صلاح الدين بلال
الحوار المتمدن-العدد: 968 - 2004 / 9 / 26 - 08:45
المحور:
الادب والفن
تركيا
دخلت السينما إلى تركيا منتصف عام 1899 أي بعد فترة قصيرة من أول عرض في باريس على يد /الأخوة لومير/ وقد استمر عرض المشاهد السينمائية في استنبول عام 1908 بعد إنشاء أول دار عرض سينمائية وللبداية قصة أخرى أيضا فقد شهد قصر يلدز باسطنبول الأيام الأخيرة في حكم السلطان عبد الحميد الثاني قبل عزله ... وفي هذا القصر أيضا ولدت أول محاولة لتصوير فيلم سينمائي تسجيلي تركي وبعدها قام مواطن روماني يدعى " سيجموند وينبرج " بتصوير عدة أفلام للعامة وعرضها في إحدى الميادين باسطنبول أيضا . وفي عام 1914 أقام / سيفاني بوير ومداد بك / دارا أخرى للعرض السينمائي .
وكان أول فيلم تركي روائي قصير بعنوان " المومياء الروسية في سان ستيفان " من إنتاج الجيش التركي وقد صنعه ضابط اسمه " فؤاد بوزكيني " .
ولكن ولادة السينما في تركيا جاءت بداية الحرب العالمية الأولى , حيث تأسس عام 1915 قسم عسكري لشؤون السينما لإنتاج أفلام تصعد من المشاعر الوطنية للجيش وسميت هذه الهيئة / بالجمعية الرسمية للمحاربين القدامى / و فعلا تم تصوير عدد من الأشرطة السينمائية عن حرب البلقان كما قامت بإنتاج أفلام قصيرة بإدارة المخرج / احمد فهيم / 1919. أما السينما الروائية فقد ظهرت عام 1917 مع فيلم الجاسوس وفيلم ( الضائعة) للمخرج / سيدات سيمافي / . وفي عام 1919 وضعت السينما نفسها في خدمة ضحايا الحرب من ذوي العاهات فاخرج الفنان / فهمي أفندي فيلم (المربية) عن رواية للكاتب / حسين رامي كورنبار / , ولم تكن أفلام هذه الفترة سوى نقل المسرحيات من الخشبة إلى الشاشة .
وفي عام 1922 كانت نقطة التحول للسينما التركية فقد عاد / محسن ارطغول / بعد دراسته لفن السينما في ألمانيا، حيث كان يمارس العمل كممثل ومخرج منذ عام 1916 وكانت عودته مصاحبة لتأسيس أول شركة إنتاج سينمائية خاصة وهي شركة / كمال فيلم / والتي أنتجت أول فيلم باسم / قميص النار / وكان مخرجه / هاليد اديب اديفار / .
وقد كان معظم الممثلين خلال هذه الفترة من الممثلين المسرحيين الكوميديين . ومع تطور السينما وتصاعد الإنتاج وصل عدد الأفلام المنتجة في عام 1955 إلى 57 فيلما في السنة حتى وصلت عام 1965 إلى 213 فيلم في عام واحد . بينما لم يزد عدد الأفلام المنتجة في الفترة 1914 . حتى عام 1939 عن 23 فيلما روائيا . وبعد عام 1950 تزايد عدد الأفلام المنتجة على يد مخرجين أمثال " لطفي عقاد وعاطف يلماز ومتين اركسان وممدوح اون وفي عام 1952 ظهر مخرجين آخرين ضمنهم نشأت سيدام . اورهان اكسوي وغيرهما .
وفي حزيران 1960 سقطت الحكومة الدكتاتورية فجاءت بعدها حكومة اكثر انفتاحا و جرت بعض التحولات الديمقراطية , وانعكس هذا على مستوى الحياة كافة ومنها السينما , و خلال هذه الفترة برز في تركيا أهم مخرجيها ( لطفي أمير عقاوي ) ( يلماز كوناي ) ( متين أر كسان ) ( خالد رفيق ) . كما تصاعد الإنتاج السينمائي , وظهرت عدة أفلام هامة وكان لها تأثير واضح على السينما التركية فيما بعد ومنها فيلم ( قانون الحدود ) 1967 إخراج / لطفي عقاوي / سيناريو / يلماز كوناي / والذي يتحدث عن خشونة الحياة وبؤسها وشراستها في كردستان تركيا .
ويعتبر / يلماز كوناي / أستاذ السينما الجديدة في تركيا وذو تأثير كبير على خط السينما التركية التي حذت حذو أفلام كوناي القريبة من الجماهير .
و قد كانت الحكومة التركية تحاول دوما عرقلة السينما التقدمية في تركيا ومنعها و محاربتها من خلال عدة أساليب و طرق .
فقراءة سريعة لقانون حق التصوير يوضح مقصدنا , فيشترط على المخرج من أجل الحصول على إذن التصوير و إخراج فيلمه أن يتقدم بطلب إلى السلطات المختصة و عليه أن يبين وقت و مكان و مضمون الفيلم و أسماء الممثلين و يتعهد بإنجاز الفيلم , بعد ذلك تحيل السلطات المدنية الطلب إلى وزارة الداخلية التي تدرس الطلب من قبل لجنة تحقيق مقرها أنقرة تتألف من رئيس وأربعة موظفين من وزارة الدفاع ومدير قسم المطبوعات وممثل من وزارة السياحة والأعلام , وهذه اللجنة تدرس إن كان الفيلم سيكون دعاية لدولة أجنبية أو كان الفيلم يسيء إلى المشاعر أو القيم القومية ؟؟ أو يسيء إلى أصدقاء تركيا ؟؟؟ أو كان يتناقض مع الدين والعرف السائد , وان كان يثير المشاكل الاجتماعية أو السياسية في البلاد وما شابه ذلك .
ولكن ما علاقة هذه المقدمة بالسينما ؟.
في عام 1933 وعلى اثر تصاعد الانتفاضات القومية الكردية عام 1925 وعام 1929 ومن اجل صهر الشعب الكردي وإلغاء هويته القومية أصدرت الحكومة التركية قانونا جائرا يقضي بترحيل مئات الألوف من كردستان إلي مناطق تركيا الأخرى البعيدة بحيث لا يشكلون في المناطق الجديدة سوى 5 % من السكان وينص هذا القانون على إن ( أولئك الذين ليست اللغة التركية لغتهم يحرمون من إعادة بناء القرى والمناطق ومن إعادة تشكيل منظمات حرفية أو ثقافية أو نقابية ) . إن لهذه الأوضاع القمعية الاستثنائية والشاذة للشعب الكردي في تركيا أثر على تطور ونمو ثقافته القومية , وان بروز كتاب وفنانين ومفكرين أكراد يكتبون باللغة التركية كونهم لا يستطيعون أن يعلنوا عن هويتهم , ولكون اللغة الكردية ممنوعة قانونا من قبل السلطات التركية .
وفعلا برز عدد من الكتاب والفنانين الأكراد الذين كتبوا الروائع الإبداعية باللغة التركية أمثال الروائي يشار كمال , وفي مجال السينما برز عدد لا باس به منهم بل ومن أهمهم الكاتب والروائي والمخرج والممثل والسيناريست / يلماز كوناي / . الوحيد الذي لم يهب العسكر , أعلن عن كورديته متحديا كل سجونهم وحرابهم ... ومع / كوناي / عمل عدد من المخرجين الشباب الذين لا يراودنا الشك في كونهم أكرادا بالرغم من عدم إعلانهم عن ذلك والذي يدفعنا للاعتقاد بذلك هو موضوع أفلامهم ومضامينها ... ومن هؤلاء المخرج ( شريف كورن ) الذي عمل مساعدا / ليلماز كوناي / في فيلم (القلق عام 1975 ) وحين اعتقل / كوناي / عند بداية عمل الفيلم واصل / شريف كورن / إخراج الفيلم , الذي يحمل اسميهما معا .
وهذا الفيلم تجري أحداثه في كردستان. وبالرغم من انه لا يشير إلى الاضطهاد القومي فانه يعري الاضطهاد الطبقي الذي يتعرض له الفلاحون من قبل الاغوات , كما يؤكد ضرورة التلاحم الطبقي في مواجهة المستغلين , ويعري كل العادات والتقاليد البالية والرجعية فيما يخص العلاقات العائلية . وفي العام/ 1975 / اخرج شريف كورن فيلم ( الجسر ) عن أسطورة كردية منتشرة بين الأكراد , واستطاع أن يمنحها طابعا معاصرا وقد استمر شريف كورن في تعاون مستمر مع عملاق السينما في تركيا / كوناي / بالرغم من أن الأخير كان يقبع في زنزانات العسكر . فقد أرسل له كوناي من السجن سيناريو فيلمه ( القطيع ) فقام هو بإخراجه وجعله يحمل اسم / كوناي / احتراما من شريف كورن لأستاذه وصديقه .
وكذلك أرسل له كوناي من السجن سيناريو فيلم ( يول / الطريق ) الذي قام شريف بتنفيذه أيضا ...وتمكن كوناي من الهروب من السجن وقام بعملية المونتاج للفيلم في الغرب وعرضه في مهرجان / كان السينمائي / عام 1982 . فاستحق الجائزة الأولى مناصفة مع فيلم ( المفقود ) لغوستا غافراس . وحتى فيلم كوناي الأخير الذي أنجزه قبل وفاته في 9 آب 1984 باسم ( الحائط ) عمل شريف كورن مساعد له .
و الآن وقد رحل كوناي عن عالمنا فان شريف كورن يجد نفسه ملزما بالسير في ذلك الطريق المضني والصعب الذي سار فيه مع أستاذه وصديقه كوناي , ومواصلة إنجاز أفلام تتحدث عن الفقراء والمضطهدين في تركيا وعن القوميات المضطهدة في ذلك السجن الكبير .
ويجب الإشارة ألي أن هناك الكثير من الفنانين التقدميين الذين أنتجوا أفلاما عن المعذبين قي / شرق تركيا / أو عن روايات يشار كمال ... /" لا أستطيع أن أعطى قولا جازما في هويتهم القومية "/ ومنهم / صوريا دورو / الذي اخرج عام 1974 فيلم ( بدرانا ) الذي يتحدث عن العلاقات الاجتماعية المتخلفة في الريف , منتقدا إلى جانب ذلك الواقع اللاإنساني للكادحين في المجتمع التركي .كما اخرج عام 1975 فيلم / العروس ذات الوشاح الأسود / الذي يتحدث عن العلاقات في ريف الأناضول وقد منع هذا الفيلم من قبل السلطات بحجة انه يشهر بالعلاقات الاجتماعية في تركيا .
من هؤلاء الفنانين أيضا المخرج / ممدوح يولغة / الذي اخرج عام 1975 فيلم (أسطورة جبل اكري) عن قصة للكاتب الكردي يشار كمال , وكذلك المخرج ( بيلكي اولكاج ) الذي اخرج عام 1967 فيلما عن سيناريو ( لكوناي ) أعده في سجنه اسمه ( سيجيء يوم ) وهو فيلم يتحدث عن وحدة النضال بين الطلبة والشغيلة ضد السلطات العسكرية , وكذلك المخرج السينمائي / ايرون كيرال / الذي اخرج عام 1982 ثالث أفلامه واسمه (فصل في هكاري ) الذي يتحدث فيه عن مدرس يرسل للتدريس في قرية نائية تقع في الجبال الكردية بإقليم هكاري , كنوع من النفي ويعرض الفيلم ذلك العالم المتوحش القاسي حيث المواصلات معدومة , والطقس متجمد وظروف المعيشة قاسية ومع أن الفيلم يحيط ببعض المشكلات الاجتماعية ويركز على العلاقات القروية فان هذه الصورة الحقيقية للحياة في كردستان تركيا أزعجت السلطات التي منعت الفيلم ولكن بعد مناشدات عديدة أطلقت سراح الفيلم الذي سرعان ما حصل على العديد من الجوائز في المهرجانات الأوربية .
وقبل أن ننتقل للحديث عن يلماز كوناي يجب الإشارة إلى فيلم ( قانون الحدود ) الذي أخرجه عام 1966 المخرج / لطفي اميرعقاوي / عن سيناريو ليلماز كوناي والذي يتعرض لحياة الناس الأليمة في ريف كردستان تركيا من خلال قصة رجل يضطر من اجل لقمة العيش أن يمارس التهريب .
إنني هنا لا أريد أن أقوم بمحاولة فصل قسرية للمخرجين أكراد وعزلهم عن غيرهم لأنني على ثقة بان قضية الاضطهاد القومي والحقوق المدنية للمثقفين الأكراد ليست ببعيدة عن هموم التقدميين و الديمقراطيين الأتراك أيضا وان القوى المدنية في تركيا من أتراك وأكراد ولاز وأرمن وغيرهم , يناضلون جميعا من اجل تركيا متحررة تستطيع القوميات فيها أن تقرر مصيرها بنفسها دون ضغط أو إكراه .
يلماز كوناي قلب لم يمت
مثلما أنجبت كردستان ابنها العظيم / يشار كمال / الذي قدم نصوصا عديدة للسينما , أنجبت ارض وجبال كردستان /يلماز كوناي / الذي تألق نجمه في بداية الستينات وصعد سلم المجد وصعدت معه هموم الوطن والفقراء .
إن أفلام يلماز كوناي أقوى دليل على وجود إمكانيات عظيمة لدى شعب كردستان تستطيع أن تفجر عطائها رغم الظروف الصعبة والقاسية .
يعتبر / يلماز كوناي / المؤرخ الحديث لبداية السينما الكردية , فهو أعلن بدايتها وما على غيره من الفنانين و السينمائيين الأكراد مواصلة الطريق حتى تبزغ شمس كردستان خلف جبال زاغروس واكري .
لقد ساهم كوناي في دفع الملايين من الفقراء الأتراك والأكراد في تلبس شخوص أبطاله والتعاطف معهم في أفلامه الكثيرة والتي زادت عن المائة فيلم والتي مرت في مرحلتين . المرحلة الأولى . والتي بدء فيها يلماز هاويا وعاملا في ورشات السينما ومن ثم مساعد مخرج وكاتبا مخرجا فممثلا فريدا ...
وقد كانت أفلامه الأولى ذات طابع تجاري فرضته طبيعة المرحلة والتي تحدث عنها كوناي عندما قال " كنت بحاجة للما ل لأعمل فيلما باختياري وليس بشروط المنتج " وهكذا فقد اخرج ومثل أفلام عديدة اتسمت بالسذاجة والبساطة وذلك بشروط الممولين والمنتجين .
وعندما تحققت الفرصة واصبح اسم يلماز كوناي الأول على شباك التذاكر بدأت الفترة الثانية من تاريخ يلماز كوناي في بداية السبعينات معلنا بداية مرحلة جادة وملتزمة بقضايا الجماهير ومعاناتهم وهمومهم وبفضح سياسة التعتيم على ما يجري في كردستان وواقع حالهم فكانت أفلامه الفاضحة للوجه الحقيقي للحكام المقنعين وراء مصالحهم خلف طاولات أنقرة واستا نبول .
تحمل كوناي السجن والحرمان , الإرهاب والنفي والتشرد ولم يتخلى قلبه عن كردستان والسينما حيث جسد حقيقة الوضع في كردستان تركيا في أفلامه , القطيع , والطريق , والجدار .
وفي رحيل كوناي لم تنسى الجماهير الكردية هذا الطفل الوديع والعنيد الصابر على فراق وطنه , حيث لم يتحمل قلبه المزيد فانفجر بعد أن فضح بصوره الإنسانية ذلك الظلم بحق البسطاء والمحرومين , لم يدعه القدر أن يتممها حيث كانت أمنيته إخراج فيلم وباللغة الكردية عن تاريخ كردستان وشعبه .
إن قضية كوناي ظاهرة مضيئة في سماء السينما الكردية والتي عقدت العزم على التطور والمسير إلى الأمام , رغم كل الظروف المعقدة والحدود المصطنعة , بعدما وهب لها يلماز كوناي قلبه .
إن في شعبنا العشرات أمثال يلماز كوناي سيواصلون خطاه وسيظهرون للعالم دور الأكراد في السينما التي قال عنها الناقد العالمي جورج ساوول . " إن السينما في تركيا ستفاجئنا ذات يوم بعمل موهوب "
#صلاح_الدين_بلال (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟