أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد السالك ولد إبراهيم - من ال -كلاديو- إلى -القاعدة-: من يقف وراء الإرهاب؟















المزيد.....



من ال -كلاديو- إلى -القاعدة-: من يقف وراء الإرهاب؟


محمد السالك ولد إبراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 3186 - 2010 / 11 / 15 - 09:30
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


ظل الكثير من أسرار "البنائين الأحرار" لغزا محيرا إلى أن اكتشفت صدفة وثائق المحفل الماسوني "Lagruppa Gelli Propaganda Due"، المعروف اختصارا بـ "P.2" سنة 1981، لتتضح الصورة أكثر بعد صدور رواية "شيفرة دافينشي" سنة 2003. كما بقيت أسرار الـ "كلاديوGladio " غامضة لمدة نصف قرن من الزمن إلى أن اعترفت الحكومة الإيطالية رسميا سنة 1990 بوجود تلك المنظمة العسكرية السرية التي أسسها حلف شمال الأطلسي سنة 1956 لممارسة "إرهاب الدولة" تحت غطاء محاربة الشيوعية في أوروبا. و كذلك باتت أدلة تورط الولايات المتحدة في "إرهاب الدولة" باسم نشر الديمقراطية و حقوق الإنسان في أمريكا اللاتينية مخفية إلى أن نشر المفكر المخضرم "نعوم شومسكي" كتابه "إعاقة الديمقراطية" سنة 1998، قبل أن يجهز موقع الإنترنت "ويكيليكس" على ما تبقى من تلك الأسرار بنشره نصف مليون وثيقة سرية أمريكية تكشف المستور من جرائم الحرب في أفغانستان و العراق .

لكن، متى سيكشف سر التنظيمات المسلحة التي تمارس الإرهاب باسم الجهاد كالقاعدة و أخواتها؟ كيف نمت جذور الإرهاب قبل آلاف السنين؟ منذ زمن محاربي قبائل "السمبريكوس"cimbricus الذين كانوا يزرعون الخوف في روما سنة 105 قبل الميلاد، مرورا بالطائفة اليهودية المتعصبة " Sicarii Zealots " التي كانت تقتل الرومان و العبرانيين باستخدام خناجر قصيرة، في العصر الروماني، ثم وصولا إلى جماعة "الحشاشين" أوSecte des Assassins و زعيمهم حسن الصباح (1037-1124)، صاحب قلعة "آلموت" الشهيرة في إيران و حلفائهم الغربيين من "فرسان الهيكل" و زعيمهم Hugues de Payens هيغ دي بايان؟

ما هو دور العلاقات الدولية في إعادة إنتاج ظاهرة الإرهاب في العصر الحديث؟ كيف جعلت الحرب الباردة من المقاومين الأفغان "مجاهدين" و كيف انقلب ذلك "الجهاد" فجأة إلى "إرهاب" خالص مع تنظيم القاعدة و زعيمه أسامة بن لادن في جبال "تورابورا"؟ ثم كيف انتقلت "بذور الإرهاب" من هناك لتنتشر كالفطر في مناطق كثيرة من العالم؟ من يقف وراء لعبة الإرهاب؟ و هل توجد حدود فاصلة بين الإرهاب بمعناه المتداول حاليا و بين ما يسمى بـ "إرهاب الدولة"؟ ما هي الأسرار الحقيقة لأجندات الإرهاب؟ و ما الأهداف الإستراتيجية المخفية التي ظل الإرهاب يخدمها على مر السنين؟

تاريخ، رموز.. و صراعات
صورت رواية "شيفرة دافينشي" بمزيج رائع بين الحقيقة و الخيال ذلك الصراع الاستراتيجي التاريخي بين الكنيسة الكاثوليكية و "جمعية سيون" أو "Le Prieuré de Sion " الدينية الغامضة و التي تُقرأ أيضاً "جمعية صهيون". و كانت تلك الجمعية الغامضة قد تأسست سنة 1009 على يد الملك الصليبي " غودوفروا" - الذي زعم بأنه من نسل المسيح - بهدف الحفاظ على أسرار العائلة الملكية و حمايتها. و قد ضمت "سيون" أعضاء بارزين منهم الرسام "ليوناردو دافنشي"، و مكتشف الجاذبية "إسحق نيوتن"، و الشاعر العظيم "فيكتور هوجو" و غيرهم من عباقرة العالم آنذاك. كما أنشأت تلك الجمعية فرقة مقاتلة أثناء فترة الحروب الصليبية سميت بـ "فرسان الهيكل The Order of the Temple" لإخفاء سر الدم الملكي "Sang Real" أو ما يسمى بالكأس و القدح. و هو سر يرتبط بمقولة وجود نسل سري للسيد المسيح، بناء على زعم زواجه من مريم المجدلية. و قد انتدب "فرسان الهيكل" أنفسهم لحفظ تلك الأسرار المقدسة و صيانة بقايا الآثار التي كانت تحتفظ بها كدليل على صحة وجودها. و كان أول زعيم لتلك الجماعة المسلحة هو "Hugues de Payens هيغ دي بايان"، الذي تذكر المصادر التاريخية بأنه كان حليفا لجماعة "الحشاشين" أوSecte des Assassins و زعيمهم حسن الصباح، الملقب بـ "شيخ الجبل .

أما في العصر الحديث، فتتحدث الرواية بطريقة مشوقة عن تجدد ذلك الصراع القديم بين كنيسة "أوبوس داي Opus Dei"، التي تعني باللاتينية "عمل الرب". و هي منظمة كاثوليكية متشددة و فاحشة الغنى يوجد مقرها الرئيسي في نيويورك و تتمتع بعضوية الفاتيكان؛ الذي من أجل ابتزازه، تقوم "أوبوس داي" بملاحقة جمعية "سيون" للحصول على "حجر العقد" أو الـ "Cryptos " ليقودها إلى اكتشاف "الكأس و القدح" أو "الدم المقدس" و كذا الوثائق السرية التي ظل فرسان الهيكل يحتفظون بها منذ آلاف السنين، إضافة إلى وثائق أخرى تعود إلى أديان تقدس الآلهة الأنثى وآلهة الخصب والعطاء التي عرفت قديما لدى اليونانيين والفينيقيين والهنود ثم امتدت إلى اليهودية والمسيحية.

و في سيبل الحصول على تلك الأسرار المقدسة، تقوم "أوبوس داي" باغتيال المعلم الأعظم لـ "جمعية سيون"، السيد "جاك سونيير"، الذي كان مديرا لمتحف "اللوفر" الشهير في فرنسا، وسط ظروف غامضة. و ينفذ الاغتيال بواسطة راهب متعصب يدعى "سيلاس"، عاش طفولة عنيفة علي يد أبيه المخمور الذي قتل أمه أمامه، كما تعرض للاضطهاد لأنه كان أبرصا. عاش "سيلاس" مجرماً و سُجن في فرنسا قبل أن يهرب بطريقة عجيبة إلى إسبانيا، ليلتقي هناك بأول شخص يعامله كإنسان و يعطف عليه و هو الأب الإسباني "ارينغاوزا"، مؤسس كنيسة "أوبوس داي" الذي سيجعل منه راهبا، قبل أن يعود وحشا قاتلا كما كان.

و على إثر جريمة اغتيال المعلم الأعظم لجمعية "سيون"، تستدعي الشرطة الفرنسية عالما أمريكيا يدعى الدكتور "روبرت لانغدون"، أستاذ "علم الرموز الدينية" في جامعة هارفارد، و قد كان متواجدا في باريس لإلقاء محاضرة ضمن مجال تخصصه العلمي. فيجد "لانغدون" أن جثة السيد "سونيير" عارية تماما و قد اتخذ جسده وضع لوحة "ليوناردو دي فينشي" الشهيرة المسماة بـ "الرجل الفيتروفي" ، و بجانبه كتبت رسالة غامضة، كما رسمت بالدم نجمة خماسية الزوايا على بطنه. اكتشف "روبرت لانغدون"، من خلال تلك الألغاز و الإشارات وجود منظمة سرية مقدسة امتد عمرها إلى مئات السنين، و ربما كانت الضحية تحاول عبر تلك الرموز و الشيفرات أن تنقل للعالم رسالة مهمة تتعلق بمصير تلك المنظمة.

مسيرة الإرهاب: استمرار أم قطيعة؟
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001، أدت هيمنة وسائل الإعلام و خطابات السياسيين على عملية إنتاج الخطاب المتداول حول الإرهاب، إلى تكريس نظرة أحادية نمطية مستحكمة. و هكذا، تم تصوير الإرهاب كما لو كان ظاهرة جديدة نشأت من فراغ و تم ربط تطورها المتسارع بسياق حضاري حصري، ضمن مقولة بحث الغرب عن عدو جديد له، في أعقاب انهيار الثنائية القطبية و ظهور "النظام الدولي الجديد". و لكن الدراسة الموضوعية لظاهرة الإرهاب، تقتضي اهتماما أكبر من طرف الباحثين من أجل دراسة صور العنف السياسي في التاريخ القديم و الوسيط و مقاربتها بما يحدث في الأزمنة المعاصرة، للتأكيد على أن جذور الإرهاب ضاربة في القدم، و أنه لا يقتصر على دين أو جنس معين و لا يخص حضارة بعينها.

لقد تمثلت ظاهرة الإرهاب - تاريخيا- في استخدام العنف كأداة لتحقيق أهداف سياسية، و هي ممارسة قديمة قدم الإنسان و المجتمعات. و ترجع الأصول البعيدة لممارسة الإرهاب بشكل منظم إلى قبائل "السمبريكوس cimbricus" التي كان محاربوها يزرعون الخوف و الرهبة في روما سنة 105 قبل الميلاد، ثم استمرت في الإتساع مع طائفة يهودية متعصبة تسمى بـ " Sicarii Zealots"، كانت تقتل الرومان و العبرانيين باستخدام خناجر قصيرة في العصر الروماني. كما عرف الإرهاب تطورا كبيرا مع جماعة "الحشاشين " أوSecte des Assassins و زعيمهم حسن الصباح (1037- 1124)، صاحب قلعة "آلموت" الشهيرة في إيران. و تذكر المصادر التاريخية أيضا أن "فرسان الهيكل the Order of the Temple" ، و هم الجناح المسلح لـ "جمعية سيون" الدينية الغامضة، كانوا حلفاء للحشاشين، و قاموا بارتكاب الكثير من الجرائم المختلفة و تآمروا على الباباوات و الملوك في أوروبا. وقد تمت محاكمة تلك الطائفة و إنزال أقصى العقوبات بحقها من خلال حرق معلمها الأعظم "جاك دي مولاي Jacques de Molay " و أعوانه سنة 1314 في باريس على يد الملك "فيليب لي بيل Philippe le Bel". و لكن زعيم الطائفة تمكن قبل إعدامه من تأسيس ما سيسمى في وقت لاحق بـ "الماسونية الاسكتلندية" التي تعتبر أم الماسونية كما هي معروفة اليوم. وقد استطاع "دي مولاي" بدهائه الخارق أن يأمر- و هو في ظلمة سجن المعبد في باريس- بإقامة أربعة محافل ماسونية عظمى في أنحاء أوروبا: واحد في نابولي للشرق، و واحد في أدنبرة للغرب، و واحد في ستوكهولم للشمال، و واحد في باريس للجنوب .

و يتضح من مقاربة بعض الأحداث التاريخية بأن إرهاب اليوم وثيق الصلة بإرهاب الأمس، فأخذ الرهائن، كشكل من أشكال الإرهاب المعاصر، كان معروفا منذ القدم لدى قبائل "الإنكا" في أمريكا اللاتينية، من خلال استيلائها على أوثان القبائل الأخرى التي تتمكن من السيطرة عليها، واحتجازها لضمان عدم تمرد تلك القبائل عليها. و في نهاية القرن الثاني عشر قام دوق النمسا "ليوبولد الخامس" سنة 1192 باحتجاز ملك بريطانيا الشهير بدوره في الحروب الصليبية "ريتشارد قلب الأسد"، رهينة في قلعة "تريفيلز" في جبال "رينانيا" إلى أن دفع رعاياه فدية بلغت مائة و خمسين ألف مارك لملك ألمانيا "هنري السادس" سنة 1194.

أما الاغتيالات، كشكل آخر للإرهاب المعاصر، فقد كانت معروفة كذلك على نطاق واسع في الحضارات القديمة والوسطى من خلال التآمر على الملوك و الأمراء والحكام و الوزراء و كبار الشخصيات في الدول القديمة. فالفرعون "تيتي" مؤسس السلالة الملكية المصرية السادسة مات مغتالا سنة 2291 قبل الميلاد، كما اغتيل الإمبراطور الروماني "موميتيان" سنة 96م، و اغتيل "سيجبير الأول" ملك فرنسا القديمة سنة 575. كما ظهرت أيضا الاغتيالات السياسية في العهود الإسلامية الأولى، مع قتل الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب سنة 644 و عثمان بن عفان سنة 656 و علي بن أبي طالب سنة 660.

و في القرون الوسطى، كان حسن الصباح، زعيم جماعة "الحشاشين" أوSecte des Assassins يختار بنفسه أعضاء عصاباته الذين يرسلهم من قلعة "آلموت" بجبال إيران، في مهمات للاغتيال المنظم. و كان يشرح لهم طريقة ذلك و يدربهم عليه ثم يسلمهم خناجر مسمومة خاصة لتنفيذ عمليات الاغتيال. و كان من أوائل ضحايا الحشاشين الوزير "نظام الملك"، وهو أبو علي الحسن الطوسي، أشهر وزراء الدولة السلجوقية. و قد تم اغتياله في أصفهان سنة 1092، و بعده الوزير المهيب قائد جيوش الأفضل، و كذلك الملك "كونراد دي مونتفيرات" سنة 1192، أحد قادة الحملات الصليبية و ملك القدس تحت الحكم الصليبى. كما حاول الحشاشون اغتيال صلاح الدين الأيوبي أكثر من مرة .
و قد استمر مسلسل اغتيال القادة و الزعماء السياسيين طويلا بعد ذلك. اغتيل "إريك الثاني" ملك الدانمارك سنة 1137، و "شارل السابع" ملك السويد سنة 1170، و "ادوارد الثاني" ملك بريطانيا سنة 1327، و "مراد الأول" سلطان الإمبراطورية العثمانية سنة 1389، و "هنري الرابع" ملك فرنسا سنة 1610، و "غوستاف الثالث" ملك السويد سنة 1792. و في القرن التاسع تم اغتيال العديد من الشخصيات الشهيرة مثل "عبد القادر كان" أول إمام لإمارة "فوتا تورو" سنة 1807، كما اغتيل رئيس الولايات المتحدة "ابراهام لينكولن" سنة 1865، و "همبرت الأول" ملك إيطاليا سنة 1900. و في مطلع القرن العشرين، اغتيل رئيس الوزراء المصري "بطرس غالي" سنة 1910، و "فنستيانو كارانزا" رئيس المكسيك سنة 1920، و اغتيل "باتريس لوموبا" رئيس وزراء الكونغو سنة 1961، وظلت الاغتيالات السياسية مستمرة إلى يومنا هذا.

من فرسان الهيكل إلى الـ "كلاديو": إرهاب الدولة
في سنة1981، قادت صدفة غريبة إلى اكتشاف المحفل الماسوني "Lagruppa Gelli Propaganda Due" المعروف اختصارا بـ "P.2" ، و كان معلمه الأعظم هو تاجر ايطالي كبير يدعى"ليجيو كاللي Licio Gelli" . و قد جرى ذلك في مدينة "أرزّو Arezzo" الإيطالية على يد الشرطة التي كانت تحقق آنذاك في عملية تهريب المصرفي الإيطالي "ميشيل سيندونا Michele Sindona" من السجن سنة 1979 ضمن إطار فضيحة مصرف Ambrosiano Banco التي تورط فيها بالإضافة إلى Sindona كل من Roberto Calvi,، وLicio Gelli و الأب Paul Marcinkus، حيث كان ذلك البنك يقوم بغسيل الأموال لصالح المافيا و الـCIA و الفاتيكان .
و قد كشف التحقيق في الوثائق السرية التي ضبطت آنذاك بحوزة المعلم الأعظم للمحفل، عن علاقة الملياردير الايطالي اليهودي "كارلو دي بندتي Carlo de Benditti" الوثيقة بالمحفل الماسوني المذكور، و عن علاقات خاصة بين الماسونية بشكل عام و الصهيونية و إسرائيل، خاصة مع جهاز المخابرات الإسرائيلية "الموساد".
و قد أشار العميل السابق للمخابرات الإسرائيلية "فكتور أوستروفسكي Victor Ostrovsky" في كتابه "الجانب الآخر من الخداع The other side of deception"، الذي نشر سنة 1994، إلى وجود اتفاق سري بين المحفل الماسوني الايطالي "P.2" وبين إسرائيل. كما اعترف بوجود علاقات وطيدة بين الثلاثي الرهيب: الموساد ، ومحفل "P.2" و منظمة الـ "كلاديو" الإيطالية السرية. كما كشف العميل "أوستروفسكي" عن أن هذه الجهات الثلاث قد تعاونت كثيرا في تجارة الأسلحة و أن "ليجيو كاللي" المعلم الأعظم لمحفل "P.2" كان حليفا قويا للموساد في ايطاليا.

و بعد أن عثرت الشرطة الإيطالية بين وثائق و مستندات محفل "P.2" على لائحة غريبة بأسماء أعضائه ، تفجرت فضيحة سياسية كبيرة في أوساط الرأي العام الإيطالي استقالت على إثرها حكومة رئيس الوزراء "فورلاني Forlani" آنذاك. كانت لائحة المحفل تضم 962 شخصية مهمة في إيطاليا، من بينها: )3( وزراء منهم وزير العدل، و )3(4 نائبا برلمانيا، و (183) ضابطا كبيرا، بينهم (43) جنرالات و (8) أدميرالات و (19) حاكما و مدعيا عاما، و (3) من رؤساء الاستخبارات السرية، و (4) من مدراء الشرطة في أكبر المدن الايطالية، و (24) صحفيا، إضافة إلى مئات رجال السياسة والمال ورجال الأعمال والموظفين الكبار في الدولة.

تأسس محفل "P.2" سنة 1966 بتعليمات من المعلم الأعظم لمحفل الشرق الأعظم الإيطالي الماسوني . وكان الهدف منه هو جمع الشخصيات الإيطالية البارزة تحت سقف واحد ليكونوا عونا للماسونية. و قد أسندت رئاسة ذلك المحفل إلى رجل أعمال إيطالي غني له ماض مظلم هو "ليجيو كاللي". ذهب إلى إسبانيا و شارك في الحرب الأهلية الإسبانية و قاتل إلى جانب أنصار "فرانكو"، ثم رجع إلى إيطاليا وليصبح من أنصار "موسوليني"، قبل أن يلجأ إلى الأرجنتين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية و هزيمة إيطاليا الفاشستية.

نجح "ليجيو كاللي"، بفضل موهبته في الإقناع، فجمع أهم شخصيات إيطاليا في تلك الحقبة في محفله الماسوني الصغير. و بما أن "ليجيو كاللي" لم يكن يتورع عن استعمال أساليب التهديد والابتزاز مع زواره، فقد أصبح بحوزته الكثير من الأسرار و الفضائح الشخصية لكبار المسؤولين الايطاليين آنذاك. كان "ليجيو كاللي" يطلب من كل أخ ماسوني جديد أن يسلمه قبل كل شيء جميع الوثائق التي قد تكون عنده و المتعلقة بالأسرار الرسمية والمعلومات المهمة، فتراكمت لديه ملفات كثيرة تحتوي على أهم أسرار الدولة الإيطالية وأسرار الشخصيات الكبيرة المتنفذة فيها. وهكذا، ازداد "ليجيو كاللي" قوة و نفوذا و سيطرة في إيطاليا، فأصبح يسعى إليه كل من يصبو إلى المناصب و المال و الشهرة والجاه.

و كمثال على أهمية و حساسية المعلومات التي كانت تتجمع لدى "ليجيو كاللي"، قد قدم إليه أحد منتسبي المحفل، وهو الجنرال "G. Allavena"، الذي كان رئيس المخابرات العسكرية الإيطالية سنة 1965، جميع المستندات السياسية السرية العائدة لسنوات 1956-1962. كما استطاع ذلك المعلم الأعظم أن يبسط نفوذه حتى داخل "الفاتيكان"، فأدخل الكثير من رجال الدين المسيحي إلى محفله و كان بعضهم برتبة "كاردينال"، مع أن الفاتيكان رسميا كان يحارب الماسونية و يحرم على الكاثوليك الانخراط فيها. و في هذا السياق، أقام محفل "ليجيو كاللي"علاقات متميزة مع الكنيسة الكاثوليكية المتشددة "أوبوس داي" Opus Dei المذكورة آنفا.

و قد بينت التحقيقات آنذاك مجموعة من المعطيات منها أن المحفل الماسوني كان يتشكل من 17 خلية سرية، لكل واحدة منها رئيس، لكن لم يكن أولئك الرؤساء يعرفون بعضهم البعض، بل كانوا مرتبطين جميعا بمعلمهم الأعظم "ليجيو كاللي" الذي أقسموا له على الطاعة العمياء. و قد تورط المحفل أيضا في الكثير من عمليات الاغتيالات والتفجيرات وأعمال الرشوة و الابتزاز. كما ثبت كذلك بأن المحفل تعاون في تنفيذ الكثير من تلك الجرائم مع العديد من المنظمات السرية و الإرهابية الأخرى، و خاصة منظمة الـ "كلاديو Gladio" السرية شبه العسكرية.

وقد اعترف العميل الشهير "Richard Brenneke"، و هو أحد الأعضاء السابقين في المخابرات الأمريكية بأن المحفل الماسوني "P.2" كان يتلقى مساعدات كبيرة من الـ CIA، بلغت أحيانا 10 مليون دولار في الشهر الواحد. و قد قام المحقق الايطالي "كاسّون Casson" بإجراء تحقيقات حول العلاقة بين المحفل الماسوني المذكور و بين المخابرات الأمريكية. و لكن المحقق لم يستطع الوصول إلى أدلة دامغة للإدانة، فقد استطاعت المخابرات الأمريكية أن تلف الموضوع بستار كثيف من الغموض. و هكذا بقيت حقيقة منظمة الـ "كلاديو" سرا مصونا لمدة تزيد على 45 سنة، ولم تعترف الحكومة الايطالية بوجودها رسميا إلا في 3 أغسطس 1990 عندما مثل رئيس وزراء ايطاليا الأسبق "جوليان اندريوتي G. Andreotti " أمام "لجنة التحقيق في الجرائم" التي شكلها البرلمان الايطالي، حيث اعترف بوجود منظمة سرية تم تشكيلها في إيطاليا بطلب من حلف الناتو لمقاومة الحركات الشيوعية.

أما البرلمان- الذي كان يبحث عن تفاصيل أكثر لمعرفة أسباب الكثير من الجرائم التي ارتكبت في ايطاليا وبقيت سرا لا يعرف من قام بها- فلم يكتف فقط باعترافات رئيس الوزراء، بل طالبه بتسليم الملفات الرسمية التي تملكها الحكومة حول هذه القضية. و بالفعل قدم "ج. اندريوتي" تقريرا مدعما بالوثائق في 24 أكتوبر1990 إلى البرلمان، و قامت مجلة "بانوراما Panorama" الايطالية بنشر ذلك التقرير حرفيا بتاريخ 11 نوفمبر 1990.

و قد بينت الوثائق المذكورة بأن الـ "كلاديو" هي منظمة سرية شبه عسكرية أنشأها حلف شمال الأطلسي "الناتو NATO" في إيطاليا تحت إشراف المخابرات الأمريكية الـ C.I.A . وكانت الـ "كلاديو" ثمرة لذلك التعاون الوثيق بين حلف الناتو و بين المخابرات العسكرية الايطالية (SIFAR بقيادة الجنرال "De Lorenzo". تمثلت المهمة الأولى لمنظمة الـ "كلاديو" في محاربة الشيوعية و الحيلولة دون وصول الحزب الشيوعي الإيطالي إلى الحكم مهما كلف الثمن، و لو تطلب ذلك القيام بكل الأعمال الإرهابية القذرة في إيطاليا كالاغتيالات و تفجير القنابل وإثارة الفزع وغيرها من الأساليب المرهبة. أما المخابرات العسكرية الايطالية التي تأسست في1 سبتمبر 1949 على يد وزير الدفاع "M. Bronzo"، الذي أصبح فيما بعد السكرتير العام لحلف الناتو- فكانت مرتبطة منذ اللحظة الأولى بالحكومة الأمريكية، لأنها قد وضعت تحت إشراف "Carmel Offie" الذي كان من عميلا للمخابرات الأمريكية .

و في ذلك السياق، لم يكتف حلف شمال الأطلسي بإنشاء منظمة الـ "كلاديو" السرية الإرهابية في ايطاليا وحدها ، بل إنه أقام مثيلاتها في جميع الدول الأعضاء و لكن تحت مسميات مختلفة: ففي ايطاليا كان اسم المنظمة "كلاديو Gladio" التي تعني "السكين القاطع" و في بلجيكا كان اسمها "SDRA-8"، و في فرنسا كان اسمها "زهرة الريح Rose des vents "، وفي اليونان اسمها "جلد الغنم Sheep skin"، وفي تركيا كان اسمها "الذئاب الرمادية Bozkurtlar"، و في ألمانيا كان اسمها "الشبكة الصامتة réseau Schwert "، و في هولندا "Nato Command"، و في انكلترا كان اسمها "Secret British Network"، و في استراليا كان اسمها "Schwert"، و في سويسرا كان اسمها P.26، وفي اسبانيا كان أسمها "Stay behind" .

كان المقر الرئيسي السري الذي تدار منه تلك المنظمات السرية في مدينة "بروكسل" التي يوجد بها كذلك مقر قيادة حلف الناتو. وفي ذلك المقر كانت تتم الاجتماعات بين رؤساء تلك المنظمات السرية أثناء انعقاد المؤتمرات و اللقاءات الرسمية لحلف الناتو، التي تشكل غطاء مناسبا لاجتماعات رؤساء كل المنظمات السرية الإرهابية المذكورة. و قد اشتهرت منظمة الـ "كلاديو" عالميا لأنها كانت أقوى تلك المنظمات وأكثرها دموية. فقد كان عناصر تلك المنظمة يتدربون بشكل صارم في معسكرات بجزيرة "سردينيا" مدة تتراوح بين 18 إلى 24 شهرا حسب نوع التخصص. وكانت "القوة الخاصة" المتدربة تنقسم إلى 40 فرقة رئيسة: 10 منها لعمليات التفجير، و 6 للاستخبارات، و 6 للدعاية، و 6 لعمليات التهريب والتسلل، بينما تتدرب اثنتان منها على فنون قتال العصابات. أما الفرق الباقية فكانت تتألف من الكادر الإداري والتدريبي بالإضافة إلى المخبرين السريين. ولم يكن أعضاء أي من تلك المجموعات على علم بعناصر المجاميع الأخرى، ولا على إطلاع بما يجري داخلها.

وينسب الرأي العام الايطالي والأوروبي عموما إلى منظمة الـ "كلاديو" الكثير من عمليات الاغتيال وجرائم القتل التي ذهب ضحيتها العديد من رجال السياسة ورجال الأعمال منها اغتيال "جوليان لاهوت Julien Lahaut"، رئيس الحزب الشيوعي البلجيكي، و كذلك تفجير سفارة فيتنام الجنوبية في روما، وعملية تفجير المصرف الزراعي في ميدان " فونتانا" في مدينة "ميلانو" سنة 1969. و تبقى أكثر عملياتها دموية هي حادثة تفجير محطة قطار (Blogna) في 2 أغسطس 1986، التي ذهب ضحيتها 85 من المدنيين الأبرياء علاوة على مئات الجرحى .

وقد تبين بأن منظمة الكلاديو هي التي رتبت عملية اختطاف و اغتيال الدو مورو Aldo Moro، رئيس وزراء ايطاليا الأسبق و رئيس الحزب الديمقراطي المسيحي الايطالي و قد استخدمت منظمة الألوية الحمراء اليسارية للتمويه فقط عند تنفيذ تلك الجريمة سنة 1978. أما السبب، فهو أن "الدو مورو" لم يكن يريد أن ترتمي ايطاليا في أحضان السياسة الأمريكية دون قيد أو شرط، لذا فقد بدأ بالتقارب مع الأحزاب اليسارية والاشتراكية في ايطاليا من اجل إتباع سياسة أكثر اعتدالا.

اتجهت أصابع الاتهام كذلك إلى منظمة الـ "كلاديو" حول مسؤوليتها عن اغتيال رئيس وزراء السويد الأسبق "أولف بالما Olof Palme" في 28 فبراير 1986 بعدما أثارت محطة التلفزيون الايطالية الشهيرة (RAI) ذلك الموضوع سنة 1990 و قدمت لمشاهديها شهادات عميلين سابقين في C. I .A أعادت تصريحاتهما إلى الأذهان فورة الجرائم التي اجتاحت أوروبا في سبعينيات القرن الماضي، و كذا علاقة المحفل الماسوني "2.P" بتلك الجرائم. وقد ذكرت الشهادات أيضا بأن من الأفضل التفتيش عن قاتل "الدو مورو" هناك في ذلك العنوان . كما نقلت جريدة L’Événement du Jeudi الفرنسية عن محقق أمريكي بأن منظمة حلف الناتو هي التي نفذت جريمة اغتيال "أولف بالما" لأسباب كان من أهمها أنه أيد "نلسون مانديلا" في كفاحه ضد التمييز العنصري في جنوبي إفريقيا، كما دعم تحرر "انجولا"، و اتبع سياسة للتقارب مع موسكو، بالإضافة إلى معارضته وضع حلف الناتو لأجهزة تصنت في بحر البلطيق موجهة ضد الإتحاد السوفيتي.

حمى العلاقات الدولية.. و انبعاث الإرهاب
مع نهاية سبعينيات القرن الماضي، شكلت تطورات الحرب الباردة و ما رافق الغزو السوفييتي لأفغانستان مرحلة حاسمة في تطور المسار الجديد لـ "إرهاب الدولة"، الذي سيلتقي هذه المرة بمعطى جديد- قديم هو التنظيمات الإسلاموية الراديكالية، بحيث سيفرز ذلك "الثنائي" في المستقبل مخرجات جديدة للإرهاب تحت ماركة "الجهاد" ستشكل نوعا من خدمة ما بعد البيع "service après-vente" بالنسبة لذلك المنتج الأصلي.

كيف استخدمت الولايات المتحدة أموال السعودية و نفوذها في العالم الإسلامي لدعم المقاتلين الأفغان و تنظيمهم و تسليحهم في حربها بالوكالة ضد الإتحاد السوفييتي؟ و كيف قلب بن لادن ظهر المجن لحلفائه و استخدم دعم أمريكا و السعودية من أجل إقامة بنية تحتية شبه عسكرية خاصة به في أوساط المجاهدين ليحولها فيما بعد إلى "قاعدة" للجهاد بعد انتهاء الحرب و توقف الدعم الرسمي و انقلاب حلفاء الأمس؟

لقد شكلت نهاية الاحتلال السوفييتي لأفغانستان و الفراغ الناجم عن توقف الدعم الأمريكي و العربي لآلاف الشبان من "الأفغان العرب" و المتطوعين الآخرين نقطة تحول جذري، فأصبحوا ينادون بالجهاد كواجب مقدس وبالسعي من أجل الشهادة في سبيل نشر الإسلام الذي هزمت قوته الاتحاد السوفييتي.

فهل كان بن لادن والقاعدة هما مجرد إنتاج مباشر لتلك الحرب؟ هل كان الأمر عبارة عن تلاقي مصالح سواء كانت عابرة أو دائمة؟ هل هو تكليف "غير رسمي" لخدمة مصالح إستراتيجية غربية؟ أم هو أجندة سرية تدخل في إطار ما يسمى بإرهاب الدولة كعمليات الكلاديو و غيرها من التنظيمات الإرهابية السرية؟

في الماضي، دأبت بريطانيا و الولايات المتحدة على دعم الحركات الإسلاموية لمواجهة المد الشيوعي و القومي داخل الوطن العربي و في العالم الإسلامي . أما حديثا، فقد دعمت بريطانيا الثورة الإسلامية في إيران لإيجاد منافس قوي للسعودية في العالم الإسلامي ولتحقيق التوازن مع العراق، بالإضافة إلى دعم باكستان الإسلامية و من خلالها أفغانستان كما أسلفنا. أما الموجة الثانية من دعم الجهاد الإسلامي فقد برزت في البوسنة منذ سنة 1992 بمساعدة من السعودية وباكستان و إيران وكذا بريطانيا وأميركا.

بادر الاتحاد السوفييتي، من أجل منع الولايات المتحدة من تنصيب نظام معاد له في أفغانستان المجاورة، بغزو أفغانستان في 24 ديسمبر/ كانون الأول 1979، بعد صراع مرير فيها بين حلفائه الرئيسيين نور محمد تراقي و حفيظ الله أمين. فكانت ردة الفعل الأمريكية هي تشجيع آلاف الشبان العرب و المسلمين على التوجه إلى أفغانستان وباكستان للمشاركة في الحرب على الروس تحت راية الجهاد. و قدمت لهم الدعم بالمال و السلاح و المعلومات بواسطة وكالة الاستخبارات المركزية. كانت الولايات المتحدة حينذاك تنتقم بطريقتها الخاصة من الاتحاد السوفييتي الذي دعم الثوار ضدها في حرب فيتنام.

و بدافع الخوف من انتشار المد الشيوعي، قامت بعض الحكومات الصديقة لأمريكا بتحفيز المتطوعين العرب لحمل السلاح في تلك الحرب التي أصبحت فجأة "مقدسة" ضد السوفيات. و كانت أهم الدول التي قدمت دعما سياسيا واقتصاديا وعسكريا للمقاتلين الأفغان هي السعودية وباكستان ومصر والكويت.

وقد سارعت مؤسسة الأزهر المصرية إلى إصدار فتوى تصف المتعاونين مع الروس بالخيانة، كما نشطت رابطة العالم الإسلامي السعودية و كذا الجمعيات الخيرية في الكويت والإمارات وقطر في إقامة مراكز للإغاثة و التعليم و الصحة، ساعدت في مجملها على ترسيخ تواجد الشباب العربي في باكستان و أفغانستان و كذا على الاستمرار في القتال إلى جانب الأفغان ضد الروس.

و نتيجة لذلك التشجيع السياسي الرسمي وما صاحبه من دعايات تعبوية استندت أساسا إلى منطلقات دينية، فقد انتشرت فتاوى بوجوب الجهاد ضد القوات السوفييتية الغازية، إلا أن أول من أطلق على المقاومة الأفغانية مصطلح "المجاهدين الأفغان" كان وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية .

كما نشط بعض كبار الدعاة في تجييش المشاعر الدينية ضد الغزو الروسي لأفغانستان. و قد لعب الدكتور عبد الله عزام، الذي كان الأب الروحي لـ "الأفغان العرب" دورا تعبويا هائلا في خلق تلك الظاهرة بتداعياتها و انعكاساتها المختلفة. كما أسهمت تسجيلاته و زياراته الدعوية و انتشار مؤلفاته عن انتصارات المقاومة الأفغانية مثل كتابه "آيات الرحمن في جهاد الأفغان" في ترسيخ أيديولوجيا الجهاد و بثها في عقول و قلوب آلاف المتطوعين الجدد من الشباب المسلم القادمين إلى أفغانستان للمشاركة في الحرب.

و في سياق ذلك الصراع الاستراتيجي المحتدم بين المعسكرين في إطار الحرب الباردة، برز الدور الذي كان المليونير السعودي" أسامة بن لادن" يقوم به من خلال إقامة معسكرات لاستقبال المتطوعين في باكستان و أفغانستان والإنفاق على إعاشتهم وتدريبهم و إنشاء مكتب الخدمات، و بيت الأنصار الذي سيشكل لاحقا منطلقا لتنظيم القاعدة، بعد تعاظم تأثير جماعة الجهاد المصرية على أسامة بن لادن .

قبل ذلك، كان مدير المخابرات السعودية آنذاك الأمير تركي الفيصل، قد كلف بن لادن ابتداء من سنة 1980 بتنظيم مهمات "الأفغان العرب" الذين كانوا يعبرون من جدة في طريقهم إلى بيشاور في باكستان، قبل الالتحاق بأفغانستان. استقر بن لادن سنة 1984 في باكستان، حيث بدأ بتنظيم شؤون الجهاد من خلال الاتصال و التنسيق مع الفلسطيني عبد الله عزام والمصري عمر عبد الرحمن.

و بحلول سنة 1985، سيدرك بن لادن بعمق أكبر أهمية البعد الإستراتيجي للدور الذي كان يقوم به في تنظيم المقاومة الأفغانية و كذا الطبيعة الحقيقية لذلك الصراع الدائر بين القوى العظمى من أجل السيطرة على المنطقة و ثرواتها الطبيعية. و رغم أن تفاصيل علاقة بن لادن مع أميركا و ابريطانيا لم تكن موثقة، فإن مصادر الاستخبارات الأميركية تشير إلى لقاء حصل آنذاك بينه مع مسؤولين أميركيين اقترحوا عليه تزويد المجاهدين الأفغان بصواريخ مضادة للطائرات من نوع "ستينغر" لاستعمالها ضد السوفيات في الحرب.

بعد الانسحاب السوفييتي من أفغانستان سنة ،1989 أوقفت السعودية - بطلب من الأميركيين- دعمها للأفغان العرب سنة 1990، واضعة بذلك نهاية غير متوقعة لمهمة أسامة بن لادن الرسمية في أفغانستان.

بقيت أفواج المتطوعين "الجهاديين" تتدفق إلى باكستان وأفغانستان رغم انسحاب السوفيات و رغم توقف المساعدات. و تشير بعض التحقيقات إلى أن الاستخبارات الباكستانية دربت في بداية التسعينات ما يقارب 20.000 من هؤلاء المتطوعين في مدينة بيشاور الباكستانية القريبة من الحدود الأفغانية. كما تم تجنيد البعض منهم من قبل أجهزة الاستخبارات الغربية مثل عمر سعيد شيخ، الذي كان طالبا في جامعة لندن للاقتصاد ومتدرباً في معسكر خالد بن الوليد في أفغانستان، و قد تم تجنيده سنة 1992 من طرف المخابرات البريطانية كعميل لها أثناء الحرب البوسنية.

مع بداية سنة 1995 تطور الدعم الباكستاني نوعيا لما سيسمى لاحقا بالجماعات الإسلاموية الراديكالية، حيث مولت باكستان بمساعدة بريطانية حركة "طالبان" في أفغانستان. و قد سيطرت تلك الحركة فيما بعد على أفغانستان و تحالفت عضويا مع بن لادن و تنظيم القاعدة. كما تشير تلك التحقيقات أيضا إلى أن لعبة التواطؤ البريطاني مع الأصوليين بلغت حدا سمحت فيه بريطانيا لأسامة بن لادن سنة 1994 بإنشاء مكتب في لندن لمتابعة شؤون المعارضة ضد النظام السعودي، بدليل أن فواتير مكالماته في تلك الفترة تدل على أن أكثرية المكالمات التي يجريها كانت باتجاه لندن و هو ما يشير إلى أهميتها كمنصة دولية لأنشطة بن لادن. كما تزعم تلك التقارير بأنه زار لندن سنة 1994 وسكن في منطقة "ويمبلي" للتنسيق مع بعض قيادات جماعة الجيش الجزائري الإسلامي.

أدت برامج الدعم البريطاني لمواجهة السوفيات إلى تعزيز القوى الراديكالية في باكستان و خاصة في أفغانستان من خلال تطوير قدرات المجاهدين عسكرياً و ماليا. و كان ذلك الدعم قد بدأ في أيام تاتشر التي أيدت الجنرال ضياء الحق رغم ادعائه تطبيق قانون للعقوبات حسب الشريعة الإسلامية، و رغم علمها بدعمه للجماعات الإسلاموية في باكستان وأفغانستان. و هكذا أشرفت بريطانيا على تدريب الضباط الباكستانيين الذين يقومون بدورهم بتدريب وتأهيل مقاتلي حركة طالبان. إضافة إلى دعم باكستان المباشر لحركة طالبان ومساعدتها على إنشاء معسكرات بن لادن للتدريب الذي سيشكل فيما بعد أكبر تهديد للمصالح الغربية عبر العالم. أما باكستان قد لعبت دور الوكيل لبريطانيا في تلك المنطقة الساخنة من العالم والثرية بالغاز. و ظلت عيون بريطانيا آنذاك تراقب احتياطي النفط والغاز الجديد في أسيا الوسطى ، لذا فقد تجاهلت تنامي الجهاديين الباكستانيين والأفغان العرب و خطورة تحولهم إلى إرهابيين محتملين.

أما الولايات المتحدة فقد دعمت كذلك "طالبان" عند بداياتها لمواجهة إيران و طمعا في توقيع اتفاقيات مغرية مع شركات البترول الأميركية الكبرى المعروفة بـ "السنيورز"، و خاصة شركة "يونوكال" التي بذلت مجهودا خاصا لتحقيق ذلك الغرض . وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لم تسلح طالبان بشكل مباشر، إلا أنها فعلت ذلك من خلال السماح لحلفائها بالقيام بتلك المهمة.

باختصار، لعب التعاطي الغربي مع مجريات العلاقات الدولية في سياق الحرب الباردة و كذا تداعيات نجاح الثورة الإسلامية في إيران والغزو السوفيتي لأفغانستان دورا حاسما في تفشي الظاهرة الإرهابية. و كان دعم الولايات المتحدة الأمريكية للجهاد العالمي ضد الشيوعية بتغطية فقهية من المدارس السلفية في العالم الإسلامي، وما تبع ذلك من تسهيل تنقل "المجاهدين" إلى باكستان ومنها إلى أفغانستان، السبب المباشر لانبعاث الإرهاب مع مطلع تسعينيات القرن الماضي. فقد خلف انسحاب الجيش الأحمر من أفغانستان تركة ثقيلة هي ما أصبح يعرف آنذاك بـ "الأفغان العرب"، الذين أجبروا على الرحيل من باكستان خوفا على استقرار تلك الدولة النووية، فكانت عودتهم إلى بلدانهم بمثابة القنبلة الموقوتة التي ستنفجر عند اشتعال فتيل الأزمات في تلك البلدان الهشة.

القاعدة و الكلاديو.. من الاختراق إلى المواجهة
بدأت مشكلة "الأفغان العرب" بعد انتهاء الحرب ضد السوفيات . انخرط قسم منهم في الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين فصائل "المجاهدين"، فانضم بعضهم إلى قوات أمراء الحرب مثل "قلب الدين حكمتيار"، الذي دعاهم إلى الدخول إلى الأراضي الأفغانية بعد أن بدأت الأجهزة الأمنية الباكستانية في ملاحقتهم بالتعاون مع الأجهزة الأمنية لبعض الدول العربية. و بينما ذهبت مجموعات أخرى منهم لتقاتل مع "أحمد شاه مسعود"، رفض قسم آخر منهم المشاركة في تلك الحرب و فضلوا الذهاب للقتال مع شعوب مسلمة أخرى في أماكن مختلفة من العالم أو العودة إلى بلدانهم الأصلية وممارسة العنف المسلح ضد الحكومات، و هو ما سيسفر عنه لاحقا انتشار عمليات القتل والاغتيالات و التفجيرات في تلك البلدان. في ساحة الجهاد الأفغاني التقت أطياف واسعة من "الجهاديين" سواء كانوا من الإخوان مثل عبد الله عزام و أتباعه أو من السلفية كجماعة "الجهاد المصرية" وغيرهم، فحصلت بين تلك الجماعات معركة استقطاب سياسي حددت نتائجها فيما بعد مفهومَ "أيديولوجيا الجهاد" الذي سيتم اعتماده من طرف الأفغان العرب في مرحلة ما بعد أفغانستان. و يتضح من مجريات الأحداث بأن "جماعة الجهاد" المصرية، التي قامت على أفكار عبد السلام فرج، ثم سيد إمام شريف وأيمن الظواهري وعمر عبد الحكيم (أبو مصعب السوري)، هي التي حسم الموقف لصالح وجهة نظرها. و يتلخص رأي تلك الجماعة في "تبرير الجهاد ضد الحكومات التي لا تطبق الشريعة ولا تحكم بما أنزل الله، و نزع الشرعية عن التيارات الإسلامية التي لم تتفق وفكر جماعات الجهاد لاسيما الإخوان المسلمين" .

بدأ بن لادن، و قد أصبح نفوذه يتزايد في الساحة الإسلامية، يشعر و كأنه تعرض لخيانة كبرى بعد عودته إلى السعودية محاولا- دون جدوى- إقناع حكومتها بضرورة الاستمرار في تقديم الدعم للمجاهدين في أفغانستان. و كانت تلك نقطة تحول هامة في مسار بن لادن كفاعل جديد في حقل العلاقات الدولية سيكون مؤثرا في تطورات الأحداث اللاحقة في المنطقة و في العالم. بعد ذلك، بدأت معارضة بن لادن للسلطة السعودية تتسع، بعدما أقام تحالفا سريا مع معارضي العائلة المالكة في الخارج. و في نهاية المطاف، انشق بن لادن عن النظام السعودي، بعد أن كان يضطلع بدور "المفوض السامي السعودي" على الطريقة البريطانية، في كل ما يتعلق بتسيير ملف المقاومة الأفغانية ضد الروس. و لكن بن لادن سيتمكن بفضل ثروته و استثماراته الكبيرة من الاستمرار في دعم المجاهدين الأفغان رغم معارضة الرياض و واشنطن. و سيتعمق الشرخ أكثر بعد خلافه الكبير مع السلطات السعودية إثر حرب الخليج الأولى ضد العراق، عندما ندد بتواجد القوات الغربية على الأراضي المقدسة و دعا إلى إخراجها بالقوة.

في سنة 1991غادر بن لادن السعودية نهائيا ليستقر في السودان بعد وصول حسن الترابي إلى الحكم. و هناك أحاط نفسه ببعض الأفغان العرب، و بدأ يوسع استثماراته الاقتصادية في السودان و انطلاقا منها. و هنا بدأت دعاية أجهزة الاستخبارات الغربية تتغير جذريا اتجاه الرجل الذي كان بالأمس القريب أهم حليف لهم، فأصبح بن لادن متطرفا وصارت استثماراته وسيلة لدعم الإرهاب الأصولي في العالم. فكانت "أموال الخليج واستخبارات باكستان و السي . أي . إي وراء انتشار الإرهاب" في العالم .

جلبت تسعينات القرن الماضي مزيدا من تهديدات الجماعات الراديكالية و الإرهابية إلى أوروبا والولايات المتحدة، فاكتوت تلك البلدان بنار إرهاب الجهاديين، و بدأ الغرب يدين أولئك الذين كانوا "مجاهدين" ضد السوفيات الشيوعيين قبل سنوات فقط . بدأت أولى الحروب الجهادية في البوسنة سنة 1992، ثم تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك سنة 1993 والهجوم على مترو الأنفاق في باريس سنة 1995. كما تعرضت المملكة العربية السعودية، بعدما جردت بن لادن من جنسيته سنة 1994، لأول هجوم إرهابي سنة 1995 عندما تم تفجير مبنى تدريب الحرس الوطني بالرياض ثم تفجير القاعدة الأمريكية في الخبر سنة 1996. بعد ذلك توالت العمليات الإرهابية التي شكلت أول ملامح عولمة الإرهاب بصيغة الجهاد المسلح في طبعته الجديدة.

رجع بن لادن إلى أفغانستان سنة 1996، و قد اتهمته السعودية بدعم الإرهاب في الجزيرة العربية و في الجزائر و مصر، و هناك صادفت عودته بروز نجم حركة "طلبان" بعد دخولها العاصمة كابول منتصرة في سبتمبر 1996. و بعد أن استقر بن لادن و توطدت علاقته بزعيم الحركة الملا عمر، بدأت مرحلة جديدة من تاريخ الإرهاب تحت مظلة الجهاد، بعد أن باشر الرجل نشاطاته السياسية و العسكرية و أعاد تنظيم و نشر شبكاته التي شملت الحركات الإسلامية السلفية التي تمارس القتال كالجماعة المسلحة الجزائرية و الجماعات الإسلامية المصرية، والجماعة المسلحة الليبية وغيرها من التنظيمات الإسلامية في البلقان وجماعة أبو سياف الفليبينية و جماعات ألبان كوسوفو، كما أنشأ خلايا في الولايات المتحدة و ألمانيا و كندا، وقد انخرط فيها الكثير من الشباب المتحمس للدعوة للجهاد ضد الغرب و ضرب مصالحه الحيوية عبر العالم. و فتح بن لادن كذلك العديد من المخيمات في أفغانستان لتجميع المقاتلين و معسكرات لتدريبهم على استعمال الأسلحة و القيام بالعمليات الإرهابية النوعية.

و هكذا أنشأ بن لادن تنظيما أخطبوطيا هائلا تعددت هياكله التنظيمية ليشكل "حلفا مقدسا" ضم غالبية الأفغان العرب الذين كان يبلغ عددهم إبان حكم طالبان أزيد من 4000 آلاف مقاتل، وكان من بينهم من ينتمي إلى تنظيمات قديمة نشأت في بلدانهم الأصلية مثل الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد و جماعة التكفير والهجرة في مصر وجيش عدن الإسلامي في اليمن و الجماعة الإسلامية المسلحة الجزائرية والجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية.

فظهر إلى الوجود تنظيم "القاعدة" الذي سيبرز سريعا كجبهة إسلامية عالمية لقتال اليهود والصليبيين حسب عقيدته الجهادية التي أعلن عنها بن لادن في فبراير/ شباط 1998. و منذ تلك السنة، أصبح بن لادن مركز اهتمام و متابعة خاصة من طرف وكالات الاستخبارات الغربية التي تسعى لمطاردة شبكاته المالية لتجفيف منابعها و تقتفى أثره، و تتجسس عليه لكشف معاقله و مخابئ خلايا تنظيمه النائمة في جميع أنحاء العالم.

في 1999- 2000 اتفقت الدول الغربية و حلف شمال الأطلسي على اعتبار أن بن لادن يشكل تهددا حقيقيا للغرب بفضل ثروته المقدرة بمئات ملايين الدولارات و التي يستخدمها في تمويل "الجهاد" عبر العالم. كما أتهمت الأجهزة الغربية تنظيم القاعدة بتهريب المخدرات من أجل تمويل أنشطته الإرهابية. لكن المشكلة أن بن لادن الإرهابي والمنشق في عيون واشنطن والرياض، أصبح ملايين المسلمين، الذين يعتبرون أنفسهم ضحايا الاضطهاد الأميركي، يرون فيه رمزا للنضال من اجل التحرر .

في 2001 حصلت هجمات الـ 11 من سبتمبر التي ما زال الغموض يلف حقيقتها، و تثير من الأسئلة أكثر مما تعطي من الأجوبة. و رغم تبني القاعدة لتلك الهجمات آنذاك، فإن عدة قرائن تشير حتى الآن إلى وجود تواطئ لبعض الأجهزة الأمريكية، على أقل تقدير إن لم يكن مشاركة فعلية، في تخطيط و تنفيذ تلك العمليات النوعية. كما بقيت الشكوك تحوم حول طبيعة السلاح المستخدم في الهجوم على مبنى البنتاغون و الذي يستحيل أن يكون بحوزة القاعدة آنذاك. و مهما يكن من أمر، فقد شكلت تداعيات الحادي عشر من سبتمبر ما يمكن اعتباره أكبر تحول في مسار "إرهاب الدولة" في زمن الكوكبة.

و قد أدت تلك التداعيات - من بين أمور أخرى - إلى تبرير طرح منتوج جديد و غامض في الأسواق ألا و هو "الحرب على الإرهاب"، التي باسمها شرع، حتى الآن، ارتكاب الكثير من الفظاعات في العالم مثل احتلال أفغانستان و العراق و استخدام طائرات بدون طيار لقصف المشتبه بهم في باكستان و افغانستان و اليمن و الصومال. و صودرت الحريات العامة للأشخاص و المؤسسات في الغرب و الشرق و جمدت الأرصدة المالية وغيرت موازين القوة على الصعيد الإستراتيجي الدولي و أخيرا، جلبت الأزمات الإقتصادية و المالية. و بذلك تمت عولمة الإرهاب بلا رجعة. و لكن الأوان قد فات، فبذور الشبكات "الجهادية" التي زرعتها الاستخبارات الغربية أيام حرب الأفغان ضد السوفيات في أواخر السبعينات، ضمن سياق أنشطة إرهاب الدولة، و تعهدها بن لادن بالسقاية و الرعاية، قد نمت كثيرا منذ ذلك التاريخ و انتشرت أغصانها المتداخلة في كل مكان.. في أوروبا الغربية و في إفريقيا.. في روسيا والجمهوريات الإسلامية السوفييتية السابقة.. و في عموم آسيا.

العنف و العنف المضاد.. من يرهب من؟
مع اتساع المساحة الدراماتيكية لدوامة العنف و العنف المضاد، تبرز تساؤلات كبرى حول حقيقة الإرهاب، لكي تبقى مطروحة للبحث و التحليل. و يتعلق الأمر هنا بتساؤلات هي بطبيعتها محرجة لأجهزة الاستخبارات الغربية. هل أسس بن لادن "القاعدة" بعلم و قبول تلك الاجهزة و بتنسيق معها ؟ و لما كانت الاستخبارات الغربية على علم مسبق بأنشطة تنظيم بن لادن وبدعمه للإرهاب في بعض الدول العربية وإنشائه شبكات في الغرب، فلماذا رفضت تلك الأجهزة التعاون مبكرا مع الدول العربية مثل الجزائر ومصر ضد بن لادن و شبكات الأفغان العرب؟ و لماذا رفضت الحكومات الغربية (بريطانيا و أمريكا خاصة) مطاردة الإسلاميين الجزائريين والمصريين من المتشددين الذين كانوا يمولون و يدعمون الإرهاب في تلك البلدان بل منحتهم الإقامة و حرية التحرك على أراضيها؟ ثم، لماذا انتظرت تلك الأجهزة حتى يتم استهداف المصالح الغربية لكي تدين الإرهاب و تكتشف صلته بالجماعات المتطرفة؟

من المسؤول عن نمو الإرهاب العالمي؟ و لماذا تحمل تلك المسؤولية للقاعدة و للحركات الجهادية وحدها؟ لماذا يتم تمييع المفهوم المتداول إعلاميا للإرهاب في دلالات نمطية تخص الإسلام و المسلمين فقط؟ لماذا تصرف الأنظار آليا عن مسؤولية المنظمات الإرهابية السرية و عن الدول التي تخطط و تنفذ و تدعم الإرهاب؟ ما هو إرهاب الدولة؟ و لماذا لا تتم إدانته؟ ما الفرق بين ممارسة فظاعات الإرهاب باسم الجهاد و بين ممارستها باسم الحرب على الإرهاب؟

يعتقد "تيدو شتينبرغ"، خبير الإرهاب لدى مكتب المستشار الألماني الأسبق "جيرهارد شرويدر"، و الباحث في المعهد الألماني للدراسات الدولية والأمنية، بأن لا وجه للمقارنة تاريخيا من حيث النتائج بين إرهاب الدولة و بين أشكال الإرهاب الأخرى. و يسوق على ذلك مثالا، فإرهاب الدولة الذي قاده هتلر و النازية كلف البشرية حوالي 50 مليون ضحية، بينما لم يتجاوز عدد الضحايا في أكبر عملية قامت بها الجماعات الإرهابية حتى الآن 3000 أميركي في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.

و قد نشر الأكاديمي الأمريكي "زولتان غروسمان" سنة 2002 لائحة بالتدخلات العسكرية الأمريكية في الخارج من سنة 1890 إلى سنة 2001، فجاء عددها 137 تدخلاً، و قد ارتفع معدلها - بعد سقوط جدار برلين - إلى تدخلين في السنة الواحدة. أما عدد الحالات التي فرضت فيها الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية ضد الآخرين، فبلغ 120 حالة خلال ثمانين عاماً، منها قرارات اتخذت ضد 75 دولة في سنة 1998 وحدها. و ذكر الفيلسوف "ناعوم شومسكي" في مقدمة كتابه "قراصنة وأباطرة" أن كلمة "الإرهاب" ظهرت في نهاية القرن الثامن عشر للدلالة، بشكل أساسي، على عمليات عنف تمارسها الدولة لفرض الخضوع الشعبي، إلا أن هذا المعنى تطور مع مرور الزمن ليقتصر على الذين يضايقون الأقوى. وهكذا أخذت عبارة "الإرهاب" تعني "الإرهاب المفرق" الذي يقوم به الأفراد أو الجماعات، بينما كانت تستعمل في السابق للإشارة فقط إلى إرهاب الأباطرة الذين يضايقون رعاياهم و يضايقون العالم.

في هذا السياق، ليس صدفة أن ترجع كلمة الإرهاب إذن إلى قاموس الثورة الفرنسية . و تشير المعاجم الفرنسية إلى الارتباط الوثيق بين هذه الكلمة و ما عرف آنذاك بـ "حكم الإرهاب" أو "عهد الإرهاب" "Reign of Terror" في فرنسا المعروف بـ "Terreur"، الذي أعلنه أحد أبرز زعماء تلك الثورة و هو "ماكسميليان روبسبيير Maximillien de Robespierre" و رفاقه "اليعاقبة" من أمثال سان جيست (St . Just) وكوثون (Couthon) . وقد استمر ذلك الحكم من 10 مارس 1793 الى 27 يوليو 1794، و كان أصحابه يرون فيه تجسيدا للفضيلة السياسية. و قد بدأ عهد الإرهاب بإصدار محكمة الثورة 1285 حكماً بالإعدام في غضون فترة لا تتجاوز شهرين فقط، بينما غصت سجون باريس آنذاك بأكثر من 7800 سجين ينتظرون نهايتهم المأساوية. و كانت الاعتقالات والأحكام تصدر أحياناً لمجرد الاشتباه. و من أصل سكان فرنسا، الذين كان يبلغ عددهم آنذاك 27 مليون نسمة، قطعت رؤوس 40 ألفًا شخص عن طريق المقصلة في ظل "حكم الإرهاب". أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد كاد السناتور "جوزيف ماكرثي "Joseph McCarthy أن يصبح "روبسبير" القرن العشرين، عندما قاد آنذاك حملته التعسفية الشهيرة ضد اليسار الأمريكي باسم مناهضة الشيوعية بين سنتي 1950-1954. و قد عرف ذلك العهد أيضا في الولايات المتحدة بـ "الإرهاب الأحمر Red Scare" أو"الماكارتية" .

اشتقت كلمة "الإرهاب" في اللغتين الإنجليزية والفرنسية من اسم "عهد الإرهاب"أو "حكم الإرهاب" المذكور آنفا: (Terrorism) بالإنجليزية و (Terrorisme) بالفرنسية. و لم تتحول كلمة الإرهاب عن دلالتها القديمة في تاريخ الفكر الغربي، و التي تحيل إلى نوع من الفضيلة السياسية، إلى معناها القدحي المتداول حاليا، والذي يجعل من الإرهاب نوعا من معاداة المجتمع والخروج على نظامه، إلا مع الكاتب والمفكر البريطاني "أدمون بيرلي"، الذي أطلق لأول مرة كلمة الإرهاب على الجماعات التي كانت تعتمد في ترويج آرائها السياسية على أسلوب التخويف والإكراه. كما يرجع هذا المعنى أيضا إلى الفوضوي الروسي "سيرجي ناشاييف"، الذي يصف هو نفسه بأنه "إرهابي"، و هو مؤسس الجماعة الإرهابية الشعبية الروسية سنة 1869 .
من الناحية اللغوية، يعرف القاموس الفرنسي "لاروس" الإرهاب بأنه "مجموعة أعمال العنف التي ترتكبها مجموعات ثورية أو أسلوب عنف تستخدمه الحكومة"، كما يعرفه معجم "روبير" بأنه "الاستخدام المنظم لوسائل استثنائية للعنف من أجل تحقيق هدف سياسي". أما قاموس أكسفورد الإنجليزي، فيعرف الإرهاب بأنه "استخدام الرعب خصوصا لتحقيق أغراض سياسية". أما لسان العرب لابن منظور، فيعتبر أن الإرهاب والرهبة يوازيان الخوف والذعر، و"رهب بالكسر يرهب ورهبا بالضم ورهبا بالتحريك أي خاف، ورهب الشيء رهبا و رهبة أي خافه". و يبقى تعريف الإرهاب في ظل القواميس مرادفا للعنف غير المشروع، بينما يعتقد "بوغدان زلاتريك" بأن مصطلح "الإرهاب" و "الإرهابيين" لم يصبح موضع استعمال مقرون بمضامين جنائية إلا منذ سنة 1930، عندما دخلت فكرة الإرهاب في الفقه القانوني لأول مرة في المؤتمر الأول لتوحيد القانون الجزائي، الذي عقد في مدينة وارسو في بولندا سنة 1930. و منذ ذلك التاريخ لم تتوقف المحاولات الفقهية لوضع تعريف جامع للإرهاب ، لكن دون جدوى. و مهما يكن من أمر، فلا يقتصر مصطلح الإرهاب كما هو معروف اليوم على المعنى المتداول إعلاميا أي إرهاب الأفراد و الجماعات المسلحة ضد المدنيين و الأبرياء فقط، رغم كونه أوضح و أعمق صورة للإرهاب في وقتنا الحاضر، وإنما يشمل كذلك إرهاب الدولة، التي قد تستخدم العنف من أجل تحقيق أهداف سياسية مثل الحفاظ على كيانها أو نظامها حكمها السياسي أو نموذجها الأيديولوجي في مواجهة أي تهديدات محتملة .
في إرهاب الدولة..
من الناحية المنهجية، يمكن تقسيم الإرهاب تبعا لثلاثة متغيرات مختلفة: من حيث نوعية الفاعل الذي يقوم به كأن يكون دولة أو فردا أو جماعة، و من حيث الهدف المنشود منه، فقد تتعدد أهدافه، كأن تكون أيديولوجية أو انفصالية أو إجرامية، و أخيرا، من حيث النطاق الجغرافي لممارسته، فقد يكون الإرهاب محليا أو دوليا. و قد تتداخل بعض أشكال الإرهاب فيما بينها، فنجد متغيرين أو أكثر في آن واحد، فقد نجد - مثلا- إرهابا فرديا إيديولوجيا أو إرهابا فرديا انفصاليا، وقد يكتسب كلا المتغيرين الطابع الدولي أو المحلي.

أما الإرهاب من حيث الفاعل فهو نوعان هما إرهاب الدول و إرهاب الأفراد و الجماعات. و بالطبع قد يحدث تداخل بين هذين النوعين. فقد يحدث أن تمارس الدولة الإرهاب بشكل مباشر أو غير مباشر، بواسطة دعمها لأفراد أو جماعات إرهابية تؤسسها الدولة لزرع الرعب في أواسط مجموعة معينة من المواطنين أو ضد المجتمع بأسره. كما أن الجماعات الإرهابية إذا نجحت في السيطرة على مقاليد السلطة في دولة ما، فقد تستمر في استخدام العنف والإرهاب لجملة من أهداف المختلفة. و أكبر مثال هذا النوع من الإرهاب هو ما مارسته العصابات الصهيونية (اشتيرن، الهاجانا، لارغون، ...) ضد سلطات الانتداب البريطاني في فلسطين قبل احتلالها ، من أعمال إرهابية مختلفة، و كذا ممارساتها الإرهابية ضد الفلسطنيين بعد أن وصلت تلك العصابات إلى الحكم و أقامت الدولة الإسرائيلية، و هي ممارسات ما زالت مستمرة حتى الآن.

أما على المستوى الخارجي، فقد تمارس الدولة الإرهاب بشكل مباشر من خلال عمليات قد تنفذها وحداتها العسكرية ضد المدنيين في دولة أخرى، ويسمى ذلك بـ "الإرهاب العسكري"، وهو يختلف عن "الإرهاب القهري" الذي يهدف إلى تجميع الشعب و السيطرة عليه، في حين يهدف الإرهاب العسكري إلى تفريق الشعب وإضعاف إرادته. أما الصورة غير المباشرة لإرهاب الدولة، فتتمثل في المساعدات التي قد تقدمها الدولة إلى الإرهاب وجماعاته مثل توفير المال و السلاح والدعم اللوجستيكي، و غير ذلك بغية إضعاف دول أخرى منافسة لها أو معادية.

و لكن في الحقيقة، يتعذر التعرف على عمليات "إرهاب الدولة" لأن من الصعب تحديدها بحكم كونها تمارس بصفة بالغة السرية. كما يستعصي غالبا إيجاد الأدلة الثبوتية القاطعة لربط ارتكاب أعمال إرهابية معينة مباشرة بالدولة التي تقوم بها على نجو كاف لإدانتها قانونيا. و يعتبر إرهاب الدولة في كثير من الأحيان من المحرمات تماما في سياق العلاقات الدبلوماسية بين البلدان، فلا توجد دولة تعترف جهارا بممارستها لإرهاب الدولة، رغم أن الولايات المتحدة الأمريكية تصدر سنويا قائمة بأسماء الدول الداعمة للإرهاب من وجهة نظر أمريكية بحت.

و قد يستخدم مفهوم "إرهاب الدولة" أيضا في سياق أدبيات النقد السياسي، حيث يعتبر الفيلسوف المعاصر "نعوم تشومسكي" أن الولايات المتحدة تمارس سياسة خارجية تجسد بامتياز "إرهاب الدولة". و يستند تشومسكي في ذلك بشكل خاص على حكم صادر عن محكمة العدل الدولية سنة 1986 يدين الولايات المتحدة بـ "الاستخدام غير القانوني للقوة" في نيكاراغوا . وقد ظلت علاقة الدولة الأمريكية بالإرهاب تتردد كثيرا في الأدبيات السياسية و الإعلامية منذ الحرب العالمية الثانية. و يشير المؤرخ "جان ميشال لاكروا" أن الولايات المتحدة إذا أدانت إرهاب الدولة بعد 11 سبتمبر، فيجب أن لا ننسى أنها كانت تدعمه قبل ذلك في أماكن عديدة من العالم مثل اندونيسيا و إيران و كمبوديا و جنوب أفريقيا.

من الناحية القانونية، يوجد خلاف بين الفقهاء حول موضوع "إرهاب الدولة" الذي يعرف كذلك بـ "الإرهاب الأبيض"، و يشمل كافة الأنشطة و العمليات الإرهابية التي قد تقوم بها الدولة إما مباشرة بنفسها، أو بواسطة جماعات تابعة لها. أما البعض منهم، فيدخل ذلك الشكل من الإرهاب في إطار العدوان أكثر من كونه إرهابا. إلا أن الفكر القانوني مستقر عموما على إثبات وجود مثل هذا الإرهاب، من حيث أنه يرى أن الدولة كمؤسسة قد تمارس الإرهاب في الداخل أو الخارج، فيسمى "الإرهاب المؤسسي" أو السلطوي بالنظر إلى أنه يستند إلى السلطة الشرعية. كما يطلق عليه أيضا "الإرهاب من أعلى". و لكن، ينبغي كذلك الانتباه لعدم الوقوع في خلط منهجي، فليس كل عنف تمارسه الدولة يسمى إرهابا، لأن هناك أشكالا أخرى من العنف الرسمي قد تمارسها الدولة في حدود الشرعية القانونية، و لا يمكن - بطبيعة الحال- اعتبارها إرهابا.

و رغم صدور أكثر من 6000 كتاب و مقال و بحث حول الإرهاب والإرهاب المضاد خلال العشرين سنة الأخيرة، و تأسيس العديد من المعاهد المتخصصة في دراسة الإرهاب، لا يوجد حتى الآن مفهوم محدد لهذه الظاهرة. و لكن فقهاء القانون، رغم اختلافهم في تعريف "إرهاب الدولة"، فقد عددوا صورا مختلفة لأشكاله، فيعرفه بعضهم بأنه "استعمال الدولة لوسائل العنف بانتظام لإثارة الرعب لتحقيق أهداف سياسية". و"الإرهاب يساعد الدولة على تحقيق بعض الأهداف التي تعجز الطرق السلمية عن تحقيقها"، كما يقول المحلل الأمريكي الشهير "وبستاير ترابلي webster G. " Tarpley.

في إرهاب الأفراد و الجماعات..
قد يكون إرهاب الأفراد والجماعات، و يطلق عليه كذلك "إرهاب التمرد" أو "الإرهاب من أسفل" عنفا مؤدلجا أو غير مؤدلج. فأعمال العنف غير المؤدلج هي ما تقوم به جماعات مسلحة لا تستند إلى قاعدة فكرية أو مستندات أيديولوجية محددة، و إنما تقوم بسلوكها العنفي بدوافع مختلفة مثل الحصول على المال أو نوعا من "السادية" (مرض نفسي يشعر صاحبه باللذة عند إلحاق الألم بالآخرين) أو بدوافع أخرى إنتقامية أو شخصية إلخ.... وهذا الشكل من العنف هو الإرهاب العادي إلا أنه لا يتجاوز المعنى العام للجريمة المنظمة، ولهذا فإن مواجهته تقتصر على الجانب الجنائي كملاحقة المجرمين و إلقاء القبض عليهم و محاكمتهم من أجل وضع حد لسلوكهم الشاذ من خلال العقوبة الجنائية.

أما النوع الثاني من إرهاب الأفراد والجماعات فهو العنف المؤدلج الذي يستند إلى قواعد فكرية ومبادئ نظرية و مفاهيم إجرائية تخدم أهدافه و تبررها في ذات الوقت. و في هذه الحالة لا يعود الإرهاب مجرد فعل ساديً أو جرمي اعتيادي، و إنما يتحول إلى إيديولوجية قائمة على تبرير استخدام العنف من أجل الحصول على مكاسب سياسية اجتماعية أو دينية وحتى فكرية وثقافية.

و قد تعدد صور الاستهداف الإرهابي المعاصر، سواء كان يستند إلى بنية دينية أيديولوجية أو إلى أصول سادية ذات علاقة بالجريمة أو إلى نوازع سلطوية، و سواء كان موجهاً ضد المدنيين بشكل عام، أو كانت تمارسه الدولة نفسها ضد المواطنين أو الخصوم السياسيين. و ينقسم إرهاب الأفراد و الجماعات إلى عدة أشكال منها:

- الإرهاب الثوري: و تتعدد الأهداف التي تسعى إليها التنظيمات التي تمارسه، فقد تكون أهدافه أيديولوجية أو انفصالية أو إجرامية. و عادة ما يتم تبرير هذا الشكل من الإرهاب في إطار إيديولوجية ثورية يؤمن بها من يمارسونه، و غالبا ما ينذرون أنفسهم لإنجازها قصد إحداث تغيير شامل في التركيبة السياسية والاجتماعية للنظام الاجتماعي- السياسي القائم. و قد يمارس كذلك في إطار حركة عالمية مثل الماركسية أو في إطار تنظيمي داخلي أضيق. و يتميز الإرهاب الثوري بالتركيز على التنظيم و النشاط الجماعي المكثف. و من أمثلة الإرهاب الثوري قديما يمكن ذكر أعمال الإرهاب "الفوضوي" الذي مارسه الثوار في روسيا للوصول إلى هدفهم فحققوا الثورة البولشوفية سنة 1917. أما أمثلته المعاصرة فهي الأنشطة الإرهابية لمنظمات "الألوية الحمراء" و "العمل المباشر" و "الباسك" و "جبهة التحرير الكورسية"، إلخ... و كذلك، قد يكون الإرهاب الإيديولوجي دينيا كما عرفته القرون الوسطى من خلال محاولات فرض الموالاة والإخلاص للكنيسة الكاثوليكية بالقوة في روما، و في العصر الحديث، تدخل ضمن هذا الإطار التنظيمات الأصولية الإسلاموية المعاصرة التي تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة و ترفض كل الإيديولوجيات الأخرى، منادية بحرب شاملة لا تنتهي إلا بتحقيق أهدافها الأيديولوجية الخاصة بها.

- الإرهاب العدمي: و هو يستهدف القضاء على النظام القائم فقط دون إيجاد نظام بديل. و هو لا يستهدف التغيير فقط بل التدمير أيضا. و قد سببت الجماعات التي تمارس هذا النوع من الإرهاب تحديا كبيرا عبر التاريخ، و قد ظهرت حالات من الإرهاب العدمي إبان الثورة الفرنسية، أما أكبر مثال عليه في هذا العصر فهو التفجيرات شبه اليومية التي تحدث في العراق منذ احتلاله سنة 2003 من طرف الجيش الأمريكي و قوات التحالف الغربي.

- الإرهاب العادي: و هو الذي يقوم به عادة أفراد أو عصابات تمارسه بشكل محترف، ويكون بدافع أناني أو إجرامي من أجل تحقيق مصالح شخصية أو اقتصادية أو اجتماعية. و هو أكثر أنواع الإرهاب شيوعا عبر التاريخ البشري. و يتجسد الإرهاب العادي في الكثير من أعمال العنف المختلفة كالقتل، و الخطف، و القرصنة، واحتجاز الرهائن لطلب فدية مالية، و النهب، والسلب و التخريب، و الابتزاز، والسطو المسلح، و الحرابة، و غيرها من الجرائم التي يعاقب عليها القانون. و أمثلة هذا الشكل من الإرهاب معروفة، و هي أكثر من أن تحصى، فمنها ما يقوم به الأفراد يوميا في كل المجتمعات، و كذا أعمال العصابات الصغيرة و الكبيرة كالأنشطة الإجرامية للمنظمات السرية و "المافيا" المحلية و الدولية في جميع أنحاء العالم.

نهاية الإرهاب.. ضوء في آخرا النفق
مع مطلع القرن الواحد و العشرين، تضافرت عوامل دولية و محلية مختلفة أدت إلى عولمة الإرهاب بجميع أشكاله. و من أبرز سمات الإرهاب "المعولم" اليوم هو تنامي العلاقة بين كل من التنظيمات الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة و أجهزة المخابرات. و تتمثل تلك العلاقة في نوع من التعاون والتنسيق و التداخل بين هذه الشبكات الثلاث بما يخدم أهداف كل واحدة منها على حدة. و هكذا، تقوم عصابات الجريمة المنظمة بتزويد التنظيمات الإرهابية بالوثائق المزورة كجوازات السفر وبطاقات الهوية و البطاقات المصرفية، و تسويق المخدرات و الأسلحة، إلخ... كما تقوم الشبكات الإرهابية بتوفير الحماية للعمليات غير المشروعة من خلال حراسة و تأمين عبور المخدرات و البضائع الممنوعة في المناطق الخاضعة لنفوذها لصالح عصابات الجريمة المنظمة. و تقوم عصابات الجريمة المنظمة كذلك بدور المقاول لتنفيذ عمليات اختطاف الرهائن و القرصنة والسرقة و الحرابة و غسيل الأموال لصالح الشبكات الإرهابية مقابل ما تحتاجه من مال وسلاح. أما أجهزة الاستخبارات المختلفة - خاصة القوية منها- فهي حريصة على اختراق عصابات الجريمة المنظمة و الشبكات الإرهابية من أجل الحصول منها على المعلومات الدقيقة في الوقت المناسب و لتأمين القدرة على اتخاذ المبادرة خدمة للأجندات الخاصة بالدول التابعة لها.

و يمكن تمييز عدة خصائص كجذر مشترك بين كل أشكال الإرهاب مهما تعدد الفاعلون و اختلفت الأهداف و تباين الحيز الجغرافي للممارسة، فهي جميعها تتخذ العنف غير المحدود وسيلة لتحقيق غايات غير مشروعة، و هي جميعها تنشر الرعب والذعر من خلال استعمال تلك الوسائل، وهي جميعها تتشابه من حيث هيكلها التنظيمي القائم على العلاقة الهرمية بين أعضائه وعلى دقة التنظيم والسرية في تنفيذ المهام، وهي جميعها تمتد عبر حدود الدول و القارات و الشعوب، وهي جميعها تهاجم بشكل خاص المجتمعات المفتوحة التي توجد فيها تعددية ديمقراطية أو مشاركة سياسية واسعة في تدبير المجال العام و لو نسبيا. كما أن الطبيعة المرنة للحراك داخل المجتمعات العصرية يجعل أنسجتها أكثر قابلية للاختراق و يعرض مصالحها للاستهداف أكثر. وهي جميعها تعتبر عقبة كأداء أمام تحقيق التنمية الاقتصادية و الاجتماعية و الاستقرار ونشر العدالة. و بغض النظر عن الأشكال التي قد يتخذها الإرهاب و نتائجه المأساوية، غالبا ما تكتسي أفعاله التدميرية بعدا تواصليا عنفيا، حيث يكون الموت رسالة رمزية أكثر من كونه هدفا مركزيا بالنسبة للإرهابي.

و تبقى المفارقة الكبرى حاليا هي أن استمرار التركيز السياسي و الإعلامي على الصعيدين المحلي و الدولي على جزئيات الإرهاب الذي تمارسه بعض التنظيمات الإسلاموية المتطرفة كالقاعدة و أخواتها تحت راية الجهاد، بينما يتم التغاضي، بله التعتيم على "إرهاب الدولة" الذي هو أصل الإرهاب كله كما أنتجته "الحداثة" الغربية نفسها في سياق تطورها التاريخي الخاص، و ذلك هو ما حاولنا تبيانه في هذا البحث ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.

كما أن التطور النوعي و الكمي الهائل الذي شهدته العمليات الإرهابية الحديثة و المعاصرة، و ما أصبحت تتسم به من استخدام للتقانة العالية و للتكنولوجيا النوعية على نطاق واسع، يصعب أن يقوم به فرد أو مجموعة من الأفراد دون مساعدة من بعض الدول لتحقيق ذلك. و لا شك أن الارتفاع المذهل لتكاليف العمليات الإرهابية المعاصرة يتطلب تدبير موارد مالية معتبرة و خبرات فائقة قد لا تكون دائما في متناول الأفراد و الجماعات المحدودة الإمكانيات. و هذا ما يجعلنا نميل أكثر إلى الاعتقاد بأن "إرهاب الدولة" قد أصبح يرتدى في كثير من الأحيان ثوب "إرهاب الأفراد و الجماعات" ليرتكب عملياته المختلفة بعيدا عن استهجان الرأي العام المحلي و الدولي و عن الإدانة القانونية.

و يظل الإرهاب أولا وقبل كل شيء منتجا فكريا، نظريا و أيديولوجيا، فهو يدعي دائما بأنه يقاتل الأفكار حتى لو كان يقتل الأجسام و هو في طريقه إلى الأفكار. كما يشكل الإرهاب أيضا نوعا من الاستجابة السيكولوجية لتحديات و فرص إستراتيجية و تكنولوجية تفرزها تفاعلات هذا العصر و تناقضاته المختلفة. و لفهم تعقيدات الظاهرة أكثر، ينبغي على الأبحاث الموضوعية أن تقارن - بعد أكثر من قرن من الخبرة المعاصرة في هذا المجال- تطور الخط التصاعدي لأشكال الإرهاب تنظيميا (جماعات شبه دينية ، شبكات، تنظيمات سرية، مافيا، أجنحة مسلحة، إلخ ...) ، و تطور البيئات الداعمة له ( جماعات متطرفة هامشية، جماعات دينية، مثقفين، صناعيين، ضباط كبار، حكومات، إلخ...)، ثم تطور وسائط التعبير عنه (بيانات صحفية من عشرات الصفحات ، أشرطة كاسيت-وصايا، أشركة فيدو، قصائد شعر، مواقع ويب، إلخ...)، و كذا تطور رمزية أهدافه (نصب تذكاري، شرطي مرور، أماكن دينية، مراكز تجارية...)، و أخيرا تطور طقوسه (وصايا، تأدية قسم، إظهار إشارات، رموز، قواعد سلوك، انضباطات معينة.. .).

أخيرا، هل يستحق "إرهاب الدولة" أن تعاد كتابة تاريخه من جديد كظاهرة عالمية ذات منشئ غربي بجدارة، مارسته و مجدته الثورة الفرنسية و دعمته الولايات المتحدة الأمريكية و بريطانيا و طوره حلف شمال الأطلسي؟ هل آن الأوان لإنصاف المسلمين و العرب من تهمة احتكار "صناعة الإرهاب" دون غيرهم من الأمم؟

إن الجواب على هذه التساؤلات يتوقف على قدرة صناع القرار في عالمنا المعاصر على كسر ثلاث حلقات مفرغة تغذي الإرهاب و الإرهاب المضاد. و يتعلق الأمر هنا أولا بحلقة الخصومات الأيديولوجية بين أنصار نوع من التصالح مع التاريخ يخدم مجتمع العولمة دون التخلي عن فكرة الروح، و بين أنصار إلغاء التاريخ باسم العولمة أو إلغاء العولمة باسم التاريخ. و حلقة التكنولوجيا الجامحة، حيث تسمح نقاط الضعف في أنظمتنا "السبرنتيكية cybernétique" المتطورة أكثر فأكثر، بحصول اختراقات خطيرة تؤدي إلى نشر العدوى الضارة بسرعة قاتلة. و أخيرا، حلقة الإستراتيجيا المغلقة، حيث يسود منطق مواجهة العدو المطلق أو العدو الوحيد، بينما تعمل الأنانية و المصالح الضيقة و أوهام المجد والقوة على تغذية ذلك المنطق دائما.
و في انتظار تحقيق ذلك.. يبقى السؤال مطروحا: هل سيستمر "الإرهاب" باعتباره شكلا من أشكال الحرب و بالتالي، تستمر "الحرب على الإرهاب" بدون نهاية؟

---------------------------

نوفمبر 2010

* باحث و خبير استشاري
[email protected]



#محمد_السالك_ولد_إبراهيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في تأبين الجابري: ماذا أقول بين يدي.. رحيل معلمي؟
- تمويل التنمية من -مونتيري- إلى -الدوحة-: من يمول من؟
- اليوم العالمي للقضاء على الفقر: الفقراء في مواجهة الأزمة الم ...
- 6 أكتوبر: الموعد النهائي لجميع المخاطر!
- موريتانيا و العسكر.. ديمقراطية بدون ديمقراطيين
- عسكرة الديمقراطية في موريتانيا: صراع -على هامش- الشرعية
- السلطة و المعارضة في موريتانيا.. نحو خارطة طريق للمصالحة
- السياسة الخارجية الموريتانية: جدلية الداخل و الخارج
- موريتانيا.. نحو الجمهورية الثالثة؟ بين تنصيب 18 ابريل1992 و ...
- بين الإسلام و الغرب: تهافت الديمقراطية


المزيد.....




- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد السالك ولد إبراهيم - من ال -كلاديو- إلى -القاعدة-: من يقف وراء الإرهاب؟