات. وهذه هي السياسة... أن تعطي صوتك لمن يحقق مصالحك. يعتقد البعض أن هذه مصالح ومكاسب تافهة. ولكن بالنسبة للعديد من الفقراء الانتخابات تمثل موسم ومولد (مثل شهر رمضان الكريم) يستطيعون فيه الفوز ببعض القروش. بالطبع الأفضل أن يضحي الفقراء ببعض المكاسب الآنية من أجل مكاسب حقيقية في المستقبل، كأن ينتخبون من يستطيع أن ينتزع لهم مكاسب حقيقية غير مغموسة في ذل التضرع للأغنياء من أجل حسنة. ولكن بما أن الفقراء يدركون أن انتخابات مجلس الشعب غالباً مزورة وبأنه حتى ولو كانت الانتخابات نزيهة فإن مجلس الشعب له سلطات محدودة أمام سلطات الرئيس فإنهم يفضلون المكسب الآني البسيط المضمون.
نحن نعيش الآن مرحلة أفول النظام البيروقراطي التسلطي لصالح رأسمالية صاعدة تملك ولا تحكم. وقد كانت راضية بذلك في الماضي، ولكنها اليوم باتت تقتنع أكثر فأكثر بأن النظام القائم قد استنفذ ويجب تجديده. وهذه الطبقة منقسمة اليوم أمام الاختيارات. المشروع الأساسي لإحياء النظام يتمثل في مبارك الابن. فمشروعه يقوم على تجديد القاعدة الاجتماعية للنظام السياسي عن طريق إدماج رجال الأعمال في السلطة الشعبوية البيروقراطية لإنتاج مركب تسلطي جديد، يعطي لرجال الأعمال دوراً أكبر في تقرير سياسات البلاد. ومؤهلاته في ذلك عاملين: الأول هو كونه ابن رئيس الجمهورية الحالي، فهو إذن ابن البيروقراطية المصرية العليا وسيحافظ على الحد الأدنى من مصالحها. والثاني كونه عمل بالبيزنس ودرس إدارة الأعمال وأمن بالاقتصاد الحر، وهو بذلك ابن مخلص للرأسمالية المصرية. مبارك الابن يلخص في شخصه اتحاد بل زواج أقوى فئتين اجتماعيتين في هذا البلد: البيروقراطية والرأسمالية.
مشروع جمال مبارك للزواج بين البيروقراطية والرأسمالية تعترضه عقبات. فهناك قطاعات من البيروقراطية لا تريد الزيجة بهذا الشكل، وهي مستعدة لأن ترفع شعار لا للتوريث. وهناك قطاعات من الرأسمالية تريد أن تتخلص بشكل أكثر حدة من البيروقراطية، وهذا ما لا يستطيعه جمال مبارك. أي أن جبهة خصوم مبارك الابن تضم الأضداد: من يعارضه لأنه ليس بيروقراطياً بما يكفي ومن يعارضه لأنه ليس ليبراليا بما يكفي. بالإضافة إلى ذلك هناك فئات اجتماعية واسعة لا ترى في جمال مبارك (سواء لانتمائه للنظام أو للرأسمالية) مشروعاً يحقق مصالحها، ولكنها تلتزم الصمت وتكتفي بالنميمة حول شخصية الرئيس القادم خوفاً من القمع، أو خوفاً من بديل أسوأ، أو ببساطة لعدم وضوح بديل على الإطلاق.
قد يحتل جمال كرسي أبيه وقد ولا يحتله. ولكن هذا لا يهم. المهم أن مشروع الزواج ما بين البيروقراطية والرأسمالية يجب أن يتم، لأنه ليس هناك حل أخر أمام البيروقراطية الحاكمة. هي تحتاج لتعاون الرأسمالية من أجل إمدادها بالمال ومن أجل إخراج نقودها من تحت البلاطة واستثمارها في الاقتصاد وإلا لتعمق الكساد وزاد الجوعى وأصبح المجتمع كله في مهب الريح. معارضو جمال مبارك كثيرون. ولكن معارضين الزواج بين الرأسمالية والبيروقراطية أقل بكثير. لأن المعارضة الحقة لهذا الزواج لا تكتفي بالتنديد به بل بتقديم البديل. والأمر بسيط: العروس تحتاج إلى الزواج لأنها لا تستطيع الاستمرار في العيش في هذه الوحدة الموحشة. المعارضة الحقة لهذه الزيجة تتطلب أن يتقدم أحد لكي يزيح الرأسمالية ليتزوج هو البيروقراطية. حتى هذه اللحظة الرأسمالية هي المتقدم الوحيد للزواج، وهي الوحيدة الذي تملك الموارد المادية والتنظيمية والثقة بالنفس.
زفاف الرأسمالية على النظام قريب جداً. فالنظام العجوز يحتاج إلى زوجة شابة وغنية لكي تنقذه من الإفلاس والفضيحة. بالإضافة إلى ذلك فهو متورط في علاقة غير شرعية معها، علاقة لم تعد فقط مكشوفة للجميع ولكنها أيضاً أنتجت العديد من الأطفال. أليس معظم أبناء السادة الرؤساء والوزراء والمسئولين من رجال الأعمال. وبانتقال الرأسمالية إلى بيت الزوجية سيكون النظام العجوز إذن محاصر في عقر داره ليس فقط بالرأسمالية ولكن أيضاً بأطفالها الرأسماليين. قد يكون للزوجة الجديدة الشابة الرحمة لكي تبقي على الرجل العجوز المريض حتى يتوفاه الله. ولكن في هذه الحالة على هذا العجوز ألا يثرثر كثيراً وأن يقبل حقيقة أنه مجرد رمز ليس إلا.
هذه الزيجة تتم الآن على قدم وساق. ولكن على البيروقراطية والرأسمالية أن يدركا أن الفئات الأخرى في المجتمع من حقها أن يكون لها دور أكثر من مشاهدة الفرح على شاشات التلفزيون. نحن نسكن بجوارعشهما السعيد. ونريد أن نضمن أن الزوجة الجديدة الشابة لن تقذف علينا بالماء القذر وأن أطفالها لن يلقوننا بقشر الموز فتتحطم عظامنا على الأسفلت. نريد لهذه الزوجة أن توقع على تعهد بأنها سوف تحترم الجيران. سيكون لها الحق بأن تستأثر بمعظم الماء (فهي تمتلك موتور) وبذلك تستطيع الطهي والحموم دون مشكلة. ولكن لن يكون لها الحق أبداً أن تقطع الماء عنا أو أن تتركنا نهباً لأطفالها المشاغبين المتوحشين أو أن تمنع أطفالنا من اللعب في الحديقة.
فلنناضل لكي نقنع أو نجبر الرأسمالية على توقيع هذا التعهد. من يريد أن يحكم مصر عليه أن يتعهد بأنه سوف يترك لنا حرية معارضته، ودعوة الناس لتغييره، عليه أن يتعهد أن يترك لنا الحق في تأسيس والانضمام إلى جمعيات وأحزاب ونقابات دون أن نخشى شيئاً. عليه أن يتعهد بأن يكف عن مصادرة حق الإضراب الذي يعتبر أهم وسيلة في المجتمعات الحديثة للحد من استغلال الرأسمالية ولزيادة الأجور. عليه أن يتعهد بأن لا يتدخل في خصوصياتنا الشخصية مثل الأفكار التي نعتقها والزي الذي نلبسه ونمط الحياة التي نمارسه. لا نريد وصاية من أحد على حريات الإنسان الفردية. عليه أن يتعهد بأنه سوف يتركنا نتنافس معه على السلطة عن طريق إقناع الناس أننا نملك البديل الأفضل لتحقيق رخاء وتقدم وسعادة الأغلبية الساحقة من المصريين.

الحل الذي نقدمه: الاتحاد بين الطبقة الوسطى والعاملة
كان هذا تصورنا عن طبيعة الصراع السياسي الذي يدور في مصر اليوم وعن المهمة الملحة أمام أنصار التقدم والديمقراطية. هؤلاء موجودون ويزيدون كل يوم. فمن عرائض يتم التوقيع عليها تطالب بانتخاب رئيس الجمهورية من بين أكثر من مرشح ومن محاولات هنا وهناك لإبداء التذمر من استبعاد المصريين من حق اختيار من يحكمهم. كل التقدير والاحترام لمن يعمل بدأب وبجسارة في هذا المشروع. المنجزات قليلة حتى الآن ولكن من يعتب على نملة لأنها تتعثر في إيقاظ الفيل النائم.
ولكننا نشعر أن جبهة الديمقراطية في مصر تحتاج إلى "فكر جديد" يستطيع منازلة "الفكر الجيد" الذي يأتي به مبارك الابن. أحد ظرفاء العصر الحالي قال أنه "ربما يكون لدى الحزب الوطني شيء جديد، ولكن لم نعرف عنه يوماً أنه يمتلك فكراً." وهذا رأي يجانب الصواب، لأن مبارك الابن يملك فكر ومشروع وهو كما قلنا زواج واتحاد الرأسمالية والبيروقراطية في شخصه المتواضع. أنه مشروع سخيف وفج، ولكنه يسير على قدم وساق في المنطقة العربية من ممالك الخليج المحافظة وحتى جمهوريات التقدمية والقومية العربية مثل سوريا وليبيا. إنه الحل الذي فتح به المولى عز وجل على هذه النظم المتهالكة وهذه الرأسماليات البائسة. في مجتمعات أخرى تتم التسوية بين الطبقات المسيطرة بشكل أكثر حداثة. أنظر إلى الصين وكيف يتم الاندماج فيها بين البيروقراطية والرأسمالية داخل الحزب الشيوعي. ولكن في هذه المنطقة يتم الاندماج بتولي أبناء الرؤساء من الرأسماليين للحكم.
الفكر الجديد الذي نطرحه يرفض صيغة الزواج التي يطرحها جمال مبارك (الزواج العرفي) ولكنه يعتقد أن الاتحاد بين البيروقراطية والرأسمالية عملية موضوعية. أي أن هناك قوى خارجة عن إرادة الأفراد (قوانين التطور الاجتماعي) تدفع إليها. لذلك فهو يعتقد أن مهمة قوى التقدم والديمقراطية هي اللعب في ملعب أخر وهو العمل على اتحاد الطبقة الوسطى والعاملة في مشروع سياسي ديمقراطي. حينما نقول مشروع سياسي فنحن إذن نركز على الصراع السياسي والمكاسب السياسية. الحصول على بعض فتات المكاسب الاقتصادية مثل زيادة الدعم أو إيقاف تدهوره لا يعني شيئا كبيراً. الأهم الآن هو التركيز على تغيير قواعد اللعبة السياسية بين الفئات الاجتماعية وتأسيس نظام سياسي جديد يسمج للطبقة الوسطى والعاملة أن تدافع عن حقوقها الاقتصادية والاجتماعية بشكل أكثر فعالية.
هذه الطبقات لا تملك إلإ الديمقراطية لكي تنتزع بها المكاسب من البيروقراطية ومن الرأسمالية. فهي لا تملك لا المال ولا العنف. هي لا تملك إلا أغلبيتها العددية. وبما أن الديمقراطية تعطى وزنا للأغلبية العددية، لذلك فهذه الطبقات ليس لها من مخرج إلا بالتمسك المطلق والحديدي بالديمقراطية، أي بمبدأ: مواطن (ومواطنة) واحد يساوي صوت واحد في اختيار الحكام. الفكر الجديد إذن مؤمن إيماناً مطلقاً بالديمقراطية البرلمانية باعتبارها الوسيلة الوحيدة المتاحة الآن لتحقيق مصالح الطبقات الوسطى والعاملة. مهمة هذا التيار إذن هو الدعوة والتبشير بالديمقراطية باعتبارها الحل الوحيد لمشاكل مصر الاقتصادية والاجتماعية وباعتبارها أيضاً قيمة في حد ذاتها. والتيار الذي يحمل هذا الفكر له حظاً كبيراً في تحقيق نجاح في ذلك لعدة أسباب:

أولاً لأنه تيار ديمقراطي: فقد حسم على المستوى الفكري مسألة الديمقراطية، وهو يرفض أي سلطة ديكتاتورية بإسم الدين أو الطبقة أو القومية. هو متخفف من الأحمال الثقيلة التي تحملها كثير من القوى السياسية في مصر، وهي فكرة الحاكمية لله في السياسة التي لا يزال التيار الإسلامي يتعثر في محاولاته للخروج منها، ومن فكرة ديكتاتورية البروليتاريا التي لا زال شبحها يطارد الكثير من الماركسيين دون أن يستطيعوا أن يقطعوا معها للأبد، وهي أيضاً متحررة من حلم الزعيم الفرد الملهم القائد والمنقذ الذي لا يزال معظم الناصريين ينتظرونه.

ثانياً لأنه تيار يتبنى العلم: أحد أهم مشاكل النخبة السياسية المصرية هي الاعتماد المحدود على العلم والمعرفة كوسيلة لممارسة السياسة وأيضاً كخطاب نافذ يستطيع أن يستميل الناس. لم نر كثير من السياسيين يعلنون، حتى ولو بالدجل، أن برنامجهم قابل للنجاح لأنه برنامج علمي ومنطقي. اللغة العلمية هي أحد أهم اللغات التي تستطيع أن تترجم الأفكار والمصالح السياسية. لقد حققت العديد من الحركات في العالم نجاحاً كبيراً على أرضية القول بأن لديها أفكاراً علمية (لا يجب أن ننسى الانتشار الصاروخي لما كان يسمى بالاشتراكية العلمية في أوساط المثقفين). هل غياب اللغة العلمية في السياسة المصرية يعبر عن غياب قيمة العلم في المجتمع المصري؟ إذا كانت قيمة العلم هنا غير موجودة لماذا حقق كثير من الدعاة نجاحهم في الدعوة الدينية بواسطة الدفاع عن الدين بلغة العلم. أننسى مصطفى محمود؟ وماذا عن زغلول النجار؟ الخطاب الديني يتسلح في بعض الأحيان بالخطاب العلمي، فلماذا لا يذهب الخطاب السياسي في نفس الاتجاه؟ لماذا يتخلف هذا الخطاب عن الخطاب الديني؟ الإجابة هي أن المجال السياسي في مصر هو أكثر مجال يفتقد للمنافسة والتعددية. كل مجالات المجتمع شهدت إحلال وتجديد في أبطالها: السينما، الموسيقي، الدعوة الدينية، الأدب، الخ. إلا السياسة، فمن غير المسموح إلا بخطاب واحد يكون للناس حق معارضته، بشرط أن تكون المعارضة في التفاصيل وأن لا تتخطى الكلمات إلى الأفعال. لو دخلت المنافسة الحرة عالم السياسة ستصبح لغة العلم هي أحد أهم اللغات المتداولة في السياسة إلى جانب لغة الدين. ربما نكون في بداية هذه المرحلة. فبالرغم من النظام التسلطي ما زال يسيطر على معظم قنوات تبادل الأفكار السياسية، إلا أن السنوات الماضية شهدت ظهور مساحات من الحرية كان صعب على النظام أن يغلقها مثل شبكة الانترنت. و بما أن هذه الشبكة تنقل الكلمة المكتوبة أساساً، التي تقل فيها قدرة مداعبة العواطف عن الكلمة المسموعة، فالمنطق يقول أن اللغة العلمية في السياسة أمامها فرص أكبر في المرحلة القادمة.

ثالثاً لأنه تيار يحترم الممارسة والخبرة العملية: هذه اللغة العلمية التي ذكرناها لن ينطق بها فقط حملة الدكتوراه. لن نفعل مثل الحكومة ونضيق العلم في شهادة جامعية تجعل من حاملها مرشحاً لشغل منصب هام. لقد شبعنا من الوزراء حملة الدكتوراه. المحرومون من الشهادات يرفعون أحياناً شعار "العلم في الراس وليس في الكراس". أي أن المعرفة التي تأتي من الكتاب فقط هي معرفة قاصرة. مصادر العلم والمعرفة متعددة وأهمها التجربة المباشرة. الكتب ما هي إلا محاولات لتلخيص المعارف وتنظيمها. نحن نوسع إذن من تعريف العلم في حديثنا عن الخطاب السياسي العلمي ليصبح ذلك الخطاب الذي يعتمد على المنطق وعلى الاستدلال من الواقع المصرى وغير المصري لكي يفرض نفسه. وبما أن المنطق النظري والخبرة العملية لا تتحدان إلا في أشخاص قليلين، يجب أن يمتزج من يعرف الحياة العملية اليومية مع من يملك الوقت والخبرة لكي يبتعد عن الصورة قليلاً كي يرى بشكل أوضح.
تحقيق المساواة بين مثقف التحليل ومثقف الخبرة المباشرة، بين السياسي المحترف والسياسي الذي يعمل بشيء أخر غير السياسة بين مثقف الطبقة الوسطى ومثقف الطبقة العاملة يتطلب الأتي: أن يكف المثقف والسياسي المحترف ابن الطبقة الوسطى عن القول بأنه يعبر عن مصالح الطبقات العاملة، وأن يصرح بأن له مصالح خاصة (كعضو في الطبقة الوسطى) هي التي تأتي به للقاء العمال والنقابيين. هكذا تكون المسائل واضحة. الكل يبحث عن مصلحته. والفصل بين المصالح المتعارضة يكون بالحلول الوسط، أو بالحل الذي يحقق مصلحة الأغلبية. هذه الحركة هي إذن محاولة لصهر مصالح الطبقة الوسطى مع الطبقة العاملة. مشكلة المشروعات التي حاولت ذلك من قبل كانت احتوائها على عناصر من الطبقة الوسطى تدعي أنها تمثل مصالح طبقات أخرى. وهذا شيء فوق طاقة البشر، أن تمثل وأن تدافع عن من لا تنتمي إليه. إنه شيء يستعصى على الجميع باستثناء الأنبياء أو على الأقل أولياء الله الصالحين والرهبان والقديسين. ونحن لا نعرف نبياً واحد بينناً. خلط الأوراق وإخفاء المصالح وصل بنا إلى الحالة التي يرفض فيها بعض مثقفي الطبقة الوسطى الاستثمارات الأجنبية في الوقت الذي يئن العاطلون من الطبقات الوسطى والعاملة في البحث عن وظيفة.

رابعاً لأنه تيار قد قطع نهائياً مع المركزية الأوروبية: كانت أنظار قوى التقدم والديمقراطية تتجه دائماً إلى أوروبا لاستلهام تجاربها سواء كانت الثورة الفرنسية أو الروسية. التيار الجديد متحرر من "عقدة الخواجة الأوروبي". هذا التيار ينظر أكثر إلى تجارب التقدم والديمقراطية الناجحة في العالم الثالث. من اندونيسيا والهند شرقاً، إلى البرازيل غرباً وإلى جنوب أفريقيا جنوباً. طموحاتنا تتخطى ما أنجزته هذه التجارب، ولكننا ندرك جيداً أنه إذا كان على الشعب المصري أن يتعلم من تجارب شعوب وحركات ديمقراطية، فهذه الشعوب وتلك الحركات سيكون موطنها الجنوب وليس الشمال. لأن ما يفصلنا عن أوروبا قرون وما يفصلنا عن التجارب الناجحة في العالم الثالث مجرد عقود أو سنوات.

و بعد... حاولت هذه الورقة توصيف الصراع الاجتماعي والسياسي الذي تعيشه مصر اليوم وتبيان للمهام الملحة على قوى التقدم والديمقراطية. بعد استنفاذ النقاش حول الورقة وتطويرها وتعديلها بما يتوافق مع مواقف المؤسسين، سيكون على الورقة القادمة أن تحاول ترجمة الخط السياسي الجديد إلي شكل عملي. فلنستعد إذن للدخول في تفاصيل القضايا العملية.



#سامر_سليمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دعوة للحوار
- نحو رؤية يسارية للمسألة الديمقراطية


المزيد.....




- استهداف أصفهان تحديدا -رسالة محسوبة- إلى إيران.. توضيح من جن ...
- هي الأضخم في العالم... بدء الاقتراع في الانتخابات العامة في ...
- بولندا تطلق مقاتلاتها بسبب -نشاط الطيران الروسي بعيد المدى- ...
- بريطانيا.. إدانة مسلح أطلق النار في شارع مزدحم (فيديو)
- على خلفية التصعيد في المنطقة.. اتصال هاتفي بين وزيري خارجية ...
- -رأسنا مرفوع-.. نائبة في الكنيست تلمح إلى هجوم إسرائيل على إ ...
- هواوي تكشف عن أفضل هواتفها الذكية (فيديو)
- مواد دقيقة في البيئة المحيطة يمكن أن تتسلل إلى أدمغتنا وأعضا ...
- خبراء: الذكاء الاصطناعي يسرع عمليات البحث عن الهجمات السيبرا ...
- علماء الوراثة الروس يثبتون العلاقة الجينية بين شعوب القوقاز ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - سامر سليمان - في تشريح الصراع الاجتماعي والسياسي في مصر