أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي عودة - قصص قصيرة















المزيد.....



قصص قصيرة


علي عودة

الحوار المتمدن-العدد: 3206 - 2010 / 12 / 5 - 15:44
المحور: الادب والفن
    


العاشق يرسم العلامة على صدري
(قصة قصيرة)



قذف بطانية الإعاشة المهترئة في مؤخرة السيارة، ووضع صرة حاجياته بتأن، ثم استقر بجواري في المقعد الخلفي... تّحركت السيارة وبعد لحظات كنت أتابع الأشجار المتسابقة، واختلس النظر إلى وجهه الأسمر وعينيه المملوءتين ببريق غامض..أنه ليس من قريتنا.. القرية صغيرة، مقفولة من ثلاث جهات، من الشرق والشمال الحدود، والكثبان الرملية حتى البحر من الغرب.. صحيح ضاقت شوارعها تلاصقت بيوتها، كثر أطفالها، لكن ظل أهل القرية يعرفون بعضهم، ومن لا تعرفه بالاسم تعرفه بالشبه... لعله ممن يعملون في البيّارات المنتشرة على جانبي الطريق من المخيم إلى القرية ستة كيلو مترات مسافة قصيرة، لكن قد يطلب من السائق التوقف في أي متر منها".. توقفت السيّارة.. نزل أحد الجالسين في المقعد الأمامي، وضع الأجرة في يد السائق، ثم حمل أشياءه متوجها إلى باب حديدي لإحدى البيّارات.. بقي ذلك الجسر الرابض عند مدخل القرية منذ الانتداب البريطاني.. بعضهم ينزل هناك قاصداً تلك الخيام المستقرة على الكثبان الرملية البعيدة، اجتازت السيّارة الجسر لم يطلب من السائق التوقف وبعد دقائق كانت سيارة الأجرة تستقر في محطة القرية...
بعد شهر من ذلك اليوم شاع في قريتنا أن " أبو بكير" عين حارسا للجزء المتبقي من بيًارته وقالوا: لاحظ أبو بكير أن الحارس يعشق الناي ويطيل النظر تجاه الشرق فأسماه العاشق.. ظلت علاقتنا محدودة ألقى عليه التحية استمع إلى بعض ألحانه الشجيّة , أتابع نظراته الشاردة إلى الشرق، ثم انصرف إلى أن كانت تلك الليلة.. كنت أسير منتشيا بذلك الهدوء الجذاب الذي يملأ شوارع القرية، فبعد سهرة مليئة بالذكريات يحلو القمر ويكون أكثر جاذبية وتصبح أنغام حفيف الأوراق أكثر عذوبة لكن، اللعنة على كلاب (أبو كسّاب).. أسبوع كامل وهي تفسد عليَّ هذه المتعة ما أن اقترب من حارتنا التي يقع بيت أبو كسّاب في أولها حتى تبدأ حساباتي لمواجهة تلك الكلاب اللعينة، أصبحت مصدر قلق الحارة امتنع الصغار عن الخروج لشراء أي شيء بعد مغيب الشمس، لم يسلم منها الكبار.
- ثلاثة ذئاب لو اجتمعت على عنتر بن شداد لأخافته
هكذا تقول أمي، أقسم أهل الحارة بأن يحضروا "شكيب" عدو الكلاب الضالة رقم 1 لكنهم لم يفعلوا..
- عيب يا ولدي، نحن أقارب وعمك " أبو كسّاب" تعهد بربطها
هكذا" يقول والدي"...
قبل أن أعرج إلى الحارة تناهى إلى سمعي نباح الكلاب المزمجر حثثت الخطى لاستطلع الأمر وفي ضوء القمر رأيته أستل نايه الحديدي من تحت إبطه راح يقارع الكلاب بثبات يضرب واحداً على رأسه، ثم يركل الآخر بقدمه، فانحشرت الكلاب في سياج دار " أبو كسّاب" مكتفية بإصدار أنينها المكتوم... نظرت إلى سترته الممزقة شتمت أصحاب الكلاب كلّهم، أقسمت أن يكون " شكيب" ضيف قريتنا في الصباح، ثم اصطحبت العاشق إلى منزلنا...
هكذا بدأت صداقتنا، وعرفت اسمه الحقيقي:
- سعيد أحمد الخالد لا أهل لي زرعني أبي في أحشاء أمي ثم مات بعد شهرين، وماتت هي عندما خرجت أنا إلى الدنيا ولم يكونا فيها...
- استغفر الله العظيم، نحن أهلك يا أخي.. أحببت " العاشق" كأخي استمرت صداقتنا أربع سنوات، أستمع إلى ألحانه أراقب البريق الغامض في عينيه نشرب الشاي وعندما يأتي الليل ننصت إلى قصص أصدقائنا الثلاثة. كل ليلة قبل تحركهم إلى الشرق يروون لنا ما راووه داخل الأرض المحتلة، يحدثونا عن الشوارع والبيوت، عن بكاء الأطفال وحزن الأشجار، ثم يتحسسون رشاشاتهم يتفقدون قنابلهم، ينسلون بهدوء إلى الوادي الذاهب في أعماق الأرض، نقلق هل تكتشفهم قوات الطوارئ؟ هل يشتبكون مع دوريات الحدود الصهيونية.. نتأكد من سلامة الطريق نبتسم.. ثم نعود إلى الناي والشاي لننتظر قصصهم في الليلة القادمة.. وجاءت الحرب، وافترقنا...
* * *
أخيرا رضخت لرجاء أبي وتوسلات أمي أشفقت على أنامل أخي الصغيرة من كتابة الرسائل الملتاعة وزرت قريتي المكلومة، بعد ثماني سنوات كاملة أجابوني بروايات مختلفة، لكن أرجحها رواية " أبو بكير::...
- سابع يوم الحرب رآه أحد الرعاة ينسل إلى الوادي الذاهب في أعماق الأرض برفقة ثلاثة آخرين وجهتهم الأردن، ترك بطانية الإعاشة وأخذ الناي وبعد عام أخبرني أحد أبناء القرية أنه في عمان شاباً يشبه العاشق تماماً...
آه .. ها قد زرت القرية لكن جذوة الشوق لم تخمد ولا شفي جرح القلب .. ها أنا أعود ثانية إلى المدينة أتصفح الوجوه وأدور حول نفسي في الشوارع الباردة ,كأنني أبحث عن شئ ما ..سرت غير مكترث بجهلي للمكان، ومن حين لأخر كنت أتفحص الشباب النشطين الذين يرتدون الملابس العسكرية المرقطة ..
كنت أستريح وأشرب كوباً من العصير عندما اخترقت أذني الزغاريد تبعها الرصاص ثم التهليل والهتاف ترك الناس المقاهي تحرّك الشباب بحماس تجاه الشرق.. أطلت النساء من شرفات المنازل مزغردات.. هرولت تجاه العرس (هكذا خمّنت) وبعد دقائق كنت وسط الآلاف في موكب عظيم.. نظرت في العيون رأيت غضباً عجيباً أنه غضب فرح.. لا أدري كيف يكون الغضب فرحاً لكن هذا ما شعرت به على الأقل... الرؤوس مرفوعة.. الرقاب مشرئبة.. سرت مع الجماهير أمتاراً قليلة، تمنيت أكثر من عشرين مرة أن أكون أحد العرسان الثلاثة.. كان يلفهم علم فلسطين لم أسأل عن أسمائهم ولماذا أفعل ذلك؟! "صدّوا أرتال الدبابات بصدورهم دحروا المعتدين وأوقعوا بهم خسائر فادحة.. أبطال أقلّهم قام بسبع عمليات داخل الأرض المحتلة.."
التفت إلى المتّحدث رمقت رفيقه ثم رفعت نظري إلى النعوش المرفوعة على الأعناق فِراودتني فكرة سخيفة، ماذا لو أقفز على الأعناق أندس بجوار أحدهم وأبقى هكذا لأدفن معه.. وبّخت نفسي أدركت أنني لو فعلت ذلك لسرقت شيئاً عظيماً ومقدساً لم تكن المسافة بعيدة إلى مقبرة الشهداء لكن "الزفة" قطعتها في ساعات خمس.. أخيراً تخلفت النسوة عند سور المقبرة في حين كثرت الملابس العسكرية والكوفيات المرقطة حول القبور المفتوحة.. لم أتمكن من الاقتراب اكتفيت بالمراقبة لدقائق ثم تجوّلت في المقبرة أستطلع الأسماء التي كتبت على شواهد القبور.. انتهت عملية الدفن بدأ الناس في الخروج وبدأت الزغاريد تبتعد.. لماذا لا ألقى نظرة على الأسماء الجديدة قبل خروجي..: حسين محمد عاصم مواليد الخليل 1950م، إبراهيم صالح عباس، مواليد نابلس 1951، محمود صالح حسن، مواليد عمان.. 1960، ..سعيد أحمد الخا.. دارت بي الدنيا.. خارت قواي.. جثمت على ركبتي.. أسندت رأسي على شاهد القبرالمجاور. تدفقت من عيني دموع استعصت طويلاً , لكنها توقفت فجأة عندما انفتح القبر .. خرج العاشق متشحاً بالعلم ذي الألوان الأربعة ,بدا رشيقاً لم يعد بريق عينيه غامضاً ابتسم، كشف عن صدره بدت في الناحية اليسرى علامة بارزة حولها بقعة من الدم، مدّ يده وكشف عن صدري.. غمس إبهامه في الدم.. وفي الناحية اليسرى من صدري رسم نفس العلامة.. ابتسم ثانية ولوّح بيده مودعاً...
وعندما رفعت يدي لأودعه شعرت بيد تلامس كتفي .. رفعت عيني إلى أعلى وابتسمت للشاب نظرت إلى لباسه العسكري وكوفيته المرقطة.. اتكأت على ذراعه ثم نهضت وبقايا زغرودة تأتيني من المخيم...


















وخزات في رأس رجل
(قصة قصيرة)

لأول وهلة بدا له المكان خلاباً, لكنه سرعان ما اكتشف تلك النباتات الشائكة المنفرة التي تناثرت هنا وهناك, لم يفكر في اجتثاثها وإزالتها فضل أن يلقي نظرة من أعلى, صعد إلى مكان مرتفع قابلته نسمات الهواء فحركت في داخله هاجساً غريباً, نظر إلى يديه, وجدهما جناحين جميلين, حركهما بخفة ورشاقة, رمق السفح بنظرة ساخرة, ثم ارتفع في الفضاء.
ابتعدت الأرض رويداً رويداً, لفته زرقة الفضاء الباهرة, امتلأ بالنشوة, سيطرت عليه رغبة اللهو مارس بعض الألعاب بالحركات, لم لا؟ إنه يملك هذا الفضاء اللامتناهي, رسم دوائر, مستطيلات, مثلثات, لم تعجبه الخطوط المستقيمة, لكنه رسم بعض الخطوط المتعرجة.
فجأة وبلا إنذار داهمته العاصفة الهوجاء بذل جهداً كبيراً لمقاومتها والاحتفاظ بتوازنه, لم يفلح, كانت عاصفة شديدة وعنيدة, تلهت به شكلت به أشياء كثيرة, ثم لفظته.
وجد نفسه منهكاً, حاول تحريك جناحيه وجدهما قد شلا, هوى ورأسه تسبقه, ارتفعت إليه الأرض بسرعة وقبل أن يرتطم بالأرض, كانت الكتلة الصخرية بنتوءاتها المدببة آخر شيء رآه...
انتفض مذعوراً كمن لسعته أفعى, شيء ثقيل كالرصاص يملأ رأسه, جسمه مبلل بالعرق, حاول النهوض لم تسعفه قواه الخائرة عاد يستقر في الكرسي ثانية رفع المنديل ليجفف جبهته لاحظ أن ساعته تشير إلى الثالثة والنصف, رمق الرسالة الملقاة على الطاولة أمامه تحامل على نفسه, نهض, قطع أرض الحجرة عدة مرات, ثم ارتدى ملابسه وانطلق إلى الشارع.
* * *
عاد صديقه منتشياً بذلك اللحن المنبعث من جهاز التسجيل, وضع صينية الشاي, وعندما قدم له فنجانه اكتشف أنه لم ينتبه لوجوده
- هل أنت بخير يا أحمد؟
- أشعر ببعض الصداع
- سآتيك بمسكن حالا,ً دقائق وتنسى صداعك وكل شيء.
وصل باقي أفراد الشلة, وما أن اكتمل النصاب القانوني حتى اندلقت النكات من الأفواه, وامتدت الأيدي إلى الورق ثم بدأ اللعب حثيثاً.
فجأة, قذف أوراق اللعب من يده فتناثرت في أرض الحجرة, التقط سترته, ثم نهض واقفاً
- لم تكن متحمساً للعب منذ البداية.
- ومتى كان كذلك؟
- لم يتكيف مع الحياة الجديدة بعد
لم ينطق حتى كلمة الاعتذار, صفق الباب وراءه, وبعد ساعة كان قد شاهد عدداً كبيراً من معروضات واجهات الحوانيت.
عرج به الطريق يميناً ثم يساراً وعندما انحدر مستقيماً كانت نسمات الخريف قد حملت إلى أنفه رائحة البحر .. اعتراه شعور عجيب, سرعان ما أصبح أسيراً له.. السعادة, الحزن والندم والأمل ..هذا المزيج الغريب طالما حاول تفسيره.
ثمة شيئان صارا يحولانه بطريقة تشبه السحر إلى شخص آخر, الثكنات العسكرية, وهذا البحر جلس على الشاطئ مستغرقاً كمن يتعبد في محراب مقدس.
أيها الصديق رأيتك للمرة الأولى منذ عشرين عاماً يومها باع والدي ذلك الحمار الهزيل اشترينا بثمنه أشياء لا زلت أذكرها, قفطاناً لأمي ليقي جسمها النحيل شر البرد القارس, فاز والدي بعلبة تبغ ليستريح من ذلك النوع الردئ الذي أنهك صدره, ارتديت الحذاء لأول مرة في حياتي, أما تلك القطعة السداسية "فئة العشرين مليماً" فقد اشترينا بها أقراص الفلافل التي طلبتها أختي الصغرى بإلحاح.. أخفتني أيها البحر يومها, لكن سرعان ما أصبحنا صديقين.
انتبه إلى الصياد الذي وضع متاعه قريباً ثم انهمك في إعداد صنانيره وفك خيوطها.
عاوده حنين قديم لمتابعة الصيادين والانهماك معهم, أخرج الصياد دودة الصيد من علبة صغيرة, جفف يديه, غرز رأس الصنارة في عنقها, تلوت ثم كيفت نفسها مع الصنارة, دفع الصياد صنارته إلى الخلف, ثم إلى الأمام في رشاقة, ارتفعت سبابته في الوقت المناسب تلوي الخيط كالثعبان محدثاً فحيحاً, ثم استقرت الرصاصة في الماء.
تحركت يده إلى فخذه الأيسر في حركة لا إرادية وكأنها إشارة البدء لتنفلت الذكرى من عقالها وتداهم رأسه دفقه واحدة.
انهمر الرصاص من كل اتجاه, تكاثرت النيران إنها تحاصرهم شعر بشيء لزج في فخذه, وقبل أن يتحسسه كانت قواه قد خارت, التقطه صديقه نضال ... وبعد شفائه علم أنصديقه حمله على ظهره عدة أميال وعلم أن العملية كانت ناجحة وأحدثت ردود فعل قوية, مضى شهر وكان لقاؤه مع ذلك الضفدع, هكذا يسميه, لم يحتمل نقيقه المزعج الذي ظل يقرع به أذنيه, مل ابتسامته الباهتة المكررة, نهض من مكانه, وعندما وصل إليه انطلقت الكلمات من فمه كالقذائف.
- لكنك ارتجفت عند النهر يا سيدي, , اضطررنا إلى تأجيل العملية بسببك , أعدناك إلى القاعدة, لم تقو قدماك على حملك, كنت ترتجف وتهذي أتذكر؟
قد لا تذكر هذا لا يهم, المهم إننا لسنا بحاجة إلى فقهاء نضال, ألا تخجلون, دماؤنا , جروحنا شهداؤنا رصاصنا هي الصوت الوحيد الذي ننصت إليه, أتفهم؟
اهتزت يد الصياد بخفة, نظر إلى الخيط أهمله للحظة فعاد الخيط للاهتزاز جذبه الصياد بطريقة أتقنها, وبعد دقائق كانت السمكة تقذف في كيسه.
هبت نسمة باردة, انتعش قليلاً, نظر إلى ساعته فندت عنه شهقة جذبت نظر الصياد نحوه, نهض واقفاً رمق البحر ثم تركه مسرعاً تجاه منزل ابن خاله رابح الذي أصر على دعوته للعشاء.
حملت المرأة رجلاً على الأخرى بعد أن استقرت بين أناملها سيجارة أمريكية جذبت نفسها منها, نظرت إلى زوجها الذي غرز غليونه في شدقه, ثم استأنفت محاضرتها عن الأكلات المتنوعة.
قبل أن تنطق كان يهنئ نفسه ويؤكد لها أن المرأة قد نسيت محاضرتها التي بدأتها على المائدة, لكن ها قد خاب ظنه.
امتلأت الحجرة بدوائر الدخان, وأخذت رائحة التبغ تصارع عطر السيدة أمام أنفه, حرك يده في الهواء ثم شرع في تنفيذ خطته لتحويل الحديث وقبل أن يجهد نفسه كثيراً رن جرس الباب.
اندفع خالد ابن خاله الأصغر إليه وراح يرشقه بقبلاته ويصافحه بحرارة تفرّس في وجهه, لم يعد صغيراً وجده شاباً بشارب دقيق وكانت ملامحه تنم عن رجولة مكتملة.
كبرت يا خالد , ولدت بعد استشهاد والدك بشهرين أذكر تلك الليلة الشتائية الباردة , بردها يقطع السيف, كما قالت أمي , لم تتوقف عن البكاء, اشتدت الريح حتى ظننتها ستقتلع الحجرة الصغيرة, ظل الباب المسكين يقاومها في عناد غريب, كانت أمي تنظر إليك تتمتم ثم تنحدر دموعها في صمت, وعندما هطلت الأمطار سكت عن البكاء, ها أنت أمامي رجلاً ترى كيف تنظر للأمور يا صديقي؟ زوجة جميلة ولا بأس أن تكون مدعية ثرثارة أربطة عنق كثيرة وأنيقة سيارة فاخرة تربض أمام المنزل, التسلي بمشاهدة الأفلام الهابطة ولعب الورق وتبادل النكات البذيئة, حديث دائم عن النقود والرصيد في المصرف, التشدق بكلمات تقطر بالمرارة والتحسر على أنهار الدماء وأمامك مائدة فاخرة تحوى المحمر والمشوي, أم أنك تختلف عنهم, كم أنا في حاجة إلى نبش أعماقك أيها الفتى؟
- خالد أنهى دراسته الجامعية هذا العام, وجدنا له عملاً وعليه الباقي.
- شيء عظيم شببت عن الطوق يا ولد
ظلت عيناه عالقتين في وجه خالد الذي فاجأه بسؤاله:
- أود أن أسألك لماذا تركتهم؟ أليسوا بحاجة إليك؟
تنحنح محاولاً الحديث, لكن رابح أسعفه وتطوّع للإجابة.
- طبعاً قرر أن ينتبه لنفسه, وضع عقله في رأسه من حقه أن يبني مستقبله يعيش حياته لقد أدى واجبه ألا يكفي؟
- لقد أخطأت يا سيدي لم أفكر في هذا فقط أكره الأفاقين, من يسرقون جروحنا ويعتلون ظهورنا لكنك معذور أنك لا تدرك معنى أن يحملك صديقك على ظهره وسط الرصاص واللهب والنيران, أن تدثره بغطائك الوحيد في ليلة تصطاده الحمى, أن تسهران معاً في ليلة حالكة الظلام, أن ينصت لأمانيك وأحلامك الصغيرة رغم القصف الشديد وضرب الطيران المستمر, أن تقفا معاً وراء المدفع, تقصفان عدواً قتل أطفالاً ورمل نساء, أن تنقطعا عن العالم وتنحصر علاقتكما بالأرض والرصاص.. لا تعرف يا سيدي معنى أن يهمل المرء كل الأشياء وينصهر في حب الأرض.
- لم تعلق بشيء
- أعتقد أنه من العسير النظر للأمور بطريقة معكوسة حتى النهاية أليس كذلك يا رابح
- لم أفهم
- على كل حال أشكركم على العشاء استأذنكم لقد تذكرت عملاً هاماً علي أداؤه قبل النوم.
عندما وصلا إلى الفندق كانا قد تبادلا كلمات قليلة, اكتشف أن خالداً لا يحب الثرثرة مثله تماماً أكدا على موعد السفر ثم افترقا.
دلف إلى الفندق حيا موظف الاستقبال, تناول مفتاح حجرته ثم سعد السلالم بنشاط, وقبل أن يخلع ملابسه تناول قلماً ثم انهمك في كتابة رسالة لأمه.
اطمئني.. جرحي بخير, قريباً سأكتب لك من مكان لآخر.
































ونجوت برأسي
(قصة قصيرة)











ساعدت طفلي على الجلوس... ثم جلست بجواره انتظر..
- اثنان.. اثنان .. اثنان ..
لم يكن صوت الرجل عالياً، لكنه يصل إلينا رغم صراخ لا ينقطع لطفلة فشلت أمّها في إسكاتها.. كاد الرجل أن يفقد الأمل وينادي على الرقم التالي عندما نهضت المرأة، وبدخولها إلى حجرة الطبيب ساد الهدوء في المكان عندما يأتي ذلك الصوت منادياً على رقم سبعة سيكون دوري لعرض طفلي على الطبيب.. ها هي الورقة التي تحملٍ الرقم في يده النحيلة... لقد تناهي إلى أذني همسه الضعيف وهو يقرأ الرقم عدة مرات.. قبالتي تماماً يتزّين الحائط برسوم لأعضاء جسم الإنسان المختلفة.. وجدت نفسي أحملق فيها رأيت هذه الرسوم كثيراً، هنا.. وفي أماكن أخرى.. لكن ما بالي هذه المرة أمعن النظر فيها.. ها هو رسم لمخ الإنسان.. ذلك الشيء العجيب الذي تحتويه الرأس.. خطوط وقنوات كثيرة ومتشابكة.. شرخ في هدوء المكان.. نوبة السعال اللّعينة تداهم طفلي..الكر كرة والحشرجة المقيتتان تبعثان في أوصالي الرعشة.. تحسّست رأسه.. ضممت عليه ملابسه، نظر إلى، غمست نظراته الذابلة الواهنة في نفسي ألما، من ذلك النوع الذي لا يعرفه إلا أب لا يصنع لولده أكثر من الانتظار لعرضه على الطبيب.. تحركت يدي إلى جيبي باحثة عن علبة التبغ، تذكّرت أنني في عيادة طبيب تحسّست شيئاً ما في جيبي أنها تلك الرسالة:
لم يصلني من الأهل منذ عام كامل سوي أخبار متفرقة... وجاءت هذه الرسالة بعد طول انتظار...ماتت عمّتي... هكذا تقول الرسالة.. لا أعرف متى ماتت بالضبط.. منذ شهر، شهرين .. أكثر.. لست أدري..المهم أنها ماتت.. لم تحقق أيَّا من أمنيتيها.. لم تُدفن مع أختها الكبرى.. هاهي تموت بعيدة..ولم ترني..كتب لي ابنها منذ أكثر من عام أنها تتمني رؤيتي قبل أن تموت..لم أتمكن من تحقيق رغبتها.. إنها تكلفني ثمناً لا أستطيع دفعه.. رحمك الله يا عمتي... وددت لو حققتُ أمنِيتك. ولكن!!
غاصت عيناي في تلك القنوات والخطوط.. أمعنت النظر أكثر رأيت أشياء كثيرة بل أشياء غريبة، أشجار جذورها معلقة في الهواء.. وأوراقها في الأرض.. شمساً صغيرة.. صغيرة حتى لا تكاد ترى إلا بتدقيق النظر... تناهت إلى سمعي ضوضاء وأصوات.. أقبلت جموع من الناس تهرول في اتجاه واحد.. إنهم يحملون رؤوسهم في أيديهم.. أشباح بلا رؤوس.. أجسام تتدافع في اتجاه زحام يبدو من بعيد.. حاولت إيقاف أحدهم لاستفسر عن الأمر دفعني بيده.. انطلق حاملاً رأسه واستطعت أن أرى فيها عينين منكسرتين وأنفاً محطماً... جاءت ثلة جديدة عرفت أحدهم..كيف أنساه كان مثلي الأعلى لسنين طويلة.. كان رجلاً مبدعاً أحبّه الناس صار حديث كل المثقفين.. استوقفته:
- ما هذا يا سيّدي.. لماذا تحمل رأسك وتهرول هكذا.. جسم بلا رأس؟
- صدر الأمر السلطاني بأن يحضر الناس رؤوسهم لتغييرها.. استأذنك قبل أن تفوتني الفرصة..
انطلق مسرعاً رغم كبر سنه وترك بقية من أسئلتي معلّقة في الهواء.. وجدت نفسي أهرول وسط الجموع في اتجاه الزحام... نبّهني أحدهم إلى أنني مازلت أحتفظ برأسي علي جسمي وأن ذلك سيغضب السلطان..اندسست وسط الناس.. اقتربت أكثر.. ها هي المنصبة الكبيرة.. ذلك هو السلطان.. حوله المساعدون والأتباع.. عرفت فيهم ذلك الذي جذب الأضواء حوله.. صفق له الناس كثيرا.. ها هو يبتسم للسلطان .. نفس الابتسامة التي كان يطل بها على الناس.. جاء دور الخطابة.. بيّن الخطيب الأول مزايا الفكرة السلطانية العظيمة وكيف أنها جاءت للسلطان في لحظة من لحظات النشوة والإبداع.. واختتم خطبته بأن دعا الناس إلى شكر السلطان والثناء عليه لاهتمامه بهم..كشف الخطيب الثاني أن السلطان لم ينفرد بقراره هذا.. لقد استشار نخبة من معاونيه ومساعديه وأتباعه.. كذلك استشار أصدقاءه خارج البلاد، أيدوا الفكرة، تنبأوا بأن الرفاهية ستعم البلاد السلطانية.. لم يصفِّق الناس للخطيبين اكتفوا بأن رفعوا رؤوساً مقلوبة دلالة على الرضا القبول... تركت الخطيب الثالث وتراجعت في الطابور.. وكلّما قدّمت أحداً وأعطيته مكاني شكرني بسعادة على حسن صنيعي.. تسللت من الطابور.. اقتربت من رجل يشرف على النظام توسّمت أنه محل ثقة السلطان، سألته:
- سيِّدي.. ماذا ستفعلون بهذه الرؤوس كلّها؟!. طبعاً موقعكم الكبير يجعلكم على دراية بأمور كثيرة... أليس كذلك؟!
- نعم .. نعم... لقد كنت هناك عند انعقاد المجلس السلطاني.. عرفت أنهم سيأخذون الرؤوس ثم يفرغونها مما بداخلها.. ثم يكسونها من الداخل ومن الخارج بالمطاط.. خوفاً من الصدمات..
- لكن هل ستبقي الرؤوس فارغة هكذا؟ لا يمكن أن يرضى مولانا السلطان بذلك!
- لا ... لا.. أمر السلطان بأن تُحشي الرؤوس بنشارة الخشب.. لكن وزير الصحة نبّه إلى أن الرؤوس ستتعرض للتسوّس !! فأصدر السلطان أوامره بأن تنشأ فوراً عيادات لمعالجة تسوّس الرؤوس في مختلف المناطق، ليتردد عليها الناس باستمرار للتأكد من عدم تسوّس رؤوسهم... شكرت الرجل على هذه المعلومات القيّمة وما أن أدرت ظهري حتى تنبّه إلى أن رأسي مازالت ثابتة في جسمي وليست في يدي.. صاح بي.. أطلقت ساقي للريح.. تبعني لأمتار ثم توقف فجأة.. لقد تذكّر العقاب الذي سيناله إذا أهمل حراسة الأجسام المتراصة في الطوابير الطويلة.. قد يختل النظام أو يصل أحدهم إلى المنصة السلطانية دون أن يخلع رأسه.. وقفت التقط أنفاسي.. نظرت حولي.. وجدت نفسي أمام طرق وعرة، لكن واحداً منها بدا وكأن قدميّ قد وطأتاه من قبل. سرت فيه.. طريق جبلي وعر.. المحافظة على التوازن ضرورية قدماي يصطدمان بنتوءات صخرية من حين لآخر، لكني أستطيع استعمال يديّ.. إنني لا أحمل بأي منهما شيئاً.
وصلت إلى منحدر بدت في نهايته واحة خضراء أزهار حمراء.. زاهية اللّون تنتشر هنا وهناك.. استقبلني أناس برؤوسهم في أجسامهم وقد نبتت في صدورهم أغصان خضراء بأوراق يانعة.. في أيديهم يحملون البنادق.. أعطوني واحدة، وشعرت بنبته تشق لها مكاناً في صدري..
شعرت بيد ضعيفة تهزّني.. كانت يد طفلي.. وعندما ابتسمت له، جاءني صوت ذلك الرجل النحيف يردد رقم سبعة.. حرّكت رأسي يميناً ويساراً.. تحسسْتها بيدي.. تأكدت أنهّا في مكانها..نظرت إلى الرسم المعلّق على الحائط وتمتمت: الحمد لله... نجوت برأسي... ثم نهضت!!













































الدُعاية والجُزُر
(قصة قصيرة)

هذا هو اليوم السابع الذي تستضيفنا فيه عمتي. ثمة أقارب وأصدقاء آخرون لم نقم بزيارتهم بعد , بعضهم لم اره منذ عشر سنوات. لكن اليوم موعد مراجعة الأمن والجوازات
عندما عدت على المنزل. وجدت زوجتي متلهفة لعودتي نظرت إلى وجهي ثم قالت.
- أمرنا بمغادرة البلاد أليس كذلك؟
- نعم...!
تعودت هذه المرأة أن تقرأ ملامح وجهي علمتها السنون كيف تنطق بالكلمات التي لم تخرج من فمي بعد.
- لم يسمحوا لنا بالبقاء لأكثر من ثلاثة أيام. ثم المغادرة.. لم تعلق عمتي بشيء .. تنهدت ثم إنسابت دمعة على خدها نظر زوجها إليها وفي وجهه نصف ابتسامة.
- هذه ليست جديدة علينا، تعودناها
في اليوم الأخير يوم فراق الأحباب , ألحت عليّ رغبة شديدة في المزاح والدعابة وأخذت تراودني بالغوايةطوال النهار ..اصطحبنا زوج عمتي إلى المطار، وساعد ذلك على كبح جماح تلك الرغبة لفترة. ولكن ما أن يتركنا عائداً إلى بيته حتى عادت تلك الرغبة لتنتصر علي رغم محاولات الإفلات منها...وعندما ناولت البطاقة والجوازات للموظف, كنت أعرف أنني كتبت "الأرض" في الخانة المخصصة لاسم الأم
- لماذا الأرض..؟ لماذا لم تكتب البحار.. النجوم القمر.. لماذا الأرض بالذات؟
- سيدي أنا لا أجيد السباحة فعلاقتي بالبحار ليست جيدة كذلك أنا لست شاعراً فأعشق القمر وأهيم بالنجوم.!
والنتيجة عشر ساعات لعينة اعتصرني فيها رجال الأمن . أسئلة كثيرة ومتشعبة كل هذا بسبب تلك الدعاية البريئة.!
يبدو أنني ورثت هذه العادة عن والديِ، هكذا يقول الكثيرون درس والدي الجغرافيا لمدة ثلاثين عاماً وعندما كان يعمل مدرساً في "جزيرة النبلاء" سأله ناظر المدرسة عن أهم صادرات الجزيرة ووارداتها أجابه:
- إنها تصدرالبترول الأسود . وتستورده بعد ذلك كوفيات ملطخة بالقاذورات والروئخ النتنة..
رفع الناظر كوفيته إلى أنفه.. سلط على والدي نظرات حاقدة ثم انصرف غاضباً.
فقد والدي وظيفته. طرد من "جزيرة النبلاء" بسبب طبيعته المزاحية تلك.. (والدي يعمل حالياً بائعاً للكتب ويبيع كذلك مجلات الأطفال.. إنه لا يملك دكاناً بل يفترش الأرض هكذا أصر على أن يفترش الأرض)
لست أدري بالضبط متى بدأت العلاقة بيني وبين الأرض لعل ذلك كان منذ مئات السنين. لكن منذ ولادتي.. كان ثمة شيء ما ينمو داخلي كبير تجذر حب الأرض في أعماقي.. ملأ كل كياني ونبت من صدري غصناً تشكل طائراً بجناحين يتصلان بقلبي ويهتزان مع نبضاته.
ما زلت أذكر كلمات العرّاف لأمي قال العرّاف: يشقى ولدك يهجره الفرح يحمل أحزائه والأرض يتغرب بهما يطوف بهما البلدان.
* * *
سبحت عيناي في الفضاء الأزرق وبدت من نافذة الطائرة نتف قطنية من السحب وعندما أعدت عيني إلى زوجتي وجدتها قد راحت في إغفاءة وبقايا ابتسامة ساخرة ما زالتعالقة على وجهها..
- نرجو التأكد من ربط الأحزمة والامتناع عن التدخين , سنكون على أرض المطار بعد عشر دقائق
دفنت السيجارة في منفضة بجانبي لكرت زوجتي لتستعد لاستقبال المطار الجديد في حين بدأت السماء تخلو من السحب البيضاء وأخذت معالم الأرض تتضح. شيئاً فشيئاً..
المطار مزدحم إنه موسم السباحة والاصطياف المدينة مفتوحة للسياح والأصدقاء الرؤوس كثيرة رؤوس بقبعات إفرنجية عريضة رؤوس بكوفيات ما زالت زاهية وقليلة هنا الرؤوس التي بلا غطاء
تقدم رجل أنيق إلى زوجتي.
- عفواً هل أستطيع معرفة ما بداخل هذه الحقيبة؟
- قنابل ومتفجرات!
عندما دفعت زوجتي تلك الحقيبة إلى الرجل.. كنت قد أدرت وجهي لأخفي ابتسامة مفاجئة لم أكن أتوقع أن الرغبة في المزاح والدعابة ستنتصر على زوجتي هي الأخرى.
- ما هذا أيها السيدة. هل تسخرين مني؟ كيف تجرئين على ذلك؟ أخرج الرجل من جيبه منديلاً مطرزاً راح يمسح يديه اللتين غاصتا في لفافات القماش المشبعة بسائل لزج كريه الرائحة
انصرف غاضباً في حين قررت في نفسي أن أعرض طفلتي على الطبيب حال خروجنا من المطار. طوال الرحلة لم يتوقف ذلك الإسهال اللعين.. كان الطقس بارداً في الليلة السابقة.
- ماذا يفعلون كل هذا الوقت؟ أهي جوازات مزيفة.. أم نحن من الهاربين من القانون؟ أو المشبوهين ؟
قالت زوجتي ذلك بعد أن بدلت لفافة قماش جديدة للطفلة..
إنهم يقرءون أسماءنا بدقة لعلها كتبت بحروف غريبة.. بعد ساعة جاءنا صوت مذيعة المطار بأسمائنا نظر طفلي ذو السبعة أعوام إلى وعلامات الدهشة في وجهه لم يتعود سماع كلمات السيد تسبق اسمه دائماً يا ولد وينادونه التلميذ في المدرسة أحيانا.. لكن كلمة السيد هذه يبدو أنها لم تعجبه عاد يلتهم رغيف الخبز الذي في يده مفضلاً إياه على وجه ذلك الضابط ذي العيون المتلصصة.
- عفواً للإزعاج. لكن إجراءات الأمن!
- ليس ثمة إزعاج. ما الأمر؟
- نأسف ممنوع دخولكم هذه أوامر ستقلعون عائدين على أول طائرة.
* * *
أيها العرّاف صدقت نبوءتك ولكن ألا من أرض أفقد فيها غربتي وأحزاني لفترة أسير في فضاء .. لا مكان أضع عليه أثقالي.. غربتي.. دائماً أحملها ألا من محطة أقف عندها وأستريح.. فيها أستريح قليلاً.. أيها العراف شربت من كأس الغربة حتى أدمنتها لازمتني كمشنقة متجولة مشنقة تصنع ما هو أكثر من الموت تزرع في الأعماق أشواكاً دامية لا ترحم. تملأ نفسي بصحراء قاحلة جرداء كثبانها تنساب في جوفي مرة المذاق أشعر بها تندلق كزجاج مهشم وها هي الجزر كما ترى أيها العرّاف تلفظني للمرة الألف والأقدام الغليظة تركلني.. حطت بي رحال الغربة في جزر يملؤها صديد القهر وتصمت بنفخها خداع مسموم وتصمت مررت على جزر بلا وجه وجزر بلا فجر أبرزت جواز سفري وقدمت هويتي. أنكرتني الجزر سخرت مني قذفت أشيائي في وجهي وعادت تلفظني وركلتني الأقدام إلى الفضاء.. أيها العراف ألا من نهاية لهذا ؟ ألا أكون يوماً بلا غربة؟ بلا مشنقة؟
كانت الطائرة قد استقرت في الجو عندما أخرجت طفلتي ذلك السائل الأخضر من معدتها وتأوهت أخرجت زوجتي لفافة قماش جديدة وعندما رآها طفلي سألني:
- هل يسمونها قنابل ومتفجرات؟
- نظرت إليه وابتسمت لزوجتي ثم وعدتهما أن أحكي لهما عن مغامرات السندباد في الجزر العجيبة عند وصولنا إلى الأرض.
وعندما ألقيت نظري من نافذة الطائرة كانت السماء قد بدت أكثر قتامة وفقدت نتف السحب بياضها.



1978









مشاعر مؤجلة
(قصة قصيرة)

قذف الكتب من يده بغيظ مرر أصابعه في شعره المنكوش ثم تحسس الأشواك النابتة في وجهه رمق السيارات الفاخرة. نظر إلى الأطفال حليقي الرؤوس تنهد ثم القى بجسمه على الحشائش الخضراء.
جالت في رأسه أمنيات عجيبة! لماذا لا يستغرقه سبات طويل كأهل الكهف؟! لم لا يكتشف شيئاً خارقا يختصر به السنوات! أي شيء يحدث خللاً في ناموس الحياة! لم يعد عقله يستوعب كل ما يراه ويسمعه! أفكار آمال تساؤلات أشياء كثيرة تنفجر في رأسه وتضغط على كل ذرة فيه لكن! لماذا يصر على إلصاق سبب تعاسته بالآخرين؟ ألم يجلب المتاعب لنفسه بإرادته؟ كان يعيش في هدوء واستسلام كمتسابق خذلته البداية فراح يعزي نفسه بزرقة المياه وجمال البحر عاود التجديف بنشاط وأخذ يواجه الأمواج بقوه... هكذا انتصب من داخله شيء عجيب منذ ثلاث سنوات.. أنتشله الطموح من السنوات الباهتة.. تحول إلى طاقة عجيبة واندفع على مواصلة دراسته لكن! ها هي الأقدار تلاحقه بسخريتها وتضعه أمام دعابة مريرة.. دعابة جعلته يكره نفسه ويكره النجاح والطموح لأول مرة... باع ما تبقى من حلي زوجته.. اشترى الكتب الجامعية وقطع تذكرة السفر وبقيت العقدة! هذه الرسوم الجامعية الباهظة! سنتان لم يسددها! سمع بالإعفاءات ولم تسمع هي عنه! أربعة أيام يدور فيها حول نفسه .. إلتمس الحل عند كل من يعرفهم في هذه المدينة لكنهم أجمعوا على ذلك المنقذ الوحيد!
"عمك "أبو أسد" يرفع سماعة الهاتف فقط وينتهي الأمر إلحق نفسك. الامتحان بعد يومين لن تدخله إلا بتسديد الرسول أو الإعفاء! اذهب إليه ليس أمامك غيره"
قبل أسبوع من استشهاده كتب شقيقه رسالة إليه حدّثه فيها عن "أبو أسد" كانت رسالة حزينة. ومتنبئة أيضاً كتب عن تزلفه وتلونه عن ممارساته اللا أخلاقية عن تصرفاته التي تناقض أقواله. لم يصدق كل ما كتبه شقيقه يومها لعلها الغيرة إنهم ابناء عمر واحد هكذا همس لنفسه عند قراءة الرسالة ومنذ عامين حضر إلى هنا ندم على شكه فيما كتبه شقيقه اكتشف أن "ابو أسد" قد أضاف رصيداً جديداً لنفسه استهوته اللعبة تحولت حياته إلى خدعة لذيذة وقع الكثيرون في شراكها. حتى هو لماذا ينكر؟ كل ما حدث اليوم يثبت ذلك ألم يسجل عنوانه ويدس الورقة في جيبه.. قبل حضوره إلى هذه الحديقة ردد أسمه عشرات المرات مثلهم! نسي اين قريته "خليل القط" مثلهم تماماً وخليل" أحد أطفال المخيم الذين كانوا يطوفونه بأجسامهم النحيلة وملابسهم المرقعة المهترئة كان مثل كل الكادحين الذين ينتشرون صباحاً في البيارات يحملون سلال البرتقال على ظهورهم ويقومون بالتقاط أرزاقهم وفي المساء يعودون ليحشروا في الغرف الضيقة ويستنشقون رائحة حاجيات الإعاشة المقيتة كانت "أم خليل" تردد دائماً "الفقر يجمع القلوب والنكبة توحد المشاعر" أخبروها منذ عام بتغير أحوال ابنها علمت أنه أصبح "أبو أسد" نظرت إليهم رفعت سل البرتقال على رأسها.. ثم أخذت تردد كلماتها المفضلة وتبتسم للكادحين.
خليل القط وأمه! ما هذا الهراء؟ ها هو يذعن إلى خيالاته الطائشة ويقع تحت تأثير وساوسه المقيتة. كيف يجرؤ على وضع "أبو أسد" في تلك الصورة المزرية؟ ماذا يهمك أيها الفيلسوف إن كان كذا وكذا وأصبح بطريقة عجيبة كذا وكذا المهم أنه المنقذ الوحيد لك .. من سيحل مشكلتك غيره .. يرفع سماعة الهاتف فقط وتدخل الامتحان وتواصل طريقيك .. لا تكن غبياً.. تركت زوجتك وأطفالك تحملت مشقة السفر والآن تردد. انهض مستقبلك في يده أذهب إليه لكن! إياك أن تذكره ب "خليل القط" بأمه، المخيم الجوع الذباب وسلال البرتقال إياك أن تفعل ذلك!
قبل أن تفتح له الخادمة كان الترف مرتبطاً عنده بالخيال، لم يره على أرض الواقع! شاهده من بعض الأشرطة المصرية والأجنبية فقط! لكن الآن تغير كل شيء ها هو لأول مرة أمام الترف بكل معناه! إنه يرى أشياء سمع عنها وأشياء كثيرة لم يسمع عنها.
انتشل نفسه من الذهول اكتشف المرايا التي تحاصره من كل جانب إنكمش على نفسه ونظر إلى "أبو أسد" ..(لم تعد نحيلاً يا "خليل".. أين ذلك الاصفرار الذي عهدته في وجهك؟!) ضغط على أفكاره الشريرة.. لن يسمح لها باستدراجه أبتسم للرجل سأله عن صحته ثم تحدث عن الطقس دخلت الخادمة ووضعت شيئاً ما أمامه شكرها بأدب ثم اعتدل في جلسته.
( حتى شعرك! لم يعد قصيراً مجعداً ها قد أصبح طويلاً مسترسلاً يا إلهي إنه يخفي أذنك اليسرى تلك الأذن المقطوعة! هل تذكر يا "خليل) تلك الحادثة.. وإذا كنت تذكرها هل تعترف بها ؟ هل تذكر يا أبو أسد حادثة كانت منذ ثلاثة عشر عاماً؟! كان ذلك في أول الشهر "خليل القط" استلم أجرته المتواضعة من العمل في البيارات عرج على القصاب ابتاع أوقية من اللحم وعندما وصل إلى غرفتهم بدا في إعداد وليمة انتظرها شهراً كاملاً ملأ الحلة بالماء وضعها فوق النار غسل اللحم وقطّعه وفجأة تذكر حاجته للبصل قلب الغرفة ولم يجده لم ينتظر أمه ليسألها أسرع إلى جيرانهم وعندما عاد بالبصلة كانت القطة تلعتهم آخر قطعة من أوقيته العزيزة .. انفض عليها كالمجنون رفعها بغيظ ثم قذفها وسط حله الماء الفائر.. ماءت القطة بألم ثم قفزت بوحشية أخيرة وقبل أن تموت أخذت بين أنيابها قطعة من إذنه اليسرى.
يا للغباء ها هو ينسى نفسه وينساق وراء هذياته مرة أخرى! والعجيب أنه يريد اعترافاً! كيف يفكر هذا الرجل؟ لم يدرك ما يحيط به بعد! كيف يعترف المتخم بالجوعى؟! هل تذكر الحرمان من يعب من المتعة؟! لا شك أنه سيقتله لو ذكره بتلك الحادثة البغيضة! بل لن يتون عن تحويله إلى ذرات دقيقة..
"كف عن أفكارك السوداء وتذكر ما جئت من أجله فقط! عليك أن تبتسم وتعد نفسك لطلب مساعدته لا تنس شرح ظروفك القاسية وديونك المحترمة.
يا أحمد صحيح أنت ليس ثورياً ومغرور بعض الشيء وأحياناً تقول كلاماً يضرّك! لكن لا بأس أن أستقبلك بصفتك أبن حارتي ونحن من طبائعنا العفو .. هذه أخلاقنا!!
"آه يا "خليل القط" تتعمد الآن إذلالي وقهري تريد أن تشعرني بضالتي لم لا! لقد أتيت إليك مستجدياً هكذا إذن لم تنس تعريتي لشخصك الكريم لم تنس أنني رفضت المساومة على دماء أخي ورفاقي أنا لست ثورياً في نظرك هذه أخلاقكم إذن تنسون كل شيء تتسامحون في كل شيء لكنكم تختزنون حقدكم لمن يعرّيكم ويفضحكم آه يا زمناً أبكم! "خليل القط" يتهمني ويهددني! ألم أقل أن شيئاً لا يستوعبه عقلي قد حدث! ما زالت أمك تذكر جرحي يا "خليل" تذكر دماء رفاقي والأيام القاسية تذكر مواقفنا تذكر الدبابات التي أحرقناها.. المستعمرات التي قصفناها إنها ما زالت تروي قصصنا يا "خليل" ليتك حاربت يوما واحداً يا سيدي.. لو كنت فعلت لصفحت عنك بل لكنت أول حوارييك لكنك لم تفعلها يا "أبو أسد"..
- لا عليك طبعاً أتيت تطلب مساعدتي في أمرْ ما تفضل هل من خدمة أؤديها لك؟!
دعك جبينه يحقد نظر إلى يديه المحروقتين وعندما رفع رأسه إلى أعلى اكتشف صورة على الحائط نظر إلى الشهداء الأربعة نقل عينيه إلى "ابو أسد" راقبه وهو يلتهم شيئاً ما من طبق أمامه.. ثم انتفض واقفاً تحرّك تجاه الباب في حين بدت له دماء الشهداء تقطر من شدق "أبو أسد" ...






رجل في المزاد العلني
(قصة قصيرة)












إنه يمشي على يديه منذ ساعة.. هكذا قطع أكثر من خمسة كيلو مترات.. هل سبق لأحدكم أن مشى على يديه مثل هذه المسافة؟ انتظروا.. لا تذهبوا بعيداً.. صاحبنا ليس بهلواناً!.. ولا لاعب سيرك!.. ولا رياضيّاً أيضاً!.. إنه مثل الكثيرين منا.. في الأربعين من عمره.. نحيف.. يميل إلى القصر.. أصفر الوجه.. عيناه واسعتان حتى يخيّل لك أنّه لا يوجد غيرهما في وجهه.. يشعر أحياناً بوخزات في الجانب الأيسر من صدره.. ورغم ذلك يدخّن بشراهة..
إنه يمشي على يديه.. أو هكذا بدا له!.. منذ أن ترك المصلحة وانطلق إلى الشارع وهذه الحالة تلازمه.. والغريب أنه يرى الآخرين كذلك!! يمشون على أياديهم.. حتى الأشياء!.. يراها مقلوبة.. ورغم هذه الحالة ودَّ لو ضحك عندما رأى سيارة البطيخ.. البطيخ يحلُّ محّل العجلات.. يحمل السيارة.. والعجلات تدور في الفراغ.. أليس هذا مضحكاً؟!.. لكنه لا يضحك كثيراً.. بل هو لا يذكر من ضحكاته العميقة سوى اثنتين. واحدة عندما وضعت زوجته طفلهما الأول.. والثانية كانت في العام الماضي.. كان يقف في الطابور ويخضع للتفتيش الذاتي كغيره.. هيأ نفسه لكل ذلك.. فهو يعي جيداً أنه يتعامل مع عدوّه.. ارتدى حذاءه.. تقدّم إلى البوابة.. وفجأة ناوله الجندي الصهيوني بطاقة سياحية.. نظر فيها بسرعة.. وجد عليها عبارة واحدة كتبت بالعبرية والإنجليزية والعربية "أهلاً بك في إسرائيل".. رفع رأسه عن الورقة فلاحقته ابتسامة الجندي المهذّبة.. انتابته رجفة مفاجئة، لم يتمالك نفسه.. إعتملت في نفسه كل المشاعر والأحاسيس.. ثم انفجرت في قهقة طويلة.. كررها مرات ثم شعر بها تنغمس أخيراً في طبقات الصديد المستقرة في أعماقه..
"سعيد أبو الخير".. هذا اسمه.. لكنه لا يعجبه!.. جاء في ليلة لعينة تحت الأشجار الحرشية..
لم ترحمه رمال الكثبان عندما انفلت من بطن أمه.. داهمت جسمه الطري بوخزاتها القاسية.. كاد يلفظ أنفاسه الأولى والأخيرة.. أزاحت جدّته الرمال.. أخذته إلى حجرها باكية.. بينما كان كل شئ حوله يثير الشقاء والحزن.. يتم.. فقر.. تشريد.. موت ودمار في كل مكان.. طائرات تقذف نيرانها الهوجاء.. وترسل من جوفها تلك الأشكال البيضاوية المخيفة.. رغم ذلك.. أصرّت أمّه على هذا الإسم الشاذ.. "سعيد".. أما العائلة "أبو الخير" فمنذ تلك الليلة ودّعها الخير.. وانحشرت في تلك العلب المقيتة السامّة التي أسموها فيما بعد "مخيمات".
هكذا نشأ واسمه أكثر الأشياء تجسيماً للمتناقضات.. لكنه لا يعدم بعض الفائدة.. فكلّما تذكّر اسمه شعر بقدرة عجيبة على حل الألغاز واستيعاب الأشياء الخيّالية واللاّمعقولة! فجأة لفت نظره شئ عادي.. شئ غير مقلوب.. كلب يقف على أرجله ويستقر بقرب إحدى محلات الجزارة.. وأمامه عظمتان محترمتان.. إنه يمتلكهما بكبرياء.. الجزّار يناديه بود.. إذن اسمه "عنتر".. قفزت في رأسه فكرة مفاجئة.. لماذا لا يحاول عقد صفقة مربحة؟!.. ليعرض على الكلب استبدال الأسماء والحالات!.. لكن!.. هل يستطيع شخص مقلوب مثله أن يوصل شيئاً ما إلى أي كائن؟!.. ثم،. أي فخر للكلب في قبول عرضه السخيف؟! لو كان في مكانه لرفض!.. ألم يصبح عاطلاً عن العمل؟!.. منذ ساعة وضعوا أمامه تلك الورقة.. كانت تحمل فصله من العمل.. أخلاقه وحرصه على سمعة العمل هما السبب.. تلك الفتاة الماجنة!.. لم يكن يعرف أنها تهم ذلك الكهل المتصابي!. لكن من أخبره؟!.. لابد أنّه أحد الذين تظاهروا بتشجيعه على موقفه، وأظهروا سخطهم عليها.."دائماً تفهم متأخراً يا سعيد" كلمات سمعها منذ ثلاث سنوات في مدينة أخرى.. كشف الاختلاسات وأثبت كل شئ بالوقائع والأدلة.. كان يحارب بسيف الحق!.. والنتيجة.. نقل المختلس إلى مصلحة أخرى!.. وفصله سيف الحق بعد شهرين فقط!..
توقفت السيّارات عند الإشارة الحمراء.. تلفّت يميناً ويساراً وقبل أن يجتاز الطريق رمق "كمال الناعم" الذي استقر في سيّارته الفاخرة.. تصحبه زوجته الحسناء.. كانا معاً في المرحلة الإعدادية.. "كمال الناعم" يتغيّب عن المدرسة.. يهرب منها.. ثم يكذب على مدرسيه وزملائه.. يختلق أعذاراً كثيرة.. وغير صحيحة.. كيف لا يعرفه وهما أبناء حارة واحدة.. كان يحذّره من عاقبة الكذب،. لكن "كمال الناعم" ظل يردد عبارة واحدة.. "عندما اقتنع أن الكذب شئ سيئ سأقلع عنه".. هه.. "كمال الناعم" الآن من المرموقين.. رجل لا يعترف بالتخصص. يكتب في كل شئ وينشر في كل الصحف. في كل مدينة يكتب بعقل أهلها.. هه.. موهبة مطلوبة..! انتبه إلى المرأة التي أخذت تسحب طفلها.. كان يراهما مقلوبين.. لكنه لاحظ الشبه بين المرأة وزوجته.. حتى الطفل!.. يتعثّر في خطواته مثل طفله الأصغر تماماً.. تذكّر القائمة التي تستقر في جيبه منذ عشرة أيام.. بطانيّات.. أحذية.. ملابس ثقيلة.. جوارب صوف.. وعندما وصل إلى الميدان الكبير كانت زوجته تقف هناك.. تصرخ معلنة عن المزاد.. بينما وقف أطفاله يحملون يافطات (مقلوبة مثلهم) تلفت النظر إلى المزاد العلني..!
- "أقبلوا.. هنا المزاد.."سعيد أبو الخير" في المزاد!.. رجل له زوجة وأطفال.. عمل عشرة أعوام بأمانة وإخلاص.. أتقن عمله خلالها.. لم يكذب ولو مرة واحدة!.. يحب الأطفال ويحبّونه.. يحكي لهم حكايات مسليّة.. ومفيدة.. لديه حكايات لأطفال الأثرياء أيضاً!.. هيّا.. أقبلوا.. لا تنظروا إلى جسمه النحيل ووجهه الأصفر.. يستطيع العمل بنشاط رغم هذا.. لا تخشوا منه على زوجاتكم.. لا ينظر إلى نساء الآخرين.. مخلص.. يحب كل الناس ويحب الخير للجميع.. هيا.. المزاد.. المزاد..".
رجل كهل يتقدم من زوجته.. يبدو أنّه عرك الحياة وجرّبها.. يرفع عصاه ويخاطبها:
يا ابنتي لقد بحَّ صوتك دون فائدة.. لن يلتفتوا إليك لو بقيت دهراً.. لم تعد مواصفات زوجك مقبولة هنا.. كانت مقبولة منذ سنين.. إنهم يطلبون الآن مواصفاتٍ أخرى.. يا ابنتي أنصحك بواحد من اثنين.. إما أن يكتسب زوجك المواصفات الجديدة.. أو ترحلوا من هذه المدينة!..
انتشل عينيه من اللاّشئ.. حوّلها إلى الناس والأشياء دار في الميدان على يديّه عدة مرات.. بدأ الصديد يتسّرب إلى كل شئ حوله.. الصديد يغمر المكان.. كلب فقط يطفو بعظمتيه فوق الصديد،. فوق الناس والأشياء.. المكان يتحوّل إلى دمّل كبير.. الناس يشيرون بأرجلهم.. الدمّل المنتفخ يبحث له عن متنفس.. الناس يشيرون إليه.. الدمّل يجد فيه متنفسه.. الدمّل ينفجر ويصبح هو ثقبه.. الصديد ينحسر عن الناس والأشياء ويصبُّ في جوفه.. يملأ أعماقه!! ويسيطر على كل شئ حوله!!




















الهبوط عند تقاطع الجروح
(قصة قصيرة)

- كنت أعلم أنها تزوجت من غيرك! لم يخطر ببالي انك لا تدري.. ألم يخبرك والدك عند زيارته لك؟.. كيف تضعف إلى هذا الحد؟.. هذا خطير!! يوسف أحمد المناضل العتيد! ينهار .. عجيب ! أمن أجل امرأة؟ .هناك آلاف النساء.. هناك ألف " سمية" !... القضية يا صديقي ليست...
ولاحظت أن " عصام" يطلق لنفسه العنان، وينطلق نحو خطبة عصماء، فقاطعته بحنق:
- أنت أحمق ....
أشعلت سيجارتي، طلبت منه أن يهدئ السرعة، ثم أردفت:
- نعم، أحمق إذا كنت تعتقد بعد هذا العمر.. وسنوات السجن اللعينة أنني أهرب، أسقط، أنهار من أجل امرأة، كما تقول، اسمع، لا أنكر أنها رائعة، أتعرف..! لم يخبرني والدي بزواجها، لكنني لم أغضب عند خروجي. لانها كانت معي، نعم ! في شهور سجني الأخيرة، لم تفارقني، صوتها، كل ليلة وبعض ساعات النهار، كنت أراها، بلباسها المدرسي، تنسل من بين زميلاتها، تفتح كتاباً، تسألني عن مسألة رياضية، ثم تغرز عينها في عينى، ونهداها النافران، يلامسان صدري، وعندما ترفع يدها الرقيقة ترد خصلات شعرها، أمسكها وألاحظ اقتراب زميلاتها، أتظاهر بشرح المسألة، وأطلب منها الانصراف، وهناك، بين الأشجار كنت أراها، وجهها ينضح بالعرق، ترفع صناديق الذخيرة معي، أنفاسها تلفح وجهي، وعيناها الجميلتان تشجعاني، كنت أراها يا صديقي كثيراً، لم يخطئ والدي، لست غاضباً منه، كان سيحرمني من ذلك كله، لكن آه، خسارة، أتعرف؟ ... لم أرهابعد خروجي، علمت أنها أجبرت على ذلك القرد المتصابي سالم العير.. المهم، أنا لم أهرب! الصحيح شعرت بالضياع شعرت بفقدان شيء ثمين، لماذا أنكر؟ لكنني لم أهرب، أو لم أخرج بسببها، أنهم طلبوا مني، الرفاق ، طلبوا مني المغادرة.. سيكون وضعك حرجاً، سيعيدونك للسجن لأتفه الأسباب فلتغادر.. هكذا أقنعوني، وكلّفوني.. أوه، لماذا تستدرجني؟ أنت ماكر يا صديقي.
- لم أقصد ذلك، على كل حال ستتحسن أمورك، أثار السجن والتعذيب ستزول، المهم معنوياتك، كلما كانت الأهداف نبيلة كانت التضحيات كبيرة يا صديقي، لابد من التضحية، السجون لا تنال من الرجال، أنهم قالوا، السجن للرجال... ثم أليس بجيبك الآن عقد عمل ممتاز؟ ... و ....
- عصام! هل جربت السجن؟
لم يتوقع سؤالي، هذا ما دلت عليه ملامحه، وقبل أي توضيح مني استأنف حديثه محتداً!
- لم اسجن، وأنت تعرف ذلك، لكني واجهت الخطر الموت.. قصف، اشتباك، قذف ، تدمير، ألا يكفي؟ الموت، النار، الدماء، ألا يكفي هذا كله، أنت تقسو عليّ أنا ....
ووجدت نفسي أقاطعه مرة آخري، وبحدة.
- عزيزي لم أقصد اثارتك، ثم إنك تتحدث عن الموت، أي موت؟ مواجهة الموت تختلف! نعم تختلف أن تواجهه مسلحاً، بيدك وسيلة أخرى للموت، تواجه النار بالنار أن تفعل ذلك، مهما كان الظرف، تظل الأمور متكافئة.
- متكافئة! كيف؟ والموت واللهب والقصف، يحاصرك من كل مكان.
- اسمع!.... ما دام السلاح معك تستطيع مواجهة العالم، نعم ! ... ولحظة الموت، تموت قوياً، بل إنك لا تشعر بالموت، اسألني أنا، لقد جرّبت ذلك النوع من المواجهة أما هناك، في السجن مواجهة أخرى، موت آخر، مذاق الموت مختلف في السجن، إنه انتظار الموت، عاجزاً، وأي موت، على مختلف الأشكال، جسماني ، نفساني، أخلاقي، حيواني،أية تسميه تريد، انهم يتفننون في صنعه لك، يبتكرون كل يوم جديداً لاماتتك آه... تعذيب الكهرباء! هل سمعت به؟!.. الضرب على عضوك! هل رأيت أحداً يضرب بقضيب من الحديد على عضوه! يا الهي ثم الضرب على القدمين معلقاً، وعندما تهبط إلى الأرض تلتصق قدماك بالبلاط... كالشاه، هل رأيت الشاه المعلقة للسلخ، عارياً، ويصعد أحدهم ليدفع تلك العصا الغليظة في أستك! آه يا صديقي... فظاعة ، يقتلون أعز أصدقائك، أمام عينك، بالتدريج، وأنت عاجز...
- كفي كفي ....
لم أكن بحاجة إلى كلمته لأتوقف شعرت بحالتي تبلغ ذروة السوء، تعرّق جسمي، راح صدري يطلق زفرات متلاحقة، وعندما حاولت اشعال سيجارتي، لم تسعفني يداى المرتعشتان، قذفت السيجارة، ثم تحسّست بعض أعضاء جسمي... حاولت تجفيف عرقي، وعندما فتح صديقي فمه للتحدث، أشرت بيدي، فصمت واحترم رغبتي لبرهة، وبعد لحظات اقترح تناول كوبين من العصير، وافقت بايماءة من رأسي، ثم أغمضت عيني للحظات...
شربنا العصير، ولم ينبس كلانا بكلمة، انطلقنا من جديد، وبعد لحظات نظر عصام إلى وجهي... لعله لاحظ تحسناً شجعه على استئناف الحديث، وقبل إنهاء الكلمة الأولي طلبت منه التوقف فجأة....
- ما هذا ؟ هل غضبت حقا؟ اعتذر، اننا أصدقاء!.
- لا هناك صديق قديم، إنه هناك، لعله ينتظر سيارة، لم أره منذ سنوات، لنسلم عليه، ونعرض عليه توصيله، ما رأيك؟
- بكل سرور، هذا أقل واجب.
كان وجهه عابساً، زحف الشعر الأبيض إلى شاربه وصدغيه، إزداد نحولاً وانحنت قامته، هذا ما لاحظته على حامد سليمان وانا أقترب منه لمعانقته، قدّمته لعصام، فاندفع الآخر إلى إبداء ترحابه، وبعد لحظات كانت السيارة تنطلق بثلاثتنا تجاه الغرب...
- فقد" حامد" روحه المرحة وحيوته المعهودة
هكذا همست لنفسي حالما قطعت بنا السيارة مسافة قصيرة...
قدمت له سيجارة وأشعلتها، سألته عن أحواله وعمله، أجابني بكلمات مقتضبة وفاترة، أضاف:
- لا بأس لا بأس ونظر إلى عصام الذي كان يختلس النظر إليه من خلال مرآة السيارة.
جذب " حامد" نفساً عميقاً من سيجارته، ثم غرق في صمت غريب، احترمت صمته وخمّنت أن مشكلة ما تشغله، وللحظة تمنيت إلا يبدأ عصام أي حديث، لكن! دون جدوى، خاب أملي في لحظات، وبدأ عصام الحديث....
- هؤلاء الذين يعملون في الخارج، المترفون، معذرة أستاذ يوسف قريباً ستصبح منهم... وغمز بعينه تجاه صديقي ثم استطرد.. هؤلاء يتحدثون بالقطارة، لا يحبون الثرثرة مثلنا، طبعا، الراحة، النقود الكثيرة، السيارات الفارهة ليس مثلنا، سيارة حقيرة، ( وضرب بيمناه على مقود السيارة) يأتون ليقضوا اجازاتهم السعيدة، ثم يعودون من جديد إلى النقود، والراحة، والحرية، ولا يعبأون بـ......
- توقف! توقف، قلت لك توقف، هنا، سأهبط هنا، تشنجت يد" حامد" على كتف " عصام" ، ورأيتها معروقة مرتعشة، أدار عصام مقود السيارة إلى اليمين... وباضطراب ضغط على كابح السرعة. اصدرت العجلات صوتاً حاداً، ثم توقفت، وبسرعة البرق هبط حامد، تقدم من الباب الأمامي، دفع رأسه إلى الداخل... كاد أنفه يلامس وجهي نظر إلى عصام الذي واجهه بعينين زائغتين مهلوعتين ثم قال بعصبية واضحة:
- انت تهذي!.. نعم تهذي يا أخ!... كل ما قلت سخافة، هلوسة، يوسف" إلى اللقاء.
وانصرف بسرعة وراح يهرول بجسمه النحيل، وقامته المنحنية على الرصيف، لم أحاول ايقافه، فقط أصدرت زفرة طويلة، وأشرت لعصام بالتحرك...
بعد نصف ساعة انقضت في صمت وزفرات وصلنا إلى مكتب الملحق الثقافي.. هبطت من السيارة، وعندما ودعت" عصام" ببرود كأن رأسي يحاول تفسير ما حدث طول اليوم...
- ها... سبعة أم ضبعة؟....
قالها ابن عمّيبعد عودتي ، واعتدل في جلسته .
- لست أدري!
قلتها بصوت كالفحيح، وتناولت كوباً من الماء شربته، ثم ألقيت نفسي على أريكة قديمة بجواره.
- غريب، ألم تتعاقد؟ كان أسمك في أول القائمة!...
- بل العقد في جيبي هاهو ... ودفعته إليه .
- يا سلام، أنتم مدرسو الرياضيات محظوظون ..تـ..
- أتعرف من قابلت اليوم؟، " حامد سليمان" اعتدل ابن عمي في جلسته، وضع العقد على الطاولة الصغيرة، ولاحظت أن وجهه خلا من ابتسامة رافقته في تفحص العقد، دفع سيجارة إليّ، وضع واحدة في فمه،أشعل لكلينا، ثم قال:
- اذن حدثك بقصته!... أقصد مأساته سمعتها من أحدهم بعد أن تركتك وشعرت بالندم الشديد على ما بدر مني في الصباح ...
- مأساته!...لا، لم يفعل، لكنه كان غريباً، مضطرباً بل كأنه خرج من القبر، ليس حامد الذي أعرفه، ما الأمر؟..
- لقد فقد كل شيء، ترك كل شيء، عمله ، مكافأته، أثاث بيته، قال الصديق حاولت اقناعه بكتابة ورقة.. ورقة لأحد أصدقائه يتصرف في أشيائه، نقوده، رفض.. مأساة، تعلم أن شقيقه يعمل في البلد المجاور للبلد الذي يعمل فيه.. فكر في قضاء إجازة عنده، كانت زوجته حاملاً في شهرها الأخير ولسوء حظه تأخرت في وضعها، أخطأت حساباته فوضعت قبل انتهاء اجازته بخمسة أيام، خمسة أيام فقط، توأمين طفلتين... ولتتم المأساة مرضت زوجة أخيه.. ودخلت المستشفي لإجراء عملية جراحية.. اتجه إلى الحدود بأسرته في اليوم الأخير!، الصحراء القيظ، اللهيب، نار، على الحدود رفضوا السماح للطفلتين بالدخول... عد إلى السفارة.. ورقة بعدم الممانعة... هذا من اختصاصهم... وعاد في القيظ بأسرته.. "ليس من اختصاصنا" البلد الذي أصدر وثيقتك... لا بد من اضافة الطفلتين.." هكذا ردت السفارة.. طلب تجديد تأشيرة الدخول للتصرف، تعرف ليست هناك سفارة لإضافة الطفلتين، الوثيقة، اللعنة المهم عاد إلى الحدود ثانية ، الحّ عليهم، ساعتين، وأخيراً، قرروا مخاطبة العاصمة بشأنه، ولكن! اللهيب، والصحراء، والطفلتان.. يا الهي، مأساة...
- أتعنى أنهما!..
- نعم، ماتت طفلتاه، هناك، بعدها ترك كل شيء وعاد بزوجة مريضة، ونصف مجنونة...
لم أتوقع هذه النهاية، بل هذه القسوة، كان ابن عمّي قاسياً علّي أنا أيضاً، لماذا تواجهني هذه الأشياء الآن؟ ..ذلك العقد اللعين.. وتحركت يدي نحو الطاولة.. فكرت في تمزيق العقد تراجعت، ثم تحركت بعصبية تجاه النافذة. نظرت إلى البيوت التي تفترش الجبل في عناد، وتساءلت وسط المرارة، " كيف تغلب الناس على هذه الجبال؟ ... ترى هل يتغلبون على أشياء أخرى ..؟
جفف ابن عمي عرقه، اشعل سيجارة جديدة ثم أردف:
- حامد مصمم على الاستقرار في الداخل! سيسافر بعد غد.. لم يعبأ بأية نصيحة..
- كيف أنهم يريدونه، أخبرني شقيقه بذلك، تعلم أنه كان معي في السجن، أنها مغامرة، انتحار ألم يكن من..
- انه يدرك كل هذا، لا يهتم، إنه مصمم، بتعرف تساءلت اليوم عن شيء.. بعد سماعي لقصة حامد طبعاً، أنت هارب من الداخل، لا تغضب. بصورة أو بأخرى أنت هارب.. وحامد هارب إلي الداخل، وأنا نعم أنا، أين أنا منكما لا أنا في الداخل ولا في الخارج. أمر عجيب؟...
حدث معي اليوم شيء سخيف, بل هو مهين ، كنت أتمم بعض الأوراق للشركة، قدمتها للموظف باحترام.. ويبدو أنني نسيت كلمة سهوا.. قذف الموظف الأوراق في وجهي بجلافة . ثم قال أنت غبي ، بهذه البساطة، كان برفقتي أحد الزملاء، ابتسم للموظف، لكزني بسرعة، خطف الأوراق، وأضاف الكلمة المطلوبة، ثم قدم الأوراقللموظف الوقح بأدب كبير، كان الموظف يحملق في بغطرسة واضحة ، فتحت فمي للتحدث، لكنني لم أفعل، لا أدري لماذا وخرجنا بالأوراق الجاهزة، وعندما وصلنا إلى الشارع فوجئت بصديقي يصدر قهقهة مدوية...
- اتسخر مني ما هذا؟؟. أنت أيضاً
- لا .. لا ..
توقف صديقي عن قهقهته وأضاف.
- أتدري لماذا تكرم الموظف وأتم الأوراق، ها .. ها..
ظنك تبتسم، كنت تفتح فمك، لقد لاحظت ذلك.. فتحت فمك، فظنّك الموظف مبتسماً...ها ..ها
















الفئران واحتراق زغلول
(قصة قصيرة)













عندما سألت الممرضة عن مكانه أجابتني بجفاء واضح.. اندفعت إلى داخل المستشفي، ومن بعيد رأيت الجموع الغفيرة من قريتنا تلتف حول سريره.. رجال، ونساء، أطفال، كهول، كلّهم تركوا القرية وجاءوا للاطمئنان عليه.. بعضهم جاء راكباً سيّارة و البعض راكباً دابته.. وكثيرون مشوا على أقدامهم ... كان ممدداً على السرير وأطرافه الأربعة ملفوفة بأربطة بيضاء.. لا يتحّرك، لا يتكلّم.. فقط عيناه، عيناه الجميلتان تتحركان، وتشعان حديثاً طويلاً.. كان يملك عينين خضراوين جميلتين يحسده عليها شباب القرية، وكثيراً ما سمعت النسوة يعاكسنه ويتحرشن به بخبث ( عليك جوز عيون تهبل يا " زغلول"..) كان ينظر في وجوه المحيطين به.. وكثيراً ما كا نت عيناه تدمعان.. وخمنًت أنه يكتشف حب القرية له لأول مرة.."
- مش معقول ! ما هذا؟ اتركوا له متنفساً .. أف ..
قالت الممرضة ذلك ثم اندست بين الناس بصعوبة.. وضعت مقياس الحرارة في فم ( زغلول).. جالت ببصرها في الوجوه، تفحّصت أقدام النساء المعفّرة ثم سحبت مقياس الحرارة.. نظرت فيه، حرّكته عدة مرات ثم سجّلت على دليل العلاج.. وأخيراً انسحبت يائسة، تهزّ رأسها وتتأفف من جديد.. بعد قليل لم يعد وجودنا محتملاً، اكتظ عنبر المرضي بأهل البلدة، زادت الجلبة وبدأ الممرضون يأمروننا بالسكوت.. وعندما قررت الخروج أشار بيده نحوي.. اقتربت منه، ابتسمت ووعدته بالعودة بعد قليل.. ثم خرجت إلى الحديقة الصغيرة
كانت تربطني بزغلول علاقة صداقة..كان في الخمسين من عمره، ولم يتزوج.." درويش ، أهبل، بهلول" هكذا كان يدعوه أهل القرية، لكن ذلك لم يؤثر في علاقتنا.. وكنت أعتبره أعقل من نصف أهل البلدة" واحتمل كل تصرفاته، الطفوليّة أحياناً والمضحكة أحياناً كثيرة.. حتى عندما صفعني منذ عامين لم أفقده كصديق.. كنت قد تخّرجت لتوّي من الجامعة ووجدت عملاً في المدينة.. وكان ابن شقيقه " عدنان" يقضي إجازته الدراسية في البلدة.. كنّا نجلس على ذلك الجسر الصغير في طرف البلدة. لمحنا " زغلول" من بعيد فاقترب منّا.. توقفنا عن الحديث، وعندما لاحظ ذلك تجًّهم وجهه، ارتعش، ثم صاح:
- أنا عارف عن أيش بتحكوا .. أنا عارف كل شيء! والله يا ابن عبد الله أعرف كل نواياك.. لكني أقول لك: اترك ابن أخي لحاله.. اتركه يكمل دراسته لا تضّيعه يا ابن عبد الله .. ثمّ هوى على وجهي بكفه الغليظة.. لم أتحّرك من مكاني .. فقط رفعت يدي أتحسس وجهي في حين انقض عليه عدنان وراح يدفعه تجاه منزلهم كالمجنون ويصيح :
- غور واحد أهبل، انصرف، غور ع الدار.. الله يلعنك...
عرف " زغلول" مدار حديثنا، كان عدنان حلقة الوصل لنشاطنا الفدائي.. يبلغني تعليمات القيادة في الخارج، وأشرح له ظروف العمل في الداخل.. ويومها حددنا موعداً للقاء موسع مع باقي المجموعة.. من أين عرف زغلول القصة؟ لست أدري! لعله (أبو عدنان) الذي عاتبني ذات مرة وطمأنته على مستقبل عدنان .. لعل زغلول تلصص علينا! المهم أن زغلول اكتشف الحقيقة وصفعني.. لكنه في المساء كان يرقد تحت قدمي كالطفل، يبكي ويطلب الصفح. (اضربني، اصفعني يا وليد لا ستريح).. كان يقول ذلك ويجذب يدي تجاه وجهه.. وظللت أقسم له بأنني نسيت الموضوع وصفحت عنه، ولكنه لم ينصرف إلا آخر الليل، بعد أن أنهكني وأنهك والدي الذي ضاق به وصاح في وجهه:
- خلاص.. خلاص يا زغلول! سمعته يحلف ألف مرة.. دوختنا يا أخي.. وليد سامحك يا زغلول خلاص ريّحنا وانصرف إلى بيتكم، تعبنا بدنا ننام...
بدأت أفواج الناس تغادر المستشفي .. أهل قريتنا يلقون على التحية ويسألون عن نيّتي في الانصراف، وعندما أعلنت عن نيتي في التأخير وتحرّكت إلى داخل المستشفي سمعت احدي النسوة تقول لرفيقتها:
-حرقوه! الله يحرق قلوبهم. حتى الأهبل لم يفلت منهم! هو عمره آذاهم؟ طول عمره بيهرب منهم وما بيقبلهمّ كفّار، الله يخرب بيتهم..
اعترضت الممرضة على دخولي إلى العنبر ثانية وأعلنت عن انتهاء الزيارة وعندما أخبرتها أن المدة لن تزيد عن عشر دقائق، رأيته يرفع يده البيضاء المربوطة أشرت نحوه. نظرت الممرضة إليه ثم تركتني وانصرفت متمتمة بكلمات لم أكترث بها.. جلست بجواره، جففت قطرات العرق التي تجمعت على جبهته، وبإشارة من يده عرفت رغبته.. ناديت أحد الممرضين، ساعدني في إنهاضه، وبحذر شديد سرنا إلى المرحاض بزغلول المعطوب...
كانت آخر مرة رأيت فيها زغلول سليماً، يوم الخميس الماضي..كنّا قد فرغنا من العشاء لتوّنا، وفجأة صاح والدي:
-انظروا.. انظروا، انها بحجم الأرانب، عجيبة، طول عمرنا بنعرف الفئران صغيرة.. أمّا فئران تأكل الحمام والصيصان وصغار البط والأرانب! فهذه عجيبة!.. من أين أتتنا هذه المصيبة أنظروا! إنها تقترب منا دون وجل..
عندها دلف ( زغلول) ووجدناه فوق رؤوسنا دون استئذان كعادته.. ألقي التحية ثم قال:
-أيش مالك بتصيح يا عبد الله.. هل أغضبتك العجوز؟
-لا، لا يا زغلول بس هذه الفيران جننتنا.. أنظر إنها بحجم الأرانب، إنها تقترب منّا دون خوف
- بتعرف يا أبو وليد أنا فكّرت في حل لهذه الفئران لازم نترك الميّه على القرية كلها.. هيّه الفئران مش بتموت في الميّة ؟ يعني مش زي السمك بتعوم! خلاص نطلق الميّه ونغرق الفئران..
وضحكت من أعماقي، في حين رد والدي بضيق واضح:
-يا سلام أصحاب العقول في راحة احنا ناقصينك يا زغلول بدّك تغّرق الفئران ولا تغّرق القرية..
- بلاش .. بلاش لا تزعل.. أيش أعمل، ما أنا حطَيت لها سم يوم الأحد الماضي، وماتت الأرانب والصيصان وما ماتت الفئران! ايش أعمل ؟ لكن ليش أنت مشغول كثير بالفئران، خلّيها على المجلس القروي أيْوه، لازم المجلس القروي هو اللّي يحل المشكلة..
وعندها تعاطفت مع زغلول مازحاً فقلت؟
-مظبوط.. المجلس القروي هو اللّي لازم يحل مشكلة الفئرانّ!..
-أيْوه.. أيْوه، التم الشمل يا حبايب.. أنت يا زغلول بتقول المجلس القروي؟! يا ناس حرام عليكم.. المجلس القروي فاضي إلكم ولمشاكلكم؟. الأعضاء غارقين في توزيع المناصب.. مين رئيس. ومين نائب رئيس؟ مين مسئول مباني؟ ومين مسئول المياه والكهرباء؟.. عيلة فلان راضية وعيلة علاّن لازم يكون منها النائب.. والبلد تخرب مش مهم.. وبعدين همّه حلوا مشاكل القرية كلها بس باقي مشكلة الفئران.. فيه مشكلة المياه والسوق والشارع الرئيسي ومشكلة المجاري والزبالة .. وبتقولوا مجلس قروي، يا ناس خلّوها على الله ...
أحضرت أمي صينية الشاي ، وضعتها ثم حيّت زغلول.. ناولته كوباً من الشاي، ثم همست:
- يا جماعة هذي الفيران من عندهم . النسوان بتقول: إنه سيّارة فيها أقفاص بتيجيي للقرية بنص الليل.. بتقف عند المسجد .. وبينزلوا منها أربعة. يفتحوا الأقفاص وينتظروا شوّية.. وبعدين يمشوا..وحدة من النسوان شافت حاجات مثل الأرانب بتجري وتتحرّك بعد السيّارة ما تمشي أنا باقول يا جماعة...
- خلص ..خلص ..هادي لسه بدها تقول وتعيد .. بلاش تخريف يا مرة ، هذا كلام نسوان احنا بدنا حل لهذه المصيبة مش فلانة قالت وعلاّنة سمعت...
- ولا يهمّك انا بحلها يا عبد الله، لكن لما ارجع!
-ترجع؟.. ترجع من وين ؟ .. أيش مسافر أوروبا؟
-لأ مسافر للداخل .. رايح اشتغل في الداخل .. خلص حصلت على تصريح عمل .. راح ابيت هناك وبرجع كل يوم خميس ..
- الله الله !! ايش هذا التطَور يا زغلول؟.. مش أنت حلفت عمرك ما تقابلهم ؟. مش أنت كنت تقاتل في الناس اللّي بتشتغل في الداخل ؟ بعدين من ايمته أنت بتشتغل؟ لمين بتشتغل ؟ وأنت لا ولد ولا تلد؟ طول عمرك عايش مع عيلة أخوك أبو عدنان الله يرحمه. وبتاكل اللقمة معهم وخلص..
- كفاية ، كفاية يا عبد الله، عارف كل هذا الحكي.. عارف، لكن الظروف تغيّرت أنا لازم اشتغل بتعرف أبوعدنان توفي العام الماضي وبنت أخوي تزوجت.. كانت تصرف على العيلة من خياطة الملابس ، كانت ساترة الحال .. لكنها اليوم صارت في عصمة راجل . وبعدين عدنان آخر سنة في الجامعة، لازم حد يصرف عليه ، أنا لازم اشتغل، أنا مش صغير لازم أقف مع أولاد اخوي .. طول عمري عايش معهم بآكل وبشرب وبس ...
- الله أكبر بيقولوا عليك أهبل ! والله أعقل من نص البلد يا زغلول ...
أعلنت أمي ذلك وتكريماً لزغلول ذهبت لتحضر لنا ما تخبئه من برتقال العام الماضي ، في حين استطرد زغلول في حديثه !
- في الداخل ، في الأرض المحتلة ، في آخر الدنيا ليش الخوف ، خلص قالوا للقرد بدهم يسخطوك قال لهم ايش يعني بدهم يعملوني غزال !! أيش بدو يصير يعني ؟ أنا رايح بكره ..بس بدّي منّك ورقة بمية ليرة علشان أعطيها لام عدنان يمكن تحتاج في غيابي ..راح أسدّك إياها لما اقبض .. أما مشكلة الفئران اتركها لما ارجع وأنا راح أفكر إلها في حل غير المّيه بلاش المّيه ولا يهمك ...
-طيب ، طيب ، يا أم وليد : هاتي مية ليرة من عندك...
-خرج زغلول متكئاً على الممرض فأسرعت إليه . أوصلناه إلى السرير وأجلسناه بحذر شديد .. جففت له عرقه ، أبدى رغبته في سيجارة فأشعلت له واحدة ، جذب نفسا عميقاً ثم نفث دخانها بتلذذ ، وفجأة نطق.. نطق ببطء شديد :
-هلقيت بدّي احكيلك كيف انحرقت ، بشرط تكتب لعدنان وتخبره بكل شيء ..
-وعندما وجدته مجهداً رجوته أن يصمت ، ويؤجل الحديث إلى وقت آخر .. لكنه أصر على الحديث وكرر طلبه في أن اخبر عدنان بقصته كاملة.. عندها رضخت لطلبه واستمعت إليه وهو يسرد الحكاية بطيئا مجهداً:
-كانت ليلة مقمرة.. بتعرف ! ذكرتني بليالي القرية قبل الحرب ... المهم ... كان خامس يوم في الشغل .. كل يوم كنا نجمع الخضار : خيار ، باذنجان ، فلفل ، بندورة . وفي المساء يأتي صاحب المزرعة ( خواجة طبعاً ) ويأخذها إلى السوق .. أنا وكمان اثنين كنّا نبات في الكوخ .. كوخ صغير في طرف المزرعة .. مش بعيد عن الطريق العام أكثر من عشرة أمتار .. ليلة الحادثة ( يعني ليلة أول أمس ) كانوا الاثنين اللّي معاي مروحين .. عندهم ظرف .. المهم انأ قلقت ليلتها ، ماعرفتش أنام . وكمان عجبني الجو وشوفة القمر وهو طالع .. قلت : خلّيك يا زغلول سهران ! عملت برّاد شاي وقعدت اشرب .. والصحيح كنت خايف شويّة .. مش عارف قلقان ؟ خايف ؟ عاجبني الجو ؟ المهم ظلّيت سهران .. بعد شوية سمعت صوت سيّارة بتوقف .. يمكن الساعة كانت تسعة، يمكن! وسمعت هرج بالعبراني وضحك ، ضحك شباب وبنات .. قرّبت عليهم شويّة.. وبعدين مشيت على ايديّ ورجلّي وشفتهم كانوا أربعة . ولدين وبنتين حاطين السيًارة على جنب بعيدة ونازلين في بعضهم . . استغفر الله العظيم بعد شويًة صاروا مثل ما جابتهم أمهاتهم وأيش! كمّل من عندك .. المهم أنا شفت السيّارة فيها قفاص والناس العريانين قدًامي أربعة .. طقًت في راسي كلمات أمك ليلتها سيًارة فيها أقفاص .. بنزلوا منها أربعة بفتحوا الأقفاص وبتنزل منها حاجات مثل الأرانب تجري وتتحرك بسرعة بعد السيارة ما تمشي.. قلت معقول همّه ! زحفت حتى وصلت السيّارة ، والجماعة غارقين في بعضهم .. مديت ايدي والقمر يلعلع وشفت اشي بيطلع راسه من القفص ، مثل الأرنب.. حطّيت راسي في السيارة أشوف الحاجات اللي بتخرْبط في الأقفاص .. آه وكانت فيران .. مثل اللي في داركم بالضبط .. بتعرف واحد منها قرّب عليّ تياكل منخاري .. درت ظهري بدّي أرجع وساعتها شافوني الملاعين .. ركضوا علي جري . تحوّطوني وتصايحوا عربيم عربيم .. واحد منهم سألني:
-عربيم أيش تعملي هون ؟
- ولا حاجة أنا باشتغل هون في المزرعة . معي تصريح ، وأنا طالع اخذ على إيدي ميّه
- انتي شفتي حاجة في السيارة ؟ -
- لا مشفتش حاجة . –
- انتي كدًابة عربيم ، انتي شفتي فيران ..
ونزلوا في ضرب .. بعدين رطنوا مع بعضهم عبراني ومسكوني .. واحد منهم جاب صفيحة بنزين من السيّارة دخّلوني في الكوخ وربطوني وقفلوا الباب وخرجوا.. رشوا البنزين على الكوخ من برًه ومن جوه وولعوا النار و مشيوا.. ولًّع الكوخ والنّار قرًبت علي .. والدخان ملأ الدنيا سرًخت . ناديت حافصت لأفك حالي ما قدرتش .. وبعدين مادريتش عن حالي .. ولمًا صحيت لاقيت حالي هون, في المستشفى .. الممرضة قالت لي في عمّال عرب كانوا مروحين متأخرين من العمل. شافوا النار, نزلوا ولاقوني مرمي والنار ماسكة فيّ شالوني وجابوني .. آه.. احكي لعدنان كل اشي ، حرقوني يا وليد .. حرقوني...
انهمرت دموع زغلول ثم صمت عن الحديث ، جففت دموعه، أشعلت له سيجارة جديدة.. وعندما طلبت مني الممرضة مغادرة المستشفى للمرة العاشرة ، هززت راسي موافقاً ثم ودعته وانصرفت مجهداً بطيئاً مثله ...
في صباح يوم الجمعة كانت قريتنا مقلوبة.. العربات المجنزرة تحاصر القرية.. الجنود يطلقون النار في كل اتجاه يضربون الناس ويدفعونهم تجاه الساحة الكبيرة ومكبّرات الصوت تنادي وتطالب بتسليم (المخربين) الذين قتلوا أربعة من (المواطنين الإسرائيليين الأبرياء) ونسفوا سيّارتهم هيّا اخرجوا (المخربين) من بينكم وإلا كلكم في السجن ...
كنت اجري وابتسم وارفع يدي فوق رأسي.. وابتسم ,لأن الضابط لم يقل أن السيّارة التي نسفت كانت تحمل فئراناً بحجم الأرانب ...










قبـل الأجــل
(قصة قصيرة)

نندفع في شرايين الارض ، نغوص في أعماقها. فأخترق الوطن الحلم، وأتجول في الأرض الواقع. أتحسسه، أهتف بعشق الاشجار، الجبال ، الماء الصخور والسماء (كل شيء لنا، لنا،،، ) تفجؤني الوجوه الغربية والحروف القبيحة، ينتشلني الزمن، يوقظني، يهزّني، أبحث عن حروف عربية، اكتشفها على حقائب السفر، وفي أفواه متعبة مكلومة، وأكتشف معها هزيمتي وغربتي...
ارنو ببصري إلى الاشجار، وأتقوقع داخل نفسي، فيأتيني ذلك الصوت الحزين طاغياً علي كل شيء. يملأ كياني، أشعر به منتشراً في الوديان والجبال، يلامس رؤوس الأشجار، ويملأ الأفق، ثم يعود إلى داخلي ويجذبني إليه بشدة( أريد رؤيتك ورؤية أطفالك قبل الآجل)... أتخيَل أمي بوجهها الشاحب النحيل أناجيها ملبياً، أسْلم نفسي إلى صوتها الضعيف، أشعر به آتياً من عالم غريب، لعله الفردوس ، يتوهج الصوت في داخلي يدعوني يتوسل إليّ، ثم يخفت،يخفت، أتابعه في خفوته وحشرجته الحزينة وأتابع النظر إلى الأشجار.
ينفلت طفلي من بين يدي، أدرك شعوره ببرودي تجاه مداعباته المتكررة، يندس في حضن جده الجالس في المقعد الأمامي ، فتبادر يد العجوز المرتعشة إلى مسح شعره ومداعبة أذنه الصغيرة في حنان اليد نفسها التي لوّحت لي مودعة، عندما أقلتني حافلة اللعنة من وسط المدينة ، منذ خمسة عشر عاماً. كان يلوح بيده، ولم تكن مرتعشة يومها، كان يهتف باسمي، يوصيني بأشياء كثيرة يمسح دمعه عنيدة، يهرول، يلوح، ويهرول وراء الحافلة كطفل، والحافلة اللعينة تقسو عليه، تخذله، وتتحرك بسرعة، تخذله ثم تتركه ليختفي في زحمة المودعين المهرولين...
وعندما احتضنني في المطار، اكتشفت أن يده مرتعشة، وخمّنت أنه لا يستطيع الهرولة وراء حافلة أخرى تقلني... سألته أثناء عودتنا من المطار عنها...
-تعبانة شوية، عملنا لكم تصاريح، قالت لي لا ترجع بدونهم، وأرسلت لكم شريطاً مسجلاً...ترددت في قبول الفكرة، خشيت من عواقبها، وكذلك صديقي:
- مستحيل، هذه مغامرة ، هذا فخ وليس تصريحاً، لن يتركوك، تعقل، لقد اعتقلوا زياد عبد الله ، وعصام سلمان وأحمد خلف، كلهم كانت لديهم تصاريح أيضاً، إنه فخ...
لكن ذلك الصوت الحزين بحشرجته الملتاعة، أذاب رفضي ، وأفشل كل محاولات صديقي لمنعي من السفر وها أنا أصطحب زوجتي وأطفالي، يرافقنا ذلك العجوز بيده المرتعشة ويجذبنا ذلك الصوت إليه ، ولا نملك إلا الاتجاه نحو بقوة...
* * *
- لولا هذه اللعينة لكناً في بيتنا منذ زمن !
قالها الرجل الذي احتل المقعد الخلفي مع زوجته، وعندما ضرب على فخذه الايسر ، أدركت أن له رجلاً خشبية ...
- أهي التي أعاقتك؟..
سأل والدي ، محرضا ذا الرجل الخشبية على الحديث، وراغباً في قطع الصمت ، والتخفيف من حرارة الغور المرتفعة...
- ها.. ها، تصورواّ هذه الرجل الخشبية (وضرب على فخذه مرة أخرى) تمكث ثلاث ساعات تحت الفحص، يا إلهي، من التاسعة حتى الثانية عشرة، أليس هذا عجيباً؟!
وأقحمت نفسي متسائلاً :
- أهي أول مرة؟!.
- أول مرة! كيف يا أستاذ؟ لعلها العاشرة! أنا آتي إلى هنا سنوياً، بل أتيت في السنة الماضية مرتين، أتعرف ؟ لو أبقوني بسببها يومين، لن أمتنع عن القدوم! ثم انطلق الرجل إلى الحديث عن أشياء كثيرة، التفتيش، رجله الخشبية، الازدحام درجة الحرارة المرتفعة.. وكان سعيداً رغم معاناته الواضحة...
رددت كلماته الحاسمة داخل نفسي (لو أبقوني بسببها يومين، لن أمتنع عن القدوم!).. ووجدت فخذه الخشبية تعيدني على تلك البوابة اللعينة تركناها
مزيج غريب، مرّ، شعور بالعجز، المهانة، الضياع، تمتزج كلها مع لعنتي الغربة والهزيمة، لتصنع مزيجاً ساماً، وها هو يقطر في أعماقي عند كل حركة لأشياء ثلاثة أمامي... هذا العلم بنجمته السداسية المقيتة، ذلك الجندي الملتحي بقبعته العنصرية المستفزة، ورشاشه الملعون، وتلك الآخرى، تلك المجندة، بشعرها الزنجي وسروالها الضيق... ثلاثة ، بحركتها يقطر في أعماقي مزيج بطيء، لكنه سريع الفتك.
البوابة مقفلة، المجندة تتفحص تصاريحنا وأوراقنا الثبوتية، تعطي إشارة إلى زميلها الملتحي، يتصل بالهاتف، ثم يتحرك لفتح البوابة، زارعاً ابتسامة مقيتة على شفتيه ورافعاً يده بإشارة تعنى الدخول إلى نقطة التفتيش. وكانت تلك البداية فقط.
الاكتظاظ، رائحة العرق، صراخ الأطفال، الرطوبة ، الصيف، الوجوه المجهدة والتعبيرات الكالحة الغائمة، المجندات، الجنود، رشاشاتهم، الحقائب، الأوراق الثبوتية والتصاريح، تختلط الأشياء أمامي ونى أعماقي، وأبدأ في التعامل مع الأشياء بآلية بحته، لأجد نفسي بعد وقت في طابور طويل...
- هذه أصعب المراحل، التفتيش الذاتي!
همس أحدهم، عندما أشار لي بالتحرك وأخذ دوري في الطابور. وبعد ساعة كنت مع طفلي في حضرة المسخ العظيم...
- أخلع كل شيء !..
قالها المسخ، ثم أشار إلى طفلي مضيفاً .
- وأنت كذلك..
وعندما شرعت في خلع ملابسي رحت أمتع نظري في شخصيته العجيبة.. كانت عيناه خاليتين من الرموش، أسنانه كبيرة تعلوها شفة مثقوبة، أما وجهه، فلم تغادره آثار الجدري..
- تفضل أنا جاهز!.
- قلت ذلك ، وحاولت زرع ابتسامة على شفتي، لكنها أبت...
- لا ، كله ، حتى هذا.... !
- وأشار إلى السروال الداخلي الذي بقي وحيداً على جسمي، وكذلك فعل مع طفلي ... رفع طفلي يده في حركة استنكار، نظرت إلى المسخ بإمعان أكثر، ثم همست لطفلي:
- لا بأس، لنخلع هذا أيضاً...
وكانت تلك أول مرة أتعرّي فيها أمام طفلي، لكن ذلك لم يشغلني كثيراً، إذ كانت ثمة صورة ، تقرع رأسي...
إنها صورة ذلك الحفل الكبير، الموقرون كلهم، المدعون منظمو الحفل، الفرقة الموسيقية حتى القائمين على خدمة هؤلاء ، كلهم، يا إلهي! ماذا لو خلعوا، ملابسهم، كل ملابسهم، مثل طفلي هذا تماماً، ألا يكون ذلك رائعاً؟! نظرت إلى طفلي العاري..
طردت الصورة السخيفة من رأسي ثم رضخت لأوامر المسخ ورفعت ذراعي...
دار جهاز التفتيش بطنينه حول جسمي العاري، ثم نزل إلى مؤخرتي مررته اليد القصيرة بين فخذي، شعرت به يلامس خصيتي، ارتفعت به اليد القصيرة إلى بطني، ثم صدري ، هبطت مرة أخرى بين فخذي، فمؤخرتي، ثم أمرت بارتداء ملابسي،، ، وعندما خرجت بطفلي ، تذكرت زوجتي، وأدركت أن جهازاً آخر يدور الآن حول بطنها وصدرها في حجرة أخرى...
* * *
نغوص في شرايين الأرض اكثر، نقترب من قلبها المكلوم، تختفي الحروف العربية، حتى عن حقائب السفر، أنظر إلى الأشجار والصخور والجبال ، السماء، ولا أهتف. ابتلع أحزاني ودخان سيجارتي، أنظر إلى زوجتي، أجدها مستسلمة للنوم، أرمق يد والدي المرتعشة، وعندما جففت عرقي كانت السيارة تحول اتجاهها إلى الجنوب، مقتربة من الحدود القديمة، نقطعها ونصل إلى بلدة صغيرة، تتوقف السيارة، يهبط ذو الرجل الخشبية وزوجته، يودعنا مقهقهاً، نبتسم له ، وتتحرك السيارة، لنصل إلى بلدتنا.. ضيقة شوارع قريتنا، كما هي. القرويات يتبضعن الخضار والفاكهة ويجادلن الباعة في عناد ، والعجائز ، كما عهدتهم، يجلسون على قارعة الطريق، ويمدون أرجلهم في الشوارع الضيقة (يضمونها عند اقتراب السيارات)... الأطفال يلاحقون سيارتنا، يركبون على مؤخرتها، السائق يضرب على بوق سيارته بغيظ، وعندما تتوقف العجلات، تندفع نحونا أجسام كثيرة لتعانقنا... وجوه عرفتها، ووجوه لم أعرفها (أنا ابن عمك، انا ابن اختك ، انا ابن خالك، انا ...) ولم تكن أمي بينهم.. افلت منهم بصعوبة، واندفعت إلى داخل بيتنا بحثت عنها بلهفة، لم أجدها! وعند المطبخ واجهتني شقيقتي بعينين حمراوين دامعتين.. تسمّرت في مكاني، وهمست (أماتت؟!).. فانسحبت شقيقتي باكية..
أسندت ظهري للحائط رأيت والدي يهوي على الأرض ، وطفلي يرتمي عليه باكياً، لوّحت بيدي في الهواء، ضربت رأسي بعنف، ثم انفجرت باكياً لخمسة عشر عاماً كاملة...
وكانت ثمة كلمتان تغوصان في أعماقي ( قبل الأجل ، ق ، ب ، ل ، أ ، ل ، أ ، ج ، ل )...












خمس حكايات تافهة عن فاطمة..

استشهد عزيز لديّ فانتابتني حالة حزن شديدة ، مرضت على إثرها ودخلت المستشفى.. ورعتني هناك ممرضة سمراء ممشوقة القوام، لكنها عاتبتني على تمارضي.. غضبت منها ثمّ ّسألت عنها، فعرفت قصتها وفي اليوم التالي خرجت من المستشفى مبكراً.. فإليها الاعتذار و الإهداء ..








1- وحيدة...
عندما عادت من زيارة عمتها اكتشفت أنها الوحيدة التي بقيت على قيد الحياة !! سيطر عليها ذهول عجيب أفقدها حتى البكاء!! كانت إجراءات الدفن قد تمّت..والدها دفنوه..ولعلّهم لم يحلقوا ذقنه البيضاء النابتة! وأمّها! ترى كيف استقبلت الموت ؟! لعلّهم وجودها مبتسمة كعادتها! وشقيقها ذو الأعوام السبعة! دفنوه أيضاً!! لعلّه كان يعبث بكراسات تلميذاتها ويقرأ الأسماء يصوت عال كعادته! وعماد! شقيقها الذي تحبّه أكثر ! دفنوه هو الآخر! عماد ذو السبعة عشر ربيعاً والعينين العسليتين.. دفنوه، ولعله كان يلعن الأنظمة والخونة كعادته!.. دفنوهم جميعاً! ومعهم دفنوا ذلك الأسمر النحيف ناصر. لم ينتظروا حبّه لها! دفنوهم قبل أن تصل!!
في الأيام الأخيرة كان قلبها يحدّثها بأن شيئاًما سيحدث! لكنها لم تتوقعه بهذه القسوة! صحيح ازدادت تحركات الجيش واكتشفوا ملجئاً في بيّارة قريبة من بيتهم وقبضوا على اثنين تعرفهم، وجريح آخر لجأ إلى بيتهم! لكنها لم تتوقع ما حدث!!.. منذ أسبوع استدعوا والدها، حذّروه من إيواء (المخربين) لكنه عاد ليقول: لن نفرط بالشباب سنفديهم بأرواحنا.. وكان ذلك!..
اخبروها أن الشباب كانوا خمسة.. نجا أربعة، واستشهد الأسمر النحيف مع أسرتها.. علمت أن أمهّا كانت تضع القنابل في حجرها تقذف وتناول الشباب.. والدها كان يطلق الرصاص ويصرخ في الشباب للخروج!! أمّا عماد! فأخبروها أنه قتل عدداً منهم.. خسارة المحتلين كانت باهظة.. هكذا اخبروها.. وقالوا : فاطمة أنت من أسرة الأبطال!!.. زارت القبور ولم تبكِ.. وجدت الوسائدوالبطاطين الملطخة بالدماء ولم تصرخ! لكنها فعلت ذلك بعد عشرة أيام فقط!!
استدعوها! وتلا الضابط الأشقر أمر الطرد أمامها ببلادة: نظراً لاقتناع السلطات بأن وجودك أصبح خطراً على أمن البلاد، فقد تقرر إبعادك إلى الخارج وينفّذ الأمر بعد أربع وعشرين ساعة من الآن..انتهي!!.. صرخت، بكت ، شدَّت شعرها في هستيرية.. وعندما جرّوها إلى السيّارة عنوة، همس أحد أقاربها باسم شقيقها مصباح ودس عنوانه في يدها..عندها فقط تذكّرت أن لها شقيقاً على قيد الحياة.. انه مصباح الذي يعمل في الخليج ولم تره منذ سبع سنوات!!..
2- مهْمِلة...
بعد ثلاثة أشهر طلب منها موظف الجوازات الانتظار.. تشعر اليوم بالتفاؤل! في أول مرة حضرت إلى هذا المبنى كان أملها أن تغادر البلاد بعد أسبوع! ( تأشيرة الخروج والعودة تستغرق يومين فقط) هكذا أخبروها لكن الأمل تبخر! و .. ( فقدت الوثيقة) وها هو موظف الجوازات يطلب منها الانتظار بعد ثلاثة أشهر... دخل الموظف إلى المكتب وترك الباب موارباًَ، فالتقطت أذنها حديثاً، خمّنت أنه يخصّها:
- حضرت الفلسطينية فاطمة صالح!
- فاطمة.. فاطمة! صاحبة الوثيقة المفقودة!
- بالضبط.
- حسناً، أعطها الوثيقة ونبّه عليها بالمحافظة على أشيائها!
- لكن الوثيقة فقدت طرفنا يا ...
- طرفنا، كيف؟
- وثيقة السفر كانت هنا..
- في غرفتي ؟
- نعم!
- بين الأوراق والوثائق؟
لا!
- في خزانة الملفّات؟
- لا!
- في الأدراج!
- لا!
- لا، لا .. أين كانت أذن.
- هنا.. (وأشار بيده إلى أسفل)
- على الأرض؟
- بل تحت رجل طاولتك يا عزيزي؟!
- تعنى!
- استعملتها لتثّبت وضع الطاولة المتأرجح!
- ها..ها.. ونسيتها!! نكتة طريفة!! ولا يهمّك ! نبّه عليها بضرورة المحافظة على أشيائها. وخاصة وثيقة سفرها، وإلا- قل هذا لها- اضطررنا إلى منعها من السفر..
وعندما خرج الموظف تناولت وثيقتها بسعادة بالغة، وقبل أن تنصرف همست لنفسها: الحمد لله أنهم أعطوني الوثيقة، ولم يسحبوها ويمنعوني من السفر!!
3-مستهترة...
كانت مستغرقة في مراجعة كرّاسات تلميذاتها... لكن طرقات على الباب، أوقفت أناملها.. أصاخت السمع، فجاءها صوت خافت:
- أأنت هنا يا فاطمة؟
عرفت صاحب الصوت، فتنهّدت بضيق، ثم ارتدت سترتها واتجهت نحو الباب، فأتاها وجه ذلك المتصابي، يسبقه عطره النفّاذ!!
- .ما هذه الكراريس؟ يا إلهي كيف تتحملين هذا الجو؟ إنّه قاتل..؟!
ردت الباب الذي حاول فتخه :
- هل من خدمة يا أستاذ؟
- جئت أعرض خدماتي: سيّارتي .. الفيلاّ المتواضعة تحت..
- شكراً وأنا آسفة لا أستطعيع استبالك ..
- أود إخراجك من عزلتك... أتحبين السباحة؟ لدي حمام رائع...
- تعلمت إطلاق النار.. وتعلمت مبادئ الكراتية..و..
- تعرفين خدماتي لك.. لولاي لما كنتِ في الوظيفة...
- أ،ت صديق شقيقي كما أظن وأقدّر لك ذلك..وإنني شاكرة جداً..
- أذن أتركك الليلة.. سأنتظرك غداً ستجدين في الفيلا جواً ممتعاً.. أفضل ها غداً.. بعدها تتحسن كل الأمور.. الوظيفة، البيت ، المرتّب، كلها...
- انصرف .. ولا تأتي إلى هنا ثانية.. أ لست منهن خطأت الهدف يا أستاذ...
- ستندمين!
- قلت انصرف قبل أن ...
- ماشي .. ماشي .. لكنك ستندمين ...
- وبعد ثلاثة أيّامْ ، ثلاثة فقط كانت تمثل أمام مديرة المدرسة في استجواب غريب!!
- تعرفين أن من شروط التعاقد عدم التدخل في السياسة أو الإساءة إلى نظام البلاد!
- ولقد التزمت بهذه الشروط ..
- بل أخللت بها وأسأت إلى نظام حكمنا الرشيد ..
- كيف ؟
- تحدثتِ عن النظام الوراثي ...
- أجبت على سؤال إحدى تلميذاتي..
- وقلت أن الرسول وأبا بكر وعمر وعثمان لم يورثوا أحداً من أبنائهم أو أقاربهم!!
- نعم قلت ذلك وهو ما تؤكده كتب السيرة والحديث و ...
- هكذا إذن! هذه إساءة إلى نظامنا العادل.. تقصدين أنّه متعارض مع نظام الشورى الإسلامي.. فاطمة أنت مفصولة من العمل !!
- كنت أتوقع ذلك! فأنت من الجواري العاملات على تحويل البلاد إلى مبغي كبير!!
4-جثّة ...
في اليوم الخامس ذهبت إلى نفس المكان.. وكان معها نفس الأشخاص.. بعض أقاربها وأصدقاء شقيقها.. لم يتركوها في محنتها.. رتّبوا كل الأمور، وبقيت المرحلة الأخيرة فقط.. شحن جثّة شقيقها!! خمسة أيام والجثّة في ثلاجة المستشفي. انتظاراً لموافقة (سعادة السفير).. وها هي الآن تقف مثل كل يوم أمام نفس الباب، وفي مواجهة نفس الحاجب العنيد! وأخيراً سُمح لها بالمثول بين يدي سعادة السفير!!
- نعم !
- أرجو أن تتكرم وتمنحنا تأشيرة دخول ..( ودفعت الوثيقتين إليه).
- أنت لا مانع، البلاد مضافة في وثيقتك.. أما هذه، ممنوع.. لا بَّد من موافقة الأمن هناك..
- هذه وثيقة جثّة! شقيقي توفي وهذه شهادة وفاته...
- آسف الوثيقة غير صالحة. ممنوع..
- ستعفّن الجثّة يا سعادة السفير إنها...
- لماذا لا تدفنوه هنا في في مقابر الغرباء والمجهولين ؟
- إنها رغبة عمّه.. يريد جثته على الأقل..و.. معذرة هل جثثنا خاضعة لتحرّيات الأمن أيضاً؟ سيّدي أمّه ماتت ولم تره، والده كذلك.. عمّه يريد جثته، لا تحرموه من التعزيّ بزيارة قبره!!..
- ممنوع.. آسف هذه ليست قضيتنا.
- ما هي قضيتكم إذن ؟
- في وثيقة السفر... لا تصلح! هذه أوامر!
- تخافون الجثث؟
- قلت أنها الأوامر .. انتهى!
- تفه عليكم وعلى الأوامر... عكاريت أولاد قحبة أنتم ومن أصدر الأوامر...
- مجنونة.. اخرجي.. أخرجوها.
- جبناء تخافون الجثث.. خونة، لن نرحمكم... لن نغفر لكم...
اندفع الحاجب وجرّها بقسوة إلى الخارج.. صرخت، بصقت على (سعادة السفير).. يلطمها الحاجب على وجهها.. تصفعه بشراسة عدة مرات.. وفجأة، تفلت من يديّه، وتهبط السلالم صارخة مولولة كالمجنونة...
5- مهاجرة ...
استقرّت الطائرة في الجو فتململت المرأة البدينة و رمقتها بحذر.. ابتسمت لها.. ولاحظت أنها أنفقت وقتاً كافياً على تزيين نفسها وطلاء أظافرها.. تنهّدت ثم أخرجت كتاباً من حقيبتها وعندما دفعت المرأة علبة التبغ تجاهها اعتذرت بأدب، فتشجعت المرأة البدينة وقالت، بعد أن اشتعلت سيجارتها.
- أنا في غاية السعادة! أخيراً سألحق بزوجي.. سنستريح.. لقد أبرق لي بالحضور.. وهذا يعني أنه رتّب كل شيء.. أقسم ألا يعود.. وأنا كذلك!! في أمريكا الحياة، الهدوء، المال.. سنتخلص من هذه الشقاء.. لعلك تعانين مثلنا وتفكرين في الابتعاد عن هنا... لن أعود ثانية! أأتتِ مهاجرة مثلنا؟
- تقريباً!
- أمريكا؟
- لا!
- كندا؟
- لا!
- أوروبا إذن!
- لا؟
- آه.. أمريكا اللّاتينية ؟
- لا.. مهاجرة إلى بقعة أفضل منها كلُّها.. إلى جنوب لبنان.. أقرب نقطة إلى وطني. أرأيتِ ؟ أنها الهجرة الكبرى!!
جففت المرأة البدينة عرقها بحذر.. امتلأت ملامحها بالدهشة، بلعت ريقها الجاف.. جذبت نفساً عميقاً ً من سيجارتها وأدارت وجهها في اضطراب، لكنها عادت لتقول!
- أنتم عجيبون أيها الفلسطينيون! ألا تفكرون في الابتعاد عن هذا الشقاء؟ أليست لديكم رغبة في خلع تعاستكم؟
- ثمة منّا من حاول! هاجر مثلكم،... لكنه وجدها أمامه!
- من هي التي وجدها أمامه؟!
- فلسطين! فلسطين تلاحقنا.. إنها تتقمصنا يا عزيزتي، حتّى في آخر الدنيا! والحقيقة ليست لدينا الرغبة في الخلاص منها.. لدينا رغبة أكيدة في خلع تعاستنا.. لكن هي، لن نخلعها.. ببساطة لأن ذلك يعني خلاصنا من أنفسنا.. هل تستطيعين خلع نفسك من نفسك؟!
تنهدت المرأة البدينة مرة أخرى، وثبّتت نظرها في النافذة متمتمة:
مشكلة، مشكلة.. فعلاً أنتم مشكلة.
أدارت وجهها عنها، وأخفت ابتسامة مكتومة!!









مقاطع من سيرة زهراوي
(قصة قصيرة)










1- أصوات...
عليه أن ينهض الآن، لا فائدة من تكاسله، منذ دقائق نفخ الجندي في البوق معلناً نهاية التدريب، وها هي الأقدام المتعبة تجّر الأحذية الثقيلة في اتجاه واحد، ثلاثة كيلو مترات عليه أن يقطعها بعد هذا اليوم الشاق، عليه أن يصل إلى تلك الشجرات.. إلى الطريق العام حيث تقلّهم السيارات الكبيرة إلى الكلية العسكرية، خمسة أيام شاقة انتهت، لكن خمسة عسيرة باقية، بعدها ينتهي عامان قاسيان( أيام قليلة وتزيّن هذا الكتف نجمتان باهرتان، بعدها يصبح اسمك على لسان كل فتيات الحي..).هكذا همس أحدهم هذا الصباح لزميله، ولاحظ ساعتها أنهما ينظران إليه متضاحكين.. لم يعرهما أي اهتمام، فقط فكّر في يوم شاق جديد، وفي رحلة جديدة تنتظره هناك، عند أهله، في المخيمات..
نهض نافضاً التراب العالق بملابسه، تفحّص زمزميته فوجدها فارغة، ابتلع ريقه الجاف ونظر إلى الأجسام المنهكة البطيئة، راقب الغبار المثار خلف الأقدام الكثيرة ثم رفع بندقيته وألقى بها كعصا على كتفه، وعندما جرّ قدميه نحو الطريق، شعر بأطراف أصابعه تحترق داخل الحذاء الكبير.
انضم إليه أحد زملائه، بادله حديثاً قصيراً، ثم انصرف إلى ثلة أخرى زاحفة نحو الطريق ( لعله شعر بعدم رغبتي في الثرثرة) نقل بندقيته إلى الكتف الآخر وراح يترنّم بنشيد يعجبه ويجرِّ قدميه..عيناه تنجذبان إلى جسم متحّرك على الطريق العام، عربة بعجلات كبيرة، يترنّم باللّحن ويجر قدميه، يرى الرجل يلكز حماره، يتوقف قليلاً عن الترنّم يجفف عرقه ثم يجّر قدميه، والآن يستطيعَ رؤية العربة بوضوح وها هو يسمع صرير عجلاتها ...
تندفع أمّه مولولة تجاه الشرق غارزة طرف ثوبها في حزامها.. قدماها الحافيان يثيران الغبار وراءها ( أم عدنان، أول الشهر سأشتري لك حذاءً، وهذا العفريت سأشتري له سروالا ). ينطلق في أثر أمّه، يمرّ بعيون يلاحظ فيها الشفقة، يسرع وراء أمّه أكثر، وعندما يلحق بها كانت النسوة تمسك بها وتعيدها إلى المخيّم، نظرت إليه في هلع، صرخت، شقت ثوبها أكثر..( أبوك، أبوك يا عدنان... آه يا زهراوي) يخطفه عمّه من أمامها، يُصْعده إلى العربة ، وعندما تصرّ عجلاتها ويعلو صوت عمّه بالنحيب يعرف أن والده قد مات..!! يبكي ومن خلال دموعه يأتيه صوت أبيه حزينا منهكاً ( عملي خطير! الملاعين يخترقون الحدود كل يوم يقتلون الناس والماشية، ينسفون آبار المياه، لم يكتفوا بما فعلوه بنا، أمس قتلوا حسّان المسكين ( ناطور مثلي)، بودّي لو أغيّر هذه المهنة التعيسة، ولكن..) .. قرب الحدود تتوقف العربة، مجموعة من الرجال تلتف حول بطانية مهترئة ملطخة ببقع حمراء، يتقدّم من عمّه شرطي نحيل محني الظهر أشيب الرأس، يمسك أصبعه، يبلله بريقه، يلوّثه بحبر من قلم في يده، ثم يغرزه في أوراق معه، بعدها ترتفع البطانية المحمّرة إلى العربة. وعندما نظر إليها كان والده في داخلها بلا حراك.. لا يضحك ، لا يتحدّث، ولا يلعن الدنيا! ولم يعرف معني هذا السكون إلا بعد سنوات...
تابع العربة بعجلاتها الكبيرة، كانت تبتعد على الطريق العام، أخرج منديلا من جيبه، جفف عرقه، وعندما نقل بندقيته إلى الكتف الآخر كان ثمّة صوت يأتيه من الخلف كالفحيح:
- أرأيت يا زهراوي؟
جفف عبد المنعم النوّاوي عرقه، وبدا بجسمه البدين وقامته القصيرة كبطة عجوز تكابد في سيرها، نظر إليه بعينين ثعلبيتين، التقط أنفاسه المبهورة، ثم أضاف:
- هذا الحال، هذا الشقاء، القرف، كلّه بسببكم..
- إنه واجب تجاه وطنك أولاً ثم...
- هراء.. كلّه بسببكم، نعم بسببكم، ما دخلنا نحن في هذا؟ لتذهبوا إلى الجحيم أنتم وفلسطينـ...
- أوقفت يده بقية الكلمات في حلق النواوي، رأي أشباحاً تداهمه وتدفعه إلى هوّة سحيقة، حاول التخلص منها، راح يصارعها باستماتة، أيدٍ غليظة تحاول الإمساك به لتقذفه في الهوّة، يصرخ، يضرب الوجوه، الأجسام، ويعارك كل شيء...
وعندما هبط من السّيَارة الكبيرة في فناء الكلية كان حلقه يابساً كالحطب، وثمة رعشة ما زالت تسرى في بدنه كلّه، راقب زملاءه وهم يتّجهون إلى عنبر الأكل،همِّ بالتّحرك لكن صوتاً هادراً جاءه من الخلف:
- الطالب عدنان زهراوي!!
التفت إلى الضابط المسئول، تذكّر عبد المنعم النواوي بوجهه المكوّر، يصرخ مستغيثاً تحته، يداه وقدماه ( بالحذاءين الثقيلين) تضربان وتركلان كلُ مكان في جسمه، الزملاء يهجمون عليه، يمسكون به ويدفعونه بعيداً، والنوّاوي يزحف من تحته مبتعداً.. أجاب الضابط في خفوت، ثبّت بندقيته في كتفه، أصلح من هندامه قليلاً ثم تقدّم.. عندما أدَّى التحية للضابط كان قد قرر الصمت مهما كان العقاب...
2- هدير.. هدير..
دسَّ يده في جيب سترته، تلّفت حوله ثم أخرج الورقة وقرأ: ( القدس مقهى المحطة، قرب صيدلية الشفاء، جابر عبد السلام، سائق سيارة نقل) مضبوط، ها هو اسم المقهى مكتوب على الواجهة، دلف إلى الداخل في حذر، وفي إحدى الزوايا جذب كرسياً وجلس، أشعل سيجارة، جذب نفساً عميقاً، ثم جال ببصره في وجوه الجالسين..
- تفضل ماذا تشرب؟
لم تعجبه نبرة النادل، حتى نظرته هذه غير مريحة، لكن عليه أن يسأل. فقط..
- اسمع ( نظر حوله ثم اخفض صوته قليلاً)، أريد السائق جابر عبد السلام.
- المعذرة يا أخ، كنت جافاً معك، حسبتك منهم، لحيتك وشاربك! المعذرة أنِّهم يزعجوننا، هؤلاء الملاعين لا احتملهم، حسناً السيّد جابر سيحضر بعد ساعة تقريباً، عفواً، هل تنوى الذهاب إلى هناك ( وأشار بيده تجاه الشرق) تستطيع أن تثق بي..
- أريد السائق جابر، السيّد جابر فقط..
- حسناً، على كل حال سأوصيه بك، إنه لا يقبل أي شخص، سأوصيه لأكفّر عن زلتي..
هز رأسه وانصرف، لكنه عاد ثانية ليقول:
- نسيت، هل تشرب قهوة؟
- سكّرها خفيف..
إنه الآن في القدس، عجيب!.. القدس الحلم الأمل، أمة تحدّثه عنها وعن المسجد الأقصى، عن قبّة الصخرة، كانت رؤية القدس أمنية، والآن هو في وسطها ولا يعبأ بها، بل لا يعبأ بشيء. فقط يهمّه أمر واحد، واحد فقط، أن يعبر النهر إلى العالم الجديد إلى الأمان، آه الأمان....
- اضرب، اقذف، اقذف يا سعيد...
- لا فائدة يا حضرة الضابط، الدبّابات تتقدم نحونا إنها الهزيمة لننسحب.
- اخرس!! اضرب، اقذف خذ الذخيرة...
- لا فائدة. انظر تلك الدوائر الدخانيّة، إنها تحدد مكاننا، الطائرات حددت مكاننا، إنها الهزيمة، أين الحماية الجوية، أين طائراتهم، لقد خذلونا، تركونا. وحدنا بدون حماية، آه...
- سعيد، سعيد...
يلتفت إلى الرقيب سعيد الذي لوّحت به القذيفة، يتحسسّه، يصيح، يدرك أنّه لن يجيبه ثانية، ينهض ويصيح. اضرب اقذف، خذ الذخيرة، اضرب..آه.. زلزال هدير، صمت... هدير وصمت، يحرّك أطرافه، تستجيب لرغبته، يتأكد أنّه ليس في العالم الآخر، أنّه حي يسمع صوت الدبّابات مبتعدة .. يزيح التراب ويخرج رأسه من الحفرة.. يشعر بخدر في جانبه الأيمن، ثمّة سائل لزج، يتحسسّه إنّه جرح، يقدُّ سترته بصعوبة، يربط الجرح.. ثم يزحف بطيئاً نحو البيوت القريبة..
- القهوة كما طلبت، سكّر خفيف، السيّد جابر سيحضر قريبًا، لا تقلق..
- انصرف النادل ورشف هو من فنجانه بهدوء. أشعل سيجارة جديدة، جال ببصره في وجوه الجالسين بحذر، وبقلق واضح راح ينتظر السّيد جابر عبد السلام..
- بعرف ذهبت إلى كل المستشفيات والمواقع، سألت عنك كل من قابلته آخر مرة رأيته فيها كان في المنطار، قبل اقتحام الموقع بنصف ساعة.. هذا ما قاله لي ابن البدرساوي، قلت راح ولدي! بعدها لم أكترث بالموت، في الليل أبحث، في النهار أبحث، أريد جثتك على الأقل! كنت أقلب الجثث، كان بعضها على بطنه! يا حسرتي شباب مثل الورد!! قلت هل أسروه يا حليمة؟ أهْون! سلمى قالت يمكن اختبأ في أحد الأماكن، بتعرف يا عدنان؟ سلمى هذه تستحق منك الكثير أصرّت على مرافقتي، بتحبّك يا ولد! يا سلام لو الدنيا بخير، كنت أعمل أكبر عرس في المخيم، وأرقص وأغني وأزغرد و...!
- لكني قررت الخروج يا أمّي..
- يا و لدي كيف؟
- لا فائدة، لابدَّ من الخروج، إنهم يقبضون على الجميع.. قتلوا الكثيرين...
- يا ولدي ليس لي أحد غيرك، سأخفيك، سأحفر لك خندقاً في المنزل، سأحضر لك الطعام والشراب والسجائر، والمجلات، كل شيء سأخفيك في عيوني يا ولدي...
- أمي كل هذا لا يجدي...
- كان السيّد جابر، رجلاً ضخماً، طويل القامة، عريضٍ المنكبين، ممتلئ الكف( هذا ما شعر به عند مصافحته)، في الأربعين من عمره تقريباً، طلب له قدحاً من الشاي ثم همس:
- أريد عبور النهر في سيارتك.
- تلفَّت الرجل حوله ثم همس بدوره.
- طيّب! أجرة عشرة دنانير، أأنت من غزة؟
- نعم
- من الآن أنت من الخليل، إذا سألك أحد، أنت طالب من الخليل، أتفهم.؟ طالب وفقدت الهوية في الحرب.. مزّق أي شيء يثبت أنك من غزة ها (إذن عليه أن يمزّق هويته ويمزّق ذلك التصريح المزّيف الذي في جيب سترته)، اسمع السيّارة محملة بالخيار والتين الشوكي، إيّاك أن تمدّ يدك عليها، ستختبئ مسافة قصيرة، لا أريد أية متاعب، سنتحرّك بعد قليل، هيا النقود...
ناوله الدنانير العشرة في هدوء، وعندما صعد إلى الشاحنة، بعد نصف ساعة، اكتشف أن ثمَّة ثلاثة آخرين فوقها.. القي عليهم التحيّة ثم همس لنفسه ( والآن، أنت من الخليل، طالب من الخليل، وأن قُتلت وأُرسلت جثتك إليها فلن يتعرّف عليها أحد.. توكلنا على الله...) لكنه بعد ساعة ، ساعة فقط كان يعترف لنفسه بدهاء السيّد جابر وحكمته.. وصل الرجل إلى نقطة العبور في الزحام، قطع النهر بسيّارته دون تفتيش، وأوصله إلى العالم الجديد، إلى الأمان.. وها هو النهر يصير وراءه.. الآن يحق لعدنان أن يرفع صوته ويذكر غزة وأشياء كثيرة.. إنَّه حقه، لماذا يستشير السيّد جابر؟ والآن! ها.. هذا الشرطي النحيل بقلنسوته العجيبة ماذا يريد؟ إنَّه يوقف السيّارة و يقترب!!
- الشباب من وين؟
- من نابلس!
- من القدس!
- طلاّب، طلاّب من رام الله!
- فيكم حدا عسكري؟ وأنت، أنت يا أبو لحية تكلّم من وين؟..
قفز من الشاحنة.. اقترب منه جابر بسرعة، لكزه في جانبه الأيمن ( شعر أن جرحه لم يبرأ بعد) ..غمزه بعينه معاتباً، تنحنح ثم قال:
- إنّه من الخليل، طالب من الخليل، يا حضرة الشاويش..
- لا، أنا من غزّة، أنا الملازم أول عدنان زهراوي.. جيش التحرير الفلسطيني.. ك19، ل 107، أرجو اتخاذ إجراءات إلحاقي بزملائي!!
جحظت عينا السائق وارتخي فكّاه، ضرب الشرطي قدميّه في حركة عسكرية. ورحّب بعدنان معتذراً، ثم أمر السائق بالانصراف من أمامه فوراً... وعندما تحرّكت الشاحنة، كان الثلاثة المعلّقون فوق الصناديق يتبادلون عبارات الاستغراب ويلوّحون له مبتسمين.
3- مريض..
- كيف حالك يا زهراوي؟
- من؟ أنا لا أعرفك!
- زهراوي، أنا أعرفك، حزيران 1967، موقع المنطار، الدبّابات المحترقة، أنت عدنان زهراوي، أذكرك جيداً، صوتك المجلجل، اقذف اضرب، لا تنسحبوا لديك جرح في جانبك الأيمن، أنا أعرفك، أنا ذلك الطبيب الذي ضمّد جرحك، حي قرب المنطار، الحاج عبد الكريم، الذي أخفاك ورعاك، إنه عمّي ..زهراوي أنا من أحضر أمّك إلى بيت عمّي، كانت معها فتاة جميلة، اسمها.. كان اسمها سلمى، نعم سلمى، أنا من أعطاك ذلك العنوان، واسم السائق ، السائق جابر، في القدس، ها ... أتذكر، زهراوي تقابلنا منذ عام في النبطية، تعارفنا وتذكّرنا كل هذا، ألا تعرفني الآن، أنا سهيل...
- لا! لا أعرفك، لا أذكرك! لا أعرف أحداً، لا أذكر شيئاً، اتركوني أنا مريض، مريض...
- وأنا ! ألا تعرفني يا زهراوي؟..
- من؟ لا!
- زهراوي، أذكرك، أعرفك، جيداً، أيلول 1970، الأشرفية.. الشهيدان، حسين وإلياس، أنا أعرفك.. شاربك، لحيتك، هي هي.. أتذكر تلك الفتاة، كانت في الثالثة، كنت تحملها بين يديك هاتين، جئت بها إلى المستشفي، بكيت عليها، ولم تبك، على رفاقك!.. أنا تلك الممرضة التي أخذتها منك.. أنت زهراوي، أعرفك جيداً، أذكر صراخك: أين هم؟ لماذا هربوا؟ الجبناء أتذكر رفيقك مروان، مراون صابر، الجريح، حملته خمسة كيلومترات كان خطيبي، وأصبح زوجي.. حدّثني عنك، عن الأغوار، الكرامة، عن الداخل عن أيلول، عن بطولاتك.. مروان علم بمكانك هنا، لقد أخبرته.. سيأتي لزيارتك: هل عرفتني، يا زهراوي أنا عايدة...
- لا ! لا أعرف أحداً، لا أذكر شيئاً، اتركوني، دعوني، أنا مريض، آ ، أنا مريض...
- سياسة، سياسة، اللّعنة على السياسة، نحن الذين نصنع السياسة الملائمة بنادقنا، دماؤنا، و...
- هناك عدة أشكال للصراع يا زهراوي، شيء من السياسة والدبلوماسية، شيء من المناورة، ها.. أتفهم؟ لابدِّ من معرفة الواقع بوعي والتحّرك...
- اعترف يا سيدّي أنك لبق وبليغ، لديك القدرة على تنويع نبرات صوتك، تدفع الناس للتصفيق بحرارة، اعترف بذلك! ألم تكن في فريق التمثيل بالمخيّم، إننا أبناء مخيم واحد، أعرفك جيداً.. أبوك عامر النجداوي، من لا يعرفه؟ أكبر تاجر في المخيم، المخيم الذي بلعه في بطنه، أرسلك إلى أمريكا، علّمك من قوت المساكين، حاجيّات الإعاشة الضرورية، تجارة أبيك المفضلة والمربحة، وعدت من أمريكا تنظّر عن الثورة و الثورية، وتكتب المقالات النارية!.. والآن، سياسة، دبلوماسية، مناورة، عفواً سيدّي: أين كنت في حزيران، الكرامة؟ أيلول. معارك الجنوب. أين كنت في لحظات الفرز الرهيبة. كنت تتمتع بالشقراوات، وتدلق في جوفك زجاجات الخمر أليس كذلك؟ كنت مع شقراء منهن في الأسبوع الماضي...
- اخرس!! أنت تهذي، إنها إنها زوجتي...
- زوجتك! على عيني! وماذا تفعل بزوجتك في ذلك المكان( المحترم)؟ ها، وتتحدّث عن الثورة والنضال ، سيّدي فاقد الشيء لا يعطيه، ألم تسمع بذلك؟ إنك لم تتعلم سياستنا! أعني سياسة المواجهة، الاستشهاد، هناك في غزة والخليل والقدس ونابلس والأغوار!.. عمّان، جرش، بيروت، الخالصة، العرقوب النبطية وغيرها.. هذه سياستنا، سياسة الشهداء، حسين، سلامة، الياس والطفلة ذات الأعوام الثالثة، أتفهم أنت؟
- اخرس! أنت جاهل، ومريض.. نعم أنت مريض!!
كان يعرف أن النجداوي رجل هام، لكنّه لم يتصوّر أهميته وقدره بهذه الدرجة، ساذج لا يعطي للناس قدرهم ومكانتهم، وها هو يقع ضحية سذاجته هذه.. قال النجداوي إنه مريض، فأصبح كذلك، لكن ليس دفعة واحدة، كان عليه أن يمر بذلك السرداب المظلم، وعلى جسمه أن يتلقي تلك اللكمات العنيفة، كان عليه أن يعاشر الظلام والفئران والبرد، والرائحة النتنة شهراً كاملاً..
ثم يحق له بعدها أن يصبح مريضاً، مسكين هذا الطبيب سهيل لا يعرف كل ذلك! ويريده أن يتعرّف عليه، إنّه يصر على التعّرف عليه، وتلك الممرضة البريئة عايدة، هي الأخرى تناديه باسمه، وتذّكره بأشياء كثيرة، عنيدة!!... وهاهي تزيد في عنادها وتعود ثانية، ومعها هذه المرة شخص جديد...
- زهراوي.
- ها.. من؟ لا لست زهراوي.
- زهراوي، أنا مروان، صديقك مروان صابر!
- آه... من؟ .. مروان.. هل أمسكوه؟! هل عاقبوه؟..
وارتمي على صدر صديقه باكياً هاذياً..
- كنا حائرين في أمر اختفائك، من الذي أمسكوه؟
- النجداوي!
- وما شأنه؟
- أنّه المدبّر، هو الفاعل، ألم يعرفوا ذلك؟
- لا، هل تستطيع إثبات ذلك؟
- لا أظن! لا أظن!.. كل ما أعرفه أنني هبطت من السيّارة، وعندما أدرت وجهي كان هناك من يضربني على رأسي! بعدها وجدت نفسي في سرداب.. فئران برد وظلام ووجوه مقنّعة.. لكمات من الظلام.. وبعد شهر حقنه، ثم وجدت نفسي وسط الأحراج، ثم المستشفي!!.. هذا كل شيء لا أعرف أحداً، لم أر أحداً، لكنه الفاعل، إنه المدبّر، النجداوي، لا أحد غيره...
- إني أصدقّك، ولكن تعرف إنّه.. آه..
- خمنّت أنه سيفلت، حتّى لو قتلوني .. آه مروان أريد الخروج من هنا، من المدينة، من العالم، أرجوك أريد جواز سفر وتذكرة طائرة فقط، أرجوك مروان..
- حسناً، حسناً، شريطة أن تعود.. ها ستعود يا زهراوي.. والآن هيا معي...
4- انقطاع...
رن جرس الهاتف، لكن أحداً لم يلتفت إليه ( اتركوه يرن حتى الغد). قالها الرجل المقابل لعدنان على طاولة اللّعب، وضرب الورق بغيظ، ثم أضاف.. أين خادمتك يا زهراوي؟ لماذا لم تبقها؟
- غير معقول إنها العاشرة والشتاء...
عاد الرنين يملأ المكان، ويصرّ على قرع آذان الأربعة الجالسين على طاولة اللّعب...
- أف! خسارة وتعكير مزاج، لا فائدة، اذهب إليه، هيا انسحب من هذه اللعبة يا زهراوي.
يتململ عدنان، ويضع ورق اللّعب على الطاولة، يلّم كوم النقود الكبير الذي أمامه، يدّسه في جيبه ثم يتحرّك نحو الهاتف، وعندما رفع السماعة أتاه الصوت ناعماً رقيقاً:
- زهراوي أوه.. ما هذا؟.. كدت أغلق الهاتف، اشتقت إليك..
- من؟ آ.. لحظة ( وتحرك ليغلق باب الحجرة).. دلال أين أنت؟ اليوم فقط تذكرت، أنا زعلان، زعلان جداً، ما هذه القسوة؟
- أصالحك.. ها الليلة.. الآن، أأنت بمفردك؟
- لا لدي ضيوف ولكن...
- ضيوف، أم الورق والكأس؟ أنا أعرفك.. هل ربحت؟
- أنت عفريتة، اسمعي، بعد ساعة، ساعة فقط سأتصرّف معهم، إلى اللقاء..
وعندما دارت أوراق اللّعب من جديد، قال: سنلعب ساعة فقط، لدى ضيوف قادمون، إنهم أقاربي، قادمون من سفر، ومن غير اللاّئق أن يروني هكذا، ها..
- ساعة أو عشرون ساعة، خسارة خسارة.. حظّك الليلة يفلق الحجر.. صب يا ولد، أنها ليلة ملعونة.
وتناول الشاب الذي على يمينه زجاجة، ثم صبِّ منها في كؤوس صغيرة واحد، اثنان، ثلاثة أر... عندها قرع الجرس لكنه جرس الباب هذه المرّة.
- أف ألم أقل لكم أنها ليلة ملعونة، من أولها ملعونة..
- ثقيل آخر، وتعكير مزاج آخر. لعله البوّاب ذلك الثرثار. أظنه هو ( هل تريد شيئا قبل أن أنام يا أستاذ) أعرف ما سيقوله!
لكنه لم يكن البوّاب، بل كانا رجلين!! نظر البدين القصير إليه مبتسماً، صمت لبرهة، ثم انقض عليه معانقاً:
- زهراوي، يبدو أنك لا تعرفني؟ غير معقول! أذكّرك إذن يا عدنان زهراوي، الكليّة العسكرية، السريّة الرابعة، الفصيلة الثالثة، وتلك العلقة الساخنة.. ها..
- أنت هو، غير معقول, النواوي، عبد المنعم النواوي.. كدت أفصل بسببك أيها الملعون.. يا للمفاجأة، أهلاً، أهلاً..
أدخل ضيفيه إلى غرفة الاستقبال، ثم استأذن ليعود إلى الثلاثة الغارقين في حديث هامس...
- يا جماعة أنا...
- فهمنا، ليلة ملعونة، سننصرف، سننصرف..
لمّوا نقودهم وسجائرهم، دسّوها في جيوب معاطفهم، صبَّ أحدهم كأساً دلقها في جوفه مرة واحدة، ثم جرّوا أقدامهم نحو الباب في بلادة، ليعود هو إلى ضيفيه من جديد.
- قد تسأل كيف عرفنا عنوانك؟ رأيتك منذ أسبوع ولم أصدّق نفسي! واليوم زرت صديقي،.. عفواً أعرّفك صديقي المهندس عادل إبراهيم، وصفتك له، إنّه ابن المنطقة، تعرّف عليك وقال إنّه يراك كثيراً، ثم دلّني على العنوان..
عجيب! هذا المهندس ! هذا الشبه الكبير، العينان، الوجه، البشرة البيضاء، الصوت، نفس الصوت، يا إلهي! وها هو أخيراً يخرج نفس الغليون ويغرزه في شدقه، عجيب! يكاد يكون النجداوي نفسه، آه النجداوي....
. سلّمه مروان جواز السفر وتذكرة الطائرة، الإقلاع عند الساعة الثالثة.. لديه بعض الوقت، الآن يمكن تنفيذ ما قرره بالأمس.
- مروان سأنزل إلى المدينة، سأمُّر على أحد الأصدقاء..
- ولكن لا تتأخر، سأوصلك إلى المطار.
- لا، أشكرك، أعرف انشغالك، سأستقل سيّارة أجرة، وداعاً.
لا تبطئ في المراسلة، تعرف العنوان، اسمع ( وحملق فيه لبرهة) إيّاك أن تأتي بأية حماقة، إلى للقاء..
لكنه كان قد فكّر في الحماقة منذ الأمس!! وها هو يعرّج على أحد أصدقائه، يستعير مسدسه، وينطلق إلى هدفه، بيت النجداوي.. ( بالأمس خدع عايدة المسكينة وعرف منها العنوان).. لكن النجداوي لم يكن هناك! فقط تلك الشقراء اللّعوب..
- هل أنت زوجته؟
- تقريباً!
- ماذا تعنين؟
- سأكون كذلك قريباً.
- آه ..فهمت! ومتى يأتي عشيقك الحقير؟
- قد لا يأتي قبل يومين!
- اسمعي ليست لدى رغبة في قتلك، لماذا أقتلك أنت؟
لكن عليك.أن تكوني مطيعة ..
ولم تمانع اللّعوب، بعد ساعة فقط كانت تودعه عند الباب كعشيقة قديمة...
- بتعرف إنك تغيّرت؟ تغيّرت كثيراً يا زهراوي
- يبدو أن زهراوي بيه يعيش حياته، أعني يتمتع بحياته، أنا ابن المنطقة وأري بعيني و...
ورن جرس الباب مرة أخرى ( يا إلهي كدت أنساها، خاب ظنّها، لن تجدني بمفردي) ونهض ليفتح الباب... ها ما بال هذا المهندس يتفحّص صفاء؟! إنه يحملق فيها بجرأة لعلّه يعرفها!.. بل أجزم أنّه يعرفها و...
- ألا نتشرّف بمعرفة السيّدة؟
قالها المهندس متظاهراً بلطف مزيّف.
- آه.. معذرة .. إنها ألـ..
- آنسة سلمى.. خطيبته!!..
آنسة وخطيبتي !.. آه يا سنوات الخزي، لن أطردك بعد اليوم.. لن أجدّف يا مستنقع السقوط.. ليلنا خمر ونساء ومخاز.. آه يا عذراء المساء. نمت في فراشي أكثر من عشرين مرّة!! تعرّيت مثل عشيقة النجداوي، مثلهن جميعاً !! والآن ها أنت تثأرين لبنات القبيلة.. آه يا سلمى لا تغفري لي.. أبي، أمي، مروان، سلامة، إلياس، علي.. آه...
- تبدو مهموماً يا زهراوي بيه.. عبد المنعم، يبدو أننا أتينا في وقت غير مناسب...
نهضت ( العذراء) مستأذنة، رمقها المهندس ثم نهض بدوره وتبعه النّواوي.. لم يتمسّك بأحدهم، ودّعهم في برود.. أغلق الباب وراءهم ثم ألقى نفسه على أقرب مقعد..أشعل سيجارة.. نهض إلى النافذة، راقب الزجاج المبلل للحظات، ارتدى معطفه همس لنفسه ( على أن أهبط الآن) ثم اتجّه إلى الباب..
بعد نصف ساعة كان في منتصف الطريق المعبّد المبتل وعينان مضيئتان تقتربان منه.. تقتربان أكثر.. يسمع صوت انزلاق عجلات على الشارع المبتل.. يقذفه جسم حديدي في الهواء.. يرتطم بالأرض.. يتدفق سائل أحمر من مؤخرة رأسه.. يزحف الخدر إلى جسمه.. تضيق دائرة إدراكه.. تضيق، تضيق، ثم تدق ساعة الميدان الحادية عشرة...
إلحاق...
بعد أسبوع تصل رسالة على عنوان زهراوي تقول: في رسالتي الثالثة إليك أدعوك للعودة من جديد، هرب النجداوي وبعض زبانيته.. لا تتردد في العودة نحن بحاجة إليك... المخلص مروان صابر...
لكن موظف البريد هزَّ رأسه، ثم كتب عليها بقلمه الأحمر ( تُعاد إلى المرسل، المذكور مات)..

القاهرة
1982



#علي_عودة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 3- مثقفو (الساقط بين الفراشين )
- 2- مثقفو حماس والتحيز الصارم
- مثقفو فتح بين التميّز والتحيّز
- تعقيب على مقال غازي حمد


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي عودة - قصص قصيرة