أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - اقبال العثيمين - ملتقى الثلاثاء - فصل من سيرة ذاتية















المزيد.....


ملتقى الثلاثاء - فصل من سيرة ذاتية


اقبال العثيمين

الحوار المتمدن-العدد: 3191 - 2010 / 11 / 20 - 13:38
المحور: الادب والفن
    


في ظل تلك الأيام العجيبة، واضبت على دعوة الأصدقاء والصديقات وزميلات العمل إلى بيتي مرة كل أسبوعين ، وتحول ذلك اللقاء النصف شهري عزاء لنا لمقاومة الضجر والملل والخوف والقلق. ومن الصدف الجميلة و المخطط لها تزامن تلك اللقاءت الأسبوعية مع وصول أخي سليمان من منطقة الزور بعطلته النصف شهريه. كان يكفي وصوله لإقامة حفلة للاحتفاء به بعد غياب، كان مصدر قلق يومي بالنسبة لي . فأختي نوال قررت قبل ظهور سليمان تخزين كل ما تجده في الأسواق من لحوم وخضروات في الثلاجة، طوال الأسبوعين التي سبقت وصول سليمان . لقد شكل حضوره فرحة كبيرة لنا ، وأعدت نوال وجبة مترفة وغنية بمقاييس تلك الأيام . ولاحظت النشاط الذي دب بحيوية لدى سارة وعايشة، تعبيرا عن سرورهما بلقاء صديقاتي وبخالهما سليمان. وكان هو لا يكف عن سرد حكاياته ومغامراته مع زملاءه مع الجنود العراقيين . وقد بدا لنا كفارس زمانه وهو يقص لنا بدماثة خلقه الحكايات التي حصلت مع الجيش العراقي في محطة الزور .
لقد اكتسبت تلك الزيارات طقسا خاصا ، ولم يكن لها في البداية موعد لانتهاءها أو موعد لبدءها . فكانت بعض الصديقات تأتي بصحبة زوجها لتوصيلها إلى المنزل ، وقد حشر معه عددا من الأطفال في سيارته ، ليكونوا درعا أثناء العودة بعد توصيل زوجته . واختارت بعض الصديقات الوصول إلى البيت مشيا على الأقدام وقت المساء ، والبعض منهن اخترن وسائل تتلاءم مع الظروف .
وذات يوم قام الجنود بتكسير باب مدخل الصالة المواجه لباب المنزل الخارجي، وقبل تحطيمها ، كانوا قد جاءوا للتفتيش، وراحوا يضربون على الباب بقبضاتهم ، ولم يتسنى لنا سمع تلك الضربات ، فبادروا إلى تكسير الباب . فالصالة بالطابق الارضي تواجه مدخل الباب الأساسي للمنزل. وأصبح الباب دائما مفتوحا، ولا يمكن إغلاقه. ومن أجل تجنب إزعاج الجنود قررنا وضع طاولة مكتب حديدي خلف الباب الزجاجي للصالة ، وبهذه الطريقة أحكمنا إغلاق الصالة، وصار الدخول إلى الصالة عبر نوافذها ذات الشبابيك التي تكاد أن تلامس أرضيتها، وكان على الجميع أن ينحني قليلا لكي يتسنى له الدخول عبر النافذة التي صارت المدخل الوحيد لدخول المنزل. لكن بقى الباب الخارجي غير محكم كعادته قبل الغزو. وذات مساء شاهدت ساره وعايشه أفرادا من الجنود العراقيين يدخلون إلى منزلنا، ثم اختاروا الجلوس على حمام السباحة، وقد بسطوا سيقانهم، وأخذوا بالحديث وبالمسامرة دون الإحساس بمن يقطن في البيت. وهؤلاء الجنود هم من كانوا يقيمون في المدرسة المقابلة لنا . وعندما سمعت ما روته لنا سارة وعايشة لم أصدق بالبداية قصتهما. ولاحظت الذعر على وجه نوال، مطالبة زوجها القيام بعمل ما، وحثته على غلق النوافذ الزجاجية. وقد راودها قلق كبير بعد انتشار روايات عن قيام الجنود العراقيين باغتصاب النساء والبنات ، ثم توجهت إلى زوجها قائلة :
- انا عندي بنات وقد يقوم الجنود بمداهمة البيت لاغتصابهن !.
ولاحظت شيئا من اليأس والخوف يغلف تعابير وجه بابا عود، ولم تفارقه ذكرى ضرب الجنود له في إحدى الزيارات التي قاموا بها لمنزلنا . ومنذ ذلك الحادث لم يغادر البيت إلا مرة واحد ذهب فيها لدفن خالته في مقبرة الصلبيخات.
بعد ذلك الحوار الذي دار بين نوال وزوجها، توجهت إلى حمام السباحة، فتملكني الذعر وأنا أشاهد آثار أقدام الجنود، فبدلا من الاستحمام، طلبت من أختي أن ترتدي عباءتها وتتبعني إلى السيارة. وانطلقت معها بالسيارة باتجاه منطقة الشويخ الصناعية ، وعند الوصول إليها أخذنا نقطع شوارعها التي بدت لنا شبه مهجورة ، وخالية إلا من بعض العمال العرب ، ومن بعض أفراد القوات العراقية دون معرفة سبب تواجدهم في تلك المنطقة الخالية. وكانت أغلب المحلات مغلقة، هذا الأمر قد ضاعف من قلقنا . وأثناء تجوالنا في المنطقة ، عثرنا على محل حدادة، أوقفت السيارة وتوجهت نحو المحل . فوجدت صاحبه حدادا من أصل فلسيطني، ورغم تماسكي وتظاهري بالبرود إلا أن الإحساس بالرعب قد تلبسني، وأنا أتحدث إليه .وجدت نفسي أنا المهووسة والمتحمسة للقضية الفلسطينية، أفقد الثقة بالفلسطينيين بسبب انحياز أغلبية منهم، شبه الأعمى والمطلق لطاغية العراق، ولتأييدهم لضم واحتلال الكويت. وبعد أن شرحت له طلبي، وافق على القيام بوضع مشبك من الحديد حول الباب الخارجي والداخلي للصالة ، وعلى وضع مشبكات أخرى حول نوافذها. وبعد أن اتفقنا على الأجرة والسعر ،أخبرني بأنه يحتاج إلى أخذ القياسات للنوافذ وللباب، وأوضح لنا بأنه لا يملك سيارة. ولم يباغتنا طلبه بمرافقته إلى بيتنا، لأخذ القياسات، شرط ان نعود به مرة أخرى إلى منطقة الشويخ الصناعية. ونظرا لحاجتنا له، وافقنا على خوف ومضض على أن يرافقنا . كانت السيارة صغيرة، فاندفع نحو المقعد الخلفي، وما أن استقر بالمقعد، فجأة انتباتني هواجس، وتداعيات ، وقلت لنفسي " يا ترى هل يحمل مسدسا، وهل سيجبرنا أثناء العودة على الوقف أمام مركز للجنود العراقيين ؟" . وهكذا أخذت تنهال الأفكار السوداوية والكوابيس على مخيلتي، وربما هذا ما كان يدور في رأس نوال أيضا. ورغم هذا الشعور القاتم الذي تولد في، إلا أني تماسكت وانطلقت بالسيارة نحو البيت، وفي الطريق لم يفارقني هاجس الاعتداء علي أو على نوال أختي، وكل مرة أتوقع أن يمد يده على رقبتي أو على رقبتها لخنقي أو لخنقها، أو القيام بعمل ما ليؤذينا. وما أن لاحت لنا منازل الأحياء السكنية حتى انفرجت اساريرنا انا ونوال بالابتسام ، وشعرنا بنوع من الراحة . وفي البيت اتفقنا معه على وضع مشبكات من حديد شبيهة بتلك المشبكات التي تسيج السجون . وبعد مضي يومين ،قام بتركيب تلك المشبكات ، التي بدت لنا كأعمدة حديدية لسجن أثري قديم !.

هكذا صار يوم الثلاثاء موعدا للقاء الاحبة، فهو موعدا لحضور صديقاتي، وكان أخي سليمان أحيانا يحضر تلك القاءات، وأحيانا يتغيب عنها . وفي إحدى تلك اللقاءات الذي كان فيه حاضرا مع حوالي سبع من صديقاتي ، تبادلنا كالعادة الأخبار والإشاعات والأقاويل وما يدور في البلد. وأحيانا كان يحتد النقاش وكل واحد منا له تحليل للموقف بالطريقة التي يراها سليمة .وفي مرات عديدة نختلف بالأراء وبوجهات النظر ، ولكن رغم اختلافاتنا في التحليل السياسي ، إلا أننا جميعا سواء كنا كويتيين أو عربا نتفق على قضية جوهورية ومحورية ، هي إيماننا بعودة الكويت وإنهاء الاحتلال. وكان كل لقاء ينتهي بشكل أو آخر في التأكيد على هذا الإيمان . وفي مرة وحيدة حدث أن تزعزع فيها إيماني بهذه المسألة ، عندما رأيت صديقا لي من أصل فلسطيني، كان يعمل معي في نفس المؤسسة، وهو عالم فيزياء، ورئيس لقسم الطاقة في معهد الكويت للأبحاث العلمية . كان قد عاد إلى الكويت من أجل نقل حاجياته وسيارته إلى الأردن . وما يميز هذا الصديق هو تشاؤمه من الكثير من القضايا والأمور التي تخص الحياة والسياسة، وربما كان يبالغ أحيانا بتشاؤمه. أفزعني وهو يبين لي بأن القضية قد انتهت، وراح يؤكد لي بأن الأخبار عن الكويت قد أخذت تتراجع ، وتخفت شيئا فشيئا ، ولم تعد هي الأخبار الأولى في نشرات الأخبار بالإذاعات العربية والأجنبية!. والأكثر من هذا، راح يضغط علي، ويلح على ضرورة التفكير، وعلى اتخاذ قرار من الآن . فعلي كما أفاد أن أختار في أن أكون أما من كويتي الداخل أو من كويتي الخارج !. وربما راح يواصل في إيلامي أكثر في تهويماته وهو يقول لي " إذا خرجت من الكويت سوف لن ترينها مرة ثانية كما حصل مع الفلسيطنيين الذين اختاروا الخروج من فلسطين!". في تلك الليلة ، سكنني قلق الدنيا كلها ، ولم استطع النوم، وكان صدى كلماته يرن في أذني ، دون ان يفارقني التفكير باتخاذ قرار البقاء وبحتمية الصمود مهما تكون نتيجة القرار. وأخذت الرؤى والتخيلات تداعب مخيلتي، وراحت تتمثل أمامي مشاهد نتيجة هذا القرار الذي عزمت على اتخاذه ، وراحت تتداعى المواقف باضطراد عجيب أمام عيني ، فالتففت ببعضي وبكيت.
علي القول إن ملتقى الثلاثاء، ما كان يخلو من الطرافة والنزق والفكاهة . فصديقتي الكويتية التي عاشت طوال حياتها خارج البلد في لبنان، وسويسرا، فهي غريبة بعض الشيء عن أحوال الكويت وعن أحوال المنطقة العربية، وكانت تتحدث باللهجة اللبنانية. وربما لسوء حظها اختارت العودة إلى الكويت بعد حصولها على شهادة الدكتوراة في وقت وجيز قبل حصول الغزو العراقي. وكانت من رواد ملتقى يوم الثلاثاء، فكانت تستمع إلى تحليلاتنا بشيء من الغرابة ، ولكنها تفاجئنا بين حين وآخر باقتراح عجيب يثير الضحك فينا، ولا يخلو من الطرافة. فمثلا اقترحت في مرة من المرات أن تقوم الكويت بالضغط على سريلانكا وتطالبها بوقف تصدير الشاي إلى العراق وإلى الكويت . ثم تواصل بطريقتها البريئة " لو توقف تصدير الشاي لمات الجنود العراقيين لأنهم لا يحتملون العيش بدونه " . ثم تستنتج وكلها حماس قائلة " لو تبنت الحكومة الكويتية هذا الحل لانقذتنا من هذه البلوى ! ". وكيف يمكن نسيان شوش صديقتي الأرمنية ، وكتاب نبؤات نوسترا داموس الذي لم يفارق حقيبتها اليدوية . وكانت مولعة بالقراءة ، وهي لاتكف عن هجاءنا قائلة لنا " لو كنا شعبا يقرأ لاستفدنا من تنبؤات نوسترا داموس عن غزو الكويت !" . ثم كانت تأخذ نسختها من كتاب النبؤات ، وتقرأ لنا شارحة ومفسرة تلك النبؤة ، ثم تتوقف عند مفردة Mades الإنكليزية ، وتوضح أنه لو تم قلب واستبدال حروف الكلمة ، لحصلنا في قراءة معكوسة في المرآة على اسم الطاغية صدام !. ومن ثم تتوقف لحظة ، لترى تأثير اكتشافها المثير علينا ، ومن بعد تواصل لتخبرنا عن النبؤة الثانية ، وتأخذ بالقراءة " سيقوم العراقيون بمهاجمة أسبانيا، والناس أما يأخذون بتمتع أنفسهم أو يأخذون بالضحك أو يروحوا يأكلون ، أو يكونوا نياما، وسوف يهرب البابا إلى منطقة قرب الرون ويتم احتلال إيطاليا والفاتيكان". ودون منحنا فرصة للتأمل تقول لنا وهي منتصرة " إن النبؤة تصف هنا احتلال الكويت ، وإن الاحتلال سيكون ليلا والناس حينها أما هم نيام أو لاهون أو متسامرون ". وتستطرد شارحة لنا ما ورد في كتاب النبؤات " إنه قد وصف الكويتيين بحلفاء أسبانيا، لأن أمريكا قد اكتشفها الأسبان وكانت مستعمرة أسبانية، وأن اليــهود والمسيحيون دائما كانوا يطــلقون على الأنبياء أو على رجال الدين اسم ( الملك) ، وهنا قام نوسترا داموس بعكس التسمية وأطلق على أمير الكويت اسم البابا !". وثم تضيف " إن المقصود باحتلال إيطاليا والفاتيكان، هو احتلال القوات الغربية، والأمريكية للسعودية حيث أن إيطاليا تشبه السعودية ، لأن فيها الفاتيكان و في السعودية توجد الكعبة المشرفة لدى المسلمين"!!.
وكانت منى صديقتنا الأخرى ، لا تكف عن مباغة ودهشة الجميع ، وما أن ينتهي النقاش بيننا، إلا أن تقوم بمبادرتنا بتوجيه سؤالها المدهش الذي كثيرا ما تكرر " ألا ترون أن صدام يشبه فلانة ؟!". ونحن نباغت متسائلين عن من تكون فلانة ؟ ولا نعرف أن المقصود بفلانة، هي رئيستها في الوزارة . وذات لقاء من لقاءات عصر يوم الثلاثاء، حضر زميل لنا فلسطيني من العاملين معنا في نفس المعهد . وهو من المعارضين لغزو الكويت ومن المتعاطفين معنا ، إضافة إلى كونه عضوا في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، كثيرا ما كان ينتقد موقف منظمة التحرير الفلسطينية من الغزو. وفي تلك الجلسة حدثنا عن صديق عراقي له ، ضابط في الجيش العراقي ، وعن ضيافته له في منزله. ما أن انتهى من حديثه ، حتى بدرت علامات الاستياء والامتعاض على وجوه الجميع ، وكان رد فعل صديقتي إيمان عنيفا جدا على استضافة الضابط العراقي وتوجهت له بغضب قائلة " كيف تولم لمن دخل البلاد عنوة ، حتى لو كان عبدا مأمورا؟."
صار التعامل مع الفلسيطينيين طوال فترة الغزو يسبب بعض الإحراج بالنسبة لي، خصوصا أنا التي عرفت بأصدقائي الكثيرين من الفلسيطينيين ذوي التيارات السياسة المختلفة . وكنت دائما أقوم بمساعدتهم أحيانا بإقامة المعارض وبالمساهمة في حملات جمع التبرعات لمنظماتهم .وبعد أسبوعين من الغزو وقع حادث لي معهم أثار استيائي وغضبي، وكنت قد خرجت مرتدية العباءة ، ذاهبة إلى جمعية الجابرية لشراء بعض الحاجيات . وهناك رأيت بعض الفلسيطينيات اللواتي كن قريبات مني ، فما أن شاهدنني وأنا بالعباءة ، حتى رحن يسخرن ويضحكن من الحالة التي صرت إليها ، ولم توجه أية واحدة منهن الحديث إلي . وبدوري ألتزمت الصمت ، ولم أرد على سخريتهن ، ربما خوفا من الجنود العراقيين الذين كانوا منتشرين بالقرب منا . ثم تسائلت مع نفسي " لماذا ياترى هذا الموقف منهن؟ ولماذا روح التشفي والانتقام ؟" . حتى الآن يبدو لي ذلك الموقف غريبا وباعثا على الحيرة ، وإذا حاولت بالقدر الممكن فهم واستيعاب بعض تلك المواقف ، إلا أن تلك المواقف والحالات لا زالت غامضة بعض الشيء بالنسبة لي.
أستطيع القول أن صديقي الفلسيطيني صلاح حزين الذي وافته المنية هذا العام في العاصمة الأردنية عمان بعد معاناة مع مرضه العضال، هو من تمكن بشخصيته ونبله وبصداقته العميقة لنا، على تجاوز محنتي. وهو من شفع لهم عندي، لنسيان زلات الفلسطينيين كمؤسسات وكشعب. هو صديق مخلص لنا جدا ، وكان يقوم بزيارتنا وبارسال الرسائل والاشرطه لنا الى أختى المقيمة في عاصمة سلطة عمان مسقط ، وهو دائم الاتصال بها وبعائلتها، ولولاه لانقطعت أخبارنا عن أهلنا في الخارج. وكان لصلاح دور في تخفيف حدة الغضب لدى الكويتيين من الدور الدنيئ، والتخريبي الذي قامت به جبهة التحرير العربية، جناح التنظيم الفلسطينى لحزب البعث في العراق، الذي تلقى مقاتلوه دورات تدريبية عسكرية مكثفة على يد الجيش العراقي. وأثناء فورة الغضب بسبب دور جبهة التحرير العربية، وللمظاهرات الفلسطينية المسانده للاحتلال فى جميع ارجاء المعموره، جاءنا صلاح ببيان للحزب الشيوعي الفلسطينى أدان فيه الاحتلال. وقمنا بدورنا بنشره فى صحف المقاومه انذاك. ولم يخفف حدة غضب أختى على الفلسطينيين إلا تكرار زياره صلاح حزين لنا، وطمئنتها على ابنائها والأهل فى مسقط. وكلما تنتابها موجة الغضب ، وتأخذ بالتعميم على جميع الفلسيطينيين ، دائما كنت أذكرها بصديقنا صلاح ، وهي تردد متمتمة " صلاح غير !."

ومن الشخصيات التى كانت تتردد على منزلنا فى الروضة، الصديق العراقي أبو براك، ذلك الصديق الباسق الطول كنخله بصراويه ووجه أطفأت سحنتة الغربة والحزن، أراه دائما يجر نفسه كجريح مثقل بالهموم وهاجس رافقة دوما في العودة يوما للعراق الذى لم يعد اليه!! علاقتي مع ابو براك وعراقيين اخرين كانوا فى الكويت او خارجه أضافت لى الكثير ووسعت ادراكي في الحالة العراقية وخاصة عندما ادركت بان معظم صداقاتي للعراقيين هم من غادر العراق في نهاية عام 1978 وتعتبر هذه الهجرة الواسعة للمثقفين العراقيين وذلك نتيجة لانهيار التحالف بين حزب البعث والحزب الشيوعي مما أدى الى ان يصبح المثقف العراقي الديمقراطي واضحا لسلطة البعث وأصبح مطاردا بحكم توجهاته اليسارية. لذا قام العديد من هذه العقول والكفاءات بالهجرة الى لدول مجاوره هربا من بطش النظام واستقر البعض فيها ومنهم من اكمل طريقه لامريكا والدول الغربية. فهذا النظام البعثي لا يمثله صدام فقط لان جرائم المؤسسة البعثية من قتل وتعذيب وإغتصاب واعدام وتهجير كانت ايضا في فترة أحمد حسن البكر ( 1968 – 1979 )، وحتى قبلها في بداية تشكيل الحزب اذ ارتبطت اعماله بالانقلابات العسكرية واعمال المخابرات والقتل والتامر. وأحد مظاهر المعاناة التى عاشها المهاجرون العراقيين تحسبا من بطش اعمال وممارسات نظام البعث هو أن غالبتهم انتحلوا اسماء حركية يناديهم بها الاخرين ويصرون على ابقاء هويتهم خافية تحسبا من النشاط المخابراتي للسفارات العراقية حول العالم. وابا براك (عبدالمحسن براك باحسين)، صديقي الجميل كان احدهم اذ لم أعرف اسمه الحقيقي الا بعد موته، كما هو حال معظم المناضلين العراقيين فى تلك الفتره. وابو براك احد الفارين من النظام اثر المكوث في الكويت لقربها من مسقط راسة في منطقة الزبير. وقد كان دوما يحلم بتغيير نظام الحكم ليرجع ثانية للعراق لكنه لم يكن يعلم بان حياته ستنتهي فى أرض يجهلها وتجهله.

فقد جاء ابو براك الى الكويت فى نهاية السبيعنيات من القرن الماضى، وكان شخصية عصابية، ودائما يتحدث بالعربية الفصحي بلكنه عراقية واضحة وله صوت جهورى. وقد عانى ابو براك فى ظل وجود الاحتلال أكثر منا، حيث كان يتنقل من مكان إلى مكان متخفيا عن القوات العراقية، وغالبا ما يكون بصحبة الصديق الكاتب طالب الرفاعي. وعندما يأتي أبو براك لزيارتنا، كنا نلاحظ الحزن العميق الذي يعتري روحه ووجه، هو من هرب من الديكاتورية، واختار الكويت ليكون قريبا من العراق، ومن منطقة الزبير مسقط رأسه. وبعد التحرير قرر أن يغادر الكويت ويبتعد عن مسقط رأسه الزبير. والسبب الذي دفعه إلى المغادرة كان سببا بسيطا، فجأة وجد نفسه، لا يستطيع تحمل ردود أفعال الكويتيين، وهم يسمعون إلى صوته في الأسواق وفي الأماكن العامة، أو عندما يختلط معهم. وقد اضطر أن يسافر إلى بلغاريا ، وهناك أصيب بالسرطان ربما من الحزن الشديد. فدفعته حالته الصحية إلى التوجه إلى الأردن ليكون قريبا من العراق، وهناك كان لقاءه مع صديقنا المشترك صلاح حزين . ولا زلت أذكر بمرارة وبحزن ، تلك المكالمة الهاتفية التي جاءتني من صلاح في سنة 1993، وكنت أنذاك في بريطانيا أواصل دراسي ، ليعزيني بوفاة أبو براك ، الذي غادر الحياة في سيارة أجرة ، وهو في طريقه لمراجعة الطبيب. عندما سألني صلاح عن اسم ابو براك الحقيقي فوجئت بأنني حقا لا أعرف اسمه الحقيقي . فاضطررت الاتصال بصديقنا جعفر في بلغاريا ، القريب منه جدا، والذي هو الأخر مات وحيدا وشريدا هناك . ثم اتصلت بصلاح وأعطيته اسم ابو براك الحقيقي ، وقام بدفنه بيده، وعلمت لاحقا أن صلاح قد غطى تكاليف الجنازة. وهكذا مات أبو براك ذلك المناضل العراقي غريبا في وطن يجهل حتى اسمه !.
المخرج المصري فاروق عبد العزيز ، كان من الشخصيات التي أدهشتني، فهو صديق ، وصاحب برنامج أسبوعي شهير في تليفزيون الكويت . ولم يكف طوال فترة الغزو عن حمل كاميرته ، لتصوير ما تلتقطه عيناه من مشاهد وأحداث ووجوه ، ليكون شاهدا على يوميات الغزو وعلى فضائعه .كنت أتوقع أن يقوم بتجميع تلك المادة الخام التي التقطها أثناء الغزو ، لإخراج فيلم وثائقي هام عن الاحتلال العراقي للكويت . وبعد سنين أكتشفت أنه قد اكتفى بتقديم جزء من مادته الخام في فيلم جماعي شارك فيه يحمل اسم " بركه " لم يلاق الشهرة ولا النجاح اللذين يليقان به، وبجهده الذي لم ينضب خلال تلك الفترة العصيبة .
وكيف يمكن لي أن أنس ذلك الطقس، الذي كان يجمعنا مع بعض الشحصيات السياسية البارزة، وهو طقس المشاركة في وجبات الغداء، وكان أقرب الشحصيات إلى قلب أختي نوال هو النائب والسياسي عبد الله النيباري. الذي كان يشاركنا أحيانا بوجبة الغداء، وهو يجلس مفترشا الأرض معنا. ورغم عدم انضمام نوال أحيانا إلينا، غير أن وجود هذا النائب فى منزلنا يبعث الطمأنينة عندها.



#اقبال_العثيمين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دمار الروضة - فصل من سيرة ذاتية


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - اقبال العثيمين - ملتقى الثلاثاء - فصل من سيرة ذاتية