أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - عادل عبد العاطي - لماذا ندعو للفيدرالية وكيف نراها؟ مساهمة في تطوير برنامج الحزب الليبرالي السوداني















المزيد.....


لماذا ندعو للفيدرالية وكيف نراها؟ مساهمة في تطوير برنامج الحزب الليبرالي السوداني


عادل عبد العاطي

الحوار المتمدن-العدد: 968 - 2004 / 9 / 26 - 09:03
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


لماذا ندعو للفيدرالية وكيف نراها؟
- مساهمة في تطوير برنامج الحزب الليبرالي السوداني-
إعداد: عادل عبدالعاطي
مدخل:
يطرح الحزب الليبرالي السوداني النظام الفيدرالي كشكل لتنظيم الحكم والعلاقة بين المركز والاقاليم في السودان؛ حيث جاء في مشروع البرنامج السياسي العام للحزب في الفصل المتعلق ب" مهام ومؤسسات الحكم في خلال الفترة الانتقالية"؛ الفقرة الثامنة؛ التالي:
" تقسم اقاليم السودان في الفترة الانتقالية الي 7 اقاليم؛ هي الشمالي والشرقي والاوسط وكردفان ودارفور والجنوبي والعاصمة القومية؛ تحكم كل منها حكومة محلية معينة من مجلس الوزراء."
كما جاء في نفس البرنامج في الفصل المتعلق ب" نظام الحكم والادارة لسودان المؤسسات والعدالة والمسؤولية" في الفقرات من 6 الي 10؛ التالي:
- تقوم الدولة السودانية علي قاعدة اللامركزية الواسعة؛ عن طريق نظام فيدرالي؛ ويقسم السودان الي سبع اقاليم رئيسية؛ ذات برلمانات وحكومات محلية؛ هي الشمالي والشرقي والاوسط وكردفان ودارفور والجنوبي والعاصمة القومية.
- يكفل الدستور حق مواطني كل اقليم فيدرالي في تقرير المصير؛ بما في ذلك حق الانسحاب من الاتحاد الفيدرالي؛ ويحدد الدستور طرق وآليات التمتع بهذا الحق.
- يتكون مجلس الرئاسة من ممثلي الاقاليم الفيدرالية السودانية السبعة؛ المنتخبين من قبل برلماناتهم المحلية؛ وتكون الرئاسة فيه دورية تتغير كل عام.
- تختص الحكومة الفيدرالية بالسياسات العامة للدولة الفيدرالية؛ بما فيها الدفاع؛ والأمن الفيدرالي؛ والتمثيل الخارجي؛ وصك العملة؛ واصدار القوانين الفيدرالية.
- تختص الحكومات الإقليمية بكل سياسات الاقليم المعين؛ ما عدا الاختصاصات الممنوحة حصرا للحكومة الفيدرالية."
ان الحزب الليبرالي بطرحه اعلاه؛ انما يستجيب لمطامح عملية وديمقراطية عميقة واصيلة؛ طالما اختلجت بها افئدة وعقول المواطنين؛ وطالما تجاهلتها الحكومات والاحزاب والنخب المهيمنة علي الدولة السودانية سواء كانت عسكرية دكتاتورية ام "ديمقراطية" مدنية.
ان حزبنا اليوم يعود الي الطرح الفيدرالي؛ هذا الطرح الاصيل في الحياة السياسية السودانية؛ والذي قد التزمت بتطبيقه احزاب وقيادات الشمال عشية الاستقلال؛ ولم تنفذه؛ حيث جاء في التزام تلك الاحزاب تجاه القوي الجنوبية: "أن تنظر بعين الاعتبار (لمطالب الجنوبيين) في الفيدرالية عند وضع الدستور الدائم للسودان المستقل"؛ لينتهي بها الحال الي اعتقال دعاة الفيدرالية وايداعهم السجون بتهمة الخيانة العظمى!!
إننا بعد حوالي 50 عاما من ذلك التعهد الذي لم يلتزم به مطلقوه؛ والذي لو تم الالتزام به لخفف كثيرا من وقع الازمة السودانية وربما سار بالبلاد الي مسارات اخري؛ نرجع الي دعوة الفيدرالية بصدق ومؤسسية وعلمية؛ ونطرحها كاحد بدائلنا وتصوراتنا لنظام الحكم في السودان؛ وكاحد ادوات الحل لبعض ازمته السياسية المستحكمة.

في معني الفيدرالية وتجاربها وتطورها:
تعتبر الفيدرالية احدى صور واشكال الحكم اللامركزي؛ وهو "الحكم القائم علي تخويل السلطات والصلاحيات علي اساس جغرافي". وتفهم الفيدرالية عامة علي انها تعني "قيام اتحاد بين ولايات او اقاليم او جمهوريات مختلفة؛ مشمولة بالاتحاد العام الذي يجمعها في حكومة واحدة؛ تعرف بالحكومة الإتحادية – الفيدرالية- ؛ في نفس الوقت الذي لا يؤثر فيه الكيان الاتحادي علي استقلال الداخلي الذاتي الذي تتمتع به كل ولايات الاتحاد.
وتذهب التعاريف ايضا الي ان الإتحاد الفيدرالي هو اتحاد يربط بين كيانيين سياسيين اواكثر؛ مع احتفاظ كل كيان بكيونته الخاصة داخل الاتحاد؛ واختفاء هذه الكينونة خارج الاتحاد؛ حيث تمثل هذه الكيانات عن طريق الشخصية العامة الموحدة للإتحاد الفيدرالي. وتتألف شخصية الاتحادالفيدرالي الدولية من اتحاد كياناته وفق اسس معينة يتفق عليها في وثيقة الاتحاد.
واذا كانت الفيدرالية في البدء قد كانت اسلوبا لتكوين الدول وانظمتها؛ حيث تندمج كيانات وولايات مستقلة في اتحاد؛ كما تم بالنسبة للولايات الامريكية او الكانتونات السويسرية اوالامارات العربية في الخليج؛ فانها في عالم اليوم اصبحت صيغة للحكم؛اكثر منها شكلا من اشكال الدولة؛ وتأخذ الكثير من الدول بالنظام الفيدرالي نتيجة اتفاق سياسي بين مواطنيها؛ وليس نتيجة لاتحاد دول مستقلة تتنفق فيما بينها لتكوين الاتحاد الفيدرالي كما في حالات الدول الفيدرالية الكلاسيكية.
ان الفيدرالية كشكل للحكم تبدو مناسبة تماما للدول التي تتمتع بالتعدد الثقافي والعرقي والديني؛ وكذل كالدول التي تعاني من التفاوت في التطور بين اقاليمها المختلفة؛ والدول التي تعاني من نزاعات قومية وجهوية؛ اي بتعبير عام؛ كل الدول التي لا تزال في طور التكوين والـتأسيس كامم موحدة ودول مستفرة.
ان الفيدرالية مناسبة هنا لانها تسمح بالاختلاف بين الولايات المكونة للاتحاد فيما يجب عمله من اجراءات داهلية؛ وكيفية تنفيذ ذلك واي الاجهزة صالحة للتنفيذ. كما تقرب الفيدرالية السلطة من المواطن؛ وتجعل السلطة اكثر حساسية تجاه قضايا مواطنها القريب؛ كما انها تضمن الامن بدرجة افضل؛ وذلك لان اغلب النزاعات تحل داخل الولاية.
ان الفيدرالية تسمح ايضا بمراعاة الاختلافات الثقافية والتاريخية في تطور مختلف الاقاليم؛ حيث تسمح مثلا باجازة قوانين وحلول بعينها في ولاية ما اومجموعة ولايات؛ دون تطبيقها في كامل الاتحاد. كما ان الفيدرالية حافزة علي التقدم وتطور الاقاليم المختلفة؛ حيث تضع مواردالاقليم في يد سلطات الولاية مما يجعل الرقابة عليها افضل واستخدامها اقرب لمصالح المواطنين؛ وتشجع الولايات المختلفة علي المنافسة فيما بينها وتستغل ايجابيا شعور الانتماء المحلي والاقليمي للمواطنين والحكومات الاقليمية في تلك المنافسة ودفع عجلة التطور.
إن الفيدرالية الحديثة لا تعني مجرد قيام انتخابات وبرلمانات وحكومات اقليمية وغيرها من المؤسسات الاقليمية؛ كما انها لا تقتصر علي مجردالاستقلال الاداري للاقليم؛ وهي بلا شك تتجاوز مجرد اطلاق وصف النظام السياسي او الدولة بها.ان الفيدرالية الحقة لا تتوفر الا في ظل سيادة الديمقراطية وحكم القانون في الاتحاد كله؛ كما انها تتطلب فصل سلطات المركز(الحكومة الاتحادية) عن سلطات الاقاليم بصورة واضحة؛ وتحديدها علي وجه الدقة. كما ان الفيدرالية لا يمكن ان تقوم دون ان تتوزع السلطة وتنساب في مختلف مكونات الاتحادالفيدرالي. فالاقليم الفيدرالي ينبغي ان يحكم ايضا لا مركزيا؛ وذلك عن طريق تقسيمه الي محافظات ومجالس واقضية واقسام ادارية مختلفة؛ تنزل بالسلطة الي اصغر الوحدات الادارية والسكانية؛ وتضعها بين يدي المواطنين حقيقة.

تاريخ الدعوة للفيدرالية في السودان:
انطلقت الدعوة للفيدرالية من رحم الحركة السياسية الجنوبية. ففي عشية الاستقلال طرح المطلب في نشاطات الاب ستارنينو؛ وكان احد الشروط التي رفعها القادة الجنوبيون للتصويت مع استقلال السودان. وقد وافقت الاحزاب الشمالية وقتها علي النظر في المطلب؛ لتعودوتنقلب عليه بعد الاستقلال؛ وتصل الي درجة اعتقال دعاة الفيدرالية من الجنوبيين بتهمة الخيانة العظمي؛ كما جرى للسيد ستناسلاوس عبدالله بيساما عندما قرر تكوين حزب فيدرالي يضع الشرط القديم موضع التنفيذ.
وقد رفضت حكومات ما بعدالاستقلال قاطبة الفيدرالية؛ ورأت فيها خطرا علي وحدة البلاد. بينما رأت العديدمن القيادات الجنوبية العكس تماما؛ ودفعت بان الفيدرالية هي السبيل الأمثل لحماية الوحدة بما تحققه من ضمان حقوق المواطنين الجنوبين والاعتراف بتمايزهم عن الشمال.
وفي الستينات فقد واصل حزب سانو(جناح الشهيد وليم دينق) لواء الفيدرالية؛ وافلح في ادخالها كأحد الخيارات الثلاثة لمستقبل الجنوب في مؤتمر المائدة المستديرة(الوحدة؛ الفيدرالية؛ الانفصال). وقد تبنت الفيدرالية عمليا مقررات لجنة الاثني عشر؛ والتي لم تر النور او التطبيق؛ وذلك نتيجة لتقاعس الاحزاب الشمالية وحكوماتها؛ هذا التقاعس الذي وصل ذروته بمؤامرة اغتيال السيد وليم دينق في اواخر الستينات.
وعندما جاء نظام 25 مايو1969 الي الحكم؛ فانه قد رفع شعارات اللامركزية والحكم الذاتي الاقليمي. وبينما منح الجنوب درجة ما من الحكم الذاتي وفق اتفاقية اديس ابابا 1973؛ فان كامل السودان قد كان خاضعا لسيطرة حكومة مركزية قوية. ورغم بعض ايجابيات تجربة الحكم الذاتي في الجنوب؛ الا انها لم تصل درجة الفيدرالية الحقة؛ بل كانت اشبه بفيدرالية الاتحاد السوفيتي السابق؛ والذي كان دولة مركزية في المحصلة النهائية تدار من اعلي في اطار نظام مركزي تسلطي؛ وهوأمر لم يكن ينتظره الا الفشل؛ لان الفيدرالية لا تنمو علي شجرة المركزية ولا تزهر في جدباء الدكتاتورية.
وقد شهدت فترة الديمقراطية الثالثة عودة الدعوة للفيدرالية؛ فقد دعا اليها السياسي المخضرم ازبون منديري؛ كما اختارها مطلبا اساسيا التجمع السياسي لجنوب السودان بقيادة صمويل ارو؛ وحظيت عموما بدعم كبير وسط القيادات والاحزاب الجنوبية. بالمقابل لم تتبناها في ذلك الوقت الحركة الشعبية لتحرير السودان؛ والتي كانت تطرح خطا مركزيا في حينها؛ متأثرة بتجربة الاتحاد السوفيتي والدول السائرة في فلكه آنذاك؛ وخصوصا جمهورية اثيوبيا "الاشتراكية".
وقد شهدت نفس تلك الفترة استمرار رفض القوى الشمالية الرئيسية لمطلب الفيدرالية؛ حيث رفضها نظريا وعمليا حزبي الامة والاتحادي الديمقراطي؛ مكرسين موقفهما التاريخي منها؛ بينما رفضها في وثائق صادرة عنهما الحزب الشسيوعي وحزب البعث؛ مكررين نفس حجج القوي التقليدية بان الفيدرالية مدخل للانفصال؛ بينما هما في الحقيقة ينطلقان من نظرتهما المركزية لشكل الحكم؛ وموقفهما القاصر من لا مركزية السلطة وانسيابها واحترام التعدد الثقافي والعرقي والتفاوت في التطور الاقتصادي؛ وهي قضايا لا تحلها الا الفيدرالية .
اما الجبهة القومية الاسلامية؛ فقد دعت بصورة مفاجئة الي تبني الفيدرالية في وثيقتها البرامجية "ميثاق السودان"؛ وان كانت دعت الي التدريج في تطبيقها!! وفي ظل دعوة ذلك التنظيم لاسلامية الدولة؛ والنزعات المركزية فيه؛ فقداعتبر المراقبون ان دعوته للفيدرالية انما هي من باب المناورة السياسية ومحاولة للخروج من عزلته؛ وخلق حوارات ونقاط اتفاق مع بعض القوي السياسية الجنوبية.

الفيدرالية بين نظام "الانقاذ" والمعارضة:
لقد تبني نظام الانقاذ لفظيا الفيدرالية؛ وذلك سيرا علي خطي الجبهة القومية الاسلامية؛ ووفقا لمفاهميمها؛ وقد تم هذا التبني في "مؤتمر الحوار الوطني" في عام 1989؛ ثم اعلن رسميا عن تبني "الفيدرالية" في 1990.
إن فيدرالية الانقاذ ما هي الا فرية كبيرة؛ حيث ان ما طبق لا علاقة له بالفيدرالية الحقيقية؛ فالبلاد ظلت تحكم مركزيا من قبل حكومة مركزية لها كل الصلاحيات؛ والاقاليم ليس لها سلطات منفصلة اواصيلة؛ حيث لا تملك حتي حق اختيار حكامها؛ ؛ ناهيك عن اجازة نظامها العدلي واقامة مؤسساتها المستقلة.
كما انه في ظل اعلان الشريعة الاسلامية كقانون عام للدولة الاتحادية؛ فان الفيدرالية قد ضربت في مقتل؛ فالشريعة الاسلامية لا تعرف الفيدرالية؛ وليس هناك نظام التعدد القانوني في الدولة الاسلامية؛ كما ليس فيها خيارات للحكم المحلي ولا تأبه للتعدد والتنوع؛ فحكام الولايات معينون ويستمدوا سلطتهم من ولي الامر الحاكم الاسلامي(الخليفة او السلطان)؛ كما ان الولاية محصورة بالمسلمين؛ ولذلك نجد التجارب التاريخية للدول الاسلامية- القديمة والحديثة- قائمة علي المركزية وتمركز السلطات ووحدة القانون واخضاع الأقاليم للمركز في كل صغيرة وكبيرة.
بالمقابل فقد انتعشت دعوة الفيدرالية وسط قوي المعارضة المختلفة؛ ففي عام1991 دعا عدد من المثقفين الجنوبيين الي "اعادة تقسيم السودان وفق نظام فيدرالي او كونفيدرالي"؛ فيما عرف باعلان ادير. أما الحركة الشعبية لتحرير السودان فقد انتقلت فجأة من نظرتها المركزية – تحت تأثير انقسام الناصر وانهيار حكم منغستو في اثيوبيا عام 1991- لتتبني طرح حق تقرير المصير؛ ولتطرح الفيدرالية او الكونفيدرالية كأحد خيارات الحل ( في محادثات ابوجا مثلا). طرحت الحركة الفيدرالية والكونفدرالية دون ان تحدد اي خيار تحبذه؛ وما هو الفرق بين الفيدرالية والكونفدرالية؛ وما علاقة الفيدرالية بحق تقرير المصير.
من ناحية ثالثة فقد تأسس عام 1994 تنظيم "التحالف الديمقراطي الفيدرالي السوداني" بقيادة السياسي المخضرم احمد ابراهيم دريج؛ وكان مطلب الفيدرالية هوعظم الظهر لايدلوجية وبرنامج ودعاية هذا التنظيم. ورغم نجاح التنظيم جزئيا في فترة ما؛ في خلخلة الولاءات التقليدية وكسب بعض الدعم في مناطق غرب السودان وغيرها؛ الا انه لم يؤصل الطرح الفيدرالي كما هو متوقع من حزب جعل الفيدرالية همه الاساسي واودعها في اسمه.
التجمع الوطني الديمقراطي؛ وهو التنظيم المشترك لقوي المعارضة الرئيسية؛ طرح الفيدرالية كاحد اشكال تحقيق وتطبيق حق تقرير المصير؛ وذلك في مؤتمر اسمرا عام 1995. وكالعادة لم يكن التجمع محددا؛ فقد طرح انه هناك "خيارين لاستفتاء حق تقرير المصير: أ) الوحدة (بما في ذلك الكونفدرالية او الفيدرالية) ب) الانفصال".

الفيدرالية وحق تقرير المصير في اطروحات الاحزاب السودانية:
يلاحظ المتابع ان القوي السياسية الشمالية المختلفة؛ قد رفضت علي طول تاريخها الطرح الفيدرالي باعتباره يفضي الي الانفصال؛ بينما اكدت القوي التي طرحت الفيدرالية – بين الجنوبيين اساسا- انها عامل حاسم لبناء وتوطيد الوحدة الحقيقية.
لذلك من الغريب ان نري؛ ان هذه القوي والتي رفضت حتي العام 1989 الطرح الفيدرالي؛ قد عادت وبدون اي مبررات لتقبل في التسعينات بحق تقرير المصير؛ بل وتقبل ان تكون احد خيارات هذا الحل هو الانفصال؛ بينما غيب الطرح الفيدرالي – المرفوض لعدد من العقود- وطرح كاحد اشكال تطبيق الوحدة ( فيدرالية ام كونفيدرالية)؛ دون ان يشرح ما المقصود بالفيدرالية والكونفيدرالية.
لقد كان هذا الانقلاب الدرامتيكي شاملا لمعظم القوي الرافضة للفيدرالية؛ سواء كانت الاحزاب التقليدية(الامة والاتحادي) او اليسارية (البعث والشيوعي) او الحركة الشعبية نفسها؛ والتي لم تطرح الفيدرالية حتي اليوم كاحد اجندتها. بالمقابل فان النظام الحاكم ايضا قد قبل ويا للعجب؛ مطلب حق تقرير المصير؛ ووقع اتفاقا بهذا الصدد في اتفاقية فرانكفورت 1991 مع المنقسمين عن الحركة الشعبية؛ ثم في اتفاقية الخرطوم واتفاقية فشودة مع ا طراف منهم.
ان القوي التي تعنتت طوال عشرات السنين؛ في قبول الحل الفيدرالي؛ قد وصلت في غمضة عين لان تقبل بحق تقرير المصير؛ وان تعلن صراحة ان احد احتمالاته المقبولة هي الانفصال. نتسائل هنا علام اذن كان رفض الفيدرالية؛ والتي هي درجة اقل من حق تقرير المصير؛ ولا تقارن باي حال مع الانفصال؟ ولماذا اهدرت الموارد والارواح طيلة هذه السنوات؛ لكيما يطرح الانفصال اليوم بمثل هذه البساطة؟
نزعم نحن ان معظم هذه القوي لا تؤمن بحق تقرير المصير؛ ولن تقبل بالانفصال؛ وان قبولها بهذهالمطالب او دعوتها لها امر تكتيكي؛ تدفعها فيه مصالح آنية .. فالمنقسمين عن قرنق رفعوا شعار الاستقلال لجنوب السودان؛ ليصلوا الي التحالف مع الحكومة؛ وقرنق نفسه اضطر وجر جرا الي رفع شعار تقرير المصير؛ ونظام الانقاذ قبل حق تقرير المصير ليخلق القتنة في الصف الجنوبي ويضرب دعاة الوحدة بدعاة الانفصال؛ اما القوي التقليدية واليسارية فهي كالعادة لم تقدم اي تفسيرا كان لانتقالاتها الدرامية.
ان طرح التجمع الوطني في مؤتمر اسمرا لحق تقرير المصير؛ وطرحه انه هناك خيارين لاستفتاء حق تقرير المصير: أ) الوحدة (بما في ذلك الكونفدرالية او الفيدرالية) ب) الانفصال. فانه قد كان متاخرا حتي عن مؤتمر المائدة المستديرة؛ والذي قام قبله بثلاثين عاما؛ والذي طرح الخيارات الثلاثة لمستقبل الجنوب في أ) الوحدة. 2) الفيدرالية. 3) الانفصال.
ان مؤتمر المائدة المستديرة لم يكن دقيقا بلطبع؛ حين وصف الخيار الاول بالوحدة؛ وهو يقصد الدولة المركزية؛ اما مؤتمر اسمرا فقد كان اقل دقة؛ حيث ربط الوحدة بالفيدرالية او الكونفيدرالية فقط؛ وحين جعل الثلاثة خيارات خيارين؛ هما الوحدة والانفصال.

الفيدرالية وتقرير المصير في طرح الليبرالي:
من الواضح لنا؛ ان الطرح الفيدرالي هو طرح متوسط ما بين نموذج الدولة المركزية التي كانت سائدة؛ وما بين خيار الانفصال(دولتين). انه اذن من الغريب علي الذين رفضوا الفيدرالية لعهود طويلة؛ ان يقبلوا اليوم بخيار الانفصال بهذه السهولة والسرعة.
وفي نفس الوقت الذي تقبل فيه معظم القوي السياسية الفاعلة بخيار الانفصال؛ تحت غطاء حق تقرير المصير؛ وحين تغيب الفيدرالية بوضعها كاحد تجليات الوحدة؛ وحين تهمل الطرح الفيرالي تماما في اطروحاتها؛ ولا تعود اليه؛ ولا تنشره كاحد الحلول الناجزة بين الجماهير؛ فاننا نظن انها تتعامل بلا مسؤولية مفرطة تجاه مستقبل البلاد.
ان حق تقرير المصير في ظل سيادة الدولة المركزية؛ وفي ظل واقع الاحتراب والقتل؛ وفي ظل سيادة الدكتاتورية؛ وفي ظل سيطرة القوي العسكرية علي مصائر الجماهير؛ لا يمكن ان يؤدي الا الي الانفصال؛ لانه سيكون الحل الاكثر سهولة والاكثر استجابة لمصالح القوي العسكرية والدكتاتورية والمركزية حتي (حيث ستدار الدولتين المنفصلتين باسلوب مركزي)؛ ولذا فانه لا يمكن ان يمارس في مثل تلك الشروط.
لقد تنبه برنامج الحزب الليبرالي الي ضرورة ان تسبق اطروحة تطبيق الفيدرالية وفق اسس عادلة ودستورية؛ لمطلب حق تقرير المصير؛ باعتبار ان طرح حق تقرير المصير في اطار الدولة المركزية السودانية ودون اصلاح هذه الدولة ديمقراطيا وتفويض سلطات واسعة للاقاليم؛ انما يؤدي بصورة واضحة الي ان تختار بعض الاقاليم الانفصال كخيار لتطبيق حق تقرير المصير؛ بوصفه حينها السبيل الوحيد لتطبيق مطامحها المشروعة في الحكم الذاتي والاستقلالية وحماية تميزها الثقافي.
كما ان برنامج الحزب قد كان واضحا في ربطه حق تقرير المصير بمواطني الاقليم الفيدرالي؛ وليس باي مجموعات عرقية او دينية او ثقافية. ان التقسيم التقليدي للسودان الي سبعة اقاليم هي الشمالي والشرقي والاوسط وكردفان ودارفور والجنوب ومديرية الخرطوم انما يعتمد علي التجارب التاريخية؛ والتي تستمد مشروعيتها من التطور الجغرافي والتاريخي والثقافي والاداري لتلك الاقاليم؛ والتي تميزت كوحدات ادارية منذ القرن الخامس عشر.
ان ربط حق تقرير المصير باي مجموعات عرقية او ثقافية وليس بالتكوينات الفيدرالية انما يهدد بتمزيق النسيج الاجتماعي لتلك التكوينات وتشظى تلك الاقاليم الي وحدات صغيرة متصارعة باضطراد؛ تبحث فيها كل مجموعة عرقية عن حق تقرير مصيرها؛ في سلسلة جهنمية ان بدأت لن تنتهي.
إننا نؤمن بانه بتطبيق الفيدرالية بصورة حقيقية في السودان؛ وقيامها في اطار من الديمقراطية الواسعة؛ فان كثيرا من الاحتقانات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ستنحل؛ وان دعوات الانفصال المختلفة ستختفت؛ وان حق تقرير المصير سيظل حقا نظريا مجردا؛ لن تلجأ اليه الاقاليم ما دامت المؤسسات الديمقراطية قائمة؛ والنظام الفيدرالي مستقرا .

الشروط الاساسية لاقامة النظام الفيدرالي في السودان:
هناك شروط اساسية لا بد منها في تقديرنا؛ لكيما يقوم النظام الفيدرالي في السودان؛ ولكيما يعبر حقيقة عن تطلعات المواطنين وتنزيل السلطة الي الاقاليم :
1. قيام النظام الفيدرالي في ظل نظام سياسي ديمقراطي:
لا يمكن ان يقوم النظام الفيدرالي في ظل نظام شمولي او اوتوقراطي؛ ولذلك فان الديمقراطية هي الشرط الاساس للفيدرالية الحقة. نقصد بالنظام الديمقراطي هنا النظام البرلماني الدستوري؛ والذي لا يكتفي بالتعبير عن مصالح وتطلعات الاغلبية؛ بل يحمي حقوق ومصثالح الاقليات.
2. نص الدستور علي النظام الفيدرالي وتحديده لملامحه:
ينبغي ان ينص الدستور الاتحادي علي النظام الفيدرالي باعتباره شكل الحكم في الدولة؛ وان يحدد الدستور بدقة وجود اكثر من مستوي للحكم في الدولة؛ اي مستوي الاتحاد الفيدرالي والاقاليم؛ وان يحدد صلاحيات كل من الاقاليم والاتحاد الفيدرالي بصورة واضحة لا تقبل التسويف.
3. التنظيم الحيادي (الرضائي) للمجتمع والدولة:
4. ضرورة قيام الدولة في مستواها الاتحادي علي اسس الرضائية بين الاقاليم المختلفة؛ وعلي اتباع الحيادية فيما يتعلق بالتمايزات الثقافية والدينية والعرقية؛ ويعني ذلك الاعتراف بالتعدد القومي والثقافي والديني في السودان؛ وضمان مساواة الاديان والمعتقدات امامالقانون واتاحة حرية الدين والضمير.
5. تميز سلطات الاقاليم ومبدأ عدم التنافي:
ضمان تمتع مؤسسات الاقاليم المكونة للاتحاد الفيدرالي بسلطات خاصة بها؛ لا تتغول عليها الحكومة الاتحادية؛ والنص في الدستور علي عدم امكانية الغاء سلطات الاتحاد او سلطات الاقليم الفيرالي لوجود او صلاحيات او قوانين بعضها البعض.
6. تحديد وتوازن السلطات بين الاقاليم والمؤسسات الاتحادية:
ضرورة تحديد السلطات بصورة قاطعة وتوزيعها في داخل كلا اقليم اتحادي؛ وفيما بين مؤسسات الاقليم والمؤسسات الاتحادية؛ بحيث لا تتغول علي بعضها البعض ولا تتضارب بل تتكامل وتتناسق.

سمات ضرورية لنجاح التجربة الفيدرالية السودانية:
رغما عن الطابع المشترك العام للحكم الفيدرالي؛ فان تطبيقه في مختلف البلدان يكتسي بسمات خاصة؛ يكتسبها من تاريخ وظروف البلد المعني؛ وفي هذا فاننا نقترح التطبيقات الاتية كسمات لا بد منها لضمان نجاح التجربة الفيدرالية في السودان:
• ضرورة التقبل الطوعي للنظام الفيدرالي بواسطة ممثلي الاقاليم السودانية المختلفة؛ وتوثيق ذلك التقبل في صورة اعلان اقليمي بالدخول في الاتحاد الفيدرالي؛ وبلورة ذلك في وثيقة اعلان الاتحاد الفيدرالي.
• ضرورة اتباع نظام الرئاسةالدورية في مجلس الرئاسة الفيدرالي؛ وذلك لتمثيل كل اقليم فيدرالي علي المستوي السيادي ترسيخا للاتحاد الفيدرالي والروابط الوطنية.
• تقليص سلطات الحكومة الفيدرالية الي الحد الاقصي؛ بما تشمل الدفاع والتمثيل الخارجي والسياسة النقدية؛ وتوسيع سلطات وصلاحيات الاقاليم الفيدرالية الي الحد الاقصي؛ فيما فيما عدا ذلك.
• ضرورة وجود قوانين اساسية اودساتير محلية داخل كل اقليم فيدرالي؛ تضمن حكم القانون واحترام الحقوق الاساسية للمواطنين والمساواةامام القانون بين مواطتي الاقليم وبقية مواطني الاقليم الفيدرالي.
• قيامالنظام العدلي والقضائي علي مستويين: مستوي الاقليم ومستوي الاتحاد الفيدرالي؛ وضرورة تحديد الدستور لتلك القانون التي تخضع لسلطات التشريع في الاقليم او سلطات التشريع علي المستوي الاتحادي.
• تخفيف تكاليف جهاز الدولة وتبسيط مؤسسات الدولة وخصوصا علي المستوي الاتحادي؛ وتمويل سلطات الاتحاد الفيدرالي من الضرائب الفيدرالية ومن بعض مدخولات الموارد القومية كالتعدين؛ مع ضمان تمتع الاقاليم بثرواتها الاقليمية بما لايقل عن50% من مدخولاتها علي الاقل.
• تبعية اجهزة الشرطة والامن والسجون وحرس الصيد وغيرها من الاجهزة البوليسية لسلطات الاقليم الفيدرالي؛ مع تكوين جهاز شرطة فيدرالي وجهاز امن فيدرالي عاليان التجهيز و الخبرات يكونان مسؤولان عن الجرائم الفيدرالية الكبري؛ وتوزع وحدات صغيرة منهما في مكاتب علي الاقاليم.
• خضوع الجيش وحرس الحدود لسلطات الاتحاد الفيدرالي؛ واعادة توزيع الوحدات العسكرية بابعادها من العاصمة وتوزيعها زظائفيا علي الاقاليم؛ ومنع استخدام الجيش في اي مهام امنية او بوليسية.

عادل عبدالعاطي
1-09-2004


المراجع:
*مشروع البرنامج السياسي العام للحزب الليبرالي السوداني.
* ابراهيم علي ابراهيم المحامي: "الحرب الاهلية وفرص السلام في السودان"- دار الكتب العلمية للنشر والتوزيع – القاهرة - 2002.
* مادة "فيدرالية" في انسكلوبيديا ستانفورد للفلسفة.



#عادل_عبد_العاطي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جهاز الامن يحجب موقع سودانيز اونلاين بالسودان
- نوره عبد الله إدريس امرأة من السودان
- جدل المركز والهامش مآلات الصراع السياسي في السودان - مقاربة ...
- من المحلي الخاص الي الوطني العام المعارضة المسلحة في دارفور ...
- جيش تحرير دارفور ومآلات الصراع المسلح في السودان
- فى مزبلة التاريخ - موضوع حول الحزب الشيوعي السودانى
- قراءة فى تجربة التجمع الوطنى الديمقراطى - السودان فىالعمل ال ...
- تأملات في أفق المعرفة والشهادة حول حياة واستشهاد محمود محمد ...
- سلاح الوعي ووعي السلاح عرض كتاب - الجيش السوداني والسياسة
- اغتيال الشخصية في ممارسات الحزب الشيوعي السوداني
- اللعب الكلمات أو فرويد على الطريقة الشيوعية
- دور الحزب الشيوعي في تخريب التجربة الديمقراطية والنظام الدست ...


المزيد.....




- من مقاتل في -القاعدة- إلى قائد الفصائل المناهضة لنظام الأسد. ...
- سوريا.. ما حقيقة التسجيل الصوتي لتنحي بشار الأسد عن الرئاسة؟ ...
- مقتل 5 إسرائيليين في حادث مروع في المغرب
- زيلينسكي يشارك في إحياء ذكرى الجنود الأوكرانيين الذين سقطوا ...
- قديروف يستقل مدرعة -برادلي- الأمريكية في غروزني (فيديو)
- رئيس ائتلاف -النصر- حيدر العبادي: العراقيون لا يخافون المناز ...
- أبرز تصريحات الرئيسين الجزائري والجنوب إفريقي
- مصر.. عرض مسلسل يتحدث عن جريمة مروعة وأسرة الضحية تعلق
- الأمن الروسي يفكك عصابة كولومبية حاولت تهريب 570 كغ من الكوك ...
- مراسلتنا: غارة من مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة تتجه من بلدة ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - عادل عبد العاطي - لماذا ندعو للفيدرالية وكيف نراها؟ مساهمة في تطوير برنامج الحزب الليبرالي السوداني