خالد الفيشاوى
الحوار المتمدن-العدد: 957 - 2004 / 9 / 15 - 10:46
المحور:
اليسار والقوى العلمانية و الديمقراطية في العالم العربي - اسباب الضعف و التشتت
علي مدار نصف القرن الماضي , تعرضت القوى الديموقراطية واليسار في العالم العربي لقمع متوالي , توافقت علي قمعها القوى الدولية والإقليمية الكبرى , ففي إطار تحولات ما بعد الحرب العالمية الثانية , وبروز الولايات المتحدة الأمريكية كوريث للقوى الاستعمارية الكبرى. ساهمت في دعم الانقلابات العسكرية علي النطاق العالمي , وكانت للمنطقة العربية حظها الوفير من هذه الانقلابات … كانت للأنظمة العسكرية فوائد عديدة , فبطبيعتها , أكبر مستهلك للسلاح , وهي ما يخدم مصالح الولايات المتحدة باعتبارها أكبر منتج للسلاح في العالم , وأيضا , الأنظمة العسكرية قادرة على قمع قوى اليسار ومواجهة الخطر الشيوعي الذي حكم الاستراتيجية الأمريكية في ظل الحرب الباردة .
عصفت القوى العسكرية في المنطقة العربية بالقوى الديموقراطية واليسارية في حروب متوالية , بدأت بمصر , وانتهت باستتباب الحكم العسكري في مارس 1954 , وتلاها مد النظام العسكري إلي سوريا في إطار ما يسمى بمشروع الوحدة , فضلا عن التدخل المصري لدعم الانقلابات العسكرية في العديد من البلدان العربية الهامة شرقا وغربا , وكانت أكبر التحالفات الدولية و الإقليمية للدول التي تحكمها أنظمة عسكرية , كانت ضد أكبر محاولة لسيطرة القوى الديموقراطية في لبنان على الحكم , انتهت بالتدخل العسكري السوري ثم الإسرائيلي , وفي الأثناء وبعد ذلك , مشهد السودان محاولات متكررة للخروج علي الحكم العسكري , أجهضتها دول الجوار دائما وتدخلت لإعادة العسكريين للسلطة … وبحلول تسعينيات القرن الماضي , كانت القوى العسكرية تتحكم تماما في المنطقة , ولم تعد القوى الديموقراطية أو اليسارية خطرا , أو قوة ذات وزن .
كما لم تكن هزيمة و أفول اليسار نتيجة للقمع فحسب , ولكن أيضا عانى من أزمة فكرية عميقة حيث دفعه العداء للاستعمار والامبريالية , والهيمنة الفكرية الاشتراكية السوفيتية , إلى الاستسلام والعمل في إطار الأنظمة العسكرية الحاكمة.
في عز الديماجوجيا القومية للأنظمة العسكرية , كان تبادل الدعم مع القيادات الدينية , سياسة أصيلة , لم تتراجع عنها حتى في ذروة الصدام بينهما أحيانا , وذلك في إطار الهدف الاستراتيجي للقوى الدولية والمحلية الرأسمالية في الحرب ضد الخطر الشيوعي . واستمرت هذه السياسة ضد اليسار والقوى الديموقراطية حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي, حيث أصبح دعم التيارات الدينية ورقة ضغط تستخدمها القوى الدولية والغربية , أحيانا ضد الأنظمة المحلية , وأيضا تستخدمها القوى المحلية الحاكمة لترويع شعوبها من خطر الفاشية الدينية , لضمان رضاها على الأوضاع القائمة .
كان اليسار والقوى الديموقراطية المصرية الذي عاش أزهى فترات فاعلية في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة , قد هزم واستسلم في مارس 1954 , وبدأ رحلة ولاءه ودعمه لنظام الحكم العسكري الحاكم , وانتقل موقفه ليسود القوى الديموقراطية واليسارية العربية عموما . وذلك بدعوى التناقض الرئيسي مع الإمبريالية والثانوي مع الحكومات الوطنية , ولم تشفى الأجيال اللاحقة من اليسار والقوى الديموقراطية من هذا المرض .
فقد أجمعت فصائل اليسار المختلفة في السبعينيات على أن القضية الوطنية لها الأولوية علي غيرها من القضايا , لذلك كان الصراع مع إسرائيل محور اهتمامه , وكان يقيم موقفه من النظام القائمة والنظم القائمة في المنطقة عموما على أساس مواقفها من هذا الصراع , بينما لم يشهد الشارع المصري مظاهرات دفاعا عن الديموقراطية بعد مظاهرات مارس 1954 , بينما شهد الكثير من التظاهرات في أعقاب هزيمة 1967 , وضد الاحتلال الإسرائيلي في للبنان , ودعم الانتفاضة ثم مظاهرات تضامنية مع العراق .
المقولة الأساسية التي أعاقت تطور القوى الديموقراطية في مصر , وحكمت عقلية اليسار والقوى الديموقراطية أن النضال ضد الإمبريالية والصهيونية له الأولوية عن النضال من أجل الديموقراطية … بهذا التبرير النظري تفادى اليسار الاصطدام مع بنظم عسكرية ثقيلة الوطأة لا تتورع عن قتل أية قوى تناطحها السلطة , وحتى ولو كانوا حلفاء شاركوهم صنع إنقلاباتهم كالاخوان المسلمين في مصر والسودان .
جاءت التسعينيات بانهيار الاشتراكية السوفيتية , لتزداد الأزمة التاريخية لليسار العربي حدة , وتزداد أوضاعه ترديا , لم يعد في حاجة لتبرير محادثته للحكومات الاستبدادية بمقولة التناقض الأساسي والثانوي , بل راحت غالبية فلوله تبشر بقدرة النظام الرأسمالي علي تجاوز أزماته , وبأن العولمة الرأسمالية حتمية تاريخية لابد من التجاوب والتفاعل معها والاستفادة مما تقدمه من إمكانيات ( للتنمية والرخاء وما إلي غير ذلك ) , وأن السعي للفكاك منها ليس إلا محاولة للخروج من التاريخ . بينما راح قطاع أخر من اليسار يلعق الجراح و لم يجد له ملاذ إلا التاريخ المجيد للنضال الشيوعي , بدافع عنه ويمجده , دونما أى محاولة جادة لقراءة نقدية سواء للتاريخ أو للحاضر…
كان اليسار المصري وأيضا العربي , قد عجز طوال النصف الثاني من القرن العشرين من الدفاع عن مؤسساته المستقلة , التي بدأ تأسيسها في منتصف القرن أيضا , وعجز أيضا عن تأسيس مؤسسات سياسية وثقافية واجتماعية خلال دورة نشاطه في السبعينيات , ولما كان غارقا لأذنيه في خدمة القضية الوطنية , وفي * مقولات ما يمكن تسميته بالاشتراكية القومية, دونما أي اهتمام جاد أو أية متابعة لتيارات الفكر الاشتراكي الجديد والتفاعلات التي أعقبت حركة 1968 . و انقطع التواصل بين القوى الاشتراكية في العالم العربي وبين الحركات الاشتراكية في العالم …
في الوقت نفسه وجد العديد من الأشخاص في المنظمات العربية غير الحكومية بديلا لاستيعاب طاقاتهم , وتحقيق تواصل مع نظائرهم في العالم , وهي منظمات بطبيعتها تهتم بقضايا جزئية , وهي منظمات رغم تضييق الحكومات العربية عليها , إلا أنها في النهاية , منظمات ذات طبيعة شخصية , يؤسسها صاحبها ويعين رئيسا لها , ولا تعرف الانتخابات أو المحاسبة أو الشفافية سبيلا لها . وهي منظمات لا تستهدف سوى الاحتفاظ بقدر من التواجد الهامشي , أملا في تغير الظروف .
في الأثناء , تزايد الدعم الأمريكي في الثمانينيات والتسعينيات لجماعات الإسلام السياسي , وبتعاون كثيف من جانب حكومات المنطقة , لحشد جيوش " المجاهدين " للقتال في أفغانستان ضد الاحتلال السوفييتي . وهي الحرب التي انتهت بخروج السوفييت , وخلفت وراءها جيوشا جرارة من " المجاهدين " عادوا لبلدانهم العربية لمواصلة الجهاد ضد حكوماتهم , وتحولوا لقوة انفجارية ضد حكومات بلادهم , وضد الولايات المتحدة ذاتها . وهم دائما قوة احتياطية لدعم أي مشروع استبدادي , انقلابي , تسلطي . ولم تستتب سلطة انقلاب عسكري في المنطقة منذ انقلاب 1952 وحتى الآن إلا بدعمهم , و إن دفعهم إحساسهم بالاستقواء أحيانا للطمع في لعب دور أكبر من ذلك , فكان يتم تشذيبهم والإبقاء عليهم .
خمسون عاما , تنفرد فيها القوى القومية والدينية الاستبدادية بالساحة السياسية والفكرية رغم الهزائم والكوارث التي جلبوها لشعوب المنطقة , لا زالوا هم أصحاب السلطة والصوت العالي , ودعاة مواجهة الاحتلال والفساد , والمبشرون بالاصلاح والتغيير والديموقراطية !!
في هذا الإطار , أصبح استلهام الماضي هو لب دعوة الخطاب السياسي السائد في المنطقة واصبح استعادة " المجد " الإسلامي والعربي هو الأمل , فالإسلاميون يحلمون بدولة الخلافة , أما القوميون والاشتراكيون والقوميون فيحلمون باستعادة أجواء الحرب الباردة .
مع بدايات الألفية الجديدة , واندفاع النخب الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية لفرض هيمنتها على العام , وشن حرب كوكبية لإخضاع البشر و احتكار ثروات الأرض , تعاظم نصيب شعوب المنطقة من دمار الحرب , وأصبحت المنطقة أرضا للمعارك المركزية في هذه الحرب .
مع بداية الألفية الجديدة أيضا , انفجرت مظاهرات سياتل , معلنة ميلاد قوى اجتماعية جديدة على النطاق العالمي , تتحدى مشروع الاحتكارية الدولية للعولمة الرأسمالية , لتبشر بامكانية بناء عالم أكثر عدلا ومساواة وديموقراطية .
لم تدرك شعوب المنطقة والقوى الديموقراطية والاشتراكية في المنطقة العربية أهمية هذه الحركات – التي انطلقت في كل مناطق العالم وقاراته ولكنها غابت عن المنطقة العربية بفعل هشاشة القوى الاشتراكية والديموقراطية – لم تدرك أهمية هذه الحركات إلا بعد أن رأتها تحتشد وتتظاهر في رام الله وداخل إسرائيل ضد ممارسات الاحتلال , وتملأ بقاع الأرض في تظاهرات العشرة ملايين قبيل الغزو الأمريكي للعراق .
رغم ذلك لم تسفر حركة الاحتجاج العالمية عن استنهاض قوى اشتراكية وديموقراطية عربية , ولم تندفع الأخيرة لتكون طرفا في الاحتجاجات العالمية . فالضعف التاريخي هد قواها وفاعليتها , وتكاد تكون قوى افتراضية غير موجودة في الواقع . وتحول أشخاصها بحكم القمع والاستبداد والهزائم إلى قوى ملحقة بقوى الاستبداد القومي والديني .
وبدلا من ذلك , أدت الهجمات والحروب الأمريكية والإسرائيلية ضد الشعب العراقي والفلسطيني والتهديدات بالتدخل في السودان وسوريا و العديد من بلدان المنطقة إلي استنفار التيارات الدينية والقومية , واستعاد اليسار القومي المصري والعربي مقولاته التاريخية حول التناقضات الأساسية ضد الاستعمار والثانوية ضد الرأسمالية المحلية , واصطفوا مرة أخرى لدعم الأنظمة الاستبدادية الحاكمة بدعوى مجابهة الاحتلال والخطر الخارجي والدفاع عن الأوطان . أملا في استعادة دورهم كقوة احتياطية لمساندة التيارات القومية والدينية .
وحظيت التيارات القومية والدينية بدعم دولي من القوى الدولية والإقليمية التي تسعى لعرقلة و إثارة المشكلات في وجه المشروعات العسكرية الأمريكية . ليس هذا فحسب , بل حظيت أيضا بدعم تيارات اليسار العالمي المنتمي أساسا للاشتراكية الديموقراطية الأوروبية , الذي يرى بدوره ضرورة وضع العصا في العجلة الأمريكية . دونما أعتبار لأن هذه التيارات القومية والدينية والاستبدادية هي المسئولة أساسا على تخلف المنطقة وقمع شعوبها , طوال نصف القرن الأخير . و أن إعادة إحياءها ودعم حكمها وتحكمها ليس أقل خطرا من الاحتلال والاستبداد الأمريكي والصهيوني .
ليست القوى الحاكمة الدولية والإقليمية هي الطرف الوحيد الداعم للتيارات الدينية والقومية , بل دخلت قوى عديدة تنتمي للحركة المناهضة للعولمة , وشبكات ومنظمات مناهضة الحرب لدعم تلك منظمات الاستبداد القومي والديني . وتساهم في إنشاء منتدى رام الله في فلسطين وتعقد سلسلة مؤتمرات لدعم المقاومة العراقية أبرزها مؤتمر جاكرتا في مايو 2003 , الذى أعلن صراحة دعم القوى الإسلامية والقومية في الحرب ضد الاحتلال , أيضا من منطلق أن استبداد القوى المحلية أهون من استبداد قوى الاحتلال … وكأنه قدر على شعوب المنطقة أن تدهس تحت أقدام قوى الاستبداد العالمي والمحلي !!..
بنفس المنطق تمد المنتديات الاجتماعية والعالمية جسور التعاون ويد المساعدة والدعم للقوى القومية والدينية المتحدثة باسم النضال الوطني الفلسطيني , والمدعومة من كل أنظمة الحكم الاستبدادي في المنطقة وأجهزة مخابراتها , والتي يعاني الشعب الفلسطيني من تضافر استبدادها واستبداد قوات الاحتلال الإسرائيلي .
وبالمثل أيضا , يتطلع النظام العسكري الحاكم في السودان , الذى قاد انقلابا عام 1989 ضد حكومة الصادق المهدي المنتخبة , وشن معارك طائفية ودينية وعرقية ضد الشعب السوداني , وأجبر قواه السياسية الحية على الخروج من البلاد , وأجبر الملايين من أبناء السودان على الرحيل للخارج . الآن , جاء التدخل الأمريكي في أزمة دارفور , كطوق نجاة للنظام الاستبدادي الحاكم , ليجبر الأنظمة الاستبدادية الحاكمة في المنطقة علي دعمه في مواجهة الخطر الخارجي , وأيضا يجبر قوى المعارضة الديموقراطية والاشتراكية على دعمه أو على الأقل الصمت على جرائمه حتى لا تتهم بالعمالة لأمريكا .
هكذا , لم تسفر الحرب الأمريكية المزعومة ضد الإرهاب إلا عن دعم الاستبداد المحلي بدعوى دعم شعوب المنطقة ودعم المقاومة ضد الاحتلال والأخطار الخارجية .
وبعد أكثر من نصف قرن من هيمنة واستبداد القوى القومية والدينية , مرة أخرى تتجدد الأخطار الخارجية ( التي لم تعد خارجية ) وتجبر شعوب المنطقة وقواها الاشتراكية والديموقراطية على الرضوخ والانقياد لقوى الاستبداد المحلي .
ومن يرفض ذلك , يواجه ليس فقط باتهامات القوى القومية بالخيانة والسير في المخططات الاستعمارية , بل يواجه أيضا باتهامات بعض فصائل اليسار في العالم برفض اختيارات الشعوب , التي ( اختارت على حد زعمهم ) التمسك بالأصولية القومية والدينية كسبيل لمواجهة الاحتلال والاستبداد الإمبريالي , والواقع أن هذا تبسيط مخل , فالشعوب لم تختار والقوى الاشتراكية والديموقراطية التي نكل بها في معارك الحرب الباردة لم يكن بمحض إرادتها .
يكاد يصعب علي المرء القول بأن علينا بناء تحالف عريض بين القوى الاشتراكية والديموقراطية في المنطقة وفي العالم لمواجهة الحرب … فإذا كانت القوى الاشتراكية والديموقراطية في العالم في نهوض , فأنها تكاد تكون قوى افتراضية غير موجودة في الواقع . هذا هو المأزق . مأزق جاد , ولكن بدون بناء هذا التحالف الاشتراكي الديموقراطي , لن تفلت المنطقة من سيطرة الاستبداد والهيمنة الدولية والمحلية .
علي أية حال , قد لا يمضى التاريخ على هوانا , ولا أيضا علي هوى قوى الاستبداد . فمنذ قرنين من الزمان , جاء الفرنسيون لاحتلال مصر , وتحالف ضدهم الإنجليز , وتركيا , والمماليك , ولكن لم يسفر خروج الحملة الفرنسية من مصر , عن استيعاب الأمور لأي من الإنجليز أو تركيا أو المماليك , بل أدت تداعيات الأحداث للتحرر من كل هذه القوى , ولو إلي حين .
#خالد_الفيشاوى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟