أحمد الحاج على
الحوار المتمدن-العدد: 957 - 2004 / 9 / 15 - 09:40
المحور:
اليسار والقوى العلمانية و الديمقراطية في العالم العربي - اسباب الضعف و التشتت
بلا مقدمات، وكما يقال ، خبط لزق, سندخل في زيارة سريعة للعقل العربي وتأثيرات الموروث علي هذا العقل في هذا الزمن الأعوج كذيل كلب.
في آ خر الستينات من القرن الماضي ، كان أكثرية الشباب اللذين يواصلون تعليمهم في الثانويات والمعاهد والجامعات ، يعتقدون جازمين أن تطور سورية الطبيعية . على كافة الصعد
الاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية حتمياً ، والأمر مرهون بالزمن ، فقلة قليلة من جيل الطرابيش الحمر العثمانية سوف تنتهي وتموت وبموتها يموت الجهل والتخلف والتعصب , ويحل محلها الجيل الجديد المتعلم ، وبقدراته الخارقة سوف ينهي كل أشكال التخلف في مجتمعنا لا محالة .
هذه الصورة الوردية والمزركشة ، التي كنا نحملها في الستينات من القرن الماضي , كانت صورة اقرب إلى الحلم منها إلى الواقع ، فلقد مات جيل الطرابيش الحمر بما يمثله من جهل وتعصب وتخلف ، ليخلفه جيل متعلم ، لكنه أكثر جهلاً وأكثر تعصباً وأكثر تخلفاً وتوحشاً وأكثر استبداداً وفساداُ ، وبتنا نعتقد اليوم أن التعليم علي أهميته ما هو ألا جزء صغير من العملية التربوية المعقدة والتي تبدأ في الأسرة مروراً بالمدرسة فالمجتمع فالدولة ، إذاً ما السر في بقاء الحال على حاله بل ازداد في التردي .
هل نوع التربية هو سبب كل هذا الاستبداد وهذا الفساد ؟
هل طرق التربية المتبعة في أسرنا ومدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا هي سبب كل هذه الهزائم . وكل هذا التخلف وكل هذا التعصب ، لماذا تقدمت أمم كنا نتقدمها ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً مثل كوريا وماليزيا و اندونيسيا وسنغافورة والصين وتركيا ، كانوا متخلفين فنفضوا التخلف وركلوه . ونحن مازال التخلف , يركلنا ويلعب فينا شقلب مقلب .
يلعب فينا شقلب مقلب ، لأننا ومنذ مشروع النهضة في بداية القرن الماضي والى الآن ، لم نضع إصبعنا على الجرح النازف فينا لنخيطه ، بقي الجرح على حاله بل ازداد فتقاً ، حتى فتقنا وشرطنا و(( لعن أمنا في عزا أبونا ))
هذا الجرح العقلي يعبر عن نفسه . ويعلن عن وجوده من خلال سلوكنا وممارساتنا اليومية في تعاملنا مع الآخر ، والآخر هنا هو الأخ والأخت والجار والزميل في العمل والزميل في الدراسة والزميل في الحزب الواحد ، هذا السلوك , سلوك مدمر وغير إنساني يؤدي بالأمة إلى العطب فتصبح أمة عاجزة مشلولة تتلقى الهزيمة بعد الهزيمة ، دون أن يرف لها جفن ، هذا السلوك المدمر و اللا انساني ,مستمد وموروث وصار يجري في دمنا منذ ما قبل عصر الانحطاط العربي ، وهو يقوم على نفي الآخر وتسفيه رأيه لأنه (( لا يفهم أو خائن )) عميل والآخر دينياً مذهبياً ، كافر ، نجس ، الآخر في النار, هو من الفرقة الناجية في جنة عرضها السموات والأرض ، الآخر لا يعرف كيف يأكل ولا كيف يلبس ، هوا الفحل ، الآخرون مخصيون ، عاجزون جنسياً وحتى تصدقوا ما أقول ، أسمعوا هذه الحكاية .
في أواخر الستينات من القرن الماضي كان أحد الضباط برتبة نقيب ، حين يصدر أمراً لمجموعتنا الكبيرة ,(( دورة )) يتبع الأمر بقوله ، (( والقبضاي اللي على بيضاتوا شعر لا ينفذ الأمر يا عرصات ))
وكان هذا الضابط الفحل حتى يشعرنا بأنه نملك عدة كبيرة لا أحد عنده مثلها ومغطاة بالشعر, كان يقوم قبل الاجتماع الصباحي وقبل بدء ساعة الرياضة بتجميع ثنيات البيجاما الرياضية التي يلبسها إلى المنطقة الوسطى والأمامية من جسمه حتى يبدو لنا أنه يملك عدة مميزة تليق برجل وليس بنساء أ, عرصات مثلنا . والآخر طالما بهذه الصفات إذن يمكن أن يُضرب وأن يُداس وأن يُشتم ، ويستحق الموت أو التعذيب أو السجن في زنزانة ، الآخر كلب أبن كلب (( ضربني مسؤول قسم الأحزاب في الفرع وشتمني وقال لي : يا أبن الكلب أما زلت شيوعياً )) كامل عباس / موقع رزكار
إذن الآخر لا شيء . بسهولة وبدم بارد يمكن ضرب الآخر ، و تعذيبه حتى الموت ليس بمشكلة (( اخلاقياً ضربه وتعذيبه وموته ليس بمشكلة )) قتل الآخر ورميه بحاوية الزبالة , أو أن يفعس كفأر مسألة لا تستدعي التفكير ولا التساؤل ولا الإحساس بالذنب ففي احتجاج أو اعتصام لطلبة جامعة حلب على قرار الدولة بإنهاء تعهدها وإلتزامها بتعيين الخريجين من قسم الهندسة في دوائر ومنشآت الدولة ، بما أن الطلبة المحتجين لا يعرفون مصلحتهم جيداً ولم يبلغوا سن الرشد بعد , فقد تكفل أحد الآباء الراشدين , ويعمل دكتوراً في الجامعة وعضو هيئة تدريسية ، وبمشاركة طلبة جامعيين حزبيين راشدين يفهمون ويعرفون مصلحتهم جيداً ، تكفلوا بتأديب الطلبة المارقين مستخدمين لغة حوار تعلموها في الجامعة لغة حوار راقية وشفافة هي لغة الضرب ، والركل ، واللبط , والشبط , والخبط , والشحط (( كبوهم بالحاوية لهلوسخات ))أحدهم قال لي وبالحرف الواحد : مو بدك حرية ، رأي أنا راي فيك انك فارة بدنا ندوسك يا عميل ، رد لشوف ، كانوا يتحلقون حولي 15 شخص /باسل ديوب / موقع رزكار .
لدى فرط هذا النص يظهر لنا أن
1- الآخر فارة يجب أن تداس
2- الآخر عميل
3- التكلم بصوت القبيلة والاستقواء بها ((يتحلقون حولي 15 شخص ))باسل ديوب / موقع رزكار .
4- هذا الاستعداد لممارسة العنف لا ينطبق على المواطن الامي الجاهل ينطبق على الفئات المتعلمة والجامعية وعلى الدكتور العضو في الهيئة التدريسية , يمارسون العنف والضرب والموت على طلبة أرادوا التعبير عن سخطهم واحتجاجهم على أجراء يمس حياتهم ومعيشتهم ,
مثل هذا العنف الذي مورس ويمارس على الكبار ، يمارس على الطفل من قبل أسرته وهو حتى في سن الرضاعة ، الأب يمارس العنف على الأم والأولاد ، الأخ الكبير يمارس العنف على أخيه الصغير , الأم تمارس العنف على بناتها ، وبانتقال الطفل إلى المدرسة , ينتقل إلى عنف آخر من أشخاص آخرين غير أبيه أو أخيه ، الآن يمارس العنف والضرب عليه من قبل المعلم (( المتعلم )) وقد تصل العقوبة إلى حد الأذى الجسدي للطفل مثل الكسور أو الجروح أو الندوب .
هل لدينا إحصائية عن عدد حالات الأذى الجسدي التي طالت طلاب المدارس الابتدائية والإعدادية في سوريا أو أي بلد عربي آخر.
أن تربيتنا الاسرية والمدرسية , القائمة على القمع الجسدي وعلى العقوبة الجسدية ، تولد في النفس جروحاَ وندوباً من الصعب شفاؤها بسهولة وتنتج أشخاصا يستبطنون القهر ، ولديهم استعداد لممارسة العنف على الآخرين , بل لديهم جوع لا يرتو إلى قهر الآخر وإذلاله ، وما الممارسات التي نراها هنا في وطننا من استخدام للعنف من الدولة أم من المجتمع ام من الفرد ، ما هي إلا حصاد التربية اللاواعية و اللانسانية واللاخلاقية التي تربينا بها في الأسرة والمدرسة , ولسوف تبقى المدرسة والأسرة والمجتمع ينتج - كمعمل – دكتاتوريين شئنا ام أبينا ، وهنا هل يجوز لنا أن نسأل هذا السؤال ، كم صدام حسين يعيش بيننا ؟ كم من صدامات في السلطة , وكم من صدامات في المعارضة , وكم من صدامات في المجتمع , وكم من صدامات في الأسرة الواحدة .
هذا هو الواقع , علينا الاعتراف بالخلل الذي فيه بجرأة وشجاعة وهذا الواقع لم تقرأه ولم تفككه ولم تشخصه الحركات اليسارية ولا الحركات القومية ، ونظم الاستبداد العربية طيلة وجودها المديد في السلطة أبقت الحال على حاله ، وما فكرت يوماً بالعمل على تغيير هذه العقلية , وهذا الحال هو الذي أوصل المنطقة إلى الطريق المسدود, وفتح الباب على مصراعيه لتدخل الدول الكبرى في المنطقة تماماً كما حصل للإمبراطورية العثمانية وتركة الرجل المريض أوائل القرن الماضي ، لقد امتهنت نظم الاستبداد ، اللصوصية والقمع والإفقار , وبرعت في إفساد الذمم والضمائر معتمدة الإفراط في القمع وسيلة لحل جميع مشاكلها في الداخل .
أن الطريقة التربوية المعتمدة في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا التي تقوم على التلقين حيث المعلم هو قطب العملية التربوية , والطالب ما هو إلا مُتلقٍ ساكن يجلس على مقعده صامتاً مكتوف اليدين ( واعتقد أنه مكتوف العقل ) عليه واجب الاستماع والحفظ بصماُ ، دون حوار مع المعلم ، ودون تشجيع لروح النقد والمبادرة , وهي طريقة أمينة ومثلى لنقل أنماط تفكير عصور الانحطاط العربي وبهذه الطريقة تلفظ المدرسة أشخاصاً يحملون عقولاً عاجزة وغير مبدعة , يسهل السيطرة عليها ، وبما أن العملية التربوية قائمة على قمع الطفل وزجره ومعاقبته جسدياُ فالحصيلة طفل يشب وينمو على القمع وينمو معه الخوف ، نعم في المدرسة تكتمل مهمة إعداده وتحويله إلى كائن يحصل على شهادة خائف بإمتياز ، والخوف لا يشكل كائناُ خائفاً فقط , وإنما يشكل كائناً متردداً ، متلعثماً متأتأً ، مفافأ , مكأكأً لا يعرف الحوار مع الآخر لأنه لم يتعلم الحوار أصلاً ، هذه الشخصية الخائفة المترددة , تفتقر إلى عدم المبادرة وتنزوي مفضلة الصمت ، والابتعاد عن المشاركة الفعالة في الاتشطة الاسرية والمدرسية والاجتماعية والسياسية ، لافتقاره إلى الثقة بنفسه وبالآخرين ، لقد افقده الخوف الجرأة وروح المغامرة والشجاعة ، وتحول الى مواطن صالح يصلح لأن يكون تابعاً ومنفذاً أميناً لتعليمات وتوجيهات وأوامر قامعة ، انه التدمير العفوي الموروث من عصر الانحطاط ، تدمير للإنسان الفرد في أسرته وتدمير ممنهج للفرد في المؤسسة التعليمية , والدولة القامعة ترعى كل هذا الموروث لتفقد الفرد صفته الإنسانية ليكون تابعاً، إن التدمير للفرد ,يجري أمام مرأى ومسمع الحركات اليسارية والماركسية وأمام الأحزاب القومية , لان هذه الحركات ليست بمنأى من هذه المواصفات , ولكن بما تملكه من كوادر مفكرة واعية وإبداعية عليها واجب العمل ليل نهار لتغيير البنية العقلية لعناصرها على الأقل .
لقد قرأت الماركسية واقعها في أوروبا ، الواقع الإنتاجي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وهي بالذات خرجت من رحم ذلك الواقع ، هل قرأنا نحن واقعنا وفككناه وحللناه كما قرأت ماركسية ماركس الواقع وحللته وفككته وأعطته الحلول بما يناسب الزمان والمكان .
إن القصور في المعاينة والتشخيص والقراءة ، قراءة الواقع وأهم محرك فيه هو الفرد الإنسان بما يحمله من بني عقلية موروثة من عصر الانحطاط ، والعمل على تغيير أنماط تفكيره المغلفة بعقلية القبيلة والعشيرة والطائفة هي مهمة كل قوى اليسار في الوطن .
هذا هو واقعنا بلا مراوغة ، بلا تجميل ، وبلا سوداوية ، أو جلد للذات ، إلى هنا ماذا يمكن أن تقدم حركة اليسار العربي من رؤى ومشاريع للنهوض بهذا الواقع المتردي ؟ إلا يمكن البدء بنهضة ثالثة , تستفيد من فشل مشروعي النهضة الأول والثاني ؟
أن وطنية ومصداقية أي حزب من قوي اليسار تتجلى في تبنيه مع قوى اليسار الأخرى ، مشروعاً وطنياً تربوياً يشمل الطفل وأسرته ، مشروعاً يشترك في صياغته ، مفكرون ، وتربويون وعلماء نفس , ومدرسون , ومبدعون للخروج من حالة الاستعصاء وحالة التردي المميتة ، عبر فترة زمنية محدودة وبكل الأحوال يجب أن لا تتجاوز مدة تنفيذ هذا المشروع الخمسة عشرة عاما ، أن المعارضة السورية خصوصا معنية بالأمر وعليها فتح ملف التعليم وإعطاء تصور للخروج من هذا الواقع المتردي المميت ، واعتقد أنه كما يبدو لي ,المشروع الأكثر جدية ، والأكثر مصداقية , ويحمل في داخله معان وطنية وإنسانية ، وهذا لا يعني أن ما يطرح في بازار الإصلاحات من أصلاح اقتصادي أو إداري أو تشريعي أو سياسي لا أهمية له بل يمكن القول أن هذه الإصلاحات على أهميتها وضرورتها ,إذا لم تترافق بتبني مشروع أصلاح تربوي يطال المجتمع كبيره وصغيره ، يعني ذلك أننا سوف نبقى في دائرة القمع والتخلف , وسنبقى نجتر الهزيمة بعد الهزيمة وسيبقى الاستبداد مستبداً بنا وسوف يبقى , المجتمع الراكد ينتج – كمعمل – دكتاتوريين بإمتياز شئنا أم أبينا , وسوف يبقى العقل معتقلاً ومهزوماً أمام التقدم الهائل في المعلومات ليلفظنا في النهاية خارج العصر .
ماذا يحتاج هذا المشروع التربوي
أول ما يحتاج هذا المشروع هو المناخ الصحي , كي يمكن البدء به والشغل عليه ويتجلى هذا المناخ الصحي في إطلاق الحريات الفردية ، وإلغاء قانون الطورىء وإلغاء حالة الأحكام العرفية وإصدار قانون يكفل حرية الصحافة وقانون ينظم عمل الأحزاب السياسية ويحتاج إلى إصلاح تشريعي ، فلا إصلاح مع دوام الاستبداد ، وكل حديث عن إصلاح اقتصادي أو إداري أو تشريعي لا يترافق مع الإصلاح التربوي والثقافي ماهو إلا بقبقة في ماء آسن .
[email protected]
/قاص من سوريا
#أحمد_الحاج_على (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟