داود تلحمي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: الإستعصاء الفلسطيني، والديمقراطية الشعبية البديلة، وآفاق اليسار والخيار الإشتراكي


داود تلحمي
الحوار المتمدن - العدد: 3199 - 2010 / 11 / 28 - 11:26
المحور: مقابلات و حوارات     

داود تلحمي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: الإستعصاء الفلسطيني، والديمقراطية الشعبية البديلة، وآفاق اليسار والخيار الإشتراكي في القرن الجديد

أجرى الحوار : ضياء حميو

من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا – 16 - سيكون مع مع الأستاذ داود تلحمي حول:  الإستعصاء الفلسطيني، والديمقراطية الشعبية البديلة، وآفاق اليسار والخيار الاشتراكي في القرن الجديد.
 

1- من المعروف إن استمرار الصراع العربي الإسرائيلي هو زاد لا ينضب ولا غنى عنه لليمين المتعصب من الطرفين على حد سواء،وكذلك لاستمرار دكتاتوريات عربية عتيدة،هل تعتقد أن هؤلاء ممكن أن يسلموا بخيار سلام عادل يفقدهم زادهم الذي هو سبب أساس لديمومة استمرارهم؟

** أعتقد أن من الضروري التمييز هنا بين الجانبين في الصراع. صحيح أن بعض الزعماء أو الأنظمة العربية استخدمت القضية الفلسطينية، في بعض الحالات وفي بعض المراحل، للتغطية على سياساتها الداخلية تجاه شعوبها ومحاولة كسب مشروعية معينة مفقودة على الصعيد الشعبي أو لتمرير سياسات إستبدادية داخلية ولتبرير تغييب الحريات الديمقراطية وعدم الإستجابة لمطالب واحتياجات شعوبها الأساسية. لكن ذلك لم يكن قاعدة عامة. وهو، في كل الأحوال، غير قائم حالياً الى حد بعيد.
فها هو الحكم في مصر، مثلاً، وقّع معاهدة مع إسرائيل منذ أكثر من ثلاثين عاماً وأنهى الصراع معها. وكانت قطاعات واسعة من فقراء الشعب المصري تنتظر في البدايات لترى إذا ما كان ذلك سينتج عنه تحسن في أوضاعها المعيشية بعد التقليص المفترض للنفقات العسكرية. لكن ذلك لم يتحقق. ولذلك عادت الغالبية الكبرى من الشعب المصري لتتخذ مواقف مناهضة لإسرائيل وسياساتها. خاصة وأن أصحاب القرار في إسرائيل استغلوا المعاهدة المنفردة مع مصر للإستقواء على الأطراف العربية الأخرى، التي بات وضعها أضعف في الصراع، بحكم الإختلال المتزايد في موازين القوى الذي أحدثه خروج مصر. فاجتاحت إسرائيل في العام 1982 لبنان واستهدفت قوى منظمة التحرير الفلسطينية هناك، وواصلت التنكيل بالشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، وتشبثت ببقية الأراضي العربية المحتلة عام 1967، وخاصة بالأراضي الفلسطينية والسورية، التي تزايد الإستيطان الإسرائيلي فيها بشكل كبير بعد المعاهدة مع الجانب المصري، كما سعت الى إحكام قبضتها على لبنان والإحتفاظ بأجزاء من جنوبه، لكنها اضطرت الى الإنسحاب التدريجي من معظم الأراضي اللبنانية المحتلة بفعل ضغط عمليات المقاومة عليها.
وفي الواقع، لم يعد عدد من الأوساط العربية الحاكمة يهتم بالقضية الفلسطينية بشكل جاد، تحت شعار أن الفلسطينيين هم المعنيون بالقرار الخاص بقضيتهم طالما أنهم اختاروا "القرار الفلسطيني المستقل". ويكاد البعض من الأنظمة العربية الحاكمة يدعو عملياً الى تحويل الإهتمام من قضية الإحتلالات الإسرائيلية للأراضي العربية الى مواجهة خصوم آخرين بديلين، من إيران الى "الإرهاب الدولي"...
لكن المناخ على الصعيد الشعبي العربي مختلف تماماً، حيث التعاطف واسع جداً مع الشعب الفلسطيني ومع معاناته ومعاناة شعب جنوب لبنان ومطالب الشعب السوري باستعادة أرضه، كما رأينا مؤخراً أبان الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أواخر العام 2008 وأوائل العام 2009، وقبل ذلك في العام 2006 ابان العدوان الإسرائيلي على لبنان. وهذا التعاطف الشعبي ليس مقتصراً على الشارع العربي، بل يمتد ليشمل شعوب البلدان الأخرى في المنطقة والعالم، ابتداءً من تركيا وبلدان آسيوية وإفريقية عديدة، وانتهاءً بشعوب بعيدة مثل شعوب أميركا اللاتينية، مروراً بأوساط يسارية وإنسانوية واسعة في أوروبا وفي بعض الأوساط المستنيرة في أميركا الشمالية وبلدان غنية أخرى، والتي بات يأتي منها بشكل متواصل متضامنون يشاركون في فعاليات مناهضة الجدار الإسرائيلي والإستيطان التوسعي في الضفة الغربية المحتلة، كما في مناهضة حصار قطاع غزة. ولا أعتقد أن أية قوى يمينية عربية في المعارضة هي التي تذكّي الصراع العربي- الإسرائيلي وتسعى لإدامته لأغراضها الخاصة، لأن الإستعصاء الحقيقي حالياً تجاه الحل ليس، حقيقةً، في الجانب العربي، بل في الجانب الإسرائيلي المقرّر. فكل القوى الصهيونية المقررة في إسرائيل، وفي المقدمة أولئك الذين استوطنوا في القدس الشرقية وبقية الأراضي الفلسطينية والسورية المحتلة والذين يدعمونهم، غير معنية بالإنسحاب منها وبـ"سلام عادل" في المنطقة.
ربما، في الجانب العربي، هناك وضع خاص لدى بعض قطاعات الشعب العراقي، وربما حتى في بعض دول الخليج العربية، لأسباب لها علاقة بالتجارب التاريخية الخاصة هناك. لكن أعتقد أن من الضروري أن يدقق الأشقاء هناك، عرباً وأكراداً، بكل طوائفهم، في المعطيات الحقيقية للصراع وتطوراته.
وما ينبغي التأكيد عليه هنا، تعقيباً على مضمون السؤال، هو أنه لم تتوفر، في أية مرحلة من المراحل منذ بدء الهجرة الصهيونية السياسية الى فلسطين قبل زهاء القرن من الزمن، أية فرصة حقيقية لـ"سلام عادل" أو حتى لـ"سلام مرحلي معقول وإن أقل من عادل"، ولم يستجب لها الشعب الفلسطيني. وينبغي هنا الحذر من حملة التضليل التي قامت بها الحركة الصهيونية وإسرائيل لإظهار الشعب الفلسطيني وكأنه، على حد تعبير وزير الخارجية الإسرائيلية الأسبق أبا إيبن، "لم يفوت فرصة لتفويت الفرصة"... لتحقيق السلام والحل. ويتم الإستناد هنا الى موقف قيادات الشعب الفلسطيني والدول العربية التي كانت قائمة آنذاك تجاه قرار التقسيم الذي صوتت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة في أواخر العام 1947. وفي الواقع، وبمعزل عن رفض أو قبول قرار التقسيم، لم تكن هناك أية نية فعلية لدى الجهات المسيطرة آنذاك، وفي المقدمة بريطانيا والحركة الصهيونية، لتنفيذ الشق الثاني من القرار القاضي بقيام دولة عربية فلسطينية.
فالحركة الصهيونية، ولاحقاً إسرائيل، بعد الإعلان عن قيامها في أيار/مايو 1948، قامت باحتلال مناطق أوسع بكثير مما كان مخصصاً لها في قرار التقسيم، بحيث زادت مساحة إسرائيل من 56 بالمئة من مساحة فلسطين الإنتدابية، كما تحدد في قرار الأمم المتحدة، الى 78 بالمئة، بفعل الإجتياحات الإسرائيلية الواسعة للأراضي والمناطق المخصصة للعرب الفلسطينيين في القرار. وأبقت إسرائيل، بعد العام 1948، الباب مفتوحاً للإستمرار في التوسع اللاحق، عندما قررت عدم الإعلان عن حدودها في وثائقها الدستورية بعد قيام الدولة. وهو التغييب الذي لا زال قائماً حتى الآن.
وكان التوجه لدى التيار الصهيوني الرئيسي بقيادة دافيد بن غوريون، الذي أصبح أول رئيس لحكومة إسرائيل، هو العمل على السيطرة الكاملة، ولو على مراحل، على كامل مساحة فلسطين الإنتدابية حتى نهر الأردن، وفي كل الأحوال، منع قيام أية دولة عربية فلسطينية، وتحويل الأراضي الفلسطينية التي لم تسيطر عليها إسرائيل في مواجهات 1948-1949 الى الدول العربية المجاورة. وهو ما جرى فعلاً حيث تم ضم ما يُعرف الآن باسم الضفة الغربية الى المملكة الأردنية القائمة قبل ذلك شرقي نهر الأردن، وتم إيكال المسؤولية الإدارية عن قطاع غزة الى مصر المتاخمة له. أما التيار الصهيوني اليميني الأكثر تطرفاً، متمثلاً آنذاك بشكل رئيسي بمناحيم بيغن وتياره، فكان يدعو الى إقامة الدولة اليهودية على كلا ضفتي الأردن، وكان يرفع شعار "لنهر الأردن ضفتان، الأولى لنا والثانية أيضاً". وما زال بعض زعماء إسرائيل واليمين الإسرائيلي يتحدثون بين حين وآخر إما عن حقهم في الأردن، وهو ما أصبح نادراً الآن، أو عن كون الأردن هو الدولة الفلسطينية، وأن لا حاجة لقيام دولة فلسطينية أخرى غربي نهر الأردن. وقد وردت في الماضي تصريحات كهذه حتى على لسان رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق آريئيل شارون.
إذاً، كان جوهر المشروع الصهيوني، والإسرائيلي، بعد العام 1947 خاصة، يقضي بإلغاء وجود الشعب العربي الفلسطيني، كهوية وكيان، وإخراج غالبية العرب الفلسطينيين من المناطق التي أقيمت عليها دولة إسرائيل. وهو ما أوضحه بشكل مدقق عدد من المؤرخين الإسرائيليين اليساريين، ومن بين أبرزهم الأستاذ الجامعي إيلان بابِه، الذي أصدر في العام 2006 كتاباً توثيقياً مهماً بعنوان "التطهير العرقي لفلسطين". وربما نذكر تصريحات رئيسة الحكومة الإسرائيلية السابقة في أواخر الستينيات الماضية، غولدا مئير، التي قالت فيها أن ليس هناك شيء اسمه الشعب الفلسطيني. وذهب رئيس الحكومة الإسرائيلية بين العامين 1977 و1983 مناحيم بيغن في رفض الإعتراف بالحقوق الفلسطينية في المفاوضات مع الجانب المصري في كامب ديفيد وبعده الى حد رفض إيراد اسم الشعب الفلسطيني حيثما ورد في نصوص الإتفاقيات الموقعة بين الجانبين، والإصرار في النص العبري للإتفاقيات على تسمية الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967 باسم "عرب يهودا والسامرة وغزة". ويهودا والسامرة هي التسمية الصهيونية ذات الجذور "التوراتية" للضفة الغربية المحتلة.
وبالرغم من كون المجلس الوطني الفلسطيني لمنظمة التحرير قد اتخذ منذ العام 1974 قراراً بالقبول بمبدأ الدولة الفلسطينية على جزء من أرض فلسطين، وهي الصيغة التي تم توضيحها بشكل أكبر في الدورات اللاحقة للمجلس الوطني الفلسطيني وخاصة في العام 1988 حيث تم تحديد الدولة الفلسطينية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، بقي حكام إسرائيل يرفضون فكرة التخلي عن هذه الأراضي. وهم لا زالوا، في الممارسة العملية، يواصلون هذا الرفض حتى الآن، من خلال الإستمرار في التوسع الإستيطاني في القدس الشرقية وبقية الضفة الغربية، وإن كانوا قد اضطروا، بفعل الواقع الذي فرض نفسه عالمياً، للتوقف عن إنكار وجود الشعب الفلسطيني.
وحتى بعد توقيع إتفاق أوسلو في العام 1993، وهو الإتفاق الذي كان خلافياً في الأوساط الفلسطينية وكانت هناك معارضة ملموسة له حتى من قوى وشخصيات داخل هيئات منظمة التحرير نفسها، لم يتم التسليم من قبل الأوساط الإسرائيلية النافذة بمبدأ الدولة الفلسطينية المستقلة. وهذه الدولة الفلسطينية كان من المفترض، نظرياً، أن يتم التوصل إليها في العام 1999، وفق افتراض الجانب الفلسطيني الموقع على إتفاق أوسلو. لكن، باستثناء أقلية محدودة من الرموز الإسرائيلية الصهيونية التي توصف بـ"الحمائمية"، مثل يوسي بيلن، الذي كان في العام 1993 في حزب العمل ونائباً لوزير الخارجية، وانتقل لاحقاً الى حزب ميريتس، الأكثر "حمائمية"، وباستثناء طبعاً ما يسمى في اللغة الإسرائيلية الرسمية بـ"الأحزاب العربية" في إسرائيل، وأحدها هو في الواقع حزب أو جبهة يسارية عربية- يهودية، غير صهيونية طبعاً، فإن كافة القوى والتيارات الإسرائيلية الصهيونية الأخرى لم تقبل فعلياً بقيام دولة فلسطينية مستقلة في الأراضي المحتلة عام 1967 ولا حتى بالإنسحاب من هذه الأراضي كلها. والأحزاب "العربية" المشار إليها كلها تؤيد ليس فقط حق الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1967 في تقرير المصير والإستقلال، وإنما أيضاً حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة الى ديارهم، وهو الحق الذي ترفضه الغالبية الساحقة من القوى الصهيونية. أما حزب ميريتس الصهيوني اليساري- الليبرالي، فيؤيد عودة محدودة لبعض اللاجئين الفلسطينيين، وهو، على كل حال، بات حزباً ذا حضور محدود.
وقد صنّف أورِن يفتاحيل، الأستاذ الجامعي الإسرائيلي في جامعة بار إيلان بصحراء النقب، الكتل السياسية في الكنيست الإسرائيلي بعد الإنتخابات الأخيرة مطلع العام 2009 تصنيفاً مثيراً للإهتمام: الكتلة الأكبر تتشكل ممن أسماهم "المعسكر الكولونيالي"، أي أنصار استمرار السيطرة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وعددهم في الكنيست حالياً في تقديره 65 نائباً، من أصل 120 هو مجمل عدد أعضاء الكنيست، وتتشكل غالبية الحكومة الإسرائيلية الحالية منهم، بمن في ذلك رئيس الحكومة نيتينياهو... والكتلة الثانية أسماها "معسكر التمييز الإثني" وتضم 41 نائباً، وتشمل حزبي "كاديما" و"العمل"، والأخير يشارك في الحكومة الحالية... والكتلة الثالثة أسماها "المعسكر الديمقراطي"، وتشمل برأيه حزب ميريتس الصهيوني اليساري-الليبرالي، الذي له 3 نواب فقط، و"الأحزاب العربية" المشار إليها أعلاه. ومجمل هذا "المعسكر" يضم، وفق حساب يفتاحيل، 14 نائباً فقط من مجموع 120.
باختصار، وللعودة الى السؤال المطروح، فإن الطرف المعارض فعلياً لأي "سلام عادل"، وحتى لـ"سلام واقعي أقل عدلاً" قبلت به أطراف فلسطينية رئيسية في منظمة التحرير وخارجها، هو الجانب الإسرائيلي، بغالبيته الساحقة. ومن الواضح أن أصحاب القرار في إسرائيل يعتبرون، على الأغلب، أن أي سلام عادل أو شبه عادل مع شعوب المنطقة، وخاصة الشعب الفلسطيني، قد يهدد تماسك الشعب الإسرائيلي المتنوع الجذور والثقافات، وقد يعيد، ولو بعد حين، فتح ملفات قديمة حول اضطهاد الشعب الفلسطيني، لا يرغب هؤلاء الحكام بفتحها، ويفضلون غياب السلام والحل على الإنهاء الفعلي للصراع في المنطقة.
طبعاً، هناك، الى جانب الإسرائيليين اليهود المنتمين الى تنظيمات مناهضة للصهيونية، حالات (فردية) متقدمة وجريئة، خاصة بين المثقفين وأساتذة الجامعات الإسرائيلية، الصامدين في مواقعهم أو الذين اضطروا الى العمل خارج إسرائيل بسبب الجو الخانق والعدائي تجاههم. وحتى الآن، مجمل هؤلاء الإسرائيليين اليهود عددهم محدود، ولكن لهم وزن معنوي كبير.
من بين هؤلاء أساتذة بارزون مثل إيلان بابِه، الذي أشرنا إليه أعلاه والذي يدعو الى إقامة دولة ديمقراطية واحدة في كل مساحة فلسطين الإنتدابية على قاعدة التكافؤ والمساواة في الحقوق، الى جانب أساتذة جامعيين آخرين مثل نيف غوردون، والراحلة تانيا راينهارت، والمؤرخ آفي شلايم، المقيم منذ عدة عقود في بريطانيا، وصحافيين بارزين مثل عميرة هاس وغدعون ليفي وأوري أفنيري وغيرهم، وفنانين في مجالات متعددة، بعضهم رفض مؤخراً تقديم عروض في المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية وتعرضوا لحملة عدائية واسعة من الأوساط الصهيونية. وأنا هنا أذكر فقط أشخاصاً يهوداً يحملون الجنسية الإسرائيلية، وبغض النظر عن تقييم مواقف كل منهم، وهي متنوعة: فبعضهم ضد استمرار الإحتلال القائم منذ العام 1967، وبعضهم يدعو الى دولة موحدة في كل فلسطين بحدودها الإنتدابية.
وهناك، بالطبع، العديد من المواطنين ذوي المنشأ الديني أو الثقافي اليهودي في بلدان العالم المختلفة الذين اتخذوا مواقف معارضة للإحتلال الإسرائيلي عام 1967، مثل المثقف الأميركي اليساري الكبير نؤام تشومسكي والحاخام والكاتب المنتقد لسياسات إسرائيل هنري سيغمان وغيرهما. وبعضهم اتخذ مواقف معارضة حتى للفكر الصهيوني ككل، وبينهم أسماء كبيرة في مجالات الثقافة والفن والعلم، مثل المؤرخ الشيوعي البريطاني الشهير إريك هوبسباوم والمستشرق اليساري الفرنسي الكبير الراحل مكسيم رودنسون والعديد غيرهما، بمن فيهم، طبعاً، أولئك الذين ينتمون لأحزاب يسارية جذرية مناهضة للصهيونية، ويشاركون في حملات التضامن مع الشعب الفلسطيني.
وينبغي أن أشير هنا بشكل خاص، وبتقدير عالٍ، الى موقف المناضل المغربي اليساري الكبير أبراهام سرفاتي، اليهودي المنشأ والمعارض للصهيونية بشكل حازم والمؤيد للحل الديمقراطي الجذري في فلسطين بحدودها قبل العام 1948، وهو الذي رفض إبعاده عن المغرب بعد اعتقال دام عقدين تقريباً بسبب مواقفه اليسارية في الشأن المغربي، وأصرّ على العودة الى وطنه المغربي، وعلى مواصلة التضامن مع نضال شعب فلسطين وغيره من الشعوب العربية وغير العربية.
باختصار، غالبية الشعب الفلسطيني، كما تظهر بعض استطلاعات الرأي، مستعدة للقبول بحل للصراع على غرار الحل الجنوب- إفريقي، أي دولة موحدة في كل فلسطين الإنتدابية على أساس احترام كرامة وحقوق كل مكوناتها. ولكن هذا الحل يتعارض مع الفكر الصهيوني الداعي الى إقامة "دولة يهودية". ونضوج شروط تحقيق هذا الحل يتطلب، بالتالي، زمناً وجهداً كبيرين وتغيرات جدية في الوضعين الإقليمي والدولي. وتظهر الإستطلاعات أيضاً أن هناك غالبية فلسطينية تقبل بمبدأ دولة فلسطينية مستقلة فعلاً، وليست محمية إسرائيلية أو مجموعة "بانتوستانات" تسمى دولة، في الأراضي المحتلة عام 1967، بما يشمل القدس الشرقية، مع حل عادل لقضية اللاجئين وفق قرارات الأمم المتحدة.
وبما أن إسرائيل تعتبر أن شرعيتها الدولية نابعة من قرار التقسيم الصادر عام 1947 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، مع العلم بأن قرارات هذه الجمعيةهي، من حيث المبدأ، غير ملزمة، خلافاً لقرارات مجلس الأمن، فأعتقد أن غالبية كبيرة من الشعب الفلسطيني تقبل، لا بل تطالب، بتطبيق كافة قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن الصادرة منذ ذلك التاريخ، وليس بشكل إنتقائي، كما فعلت إسرائيل، التي ترفض تطبيق العشرات من قرارات مجلس الأمن والمئات من قرارات الجمعية العامة التي صدرت بعد قرار التقسيم. وهو ما تدعو له أيضاً الدولتان العربيتان اللتان لهما أراضٍ محتلة، أي سوريا ولبنان.
وما أرجوه من الأشقاء العرب، وخاصة في العراق وربما في بلدان خليجية وعربية أخرى، هو ألا ينظروا الى قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه من منظار سياسات بعض الحكام أو الأنظمة العربية في الماضي، والتي لا يتحمل الشعب الفلسطيني المسؤولية عنها، وكذلك بعض الأخطاء التي يمكن أن يكون هذا الفلسطيني أو ذاك قد ارتكبها. وأضيف للتذكير بأن الشعب الفلسطيني يحتفظ بتقدير كبير للدور الذي قامت به القوات العراقية في فلسطين في العام 1948 في دفاعها عن بعض المناطق الفلسطينية، بالرغم من أن هذه القوات كانت مكبلة بمواقف الحكم العراقي الملكي التابع لبريطانيا آنذاك. وهناك مدفن خاص لشهداء الجيش العراقي، الذين سقطوا في هذه الحرب، قرب مدينة جنين في الضفة الغربية المحتلة، تتم زيارته بشكل منتظم وتكريم شهدائه. كما يحتفظ الشعب الفلسطيني بعرفان للجميل لكل الأشقاء العرب الذي دعموه وشاركوا في الحروب المتعاقبة في مواجهة التوسع الإسرائيلي، الذي استهدف في غالبية هذه الحروب أيضاً بلداناً عربية مجاورة.
ولا بد من الإعتذار هنا لطول الإجابة على هذا السؤال، خاصة وأن الكثير مما أوردته في الرد معروف لدى الفلسطينيين أو المتابعين للشأن الفلسطيني، ولكني أردت أن أتوجه بشكل خاص الى الأشقاء في العراق، وربما بعض الدول العربية الأخرى، الذين لا تتوفر لديهم هذه الصورة كاملة، أو لديهم مواقف متأثرة بعض الشيء بتجارب شعوبهم الخاصة مع أنظمتهم.
وفي كل الأحوال، سأحاول بأن تكون إجاباتي على الأسئلة اللاحقة مختصرة أكثر.



2- موضوعة المرأة واستلاب إنسانيتها وحقوقها موضوعة كبيرة ولكن قلما نلاحظ أن هذه المسألة تأخذ حجمها الطبيعي والملح في أطروحات اليساريين واليسار العربي ،ما تعليلكم لهذا؟

** من الصعب إصدار حكم في هذا الصدد على كل مكونات اليسار العربي بمجمله. ولكن، بالتأكيد، هناك جهد متواصل على صعيد الدفاع عن حقوق المرأة في العديد من الأحزاب والقوى اليسارية العربية التي لديّ اطلاع على برامجها وأفكارها ونضالاتها. وهناك بعض الحالات التي وصلت فيها المرأة الى موقع المسؤولية الأولى: وأشير هنا، على سبيل المثال لا الحصر، الى نموذج المناضلة اليسارية الجزائرية لويزا حنون التي تقدمت لترشيح نفسها في الإنتخابات الرئاسية عامي 2004 و2009، وكذلك الى المناضلة عبلة أبو علبة التي تم انتخابها مؤخراً مسؤولة أولى عن أحد الأحزاب اليسارية الأردنية، حزب الشعب الديمقراطي. وهناك نساء غيرهما لعبن، وما زال بعضهن يلعب، أدواراً قيادية في عدد من الأحزاب والحركات اليسارية والتقدمية العربية، ومنها قوى فلسطينية. ومن الطبيعي، بالرغم من ذلك، أن يتم اعتبار المستوى الحالي من تطور دور النساء في قيادة القوى اليسارية العربية ومن حجم اهتمام هذه القوى بحقوق المرأة في مجتمعاتنا غير كافٍ، وأن يكون هناك تطلع الى دور قيادي أول لعدد أكبر من النساء، ليس فقط في الأحزاب، وإنما أيضاً في كل الحياة العامة لبلداننا، في الهيئات التشريعية، كما في قيادة البلد.
وهناك طبعاً شخصيات نسائية بارزة في العالم العربي في مختلف المجالات: وكنتم قد أجريتم في "الحوار المتمدن" حواراً مهماً مع المناضلة المصرية الكبيرة الطبيبة والكاتبة الطليعية نوال السعداوي، ومع غيرها. وهناك نساء عربيات بارزات في مختلف المجالات، بما في ذلك في مجالات الأدب والفنون وفي مجالات الثقافة والعلم المختلفة. وهناك، مثلاً، مخرجات سينمائيات مبدعات في مصر ولبنان وفلسطين، وغيرها من البلدان. لكن، ما زالت هناك مسافة كبيرة لا بد من قطعها لانتزاع حقوق المرأة وتحقيق تحررها الناجز، بعد قرون طويلة من التمييز والغبن والإضطهاد. فعملية انتزاع حقوق المرأة العربية وحريتها هي عملية مستمرة، وينبغي أن تكون، بالطبع، ضمن المهمات الرئيسية للقوى والحركات والأوساط اليسارية العربية.
والتأخر في انتزاع حقوق المرأة هو، بالطبع، ظاهرة عالمية وليست عربية فقط. لنتذكر أن نساء العالم لم ينتزعن حقهن في الإقتراع والترشح للإنتخابات العامة في الغالبية الساحقة من دول العالم إلا منذ بدايات القرن العشرين، وحتى، بالنسبة لبعض الدول الأوروبية، في زمن متأخر من القرن: فكما كنت قد ذكرت في مقالة سابقة، حازت المرأة في فرنسا على هذا الحق في العام 1944 فقط، وفي معظم كانتونات سويسرا في العام 1971، ولم يطبق هذا الحق في أحد كانتونات سويسرا، وآخرها، إلا في العام 1990.
ولنتذكر أن وصول أول إمرأة الى رئاسة اية حكومة في العالم المعاصر لم يحدث سوى قبل نصف قرن، وهي سيريمافو باندارانايكه، التي أصبحت رئيسة حكومة سريلانكا في العام 1960. وثاني إمرأة تتولى هذا الموقع كانت آسيوية أيضاً وهي إنديرا غاندي، التي أصبحت رئيسة حكومة الهند في العام 1966. أما أوروبا، فكان عليها أن تنتظر حتى العام 1979 حتى تكون لديها أول رئيسة حكومة، وهي البريطانية مارغريت ثاتشر. طبعاً، الأمور تطورت كثيراً منذ ذلك الحين في أوروبا، وهناك العديد من النساء في مواقع المسؤولية الأولى في البلدان الأوروبية، وهناك عدد من الدول الأوروبية التي لديها تمثيل قوي للنساء في مجالسها النيابية وفي حكوماتها. ولكن ليس ذلك هو الحال في كل البلدان الأوروبية، حيث ما زالت هناك بلدان أوروبية رئيسية ما زال تمثيل النساء في هيئاتها التشريعية ضعيفاً.
أما الولايات المتحدة، فلم تعرف حتى الآن أية رئيسة للدولة، وإن كان التمثيل النسائي في هيئاتها التنفيذية تحسن قليلاً في العقدين الأخيرين. وللمفارقة، نذكر أن التجربة السوفييتية التي دامت أكثر من سبعة عقود، وبدأت بإعطاء المرأة حق الإقتراع والترشيح في العام 1918 قبل العديد من الدول الرأسمالية المتطورة، لم تشهد حضوراً قوياً للمرأة في الهيئات المسؤولة الأولى، حيث لم يتم اختيار أية إمرأة كأمينة عامة للحزب أو رئيسة حكومة أو رئيسة دولة طوال هذه التجربة، وإن كانت ألكسندرا كولونتاي أول إمرأة في العالم تصبح سفيرة ممثلة لبلدها في بلد آخر، وذلك في العام 1923. أما في العقدين الأخيرين، فهناك حالات قيادية نسائية أولى في أحزاب يسارية جذرية في عدة بلدان أوروبية، مثل الحزب الشيوعي اليوناني والحزب الشيوعي الفرنسي، دون أن ننسى الحالة التاريخية البارزة المبكرة للقائدة اليسارية والمفكرة المتميزة، البولونية- الألمانية روزا لوكسمبورغ، وهي أحد أبرز مؤسسي الحزب الشيوعي الألماني في العام 1918.
وهناك، طبعاً، ظاهرة وصول النساء الى مواقع المسؤولية الأولى في عدد من دول أميركا اللاتينية في العقدين الأخيرين، وخاصة منذ أوائل القرن الجديد. لكن لا بد من التركيز على التميز الآسيوي على هذا الصعيد، والذي شمل بلداناً ذات أغلبية مسلمة، مثل بنغلاديش الفقيرة، التي كانت فيها خلال العقدين الأخيرين إمرأتان تسيطران عملياً على الحياة السياسية، إحداهما رئيسة للحكومة والأخرى زعيمة للمعارضة. وهناك بنظير بوتو في باكستان، وتانسو تشيلر في تركيا في التسعينيات الماضية. أما لماذا لم يتحقق ذلك ولم تصل أية إمرأة الى مواقع المسؤولية الأولى حتى الآن في العالم العربي، فهو ما يحتاج الى دراسة وتدقيق، خاصة وأن البلدان الثلاثة الأخيرة التي أوردناها هي، كما ذكرنا، بلدان ذات أغلبية مسلمة، وبعضها أقل تطوراً ثقافياً واجتماعياً من عدد من البلدان العربية.
يبقى أن نقول أنه، كما حصل في بلدان أخرى، فإن نضال النساء أنفسهن يلعب دوراً كبيراً في انتزاع حقوقهن واحتلال دورهن المستحَق في كافة مجالات العمل والنشاط المجتمعي والقيادي وفي تجاوز الغبن اللاحق بهن في مجتمعاتنا، وهو غبن متفاوت بين بلد عربي وآخر. وفي الوقت ذاته، لا شك أن النضال العام من أجل تحرر بلدان المنطقة وتطوير مجتمعاتها، على كافة الصعد، هو أرضية عامة تسهم بقوة في تقدم أوضاع المرأة في المنطقة العربية بمكوناتها القومية والإثنية والدينية المتنوعة.


3- هل تعتقد أن الاحتكام إلى صندوق الاقتراع الان في بعض البلدان العربية ذات الحد الأدنى من الديمقراطية ممكن أن يكون ذو فائدة للديمقراطية ولليسار العربي على وجه الخصوص؟ حيث خرجت قوى للاسلام السياسي غالبة القوى اليسارية والعلمانية بمختلف تياراتها , حائزة على الشرعية ما يعطيها مساحة أوسع للحركة والمناورة والتأثير، وكيف يمكن لقوى اليسار التعامل مع هذه الحالة؟


** هناك في حالات كثيرة اختزال للديمقراطية في العملية الإنتخابية السياسية وحدها، وهي عملية ليست محكومة، في حالات كثيرة، بمضمون ديمقراطي حقيقي. ففي قلعة "الديمقراطية" الرأسمالية، الولايات المتحدة، يتحكم المال بالعملية الإنتخابية في كل المجالات، سواء بالنسبة للرئاسة أو مجلسي النواب والشيوخ أو رئاسة الولايات وهيئاتها التشريعية: فالتمويل هو الذي يقرر، في معظم الحالات، نتيجة الإنتخابات، وبالتالي، فالممولون هم الذين ينتخبون فعلاً، أي انهم "ناخبون كبار"، وفق التعبير الذي يستخدم في الولايات المتحدة في مجال آخر. والطريف أن غالبية أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب هم، عادةً، من أصحاب الملايين، وهذا ما لا يشكل، بالتأكيد، تمثيلاً لواقع قطاعات الشعب المختلفة. فالقطاعات الشعبية الواسعة يكون دورها في العمليات الإنتخابية، هكذا، أقرب الى الديكور، وهو ما يجعل نسبة عالية منها تمتنع عن المشاركة في العملية الإنتخابية. وفي بعض الحالات وصلت نسبة الإمتناع عن المشاركة الى زهاء الثلثين من المقترعين المفترضين. وهي مسألة قام العديد من المثقفين اليساريين والمتنورين الأميركيين بتوضيحها بالتفصيل والأرقام. كما أوضحوا هيمنة أصحاب الثروات والشركات الكبرى على "اللوبيات" المؤثرة على القرار السياسي والإقتصادي، وكذلك على وسائل الإعلام والتأثير الجماهيري الرئيسية هناك.
ولذلك من المثير للإستغراب إدعاء الولايات المتحدة، التي لديها مثل هذا النظام السياسي العجيب، بأنها تعمل على "نشر الديمقراطية" في أنحاء العالم، أو إنها قامت، مثلاً، باحتلال العراق وأفغانستان لتحقيق هذا الهدف... وكأنها جمعية خيرية، وليست نظاماً تتحكم به وبهيئاته التنفيذية والتشريعية ومراكز القرار السياسي والإقتصادي فيه تكتلات إقتصادية ومالية كبرى تستخدم جهاز الدولة وجيشها لتحقيق مصالحها.
وقد كتب العديد من المثقفين والباحثين المستنيرين الأميركيين عن الأهداف الحقيقية لاحتلال العراق (وأفغانستان)، ولمجمل السياسات التوسعية الأميركية، العسكرية وغير العسكرية، أي عبر الضغوط أو ما بات يسمى بـ"القوة الناعمة" أو "القوة الرخوة". وبالإمكان المقارنة مع بعض "تدخلاتها" الماضية، مثل احتلالها لليابان بعد الحرب العالمية الثانية، ولكوريا الجنوبية بعد الحرب الكورية في مطلع الخمسينيات، حيث عملت على دعم تطور البلدين إقتصادياً لحسابات لها علاقة بالـ"حرب باردة" ووجود النماذج المجاورة لأنظمة التحول الإشتراكي. ولكن هناك العديد من البلدان التي سيطرت عليها الولايات المتحدة عسكرياً ولم تعمل على تطويرها إقتصادياً واكتفت باستغلال ثرواتها وأيديها العاملة وربطها بالإقتصاد الأميركي. ويمكن هنا ذكر الفيليبين، التي احتلتها الولايات المتحدة في العام 1898، وكذلك بلدان أميركا اللاتينية وبحر الكاريبي، التي كانت تسمى بـ"حديقة الولايات المتحدة الخلفية". والمنطقة الأخيرة تشمل دولة هاييتي القريبة جداً من شواطئ الولايات المتحدة، والتي تعد حالياً من بين أفقر دول العالم.
لذلك، نحن كيساريين، لسنا معنيين بهذا النمط من الديمقراطية الشكلية، وإنما بديمقراطية شعبية حقيقية تخدم مصالح الشعوب وتعبر عن تطلعاتها. وبما ان تطلعات الشعوب تتضمن رغبتها في السيطرة على موارد بلدانها والحؤول دون استمرار استغلال القوى الخارجية لهذه الموارد، فمن الطبيعي أن الولايات المتحدة، وقبلها، والى جانبها أو وراءها الآن، الدول الإستعمارية الأوروبية القديمة، لا ترغب بمثل هذا النوع من الديمقراطية. وهو النوع الذي تسعى التجارب اليسارية الجديدة في أميركا اللاتينية الى ممارسته.
لنتذكر ماذا فعلت الولايات المتحدة وبريطانيا عندما قام محمد مصدق، رئيس حكومة إيران الشرعي في مطلع الخمسينيات الماضية، بتأميم النفط الإيراني. جرى التدخل المباشر من قبل الدولتين وأجهزتهما للتخريب عليه والإطاحة بنظامه وإعادة الشاه محمد رضا بهلوي الى السلطة في العام 1953 باعتباره رجلاً متواطئاً ومطواعاً، ومن ثمّ جرى إلغاء تأميم الشركة النفطية في إيران. وتم التغاضي بعد ذلك من قبل كافة الإدارات الأميركية المتعاقبة عن البطش والقمع الدمويين اللذين مارسهما نظام الشاه طوال ربع القرن اللاحق. وعندما "أخطأ" جيمي كارتر، الرئيس الأميركي في أواخر السبعينيات الماضية، ووجه انتقادات خفيفة لتجاوزات حقوق الإنسان في إيران، تم اعتباره رجلاً "ساذجاً" وجرى الحؤول بينه وبين تجديد رئاسته لولاية ثانية في العام 1980، والمجيء مكانه بواحد من الرؤساء الأكثر يمينية في تاريخ الولايات المتحدة المعاصر، رونالد ريغن. وكانت إيران قد شهدت في هذه الأثناء، أي في زمن رئاسة كارتر، ثورة شعبية هائلة، تمت فيها الإطاحة بنظام الشاه والإنتقام من قبل الشعب الإيراني للإنقلاب الذي قام به الأميركيون والبريطانيون في الخمسينيات. وبما ان القوى اليسارية الإيرانية كانت تتعرض للقمع والملاحقة، وكذلك أنصار محمد مصدق وتياره الوطني الإستقلالي، ليس فقط من قبل شاه إيران ونظامه وإنما أيضاً من قبل الولايات المتحدة وأجهزتها، فقد نمت المعارضة الأكثر تنظيماً داخل البلد في المساجد وتحت مظلة رجال الدين، الذين لم تكن تعيرهم الأجهزة الأميركية الاهتمام الكافي في تلك الحقبة.
طبعاً، الوضع تغير الآن، بعد غياب الإتحاد السوفييتي، الذي كان وجوده و"الحرب الباردة" عليه المبرر لتشديد ملاحقة القوى اليسارية في إيران كما في المنطقة العربية وسائر أنحاء العالم، حيث أصبحت الأجهزة الأميركية تهتم بكل الأوساط التي يمكن أن تمس أو تهدد سياساتها التوسعية ومصالحها الكونية. من جانب آخر، كما هو معروف، دعمت واشنطن بقوة "المجاهدين الإفغان" ذوي النزعة الإسلاموية المعارضين للنظام اليساري الذي سيطر على السلطة في أفغانستان في ربيع العام 1978، ومن ثمّ لتدخل القوات السوفييتية لحماية هذا النظام ومنع انهياره في أواخر العام 1979. ولكن واشنطن، من جهة أخرى، وفي العقد الأخير، دعمت الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2006، بل هي التي حرّضت على هذه الحرب، لتوجيه ضربة لقوى المقاومة في لبنان، وبشكل خاص لـ"حزب الله"، القوة التي تنامت في العقدين الأخيرين في لبنان، وباتت خصماً قوياً لإسرائيل والولايات المتحدة على حد سواء، وتعتبرها الإدارات الأميركية حليفاً مهماً لإيران على حدود دولة هي حليفة وثيقة لواشنطن.
إذاً، الإدارات الأميركية ليست مع أو ضد هذا الطرف السياسي، الديني أو غير الديني، في منطقتنا أو غيرها من المناطق. هي مع مصالحها، مصالح شركاتها واحتكاراتها الكبرى، أولاً وأخيراً، وعلى أساسها تحاكم هذه القوة أو تلك، ترعاها وتدعمها، أو تحاربها وتؤلب عليها.
وفي عودة للسؤال المطروح، من المهم بالنسبة للقوى والتيارات اليسارية في المنطقة العربية كشف زيف إدعاءات الديمقراطية من قبل الولايات المتحدة وامتداداتها المحلية، والعمل على طرح مشروع ديمقراطي حقيقي بديل. ويمكن أن يقوم مشروع كهذا على التركيز على أهمية ضمان حرية التعبير والمعتقد واحترام كافة الحريات الديمقراطية بمضمونها الحقيقي، وتشجيع تنامي مكونات المجتمع المدني، أي الأحزاب والقوى المنظمة والنقابات، المستقلة عن الخارج وعن مراكز الهيمنة الإقتصادية المحلية، والمعبرة عن مصالح شرائح وقطاعات المجتمع، والهيئات المجتمعية المختلفة المدافعة عن قضايا فئات الشعب الواسعة، عن قضايا المرأة والطفولة والتعليم والصحة والبيئة، والعاملة على محاربة الفقر والجوع والجهل.
ويتضمن مشروع كهذا طرح صيغ للممارسة الديمقراطية المباشرة بالعودة المستمرة الى الشعب في مختلف القضايا التي تهم حياته، وليس كل أربع أو خمس سنوات عبر انتخاب هيئات تمثيلية محدودة العدد ويمكن التأثير بسهولة على أعضائها من قبل مراكز الضغط النافذة، كما هو الحال في الولايات المتحدة. وهذا ما يتطلب إتاحة الفرصة لقيام تشكيلات محلية منتخبة على مستوى القرية أو الحي ومكان العمل، ومن خلال اعتماد الإستفتاءات في القضايا الهامة، بما في ذلك الإستفتاءات الخاصة بالقضايا المحلية أو المتعلقة بمنطقة معينة من البلد، الى جانب الإستفتاءات الوطنية في القضايا الأساسية. وهذه الصيغ للديمقراطية الشعبية الفعلية هي قيد التداول والتطبيق في بعض بلدان أميركا اللاتينية في السنوات الأخيرة.
أما إذا برزت القوى ذات الطابع الديني أو السلفي في المراحل الأولى من ممارسة العمليات الإنتخابية، وهذا يعود إما الى الإضطهاد والتغييب اللذين تعرضت لهما قوى اليسار في الماضي من قبل الولايات المتحدة والأنظمة المتحالفة أو التابعة لها والمرتبطة بسياساتها، أو لقصور في برامج هذه القوى وأساليب عملها وتعاطيها مع القطاعات الشعبية، فليس من المنطقي الإعتراض على ذلك. فالأمر يحتاج الى طول نفس من قبل القوى اليسارية والعمل على تصحيح أشكال الخلل لديها أولاً.
طبعاً، لا ننسى أن السياسات الإحتلالية الخارجية أو ممارسات الشرائح الفاسدة الداخلية هي التي تدفع قطاعات واسعة من الشعب الى أحضان الطائفة أو القبيلة والعشيرة "الدافئة والطبيعية"، والأسهل اختياراً بحكم الروابط التقليدية. وعلى قوى اليسار، بنفس طويل، أن تعمل على إبراز كون الخيار اليساري هو "الحضن الدافئ" الحقيقي، والموحد للشعب بكل تكويناته القومية والإثنية والدينية، والمدافع عن مصالح الشعب وعن ضرورة انتزاعه لسيادته الكاملة على ثرواته الطبيعية ومقدراته وتسخيرها لصالح تطوير أوضاعه ومستوى معيشته. خلافاً لسياسات القوى اليمينية التي لا تسعى إلا لتحقيق ثراء وسطوة شريحة صغيرة من أصحاب النفوذ والمال، المتواطئين عادةً مع القوى الخارجية، وخلافاً للسياسات التي تدعو عملياً الى الهروب من مواجهة الواقع الفعلي نحو حلول غيبية أو ماضوية.
وهناك كلمة أعتقد أن استخدامها مفيد في هذا السياق، وهي كلمة الإبداع. فكما فعل اليساريون في أميركا اللاتينية، لا يفيد اليسار شيئاً أن يتوقف عند التحسر على الأيام الماضية، وعلى انهيار الإتحاد السوفييتي، وعلى المراحل التي كان فيها لبعض اليسار العربي حضور قوي في هذا البلد العربي أو ذاك. بل عليه أن يبحث عن أساليب عمل جديدة لاستقطاب الجمهور الواسع واستعادة ثقة الشعب، بحيث يتم بشكل تدريجي تجاوز الإنحيازات الغريزية باتجاه الدين أو الطائفة أو الإثنية أو القبيلة والعشيرة.
وبالطبع، ليس في جعبة أحد أية حلول سحرية وعامة صالحة لكل زمان ومكان. فكل طرف يساري من المفروض أن يتعمق في فهم واقع بلده وشعبه ويشتق الطرق المناسبة لتجديد حضوره في وسط القطاعات الشعبية، قطاعات الشغيلة والمسحوقين، التي يفترض أنه يدافع عن مصالحها. والتضامن بين كافة قوى اليسار على المستوى الإقليمي، أي أوسع من البلد الواحد، هو بالتأكيد عامل مهم للإستفادة من تجارب أطرافها المختلفة. وإذا كان من قلة حظنا أن ليست لدينا مرجعية إقليمية للتشاور معها على غرار دور كوبا في أميركا اللاتينية، فبإمكاننا، كيساريين، في كل بلد عربي وغير عربي أن نقيم أشكالاً من التشاور والتنسيق على مستوى إقليمي، بما يساعد على الإستفادة من خبرات ودروس كل طرف وكل تيار، ومن تجارب الماضي.
ومن المؤكد أن اليسار يحتاج أيضاً الى بناء تحالفات داخل كل بلد مع مختلف القوى التحررية والوطنية الإستقلالية لتحقيق أهداف مرحلية معينة متفق عليها، مع الحفاظ على خصوصية برنامجه واستقلاله التنظيمي في إي إطار جبهوي. فالمهمة الأولى لقوى اليسار ومجمل القوى الوطنية التحررية في منطقتنا هي إنهاء كل أشكال الإحتلال المباشر أو غير المباشر والوصول الى وضع تكون فيه ثروات كل بلد ومقدراته بيد شعوبه، وتأمين تنمية داخلية لصالح قطاعات الشعب الواسعة وليس لصالح شريحة محدودة أو مصالح أجنبية.
طبعاً، هذا برنامج طموح وليس سهل التحقيق، ولكن لا بديل عنه في المرحلة التي تمر بها منطقتنا. وقد سبق لقوى يسارية في المنطقة أن طرحت مثله.


4- في ظل الأزمة العالمية وازدياد الهوة بين الفقراء والأغنياء لاحظنا نمو مضطرد لقوى اليسار في أمريكا اللاتينية وعلى العكس تماما تراجع لليسار العربي ،الى ما تعزوا ذلك؟ وهل لماهية الدين ودوره سبب أساسي في هذا الفارق؟


** هناك أسباب عديدة لتقدم قوى اليسار في أميركا اللاتينية، وعدم وجود تقدم مشابه، ليس فقط في المنطقة العربية، وإنما في مناطق العالم الأخرى، بشكل عام، بما في ذلك في معظم القارة الأوروبية.
فقد شهد اليسار الجذري، أي المناهض للرأسمالية والإمبريالية، في القارة الأوروبية، مثلاً، تراجعاً متواصلاً منذ بداية الثمانينيات وبدء الهجمة "الليبرالية الجديدة" على قوى اليسار والنقابات في أوروبا الغربية والولايات المتحدة. وزاد هذا التراجع في التسعينيات بعد انهيارات تجارب التحول الإشتراكي في أوروبا الشرقية والإتحاد السوفييتي، وهجمات "نهاية التاريخ" الأيديولوجية التي رافقتها. ومنذ مطلع القرن الجديد، لم تظهر بوادر لنهوض ملموس ومتجدد لليسار الأوروبي، باستثناءات قليلة تحتاج الى مزيد من المتابعة، مثل تجربة حزب اليسار في ألمانيا. صحيح أن اليسار الجذري حافظ على حضور ملموس له في بلدان مثل اليونان والبرتغال وتشيكيا وقبرص، ولكنه بقي محدود الحضور في بلدان كان اليسار فيها قوياً في مراحل تاريخية سابقة مثل فرنسا وإيطاليا، وهما بلدان لاتينيا اللغة، كما هو معروف. لذلك، لا تبدو هناك أية علاقة للدين في ضعف تقدم اليسار في هذه المنطقة أو تلك. فالدين المنتشر في أميركا اللاتينية هو نفسه الموجود في بلدان مثل فرنسا وإيطاليا وإسبانيا. ربما، مع الزمن، ومع إجراءات التقشف الحكومية التي يتم تطبيقها في الآونة الأخيرة على حساب القطاعات الشعبية، ومع نهوض الحركة النقابية في بلدان مثل فرنسا واليونان وغيرهما على أرضية الأزمة الإقتصادية الرأسمالية المستمرة، يمكن أن تظهر هناك آفاق جديدة لنهوض يساري. خاصة وأن الجدل الفكري حيوي جداً في هذه البلدان وفي عموم البلدان المتطورة إقتصادياً وبعض بلدان "العالم الثالث".
أما أميركا اللاتينية، التي شهدت في العقد الأخير صعوداً مثيراً لليسار، بتلاوينه المختلفة، بما في ذلك اليسار الجذري، فتتوفر لديها عوامل تمايز عدة مقارنة بالمنطقة العربية وبمناطق أخرى في العالم، سبق واستعرضناها في مقالات سابقة منشورة على هذا الموقع. لكن يمكن الإشارة الى بعض الجوانب بشكل مكثف لإبراز أسباب القصور أو التأخر في المنطقة العربية والشمال والشرق إفريقية والشرق متوسطية.
ففي أميركا اللاتينية، لم تنقطع عملياً حركات التمرد والثورات متعددة الأهداف طوال القرنين الأخيرين، واتخذت معظم هذه الحركات طابعاً أكثر وضوحاً يسارياً بعد ثورة أكتوبر 1917 الروسية. وبات لها، منذ زهاء نصف القرن، مرتكز محلي حافظ تاريخياً على درجة معينة من الإستقلالية تجاه المركز السوفييتي، والمقصود المرتكز الكوبي، بحيث لم يقد انهيار التجربة السوفييتية الى انهياره، كما حدث مع تجارب أوروبا الشرقية. فالثورة الكوبية التي انتصرت في مطلع العام 1959 كانت مزيجاً من ثورة وطنية تحررية ضد النفوذ الإمبريالي الأميركي وفساد الطغمة الحاكمة المحلية التابعة له ومن مشروع يساري له سماته الخاصة، وإن كان اتجه، بعد بعض الجدل لدى بعض قادته، الى التحالف مع الإتحاد السوفييتي.
أما في منطقتنا العربية، وبالرغم من أن بعض قوى اليسار كان لها حضور قوي في مراحل تاريخية معينة في بعض البلدان، ومن ولوج بلد عربي، صغير وفقير في آن واحد، هو اليمن الجنوبي، في محاولة بناء تجربة يسارية جذرية، انتهت، للأسف، في ظروف مأساوية، وتأثرت مباشرة بانهيار الإتحاد السوفييتي، فلا يوجد حالياً مرجع إقليمي لليسار يمكن أن يدعم عمليات الإستنهاض في عموم المنطقة، كما تفعل كوبا في القارة اللاتينية.
وربما كان من نقاط ضعف منطقتنا، ومناطق أخرى في العالم، أنها ارتكزت كثيراً في الماضي على الدعم الخارجي، سواء بالنسبة لليسار، الذي اعتمد بشكل رئيسي على المركز السوفييتي، أو بالنسبة للقوى الأخرى، اليمينية أو الوسطية، التي راهنت، وما يزال معظمها، على دول غربية. وكانت هناك طبعاً بعض التجارب الوطنية التحررية الشجاعة، كمعركة تحرر الجزائر وغيرها من بلدان المنطقة، بما في ذلك حركة تحرر الشعب الفلسطيني الراهنة المستمرة. ولكن، في حالات عدة، تمكّن الإستعمار الجديد، وخاصة الأميركي، من مدّ خيوطه ليعود من النافذة بشركاته ونفوذه الإقتصادي وتدخلاته السياسية، بعد أن كان الإستعمار القديم، الأوروبي خاصة، قد خرج، ولو شكلياً، من الباب. ففيما ترتخي قبضة الولايات المتحدة على القارة اللاتينية، تزداد قوة سيطرتها على المنطقة العربية والهيمنة على مقدراتها منذ السبعينيات الماضية بشكل خاص.
ولا بد هنا من الإشارة الى عنصر هام من خلفيات هذه السطوة الإمبريالية، الأميركية بالدرجة الأولى في عصرنا، وهو كون المنطقة العربية والشمال والشرق إفريقية والشرق متوسطية منطقة غنية بمصادر الطاقة، وتحديداً بالنفط والغاز الطبيعي، بحيث تحتوي على نسبة عالية من الإحتياطي المكتشف لهاتين المادتين في العالم. صحيح أن منطقة الخليج هي الأغنى والأوفر حظاً، لكن هناك شمال إفريقيا أيضاً، الجزائر وليبيا، وهناك مؤخراً السودان، حيث الإكتشافات النفطية المثيرة لاهتمام الشركات الغربية الكبرى، خاصة وأن القوى العالمية الصاعدة الجديدة هي التي دخلت على خط هذه الإكتشافات، وفي المقدمة الصين. ولكون المنطقة بهذه الأهمية الإستراتيجية في مرحلة استمرار غلبة استهلاك النفط والغاز الطبيعي على مصادر الطاقة الأخرى، فإن القوى الإمبريالية الرئيسية استهدفت القوى اليسارية في هذه المنطقة بشراسة خاصة، حيث كانت تعتبرها امتداداً للخصم السوفييتي ابان "الحرب الباردة"، وكذلك استهدفت القوى والحركات التحررية الإستقلالية مثل تجربة محمد مصدق في إيران وتجربة جمال عبد الناصر في مصر والمنطقة العربية، وغيرهما.
ووجود قوة ضاربة محلية، مثل الحليف الإسرائيلي المتمتع بدعم إقتصادي وتسليحي غير محدود من قبل الولايات المتحدة، هو عامل مساعد في هذه العملية. لكن الولايات المتحدة وجدت بعد الثورة في إيران في العام 1979 وخسارة حليفها شاه إيران، الذي اعتمدت عليه كثيراً في ضبط منطقة الخليج عسكرياً والتأثير على حركة أسعار النفط من خلال دوره في منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك"، حاجة الى التدخل التدريجي المباشر من قبلها. فبدأت بتوريط العراق وإيران في حرب دموية مدمرة طوال الثمانينيات، ثم أدخلت قواتها على نطاق واسع الى منطقة الخليج تحت يافطة تحرير الكويت من القوات العراقية منذ النصف الثاني من العام 1990، وصولاً الى احتلال العراق في العام 2003. وهذا، في وقت لم يعد هناك وجود للخصم اللدود في "الحرب الباردة"، الإتحاد السوفييتي، ولكن هناك شبح القوة الصاعدة، الصين، التي أخذت توسع حضورها الإقتصادي والتجاري في أنحاء العالم، وصعود عدد من الدول الأخرى في آسيا وأميركا اللاتينية، وبدايات تراجع القوة النسبية للولايات المتحدة على الصعيد العالمي.
من المهم هنا أن نشير الى أن مقتل اليسار الجذري في تجارب عالمية عديدة كان الإرتباط التابع من موقع الضعف سواء بالطرف المسيطر على السلطة في البلد المعني أو بطرف معارض قوي آخر. هذه القاعدة صالحة في منطقتنا، كما في مناطق أخرى من العالم: فقد بدأ العد التنازلي لقوة الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي كان له حضور شعبي وانتخابي بارز في فرنسا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى أوائل الثمانينيات، عندما قرر المشاركة في حكومة فرانسوا ميتيران (يسار الوسط) الأولى في العام 1981 من موقع محدود التأثير، وهي مشاركة اضطر الى وقفها بعد ثلاث سنوات لتلمسه لحجم التأثير السلبي عليه في العمليات الإنتخابية، خاصة في ظل سياسات التقشف ثم تطبيقات "الليبرالية الجديدة" التي بدأ ميتيران بممارستها. وكذلك الأمر بالنسبة للتيارات اليسارية الجذرية في إيطاليا التي شاركت من موقع الضعف في حكومات يسار الوسط في التسعينيات الماضية ومطلع القرن الجديد. وهكذا تحول الحزبان الشيوعيان الكبيران بين الأربعينيات ومطلع الثمانينيات في هذين البلدين الأوروبيين الى قوتين محدودتي التأثير.
وقد يكون مثل هذه السياسات في منطقتنا أفدح، لأن الأنظمة الحاكمة في حالات كثيرة هي أنظمة تابعة و(أو) منخورة بالفساد بأشكاله المختلفة، مما يجعل نظرة القطاعات الشعبية الواسعة تجاهها شديدة السلبية، ويؤثر، بالتالي، على أية قوة يسارية تتحالف معها من موقع الضعف وعدم التأثير، أو تحتمي بها وتغطي على سياساتها، وهو سلوك أسوأ طبعاً من حيث النظرة الشعبية لهذه القوة. عنصر الإستقلالية بالنسبة لليسار الجذري العربي هو عنصر أساسي في تنمية دوره الإستقطابي الشعبي، وهي تشمل الإستقلالية تجاه القوى غير اليسارية في المعارضة أيضاً. وإن كان من الضروري والحيوي أن ينسج اليسار الجذري تحالفات وطنية واسعة، ما أمكن، على قاعدة مناهضة الإمبريالية وامتداداتها الداخلية والعمل على دعم توجهات سياسية واقتصادية استقلالية تدافع عن مصالح القطاعات الشعبية الأوسع.
وكما سبق وذكرنا، فإن الوضع العالمي الجديد بعد انهيار التجربة السوفييتية وغياب أي مركز أو نموذج جديد، في المنطقة أو خارجها، لما يمكن أن يكون عليه المشروع اليساري المتحقق، سيما وأن تجارب أميركا اللاتينية بعيدة، وما زالت في بداياتها في معظمها، يتطلبان إبداعاً من جانب القوى اليسارية في إيجاد روافع وأساليب عمل جديدة تعيد الثقة الشعبية بالخيار اليساري وتفتح المجال لإعادة بناء حضور ملموس ومؤثر له في منطقتنا. فالإكتفاء بتكرار خطاب الماضي وبمواصلة أساليب العمل السابقة لم يعد يجدِ، ولا بد من البحث عن مداخل عمل جديدة، وبالضرورة عن خطاب جديد، دون التخلي طبعاً عن المضمون الأساسي للمشروع اليساري، مناهضة الإحتلالات والتدخلات الإمبريالية وامتداداتها والعمل على تجاوز النظام الرأسمالي، أو الأنظمة ما قبل الرأسمالية في بعض البلدان، وإن بأفق طويل النفس ومتدرج، تتكون فيه قاعدة شعبية واسعة مؤيدة في كل مرحلة، على غرار ما يحصل مع التجارب اليسارية في أميركا الجنوبية.
ومن المهم الإشارة هنا الى كون تعاطي بعض اليسار في المنطقة العربية، وغيرها، مع التراث والتاريخ، العربي الإسلامي، ومع الثقافة والوعي الشعبي المنبثقين عن هذا التاريخ، كانت تشوبه في الماضي أحياناً نظرة إستعلائية تغريبية منبثقة عن فهم مشوه للماركسية، كانت تقوم على اعتبار أن لا شيء تقريباً مهم في التاريخ ما قبل الماركسي، ولا اغتناء معرفياً بعد تبلور الماركسية إلا من خلال الإشتقاقات النابعة منها، وخاصة تلك الإشتقاقات الرسمية خلال المرحلة السوفييتية. هذه النظرة هي، في الجوهر، وللمفارقة، تتعاطى عملياً مع الماركسية، أو الماركسية – اللينينية، كدين جديد وعقيدة "معلبة"، لها كتبها المقدسة، ومرجعياتها المنزهة عن الخطأ، وحتى طقوسها ولغتها "الخشبية"، كما يقال. وفي منطقتنا، قادت هذه النظرة قوى اليسار، أو عدداً منها على الأقل، الى ترك قضية التاريخ والتراث والثقافة الشعبية لتكون حكراً على قوى اليمين والسلفية، ودفعتها بالتالي الى عدم إيلاء الإهتمام الضروري لفهم خصوصية مجتمعاتنا، ببعدها التاريخي والحضاري، والمداخل المؤثرة المنطلقة من هذا الفهم في عملية تغييرها باتجاه المشروع اليساري. ومن الواضح أن التجارب التي نجحت وصمدت كتجارب آسيا الشرقية وتجربة كوبا كانت أكثر إنغراساً في تاريخ وثقافة شعبها، أي انها اعتمدت التغيير من مداخل مفهومة للقطاعات الشعبية وصالحة لاستقطابها وتعبئتها. ومن المفيد هنا الإشارة أيضاً الى الإهتمام الذي أعطاه القائد والمفكر الإيطالي اليساري البارز انتونيو غرامشي في كتاباته للثقافة الشعبية وللواقع الملموس للوضع الإيطالي وخلفيته التاريخية والمجتمعية.

5- كيف ترى وضع اليسار عالميا وعربيا؟ وهل هناك أفق لانبعاث جديد؟


** بات من الواضح الآن، بعد عقدين على انهيار الإتحاد السوفييتي وتجارب أوروبا الشرقية والجنوبية الأخرى في التحول الإشتراكي، واستطراداً لما سبق وذكرناه، ان هذه الإنهيارات لم تكن نهاية المطاف بالنسبة للمشروع اليساري وللأفق الإشتراكي في العالم.
فها قد انهارت كل إدعاءات منظّري النظام الرأسمالي في مطلع التسعينيات الماضية بأن هذا النظام الرأسمالي يشكّل، إقتصادياً وسياسياً، "نهاية التاريخ" ومنتهى الكمال والإستقرار، وذلك مع انفجار الأزمة الإقتصادية الرأسمالية العالمية في العامين 2007-2008، والتي لا زالت معظم الدول الرأسمالية تتخبط فيها ولا تتمكن من الخروج منها. وحتى إذا تمكنت من الخروج منها، كما فعلت في مراحل تاريخية سابقة، وأمام أزمات أقل حدة أو حتى أمام أزمة 1929 والثلاثينيات الماضية الكبرى الأشد حدةً، فهي لن تتأخر في العودة الى مواجهة أزمات جديدة ناجمة عن التناقضات الكامنة في ما آل إليه النظام الرأسمالي في مراحله الأكثر مركزة للثروة ورأس المال، والأكثر اعتماداً على نهب القطاعات الشعبية، في العقود الأخيرة: فعلى سبيل المثال، يجمع حتى المحللين الإقتصاديين اليمينيين أنه حتى لو جرى تجاوز الأزمة الراهنة، فإن مشكلة البطالة ستبقى قائمة لفترة زمنية طويلة، ومن الصعب جداً تقليص حجمها. وهذا هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة التي اقتربت نسبة البطالة الرسمية فيها من الـ 10 بالمئة من القوة العاملة، وفي واقع الأمر، إذا تم احتساب أولئك الذين يئسوا من تسجيل أنفسهم لطلبات العمل أو أولئك الذي يقومون بعمل جزئي لا يوفر لهم احتياجاتهم الحياتية العادية، فإن النسبة الفعلية للبطالة تتضاعف.
وعموماً، فيما ثروات كبار الأغنياء تواصل تناميها، حتى في ظل الأزمة، فإن الفقر يزحف ويضم الى صفوفه ملايين إضافية من الشغيلة وحتى مما يسمى بالطبقات الوسطى. وفي أوروبا، تصل نسب البطالة الرسمية في بعض البلدان، مثل إسبانيا، الى أكثر من 20 بالمئة من قوة العمل، مما أوجد هناك أيضاً مستويات أوسع من الفقر. أما الفقر في "العالم الثالث"، المستنزفة ثرواته منذ عدة قرون، وخاصة في إفريقيا وبعض بلدان آسيا، بما في ذلك بعض الدول العربية، فحدث ولا حرج: رئيس البنك الدولي نفسه، الأميركي روبيرت زوليك، تحدث مؤخراً عن تزايد غير مسبوق لنسب الفقر في العالم خلال سنوات الأزمة الأخيرة، بالرغم من النجاحات التي تحققها بعض البلدان التي حافظت على نسب نمو عالية في السنوات الأخيرة مثل الصين وفييتنام والبرازيل وغيرها.
ألا يوفر هذا الوضع الشرط الموضوعي الأهم لاستعادة اليسار الجذري، الداعي الى تجاوز النظام الرأسمالي، وإن على مراحل وبإجراءات متدرجة، لدوره الفاعل والمؤثر، في منطقتنا، كما في مناطق العالم الأخرى؟ طبعاً. ولكن الشروط الذاتية، أي الجاهزية وتوفر الإطر التنظيمية الملائمة والقدرة على استقطاب القطاعات الشعبية المفقرة والمتضررة، وابتداع أشكال العمل الجديدة المناسبة لتوسيع هذه القاعدة الشعبية باستمرار، فهذه الشروط ليست متوفرة في معظم مناطق العالم، على الأقل حتى الآن، باستثناء أميركا اللاتينية، وربما بلدان أخرى محدودة العدد.
في منطقتنا العربية والشمال والشرق إفريقية والشرق متوسطية، وبالرغم من كون بعض القوى اليسارية حافظت على توجهها الجذري ولم تتجه يميناً نحو الأفكار النابعة من نظريات "نهاية التاريخ" أو المفترضة ضمناً لصحتها، وهي قوى تُقدّر على موقفها هذا، إلا اننا لا نلمس، على الأقل حتى الآن، نهوضاً جديداً قوياً وعودة لصعود يساري والتفاف شعبي حوله. وبالرغم من كون العمليات الإنتخابية في منطقتنا تشوبها الكثير من الإشكاليات علاوة على محدودية تمثيلها الفعلي للمناخ الشعبي، إلا ان الإنتخابات التي جرت في الآونة الأخيرة في بلدان مثل لبنان والعراق والبحرين وغيرها لا تعطي الإنطباع بوجود مثل هذا الصعود.
طبعاً، هناك الكثير من الحراك الشعبي في عدد من بلدان المنطقة، بدءً بمصر، البلد الأكبر في العالم العربي، لكن ليس من الواضح بعد الى أين يمكن أن يقود، وكيف يمكن أن تؤطر هذه الحركة الشعبية. أما وضع اليمن، فالحراك الناجم هناك عن تردي الأوضاع المعيشية والحياتية يهدد حتى تماسك البلد ووحدته. وأمامنا كذلك النموذج المأساوي للصومال، الذي كان قبل عقود قليلة بلداً غنياً بالثروة الزراعية والحيوانية، وكذلك وضع السودان المهددة وحدته بسبب قصورات وأخطاء داخلية وتدخلات خارجية على حد سواء. وأمامنا العراق الذي لا زال يعاني من ذيول الإحتلال الخارجي، المستمر بأشكال متعددة ظاهرة وغير ظاهرة، ومن التناقضات والإنقسامات التي خلّفها في صفوف الشعب، بمكوناته المختلفة، القومية والدينية والمذهبية، والتي كان من الممكن أن تكون مصدر غنى له، وهو البلد الذي ورث بعض أهم الحضارات الأولى المعروفة في تاريخ البشرية. وهناك، طبعاً، الوضع الفلسطيني المأساوي وغياب الأفق في الأمد المرئي. وهناك المشكلة المستمرة في المغرب الغربي بشأن الصحراء الغربية. أما الإفقار المتزايد للقطاعات الشعبية الواسعة في معظم هذه البلدان فلم يَصُبّ بعد باتجاه تنمية وعي سياسي شعبي واسع لصالح الخيار اليساري، وربما، في حالات كثيرة، بسبب عدم جاهزية القوى اليسارية الموجودة لإيجاد الصيغ الإستقطابية المناسبة. مما ترك المجال أمام البدائل الأخرى، وخاصة البدائل الدينية والقبلية- العشائرية، طبعاً الى جانب تسليم قطاعات شعبية واسعة، من منطلق الإحباط، بالقدر وبالبطش الحكومي، المدعوم في معظم الحالات من قبل القوى الخارجية ذات المصلحة في بقاء هذه الشرائح الحاكمة التابعة لها في مواقع القرار والسلطة.
في أوروبا، هناك تحركات عمالية وشبابية وهناك حراك فكري هام. لكن، حتى الآن، كما ذكرنا أعلاه، لم نشهد صعوداً ملموساً لبديل يساري يحظى بالتفاف شعبي واسع في معظم بلدان القارة، التي تشهد بعضها، بالمقابل، نمواً لتيارات فاشية وعنصرية، تستوعب الغضب الشعبي وتوجهه نحو خصم داخلي أو خارجي مفتعل، وهو ما سبق وحصل ابان الأزمة الكبرى السابقة في ثلاثينيات القرن الماضي. علينا ربما أن ننتظر بعض الوقت لنشهد التغيرات المنشودة، دون أن نغفل أن بنى الإتحاد الأوروبي والترابط الأطلسي مع الولايات المتحدة هي عوامل كابحة وضابطة لأي تحرك شعبي قوي بهذا الإتجاه، وهو ما رأيناه مع اليونان، وبلدان أخرى.
طبعاً، تجربتا الصين وفييتنام للتنمية المتسارعة وفق صيغة من إقتصاد السوق المفتوح نسبياً مع الإحتفاظ بدور مركزي للدولة على صعيد السلطة السياسية ودور القطاع العام هما تجربتان مثيرتان من حيث نسب النمو التي تحققانها. ونأمل، كيساريين، أن تنجح التجربتان في انتشال كل مواطني البلدين من الفقر وبناء قاعدة إقتصادية قوية في كل منهما، وفي الوقت ذاته الحفاظ على الأفق الإشتراكي اللاحق. لكن، طبعاً، هناك عوامل عديدة تتحكم بعملية التطور في البلدين، خاصة مع تنامي حجم شريحة من كبار الأثرياء في البلدين وتنامي الفروقات في المداخيل، وظهور عناصر سلبية أخرى ناجمة عن نمط التطور، تحتاج كلها الى حكمة كبيرة من قبل القيادتين ودور نشط، ما أمكن، للقطاعات الشعبية ذات المصلحة في إنجاز الخيار الإشتراكي. وهناك إشكاليات جديدة يعاني منها اليسار الجذري ذو الحضور التاريخي في الهند مع تزايد الهوة في المداخيل في البلد، الذي يتطور إقتصاده الإجمالي بسرعة أيضاً، ومع تنامي الفقر والإدقاع، خاصة في الريف، الذي تجتاحه الشركات عابرة الحدود مسيطرةً على أراضي الفلاحين الفقراء التي هي مصدر عيشهم، مما يحولهم الى احتياطي لحركات التمرد المسلحة المتنامية في عدد من المقاطعات الهندية.
باختصار، اليسار والخيار الإشتراكي باقيان على جدول أعمال البشرية ومطروحان بملحاحية متزايدة كطريق خلاص حقيقي لا بديل عنه على الأمد الأطول، مع تفاقم مأزق النظام الرأسمالي وتناقضاته وفساده وظلمه. ولكن مهمة اليساريين هي التعجيل في عملية توفير الشروط الذاتية لتنظيم القطاعات الشعبية الواسعة المتضررة من هذا النظام الظالم والمتوحش، وبلورة المداخل وأساليب العمل المناسبة لتحقيق هذا التعجيل.