أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل محمد الربيعي - الغُربة















المزيد.....

الغُربة


خليل محمد الربيعي

الحوار المتمدن-العدد: 3268 - 2011 / 2 / 5 - 11:18
المحور: الادب والفن
    


للفتيات في سنّ الثانية عشرة وما حولها حساسية عجيبة وتأثر خاص، كأنّ طبيعة َ الأنثى تبدأ تفتـّـُحها وظهورها في هذه السنّ، وكأنّ الأنثى تولد مرتين خلال حياتها: ولادةُ وجود تشترك فيها مع الذكور، وولادة شعور تتكثف فيها المشاعر المرهفة وتتدفق منها الرؤى الحالمة التي تؤذن بأنّ هذا المخلوق سيبدأ الآن تحوله الأكبر والأكثر غموضا ً..ليصبح امرأة عن قريب.
ومن المؤسف أنّ أغلب الآباء في مجتمعنا لا يدركون خصوصية هذا التحول في شخصية وطبيعة بناتهم فيؤولونه تأويلات خاطئة ويضغطون عليهنّ في وقت هنّ أحوجُ ما يكنّ إلى التفهم والمداراة والرفق، أو يكلون أمرهنّ إلى أمهاتهنّ في أحسن الأحوال، مع أنّ الفتيات في هذا السنّ يتأثرن كثيرا بآبائهنّ ويرَين فيهم المثل الأعلى.
لي صاحبٌ ملتزمٌ تربطني به صداقة قديمة، منذ أيام المدرسة الأولى، وله ابنة حلوة وذكية لم يقصر في تربيتها ورعايتها وإنشائها النشأة الحسنة..لكنها عندما أصبحت في مرحلة الدراسة المتوسطة بدأت تنعزل عن صديقاتها وتـُقلّ الكلام مع أمها وكثيرا ما كانت تجلس قريبا من نافذة غرفتها تطالع أشجار الحديقة بصمت، وعلى الرغم من متابعة والديها لحالتها ومحاولتهم باستمرار التواصل معها لم يعرفوا سبب هذا التحول وعزوه أخيرا إلى كونه (دلال بنات)..فحدثني أبوها يوما أنها طلبت منه كتابة إنشاء عن موضوع (الغربة) لمادة العربي في المدرسة، وسألني أن أكتب لها كلمة بسيطة..فكتبتُ على لسانها مقالا قصيرا حاولتُ فيه أن أفكر بعقلها وأنظر بعينيها (أمّا أنْ أشعر شعورها فهذا مستحيل)، وسلمتُ الموضوع إلى صاحبي في اليوم التالي، وكم كان شعورا ممتعا عندما أخبرني لاحقا أن ابنته قد تغيرت كثيرا منذ قرأت المقال وأصبحت أكثر تفاعلا مع الآخرين، كما قلت جلساتها الصامتة أمام النافذة..ولا أدري أكان السبب هو فهمها للمقال وتأثرها به أم أنها فرحة التفوق فقد أخبرني أبوها أنها حازت الدرجة الأعلى بين زميلاتها في هذه المادة..على أي حال قد مضت سنوات على هذا الأمر وهي الآن في الجامعة ومن المتفوقات في الدراسة..وربما لا تتذكر اليوم شيئا من المقال الذي أضعه اليوم أمام القراء بنصه:
[ في حديقة بيتنــا شجرة لها من العمر أكثرُ من عشرين خريفــا ً.. ولا أقول ربيعا ً..لأنني كلمــا اقتربت منها رأيت لها لِحاءً متكسّرا وجذعــا متحجّرا كأنه لايمتّ الى الحياة بصلة.. وكأنّ الشجرة لم تعرف بهجة الربيع ولا لامست نسيمه قط .. وتتابعت عليها السنوات وهي في مكانها لاتبرحه كأنما قضت حياتها وهي واقفة تنتظر إلفــا ً غائبــا ً أو أملا موعودا ً.. وما تأملتها يوما إلا أحسستُ بشعور كئيب من الغربة يجتاح أركان قلبي من حيث لاأعلم..ولطاما أشفقت عليها وسألت أبي لمَ لم يزرع الى جانبها أشجارا أخرى من صنفها أو لمَ لاينقلها الى حديقة عامة لتكون مع قريناتها فكان يقول لي : يابـُنيـّتي ، هذه شجرة دائمة الخضرة أي دائمة العطــاء ولاتحس بالغربة أبدا ً لأن مكان زراعتها هو موطنها وأحسبها ستشكو من الغربة لو أننا نقلناها عن مكانها هذا شبرا ً واحدا ً..
هل يـُعقل أنْ لا يشعر المرء بالغربة حتى عندمــا يكون وحيدا ً؟ بل هل يـُعقل أن يكون المرء غريبا وهو يعيش بين الكثيرين ممّن يشبههم ويشبهونه ؟ فما هي الغربة إذن ؟ هكذا سألت أبي فأجابني :
يابـُنيـّتي، إن الشعور بالغربة لايتأتـّى غالبا ً من كون الانسان وحيدا في مجتمعه أو مختلفــا بين أقرانه، بل من إحساسه بعدم الانتمــاء لذلك المجتمع أو أولئك الأقران. فإذا عاش الانسان في وطن لاينتمي الى ماضيه وتراثه وضمن َ مجتمع لاينتمي الى طبائعه وأفكاره وتوجهاته ، فقد جُمعت عليه الغربة من أطرافها ولم يسعدْ ولو أطاعته الدنيا فيمــا سوى ذلك جميعــا ً.
إن الاحساس بالانتماء يبعث في النفس روح الاندماج، حيث لايختلف انسان عن إنسان بشكله أو لونه أو عمره طالمــا ضمـّهم وطن واحد ووسعتهم أمة واحدة..روح الاندماج هذه تجعل الناس المختلفين الذين فتحوا أعينهم فوجدوا أنفسهم ينتمون لنفس الوطن ويتشاركون نفس الآمال والتطلعات- تجعلهم يتسابقون لخدمة مجتمعهم وحمايته ويفكرون دوما في كيفية إنمائه وتطويره لأنها- في الحقيقة- روح الفريق الواحد..
أرأيتِ – يابـُنيـّتي– الألوان المختلفة في العـَلم ؟ هل يمكنك أن تقولي أن كل لون فيها قد يشعر بالغربة لأنه مختلف عن بقية الألوان ؟ وأن العلم يجب أن يكون بلون واحد ؟ كلا.. فالألوان المختلفة يجمعها تناسق في التوزيع وتناغم في التأثير، لأنها تنتمي لنفس الأحلام والتوجهات التي صنعتها، وهي – بالتالي– أحلام الشعب الذي يمثله هذا العلم وتوجهاتـُه نفسها؛ فشكلت تلك الألوان لوحة واحدة وأدى كل لون فيها دوره بغض النظر عن نسبته أو توزيعه أو تدرّجه، وأصبحت تلك اللوحة ُ عنوان الأمة، وصار رفع العلم لأية أمة هو رفعــا ً للأمة نفسها ، وانتكاسُه انتكاسا ً لها.
وقد يلجــأ الانسان أحيانا الى الهجرة بعيدا عن وطنه أملا في رغد العيش أو خلاصــا ً من نكد العيش.. وربمــا أفلح في بلد المهجـَر وحقق نجاحاتٍ ماكان ليحققها لو أنه بقي في بلده..وربما جرت معه الرياح بعد أن كانت تجري عليه..لكنّ ذلك كله لايملأ ثغرة في نفسه لايزال يحسّ بهــا منذ أن خطت قدمــاه خارج حدود وطنه أو خرجت طائرته عن مجاله الجوي..ثغرةً تظل داخله حتى إنه لـَيـَتنقــّـلُ في شوارع البلد الآخر ويشاهد ملايين البشر وهو يقول في نفسه : هؤلاء هم الناس فأين الشعور بالناس ؟!..ثغرة ً يظنها هو – في البداية– صغيرة ويـرى أن تراخيَ الزمن سيتكفل بهــا عاجـلا أو آجــلا ً.. لكنها لاتــزال تكبر وتتسعُ فيــه – بغض النظر عن نجاحه أو فشله– حتــى تنفجرَ به وينفجرَ بهــا دمــوعــا ً أو حنينــا ً أو آهاتٍ أو...أو...أو تحضيرا ً للحقائب رجوعــا ً الى الوطن. وكلمــا كان الإحساس بالانتماء عند الانسان كبيرا ومتمكنا فيه، كانت غربته أقسى وحنينه أضنى ورجوعه أولى. فغربة المهاجر هي في الأصل انعكاسٌ لغربة داخلية أساسها شعور مبهم يبدأ بلحظة من لحظات البعد عن الوطن ثم لاينتهي عند حدٍّ معين لأنه لايزال يهبط بعيدا في أعماق القلب المجهولة.
على أن الغربة َ نوعـان أهونهمــا ماذكرتهُ لكِ عن غربة الوطن..فهناك غربة أشد وطأة على صاحبها من غربة الوطن، وهي غربة الفضيلة..حيث يعيش الانسان غريبا في وطنه وبين أهله..وبدلا من أن يكون هو المهاجرَ فإن الناس هم الذين يتخلــّون عن أخلاقهم الأصيلة وعقيدتهم السامية ويكونون – هذه المرة– هم المهاجرين لا إلى بلد آخر ولكنْ إلى دين آخر..ويمكن أن نلمح ذلك في حديث نبينا العظيم (ص) حين قال : "بدأ الاسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ.." .. وهل بدأ الاسلام إلا فكرا نورانيا ً جديدا ً ملأ أقطار الدنيا المظلمة آنذاك ونقل الناس فيها من الظلمات إلى النور؟ وهل وصفه النبي الذي لاينطق عن الهوى بأنه بدأ غريبا إلا لأن أهل الشرك يومئذ كانوا هم المغتربين، وأنهم هاجروا من الحنيفية – دين أبيهم إبراهيم– الى ضلالات الشرك والوثنية، وأن الاسلام هو دينهم الأصلي (إن الدين عند الله الاسلام) ؟. ولذلك كانت غربة الفضيلة أقسى أنواع الغربة ، ولايستطيع حملهــا والنهوضَ بهــا إلا أناس اصطفاهم الله لحمل الرسالة الخالدة. وأنتِ تعلمين كيف كان أصحاب رسول الله (ص) وكيف نهضوا بهذا الأمر وفتحــوا الدنيـا لينقذوا الدنيــا من غربتهــا .
...ثم نظر أبي اليّ وقال : هل تعلمين ياصغيرتي أن الغربة تكون أحيانا ضربا من القتل؟..فخروج السمكة من محيطها المائي هو خروج من المــاء والحياة معــا ً..ولذلك كان من أقسى العقوبات على الانسان أن يــُحكـَم عليه بالنفي من الأرض الى مكان بعيد لاينتمي إليه..وماهو بإبعاد عن البيئة والوطن بقدر ماهو إبعادٌ عن الشعور بالانتماء وتعميق ٌ لإحساس الغربة الذي لايجلب معه إلا اليأس والخوف والضياع.. وكفى به عقابــا ً أليمــا ً.. ومن أجل ذلك أيضـا ً كان من واجب ولاة الأمر في أي بلد أن يعملوا على تعميق روح الاندماج لدى الشعب لأنها سبيل التطور والنهوض وأساس الصمود والتفوّق..وإذا كان التعاون بين أعضاء الفريق الواحد أساسا ً للفوز في لعبة من الألعاب، فإنه أولى بين أبناء الشعب الواحد الذين تجمعهم الطبائع والأفكار والأهداف ذاتـُها، كأنهم أشجار من أصناف شتى تجمعهم تربة واحدة.
يابـُنيـّتي، إن الشجرة أينما زُرعت فذلك موطنها.. وهذه الأشجار التي ترينها مختلفة ليست غريبة عن بعضهــا لأن الماء الذي يرويهــا جميعــا ً هو مــاء واحد..
وكان أبي يتحدث اليّ ونحن جالسان بالقرب من نافذة البيت التي تطلّ على الحديقة..فلمــا وصل من كلامه الى حيث انتهى، سمعنــا زقزقة أفراخ لحمامة كانت قد بنت لها عشــا ً على غصن من أغصان شجرتنا الباسقة..ونظرنا فإذا بالحمامة قد عادت الى عشهــا وبمنقارها شيء من الطعام جعلت تزقــّه في أفواه أفراخها..وراح النسيم يحرك الأغصان والأوراق فبدأت تهتز كأنها تؤدي رقصة ربيعية ً هادئة ً في سعادة غامرة.. وشعرتُ فجأة بأن الشجرة - التي كنت أحسبها ميتة- تعجّ بالحياة.. ورجعت إلى نفسي أبحث عن شعور الغربة الذي طالما انتابني كلما نظرت اليها فلم أجده..ثم رددتّ ُ بصري الى الشجرة ثانية فوجدتها أكثر اخضرارا ً ورونقـا ً وحيوية ً .. وكأنها شجرة أخرى .. أو كأنني أراهـــا لأول مرة..!! ]



#خليل_محمد_الربيعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشعر الحر وخمسون عاما ً من العقم (1)
- تسونامي الثورات العربية: إلى أين؟
- النظرة الإزدواجية للمرأة في المجتمعات المتمدنة


المزيد.....




- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل محمد الربيعي - الغُربة