أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - أبو العباس ابرهام - الثورة التونسية: في انتظار اكتمال الدروس















المزيد.....


الثورة التونسية: في انتظار اكتمال الدروس


أبو العباس ابرهام

الحوار المتمدن-العدد: 3250 - 2011 / 1 / 18 - 21:17
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
    


من سلبيات الإعلام المتلفز تقديمه للخبر و كأنه حدث اليوم. إن هذا يحرم المتابع من مشاهدة التطور الحثيث للثورة. إن لحظة الإنتفاضة ليست سوى لحظة متأخرة من مسلسل طويل من التذمر. "اللحظة البوعزيزية" هي لحظة إحساس المجموع بقدرته على الحركة و فقدانه للخوف من النظام. دائما، هي لحظة اللاعودة. و لكنها لحظة يسبقها تاريخ.
في إيران الشاه بدأت اللحظة البوعزيزية، كما رواها كابوشينكي في "شاه الشيهان" عندما تخاصم متظاهر مع شرطي و رفض أن يعود إلى الوراء أمام إصرار الشرطي الذي تراجع ذليلا. بعد ساعتين تم تداول القصة في كل جمع إيراني، و بدأت الجموع في النزول للشوارع بشكل مستمر طوال الأشهر. ثار هلع الشاه و أصبح يحوم بنفسه فوق الجموع بحوامته الصغيرة ثم يعود حزينا كل ليلة إلى قصره (رواية هيكل). لم تنفع تنازلاته و إصلاحاته الهلعة. و اضطر للهرب. "إنها ليست انتفاضة، أيها الملك. إنها ثورة"، كما قال مستشار لويس السادس عشر له في بداية الثورة الفرنسية.


لتقصى اللحظة البوعزيزية في الثورة التونسية لا بد من تذكر موجات الرفض الحثيثة: إضرابات الخبز في التسعينيات، حادثة توفيق بن بريك، التي انتصر فيها الصحفي السجين على النظام بفعل موجة التعاطف الدولي و الداخلي الكبير، و لابد من تذكر الثورات العفوية المعتم عليها، كما حدث في جنازة بورقيبة، التي رفض النظام نقلها على الهواء، و التي هاجمه فيها المتظاهرون بشكل غير مسبوق من خلال شعارها الذي تم تداوله طويلا: "بورقيبة يابطل، بن علي يا بغل". لا بد أيضا من تذكر حروب المثقفين من داخل نقابة المحامين و في حرب الرأي العام التي تم فيها إقحام الصحافة الفرنسية في كشف فساد النظام وقمعه في بداية 2000 فما بعدها.
إنها لحظة لها ما قبلها و لكن ليس بعدها سوى الإستعداد للهرب.

2

الذي حدث في تونس هو ثورة بكل المقاييس. إن الثورة هي لحظة تناغم أصوات المعذبين في الأرض و إدراكهم علاقة عذابهم بالنظام القائم و عزمهم الإطاحة به. لقد تم استقبال هذه الثورة بكثير من الحفاوة و اللهفة، غير أن الأمر الحقيقي الذي يجب التلهف له هو إمكانية نجاحها وتوسعها إلى بقية العالم العربي و الإفريقي حيث يسود غالبا الجمود السياسي سواء من النظام أو من الشعب.

وفي الحقيقة فإن المنطقة العربية التي حلا للبعض أن يستخدم تحاليل "الإستبداد الشرقي" الهيغلية القديمة لتقديم نوع من الجبرية تنفي إمكانية التغيير فيها، ديمقراطيا و ثوريا، هي من المناطق المرشحة جدا للثورة بعد أوروبا الشرقية و أميركا الجنوبية في فترة سيادة النيوليبرالية ، وذلك بفعل شساعة الفروق الإجتماعية فيها، التي فاقمها تراجع الحماية الإقتصادية و نفوذ النخب الإحتكارية، إضافة إلى تنامي الرفض بفعل الحركات الإجتماعية و الدينية الإحتجاجية.

و في الحقيقة فإنه قبل الثورة التونسية كان يشار إلى مصر و تونس و المغرب و الجزائر و سوريا والسودان و إيران باعتبارها مظانا لثورات شعبية، مع الفروق الشاسعة بين أنواع هذه الثورات و انعكاساتها. ففي المغرب لا يرتبط التذمر الإجتماعي بحالة عدائية شعبية ظاهرة ضد النظام الملكي، و في سوريا يمكن لثورة تطيح بالنظام أن تفجر الصراعات الطائفية و العرقية لصالح إسرائيل و إيران، أما الجزائر فإنها تفلح في امتصاص التذمر بإنفاقها الإجتماعي و بالسماح بحرية التعبير. أما الملكيات العربية فإنها دول رفاهية لا تتألم فيها الشرائح الوسطى كثيرا، و ليس للمعذبين فيها حق المواطنة. ومهما يكن من أمر فإن الثورات العربية القادمة ستندلع من الدول التي توجد بها طبقات واسعة مفقرة بفعل الأزمات الغذائية و بفعل سياسات انسحاب الدولة، و التي تسود فيها البلوتوقراطيا و الأوليغارشيا بشكل زائد.


أما المسألة الثانية التي ينبغي ملاحظتها في هذا الإطار فهي أن الثورات الشعبية ليست جديدة على المنطقة العربية، بل إن الأنطمة القائمة في معظم هذه الدول قادمة من خلال ثورات شعبية قوية في بدايات القرن العشرين. و رغم أن الكثيرين أشاروا إلى الثورة التونسية باعتبارها أول ثورة عربية شعبية إلا أن تاريخ الثورة الشعبية عريق في دول تبدو الآن بعيدة عن كل حس ثوري في سوريا و العراق و مصر و السودان هذا إضافة إلى عشرات الإنتفاضات التي لم تكتب لها فرصة النجاح في كل العالم العربي و الإسلامي.


3

إن أهم درس قدمته الثورة التونسية هو أنها ثورة معيشية و ليست أيدلوجية أو سياسية. لقد تم تصوير الثورة القادمة على أنها ستكون ثورة الأحزاب و المؤسسات المدنية، و "غضب المؤمنين" ولكن الضربة جاءت من مكان مغاير. إنها ثورة الطبقة الوسطى المتضررة من سياسات الخوصصة و البطالة. ويمكن اعتبارها ردا على خلل نظمي في النظام التونسي. فلقد بدأ هذا النظام في الإستثمار في التعليم بشكل جيد، ولكنه لم يرافق هذا الإستثمار بحلول معيشية تكفل الإستفادة منه. و بالإضافة لهذا فإنه قد بدأ منذ منتصف التسعينيات في التخلي عن السياسات الإشتراكية و سياسات الحماية الإجتماعية التي أقرها نظام بورقيبة. كان بورقيبة ليبراليا متطرفا، ولكنه استفاد من السياسات الإجتماعية و الإقتصادية الإشتراكية، و خصوصا بعد الثورات الخبزية في نهاية السبعينيات و بداية الثمانينيات التي راح ضحيتها المئات، و التي تمكن بها من إسكات أصوات التذمر. و مع تمكن بن علي من الحكم فإنه قام برمي حمائية بورقيبة إلى الخلف تدريجيا، مقرا مكانها نظاما انسلاخيا أساسه "الإصلاحات االهيكلية" و اللبرلة التي زادت نسبة البطالة في بلد يعتمد أساسا على الرصيد التعليمي كاستثمار و ليس على المبادرات التجارية الصغيرة التي ركزت عليها الإصلاحات.


4

إذا، كانت الثورة التونسية ثورة إيجابية- إذا اعتمدنا مصطلح غرامشي أو ثورة قادمة من الأسفل. رغم هذا لا يمكن إغفال جوانب العمل النقابي و الطلابي و الأصوات السياسية و دورها، فهذه كانت مهمة في إبقاء جذوة الثورة مشتعلة. و لكنها كانت جهودا بعدية على اندلاع الثورة. و الحقيقة أن هذا في حد ذاته أحد المخاطر على الثورة. فإلى حد الآن لم تظهر أي قيادات ميدانية نابعة من انتفاضة ديسمبر-يناير. وهذا يعني أن حدث قلب النظام سيتم تقديمه بدون أوصياء قياديين، وهو ما سيمسح للمعارضين القدماء بالقفز إلى الفراغ لمحاولة ملئه. إن عدم ظهور قيادات نابعة من المطالب الإجتماعية الجديدة سوف لن يكون أكثر من إعادة الصراعات السياسية لما قبل حالة الإنتفاضة، التي سيتم إسكاتها في إصلاحات ظرفية. و إذا حدث و أن عادت شروطها الإقتصادية مرة أخرى فسيكون من الصعب إعادة الثورة وذلك بفعل وجود نظام يسمح- فرضا- بقدر كبير من الحرية.


5

إن الإيجايبة بالمعنى الذي يستخدمه غرامشي هو المشاركة التلقائية والكاسحة لجموع الشعب في غياب أي تأطير سياسي أو استغلال سياسي من أي نوع. و كما رأينا فإن الإجحاف في هذه الإيجابية قد يهدد تماسك المطالب الإجتماعية نفسها. غير أنه إذا استخدمنا الإيجابية بمعنى آخر فإنه يمكننا الحديث عن تلاحم الشعب التونسي ووحدته العضوية كقومية واحدة، فبعكس بقية دول المغرب العربي ينحصر البربر هنا في جربة و في الصحراء التونسية الجنوبية في أعداد ضئيلة ولا ينتظمون في استقلال ثقافي أو قومي. كما أن القومية التونسية هي من أقدم القوميات العربية إذ تعيش الآن تسعينيتها النشطة، و بعكس البلدان العربية فإنها لم ترتبط بالصراعات الأيدلوجية مع اليسار و الإسلام السياسي، بل تم قبولها في إطاريهما.

و تكمن هذه الإيجابية في أن هذا سيجنب البلاد مخاطر التشرذم السياسي كما حدث في عراق ما بعد صدام حسين حيث ساهم انفجار العصبويات و الإختلافات الطائفية في تحويل البلاد إلى كيان غير قابل للحكم وفي وضعية أسوأ من الوضعية السابقة لسقوط بغداد. و الوجه الآخر لهذه الإيجابية هو غياب المطامع السياسية في الدول المجاورة و غياب أي دور محتمل، سلبا، لتونس في قضية الصراع في المغرب العربي. إن كل هذا يجعل الثورة التونسية هي ثورة مأمونة العواقب أكثر من أي بلد عربي آخر، خصوصا في دول المواجهة.

6

إن البعد الشعبي و المعيشي للثورة التونسية سيكون صمام أمام لها. والحقيقة أن الثورات المعيشية كانت دوما جزءا من التقاليد التونسية. و رغم بعد ثورة 1864 زمنيا إلا أنها بقيت عالقة في أذهان الجماهير التونسية كحدث مكون للمخيلة الجماعية، فقد قاد على بن غذاهَم في تلك الفترة انتفاضة شعبية هائلة عندما قرر الباي محمد الصادق (1814-1882) زيادة ضريبة المجبى و ضرائب الإعانة في عام 1963 لتطال القرويين و الفلاحين في الساحل ، الذين لم يدفعوا هذه الضريبة قبل الآن و استمرت أكثر من سنة في احتقان ثوري متواصل. امتدت الثورة بشكل قوي و تحولت إلى مشاعر كره للباي في الجنوب و الغرب. رد الباي بقمع الثورة بالعنف و علق الدستور معلنا حالة الطوارئ. ولكن المشاعر الثورية و جدت طريقها إلى إصلاحات خير الدين التونسي بعد سنوات و أدت إلى تقليص صلاحيات الباي مؤقتا.

لقد استمرت هذه التقاليد التونسية حتى عهد بورقيبة. ففي عام 1978 و لدى زيادة الأسعار اندلعت ثورة شبيهة بثورة 2011 ، عرفت بأحداث مايو و أدت إلى مواجهات عنيفية في الشوارع مؤدية إلى أكبر أزمات نظام بورقيبة فاستمرت أشهرا رغم التعتيم الإعلامي ووصلت إلى مداها في سوسة و القيروان و تونس و قتل فيها أكثر من مائتي شخص فيهم العشرات الذي قتلوا في محاكمات صورية.

أما أحداث 1983 فقد استمرت أشهرا، وذلك بعد إعلان نظام بورقيبة في أكتوبر عن التخلي عن دعم المواد الأساسية وذلك في إطار خطة لنزع دولة الحماية. وقد ردت النقابات و القوى التقدمية بثورة طويلة أسفرت عن مواجهات قوية في كافة المدن و شاركت فيها كافة القوى الحية. و في مارس 1984 تراجع النظام و أعلن عن العودة إلى دعم أسعار المواد الأساسية.

لهذه الأسباب -المتعلقة بأولوية الوضع المعيشي على السياسي في تونس- ظلت الحركات النقابية أقوى في الشارع و أبعد أثرا من الأحزاب السياسية، ولذلك وجدت قدرة على المشاركة في ثورة 2011 فيما غاب أبسط أثر للأحزاب أو لناشطيها. ولهذه الأسباب اشتهر النقابيون التونسيون أمثال فرحات حشاد و حبيب بن عاشور أكثر من السياسيين.


4

إن تاريخ تونس مليئ بإرادة المجابهة في لحظات التوتر المعيشي، غير أن البلاد ظلت متأخرة عن بقية العالم العربي في القدرة على المنازعة على السلطة. و لم يصبح للنضال السياسي بعد شعبيا إلا في سنوات بورقيبة الأخيرة وذلك بفعل انتشار الوعي السياسي من خلال العمل الميداني لليساريين و الإسلاميين. وهو أمر أدركه النظام في منتصف الثمانينيات و رد بحملة مسعورة من الإعتقالات و إضعاف كافة فرص التدافع السياسي. أما المنازعات السلطوية في خضم الحزب الحاكم (كصراع آل بورقيبة: بورقيبة الإبن و الزوجة وسيلة بن عمار ضد بورقيبة الأب، أو الصراع مع المعارضة اليوسفية: صلاح بن يوسف، الذي قتله النظام في القاهرة في 1961 ، أو صراع الرؤى السياسية كخلاف بورقيبة و مزالي 1986 أو بورقيبة و وزير الخارجية محمد المصمودي في 1974) فإن كل هذا لم يتحول إلى تقاليد سلطوية ذات قيمة شعبية.

إن هذا الأمر قد ينعكس على التجريبة التونسية إذ قد يختفي الشارع السياسي بعد الحل الظرفي للأزمة المعيشية و عدم وجود آلية للمتابعة، أو على الأقل للضغط، من أجل إبقاء القوة في الشارع سيفا على أعناق السلطة الفاعلة، والتي تمتعت دوما بالقدرة على حبك مخططاتها من خلال سيطرتها على الإدارة، و تمتعها بسلبية المواطن و عدم اهتمامه بالمشاحنة السياسية.


7

هنالك أيضا خوف من سرقة الثورة التونسية. هذه السرقة قد تتم في إطار "ثورة مضادة". و ذلك عندما تنجح قوى النظام في استعادة زمام الأمور و السيطرة على السلطة من جديد. إن التاريخ التونسي مليئ بأمثلة عودة السياسيات المنقوم عليها بعد منازعتها من قبل الفاعلين. و في العقود الماضية نجح النظام دوما في الإلتفات على التطلعات الوطنية الكبيرة. في البداية كان بقاء نظام بورقيبة كما كان وذلك بعد اتفاق "الميثاق الوطني" مع المستيري 1977. و في 1981 حدث نفس الشيئ لدى محاولة خلق "الجمهورية الأولى". أما "الميثاق الوطني" الأشهر الذي صادقت فيه القوى السياسية الإسلامية و اليبرالية و اليسارية على "انتقالية" زين العابدين بن علي في 1987، فلم يكن غير فرصة لإعادة لم شمل النظام القائم للحزب الدستوري الإشتراكي و جعله يقبض اكثر على زمام الأمور في إطار تسمية جديدة.

اليوم تتم محاولة سرقة الثورة في تونس من خلال القيام بالإنتقال الديمقراطي في ظل النظام الدستوري القائم. إن هذا لن يؤدي إلا إلى سرقة الثورة. من الأولى في هذه الحالة تصحيح خطأ 1987 و القيام بمرحلة انتقالية تتيح للتوانسة التخلص من عبء الماضي القريب من خلال صياغة خطة مشتركة لدستور جديد و عملية انتقالية برعاية كافة القوى الوطنية. إن الدرس الموريتاني يعلمنا أن انتظار تأمين انتقال ديمقراطي من قبل نخبة من النظام القائم لن يأدي إلا إلى تحسين طفيف للنظام دون تغييره، و أن أي انتخابات مستعجلة لن تتيح الفرصة للقوى الديمقراطية في أن تستطيع تنظيم نفسها للمواجهة. و أكثر من هذا فإن الإنتقال في هذه العجالة يمكن أن يفتح المجال لجماعات الضغط الدولية في لي رقبة الإنتقال الديمقراطي. لا بد أيضا من إتاحة الوقت للمؤسسات الإنتقالية في الفصل بين الدولة و الحزب الذين كان تلاحمهما إرثا قويا من الماضي و من الصعب تفكيكه في ظرف وجيز، و خصوصا على أعتاب انتخابات قادمة.

8

كما علمتنا الثورة الفرنسية و الثورة الروسية و نهضة محمد علي باشا، فإن مصير كل ثورة يتحدد بالوضع الجيوسياسي. لقد تم إبطال نتائج ثورة خير الدين الإصلاحية في 1861 في تونس بفعل التدخل الفرنسي و الغربي المتحالف مع رجال الأعمال المستفيدين من العمالة للغرب كالوزير الأول مصطفى خازندار و التجار الكبار، وكانت أوروبا الإستعمارية تستخدمه لتمرير صفقاتها المالية مع البلاد. لقد استمر دور القوى الغربية بعد عودة خير الدين بفعل بفعل الضغوط الشعبية استطاع النفوذ الفرنسي الدعوم أوروبيا إقصاءه عندما رأى في إصلاحاته المالية خطرا المصالح الإستعمارية.

إن دور القوى الرأسمالية في قمع التطلعات الوطنية التونسية هو دور تاريخي. وفي 1978 كان الإنسحاب البورقيبي عائد إلى ضغوط غربية تتعلق بالوعود بالتمويل و المساعدات. أما في 1984 فكان الإنسحاب البورقيبي عائدا إلى مشروع غربي يتعلق بإلحاق منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط الجنوبية بالعقيدة المالية الليبرالية لضمانة السلاسة الإقتصادية في الحوض، و هو ما جاء نقيضا للظروف المعيشية للمواطن العادي فاندلعت ثورة 1984. و رغم الإسكات المؤقت للثورة بالتراجع البورقيبي إلا أن المشروع استمر بشكل واضح في السياسات التونسية حيث تمت ترجمة التخلي الرسمي عن النظام الإجتماعي، الذي قام به زين العابدبن بن علي، في 1988، إلى إقرارالإصلاحات الهيكلية الخطيرة على اقتصاد الطبقة المعتمدة على الخدمات العامة. و مع الخوصصات الشهيرة في التسعينيات و بداية الألفية تم توسيع الطبقة المتضررة من المصالح الغربية النيوليبرالية، المتعلقة بإنعاش الإستثمار و السياحة على حساب الدعم و الرتق الإقتصادي. أصبحت هذه الطبقة المتضررة تضم شريحة هائلة من حملة الشهادات و أصحاب المبادرات الصغيرة و الشرائح السفلى.

لقد كان الطموح السوق الدولية دوما خطرا على المطامح المعيشية الثورية في تونس.

9


الجديد الآن في الثورة التونسية الجديدة هو غياب الدور الغربي. تمر أميركا بمنعرج سلطوي مهم. و يبدو أن النظام فيها لم يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه في تونس. و إلى حد الآن لم يحدث حراك غربي لتفادي السيناريوهات المحتملة من انفلات المنطقة التونسية و ظهور قوى معادية للمصالح الغربية، الإقتصادية و السياسية فيها. ربما مازال الوقت سريعا للجزم بهذا، و ربما تدور تحركات كهذه بالفعل في الكواليس ولكن السكوت العلني أمام مخاطر ظهور قوى كانت تثير الرعب إلى حد الآن يعتبر انتصارا تاريخيا في حد ذاته. ويجب استغلاله في بقية المنطقة.

10


إن تاريخ النظام في تونس هو تاريخ التخلي عن الإلتزامات، فالحبيب بورقيبة بدأ حياته السياسية ناشطا مدافعا عن القيم الدينية ضد الإستعمار، و اشتهر أول ما اشتهر بتكفيره للمتعاونين مع الحماية الفرنسية و بقيامه بحملة واسعة لرفض دفنهم في المقابر الإسلامية، غير أنه سرعان ما تخلى عن حماسه الديني و لم تنتهي أيامه الأخيرة إلا و قد بدأ يقدم علمانوية متطرفة معادية للتدين و لروح العلمانية نفسها التي تضمن احترام و حرية الأديان، حيث بدأ مباشرة في فبراير 1960 في الهجوم على الصوم باعتباره عائقا أمام الإنتاجية و بدأ التشجيع على التخلي عنه. وفي الثمانينيات بدأ يشكك في التدين و اعتبره ظاهرة تستدعى القلق و ذلك لتلازم التدين مع رفض نظامه.
لقد بدأ بورقيبة أيضا حياته السياسية معاديا للإستعمار بشكل راديكالي و ذلك ضد توجهات الدستوريين، كالثعالبي، الذين استخدموا الأمن الفرنسي ضده، غير أن نظامه انتهى حليفا قويا لفرنسا و أميركا.

بدأ أيضا بورقيبة اقتصاده اجتماعيا بشكل لافت. ورغم ليبراليته إلا أنه استفاد من مطالب الإقتصاد الإشتراكي لدى خصومه السياسيين الأوائل من اليساريين، فبدأ الدولة المتدخلة من خلال إصلاحات وزير التخطيط، أحمد بن صالح، 1961، صاحب خطة العشر سنوات في 1962. تبني الإشتراكية في 64 و تحول حزب الدستور الجديد إلى حزب اشتراكي. غير أنه سرعان ما بدأ في التخلي عن هذه الإلتزامات في 1969 و ذلك عندما أقصى بن صالح في1969 من خلال قانون الإستثمار الأجنبي و طرده ثم اعتقاله و سجنه بتهمة الخيانة.

و في الحقيقة فإن "البورقيبية" عنت في القاموس السياسي اعتماد سياسة تحليل الوضعية و ترجيح الإحتمال الأصلح بشكل براغماتي و بدون الإلتزام بخط أيدلوجي ثابت، إلا أن التخلي عن الإلتزامات في إطار البورقيبة ظل عادة للنظام فيما بعده. في بداية حكمه قدم الجنرال بن علي التزاما بالدمقرطة غير أنه سرعان ما أفرغها من محتواها عن طريق نبذ الأحزاب و رفض الإنتقال إلى التعددية من خلال فرض الحزب-الدولة.
إن هذا التخلي العريق عن الإلتزامات من قبل النظام يستدعي الحفاظ على الشارع كقوة أساسية من أجل منع قهر إرادته من قبل النظام.


11

الرسائل التي بعثتها الثورة التونسية واضحة. هي ثورة ضد النيوليبرالية السائدة في كل العالم الآن. صحيح أن الجموع المنتفضة قد لا تعرف هذه الكلمة، و لكن ثورتها هي رفض لنتائج هذا النظام في تونس. النظام الذي يشرد الآلاف من خلال عملية تكتيف أيدي الدولة اقتصاديا، و إطلاقها أمنيا. لقد حدثت ثورات ديمقراطية على هذا النظام في أميركا الجنوبية، أما في تونس فإن الإنفجار تحتم في ظل غياب منافذ التنفس. و هذا ما يحيلنا إلى الدرس الثاني في الثورة التونسية: لا يمكن القيام بإصلاح اقتصادي و ثقافي و مؤسسي دون مواكبته بالحريات الديمقراطية إلى أبعد مداها. و لعل في هذا درس لبقية الأنظمة التي تحاول نهج خط الإصلاح بعيد عن الحقوق الأساسية: في السودان و مصر و موريتانيا و سوريا...



#أبو_العباس_ابرهام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- آخر تقمصات كارل ماركس: إلى أين وصل باراك أوباما؟
- قراءة في فكر نصر حامد أبو زيد


المزيد.....




- فيديو أسلوب استقبال وزير الخارجية الأمريكي في الصين يثير تفا ...
- احتجاجات مستمرة لليوم الثامن.. الحركة المؤيدة للفلسطينيين -ت ...
- -مقابر جماعية-.. مطالب محلية وأممية بتحقيق دولي في جرائم ارت ...
- اقتحامات واشتباكات في الضفة.. مستوطنون يدخلون مقام -قبر يوسف ...
- تركيا .. ثاني أكبر جيش في الناتو ولا يمكن التنبؤ بسلوكها
- اكتشاف إنزيمات تحول فصائل الدم المختلفة إلى الفصيلة الأولى
- غزة.. سرقة أعضاء وتغيير أكفان ودفن طفلة حية في المقابر الجما ...
- -إلبايس-: إسبانيا وافقت على تزويد أوكرانيا بأنظمة -باتريوت- ...
- الجيش الإسرائيلي يقصف بلدتي كفرشوبا وشبعا في جنوب لبنان (صور ...
- القضاء البلغاري يحكم لصالح معارض سعودي مهدد بالترحيل


المزيد.....

- الديمقراطية الغربية من الداخل / دلير زنكنة
- يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال ... / رشيد غويلب
- من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها ... / الحزب الشيوعي اليوناني
- الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار * / رشيد غويلب
- سلافوي جيجيك، مهرج بلاط الرأسمالية / دلير زنكنة
- أبناء -ناصر- يلقنون البروفيسور الصهيوني درسا في جامعة ادنبره / سمير الأمير
- فريدريك إنجلس والعلوم الحديثة / دلير زنكنة


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - أبو العباس ابرهام - الثورة التونسية: في انتظار اكتمال الدروس