أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد علي النصراوي - الفارماكون بين غياب الأب / وحضور الأبن في الأسطورة اليونانية















المزيد.....


الفارماكون بين غياب الأب / وحضور الأبن في الأسطورة اليونانية


محمد علي النصراوي

الحوار المتمدن-العدد: 3173 - 2010 / 11 / 2 - 01:09
المحور: الادب والفن
    


إذا ما أردنا أن نطرح السؤال الآتي :هـل نجـد في (المنطقة المقدّسة) نزعة إنسانية..؟
إذا كانت القراءة المطلوبة للنص – قراءة بحث وتنقيب، أي إن طرفي التفاعل هما القارئ الحاذق والنص، فان هذا القارئ يعدّ متمرساً بوصفه قارئاً محسوساً مجسداً من لحم ودم – يمتلك جهازه المفاهيمي والمعرفي ليكــون أداة للكشف عن شيء ما – عن شبـح يراوده أثناء القراءة، وبما إن هذا الشبح هو الوحدة أو الوحدات الطيفية المنبثقة من عقل المنشئ أثناء قيامه بعملية خلق النص، فان هذه الوحدة الطيفية هي المعنى المغيّب / الذي يسكن عقل المنشئ وما (المثير) إلاّ الصورة الحقيقية للشيء الطبيعي، وهذا يعني إننا دائماً في قراءتنا نراوح بين حضـور وغياب، إذاً كيـف بنا أن نقرأ هـذا الغياب ؟ المعنى الذي يربطنا بذهــن المنشئ؟ اعتقد إن هذا الغياب هو النزعة الذاتية للمؤلف التي تكمن في الوجه الآخر من (المثير)، هـل معنى هذا إننا نريد الإعلاء من الشأن الذاتي للمؤلف ؟ وكيف بنا إذا نحن لا نعرف شيئاً عن هذا المؤلف ؟ فمن هو الذي يوضح لنا الأمور، ومن هو الذي يسبر غور هذا الكائن / المؤلف / الغائب ؟ أي كيف نتمكن من احضار هذا الكائن والكشف عن كينونته الذاتية – عن جهازه المفاهيمي والمعرفي بعيداً عن سيرته الذاتية..؟ فنحن نقرأ هنا سيرة فكرية عن كيفية صناعة هذه (المثيرات) وما تخبئه وما تعلنه من أطياف، نحن بحاجة إلى التكهن بها بل نذهب بعيداً.. ولكن إلى أين نحن ذاهبون ؟ نحوم حول النص ثم ندخل في صلب العملية في صميم إستراتيجية نصية / سيميائيـة، عن صناعة نسيج صنعه نساج ماهر أتقن صنعته، إن هـذا النسيج هو الشـكل الجمالي / الصـورة الحقيقية للحضور وللرؤية / استمتاع وعذاب حد التصـادم المعـرفي مع الآخر.
وعليه كيف يمكن لهذا القارئ الحقيقي أن يقوم بالنحت، بالتشكيل، بالخـلق من شــكل منحـوت أصلاً..؟ أي بمعنى إذا كان الغياب يعطينا (أثر) ما يحوم حول الصورة الحقيقية (الشكل) / الحضور / النسيج الذي أبتدعه النساج وقام بصناعته. إذاً كيف لهذا القارئ أن يتخذ من هذا (الأثر) / الطيف / الغائب مادة لتشكيل جسد (منطقة مقدّسة) تنبثق من النص الأصلي للكاتب ؟ نقول إن هذه (المادة) / المثيرات المموضعة في النسيج السيميائي – هي المعيار الحقيقي لتقويم الذات الغائبة،وما هذه الذات إلاّ ذلك الكائن / الإنسان / الكمون الساكن في النص فان هذا الكمون هو الروح الذي يحرك هذا النسيج، إنه معطى فيزيقي / داخلي / سفلي / ذاتي لتقويم هذا الكائن / الشبح / الغائب / المعنى الكامن في النسيج – فنحن عندما نقرأ هذا الغياب بمعنى إننا نقرأ (أثراً)، وإن جميع هذه الآثار التي طبعت على الرمال إنما تعود إلى هذا الكائن الغائب في الصحراء، أي إن المعيار الحقيقي يكمن في خلق (مثير) ذاتي يتمظهر أمامنا في النسيج النصي ودائماً ما يحيلنا نحو أطياف هذا الكائن / الإنسان.
وإذا ما حـاولنا تتبع هذا (الأثــر) في رمــال المعرفة علينا الرجــوع بهـذا المثير المعرفي إلى الوراء، تحديداً عند عصـر السفسطائيين اليونانيين وعـلى لسـان (بروتوغوراس 485 – 411 ق. م) يقول : (إن الإنسان مقياس كل شيء : ما هو كائن بما هو كائن، وما هو غير كائن بما هو غير كائن) (1)، وهو قول يجب أن يفهم في سياقه الوجودي الحقيقي، فالإنسان هنا، ليس ذلك الإنسان المفرد المعين، بل الإنسان عامة، أي ذلك الذي ارتقى إلى درجة الألوهية بوجوده الطبيعي والفيزيائي، هكذا حاول السفسطائيون إنقاذ هذا الإنســــان ورده إلـى ينبوعـــه الأصيل – أي إن (بروتوغوراس) يضـع مثيـره المعرفي مقابل الآلهة، (وهذا يعني إن كل ما هو موجود إنما وجوده متوقف على إحساس الإنسان به بوصفه معيار كـل وجـود وبتعطيل حواســه يكون الوجود قد زال)(2) وهذا يؤكد لنا إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يقرر بواسطة حواسه الذاتية على إن هذه الأشياء كائنة وتلك غير كائنة وهكذا فالسفسطائيون يعدّون الذات مقياس الحقيقة والفضيلة وهذا راجع إلى الخبرة الذاتية الفردية لهذا الكائن / الإنسان – أي إن وجوده هو الذي يقرر اعتماداً على ما اكتسبه من معـرفة تجاه الأشياء المحيطة به – أي إن (المثيرات المعرفية) توحي للقارئ ثمة نزعة إنسانية تكمن في قلب هذا (المثير) لتسحبه إلى القوانين الطبيعية وبالطبيعة ذاتها بوصفها معيار التقويم – أي إن هذا القول يؤكد في الآن نفسه (بان الإنسان مقياس الأشياء،وإن هذه الأشياء تموضع objectivation) الذات) في تحقيقها لإمكانياتها الذاتية خارج نفسها في العالم)(3). لذا نرى إن من خصائص هذه النزعـة – (العقل) الذي ترتكز عليه، هو ليس مجرد التفكير بالأشياء أو مجرد آلة تنتج تصورات شاحبة فاقدة للحياة، بل هي المواجهة الحقيقية للموضوعات الخارجية، وعلى هذا الأساس نجد عنصر العاطفة مرتكز من مرتكزاتها بإتكائها على الحس العيني الحي، وهذا ما يجعلها ذات نزعة حسية جمالية تميل برجوعها إلى العاطفة واستلهامها إدراك الوجود وهذا ما يفسر اهتمام السفسطائيين بالخطابة بوصفها فناً جميلاً يتحدث إلى العاطفة.
بينما نجد (سقراط 469 – 399 ق.م) وكما في الصورة التي رسمها (أكسينوفان 430 –355 ق.م)، إنه يتحاشى موضوع الكونيات وأكد على إخضاع الظواهر الطبيعية إلى دراسة معقلنة للكشف عن قوانينها، فان الخوض في هذه الأمور يعدّ ضرباً من المجازفة والمغامرة وذلك لعدم قدرة الإنسان على اكتشاف تلك القوانين لأنها تعدّ في نظره ألغازاً يتيه في شعابها الإنسان لأن (أشد المتكلمين فيها غروراً لم يتفقوا على رأي فيما بينهم)(4)، هذا ما جعل سقراط يتجه نحو التنبؤ بالغيب والعرافة باهتدائه إلى أرواح الآلهة مؤكداً لمعاصريه (أن يسبروا غور الشؤون الإنسانية قبل أن يتوجهوا إلى ميادين أخرى لترويض عقولهم)(5)، وعلى أساس هذا أطلق شعاره الشهير (اعرف نفسك) وجعله محور فلسفته – وهذا ما يؤكد على إن ســقراط جعل من موضوع (الذات) مرتكزاً مهماً في فلسفته إذ عن طريقها يمكننا معرفة العناصر الأخرى كالخير والحق والفضيلة والجمال – وبهذا المعنى إستحال مذهبه إلى مذهب تعليمي تربوي (لتكن أكثر تواضعاً من علماء الطبيعة وأكثر أمانة من السفسطائيين، فالمعرفة الحقيقية التي ينبغي أن نسعى للحصول عليها يجب أن تتكيف بحسب حاجاتنا الشـــخصية والاجتماعيـة، والمهم هو أن نعـرف كـيف نحيا حياة سـعيدة وشــريفة، وأن نكـون مواطنين أخياراً)(6)، لكن نظرته في حقل الكونيات عمقت من رأيه وجعلته مخالفاً مع آلهة أثينا (وأستقر به الرأي على العناية الإلهية الصانعة لهذا الكون والمدبرة حركته)(7)، بحيث أدّعى إن رسالة سماوية عهدت إليه (أعلموا إن الله يأمرني أن أفعل ذلك)(8).
وهـــذا ما جعله يشق طريقه عبر فلسفته في البحث عن معرفة متعالية، لصياغة فكرته عن (الإنسان الفاضل) وذلك في (حال استكشافه لتلك الحقائق الخفية في ثنايا عقله وبواطن شعوره)(9)، متنقلاً في منهجه من البسيط إلى المركب، ومن السهل إلى المعقد، مركزاً في منهجه على استخراج المعاني مما جعله يسلك مرحلتين أولهما : (التهكم) – وهو السؤال مع تصنع الجهل، كي يمهد إلى ظهور ما هو صـحيح وبتـدرج منطقي حتى يصل إلى المرحلة الثانية : (التولد)، حيث يعمل على استخراج (الحد) / المثير المعرفي من نفس صاحبه، فنرى إن منهجه هذا يتجه نحو التمركز حول الملفوظ الخطابي أو الدلالة ليؤكد على المفهوم القصدي عبر خطابه بتكافل وتكامل تامين. إلاّ إنه ركز على الحوار أو (الجدل)، مؤكداً إن العلم لا يُعلم ولا يدوّن في الكتب، فهو كامن في مستودعات النفس البشرية وعن طريقها نصل إلى الدلالة الكلية لهذه الأشــياء وكمـا قال : (انك لكي تعرف يجب أن تعمل صواباً. ولكي تعمل صواباً يجب أن تفهم المعرفة في أوضــح وأشمل وأدق معانيها المرتبطة بمفاهيمها المطلقة)(10). وهو بذلك قد ركز على التحليل الوصفي للأشياء وتعريفاتها وخاصة ما يتعلق منها بصورة الفضائل الخلقية. ومن هنا يتوضح لنا إن منهجه أصبح استقرائياً متتابعاً، حتى إن أرسطوطاليس وصف سقراط بأنه أول من طلب (الحد) الكلي طلباً مطرداً وتوسل أليه بالاستقراء _(12).
ومن نص أفلاطوني نقتبس هذه المحاورة وهي على لسان سقراط وهو يدلي بحكايته :-
سـقراط : حسناً، سمعت من يروي إنه عاشت قرب نوقراطيس، في مصر إحدى الآلهة القديمة للبلاد، هـذه التي شعارها هو الطائـر المقدّس المدعــو، كما تعـرف ((بأبي منجل)) وإن اسم الإله نفسه كان تووت Theuth وعليه، فهو أول من اكتشف علم الأعداد والحساب والهندسة والفلك وكذلك القمار والنرد، وأخيراً – أعلم هذا – حروف الكتابة (grammata) ومن ناحية أخرى إنه كان يحكم مصـر بأســرها في ذلك العـهد تامــوس (Thamous) هذا الذي كان مقامه في تلك المدينة الكبرى في صعيد البلاد التي كان أهل الأغريق يسمونها (ثيبة مصر) ويسـمون ألهها آمـون (Ammon) جاء تووت لمقابلته وعرض عليه صنائعه : قال له : (ينبغي إذاعتها على سائر المصريين !) بيد إن الأخر سـأله ما يمكن أن تكون جدوى كل واحدة منها، وبمقتضى إيضاحاته، وبحسبما كان يحكم على الأخيرة يحسن التعليل أو عدمه، كان ينـطق بالملامة، تارة، وبالاستحسان طوراً، هكذا كانت التعقيبات التي نطق بها تاموس، كما يروى أمام تووت، في شأن كل صنعة، في اتجاه كما في الآخر، مديحا أو ذما ً، نقول كانت من الوفرة بحيث لن يكون لتفصيلها من نهاية ! لكن عندما حان دور تفحص حروف الكتابـة، قــال تووت : هي ذي يا جلالـة المـلك معرفة (to mathema) سيكون مفعولها إحالة المصريين أكثر علماً وأكثر قدرة على التذكر، إن الذاكرة والتعلم قد وجـدا علاجهما – Pharmakon) معاً) (12).
وعندما نتأمل هذه المحاورة نتبين إن (الكتابة) / أو الفارماكون (Pharmakon) معروضة على الملك كهدية يقدمها له تابعه تووت. لأن تووت نصفه اله وهو يتحدث إلى سيده ملك الآلهة تاموس. وإن الكتابة هنا معروضة ليتم تقييمها كصنيع وهذا الصنيع هو نفسه صنعة تحتوي على قدرة عاملة وقوة إجرائية، فإذن هي حيلة / صنعة، ومن اجل إعطاء قيمة لهذه الكتابة – أو الفارماكون – ولكن مَن سيهبها قيمتها ومَنْ سيحدد ثمنها..؟ نعم هو المـلك أو الإله، لأن (تاموس هو ممثل آمون، ملك الآلهة، مـلك الملوك وإله الآلهة. فان هذا الملك أوالإله هو الاسم الآخر لأصل القيمة – أي بمعنى لنْ يكون للكتابة أي قيمة إلاّ بقدر ما يأخذ بها – الملك – الإله بالحسبان وانطلاقاً من هذا المقام سيحط الملك – الإله من قيمة الفارماكون ويظهر عدم جدواه وتهديده وضرره، وهذا يعني إن عدم القبول والإعراض عن الكتابة – هو إن الملك – الإله يتصرف هنا كمثل أب أي بدأً يرتاب الأب من الكتابة ويراقبها – هذه الإشكالية التواترية في حوارية أفلاطون – هي إن أصل الكلام وسلطانه (اللوغوسLe Logos) يتحدد من الموقع الأبوي اتجاه النص.
إذاً فاللوغوس هو الأب – أي بمعنى إن الفاعل المتكلم هو أبو كلامه وعليه فاللوغوس أبن، وإنه يُفنى من دون حضور أبيه ومن دون عونه الحاضر. حضور أبيه الذي يُجيب، يُجيب عنه ومن أجـله من دون أبيه لا يعود بالذات سوى كتابة، هذه هـي أطروحة الأب وعليه فخصوصية الكتابة إنما تعود إلى غياب الأب وبعــد حين نـــرى إن هذا اللوغـوس يتخذ معنى (الخطاب) أو البرهان المطروح، والكلام الناظم الذي ينعش الحوار الشفوي Le Logos– وهو هنا أيضاً يعدُّ (Sujet ذات فاعلة) – أي بمعنى وحده خطاب حي، وحده كلام وليس (مادة أو موضوعا أو ذاتاً فاعلة للخطاب) – فهذا الكلام يستطيـع أن يتمتـع (بأب) وعلى هذا الأساس الإستقرائي فان (Logoi) الخطابات ما هي إلاّ أبناء أحياء بما فيه الكفاية للاحتجاج وهذا يخالف الشيء المكتوب / المصنوع من نسيج الكتابة، فهو قد فقد أباه – فخصوصية الكتابة تعود إلى غياب الأب، فهنا إما أن يلتمسه مباشرة أو يستغني عنه وهذا هو بؤس الكتابة، فالمكتوب بحاجة دائمة إلى عون أبيه – بحاجة أن يُعان أو يُنجد بحضــور أبيه. وعلى هذه الشاكلة فـ(الفارماكون) / الكتابة لا يكاد يكون أبناً لأحد. فقراءة هذا النسيج المصنوع من الكتابة دائماً ما يحيلنا إلى (أثر) ما، ينبثق من باطن النص كشبح يُراود القارئ – إنه ذات الأب الغائبة.
فأفلاطون ينعت اللوغوس بالـ(حيوان) – فهو إذن كائن حي – وهو منظومة (Organisme) – أي جسـم مخصوص، متمايز ذو وسط وأطراف ومفاصل وقدمين. وحين يكون الخطاب مكتوباً، مقتولاً فهو عليه أن يتمثل كالخطاب الحي نفسه إلى قوانين الحياة. أما في حالة الكتابة / الفارماكون فالأمر يتعلق هنا ببنية وبتأسيس وذلك ضمن المجازفة التي يواجهها اللوغوس. فهو عند انتقاله إلى جسد المكتوب يفقد رأسه وقدميه وأطرافه أثناء الكتابة.
وإذا كان ذلك كذلك فان مؤلف الخطاب المكتوب يتموقع داخل خطابه، فهو إذن رجل اللاحضور واللاحقيقة، وعليه فالكتابة تتبدى لنا على شكل ترتيب مشهدي، منذ اللحظة التي يروي فيها سقراط كيف إن البشر ينقذفون خارج ذواتهم عبر المتعة، ثم يغيبوا عن أنفسهم، بنسيانها ثم موتها في لذة الكتابة.
لنقرأ الآن هذه المحاورة بين (فيدروس) و (سقراط) في النص الأفلاطوني : -
فيدروس : أنك لتذكر بغريب يُرشد لا بمواطن. والحق إنك لا تغادر المدينة، لا للسفر، ولا، في نهاية المطاف، للخروج أبعد من الأسوار، إن صدق ظني...
سقراط : رحماك صديقي إنني كما ترى رجل يحب التعلم. الحال، إن الريف والأشـجار لا يطـيب لها أن تعلمني شـــيئاً بل {يفعل هذا } رجال المدينة. أنت مع ذلك يبدو لي إنك اكتشفت العقار الذي يدفعني إلى الخروج، ألا تُقاد الحيوانات بأن يُهز أمامها، ساعة تكون جائعة، غصن أو ثمرة ؟ هذا ما تفعله أنت لي : فبخطابات تبسطها أمامي في أوراق (en bibiois) يبدو إنك سـتجعلني أجوب (الأتيكة)(13) بأسرها، وأماكن أخرى أيضاً، حيثما تكون متعتك أنت ومهما يكن من الأمر وما دمت قد بلغت هذا الموقع، فإني ليطيب لي أن أتمدد. لك أن تختار الوضعية التي تراها الأنسب للقراءة ومتى عثرت عليها فلتبدأ قراءتك ……(14).
وحينما نُثبت المشهد والشخوص يتبين لنا إن سقراط يأخذ بالتمدد، بينما (فيدروس) يحاول أن يعثر على الوضعية الأنسب لديه لمعالجة النص / الفارماكون – أي بمعنى إن (فيدروس) هو نفسه مَنْ يقوم بقراءة الفارماكون / الخطاب / النص، في اللحظة الحالية – الآن – ثم نرى التهيب البادي على وجه (سقراط) لسماع هذا الفارماكون / النص – أي أنه في الحاضر وبحضور فيدروس / الأب. و(سقراط) نفسه ما كان له أن يستمتع لو كانت هذه الخطابات مثبتة على الورق ليقرأها بعد حين، ستصبح هذه الخطابات عبارة عن كلمات مؤجلة، محفوظة، مطوية، تكون بانتظار مَنْ يعثر عليها و يقرأها فيما بعد.
ولكن عندما يقرأها (فيدروس) الآن سوف تُميط عنها اللثام وتعرّى – فهي تقدم نفسـها للآخر في شـخصه، في حقيقته، من دون منعطفات – أي إن اللوغوس سيحضر الآن، إنه أبو كلامه، دون غياب كمـا لو كانت هـذه الخطابات غير مؤجلة أو غير مكتوبة على الورق ولكن ماذا يستدعي لنا مفهوم (الفارماكون) ؟
لقد تُرجمت كلمة (الفارماكون) من اليونانية على إنها (عقار) أو (علاج) أو (دواء)، ولكن هذا الدواء مضاعفاته اتجاه المريض – أي إنه في الوقت الذي باستطاعة هذا العقار أن يعطي مفعوله في حالة الشفاء فانه في الوقت نفسه يعطـي المفعول المضاد. وبهذا المعنى فان (الفارماكون) يكون حاملاً لمفعولين في آن واحـد – أي إن في قلب هذا (الفارماكون) تكمن وحـدة النقيضين فمنهما تخرج المفـردات من ثنائيـة المقابـلات المعـروفة فـي الميتافيزيقا مثل : (خير / شر، حضور / غياب، كتابة / كلام، علاج / أذى، دواء / سم..ألخ)
وعليه فالأوراق المخبأة تحت عباءة فيدروس تُخرج سقراط من تحفظه ومن الفضاء الذي يسكن فيه – ذلك الفضاء الذي يحب أن يتعلم ويُعلم ويتكلم ويحاور فيه (فيدروس) هو الآن يحمـــل (الفارماكون)/ النص/ الأوراق، فهو بحاجة إليها. لماذا إذاً هذا (الفارماكون) ذو أهمية كبيرة..؟ ولماذا فيدروس بحاجة أليه في كل الأوقات..؟ هذا لأن فيدروس لا يحفظ النص/ الفارماكون على ظهر قلب. فان عدم القدرة على الحفظ عن ظهر قلب هو ما يجعل فيدروس يلجـأ إلى الكتابة، أن يجعل حواره وجدله مكتوباً على شكل نص، وهنا فيدروس يحاول أن يقدم حججه وبراهينه – أفكار خطابه المعرفي إلى الآخر ولكن من غير الاسـتعانة بالنص، الاّ إن سـقراط يقاطعه : (حسناً بعدما تريني أولاً، أيها العزيز. ما تخفيه في يدك اليسرى تحت عباءتك إنني أراهن على أنه النص ذاته) (صيدلية أفلاطون ص/ 23).
وهكذا تلوح لنا الكتابة / الفارماكون عبارة عن نشاط إخفائي / غامض، وهو فعل محكوم عليه بالتجريبية يعتمد على الحدس أو المحفز الخارجي للاوعي من أجل انبثاق (المثيرات المعرفية) من عقل الأب / فيدروس وصياغتها داخل هذا النســيج الكتابي – وبهـذا فان الكتابة / الفارماكون أصبحت هي الداء والدواء – هي العلاج والسم – هي الحضور والغياب، كي توصلنا أثناء القراءة إلى المعرفة المكنونة في عقل المنشئ على أنه أبو اللوغوس / أبو كلامه، والمشكلة هنا كيف للقارئ أن يتتبع هذا الغياب..؟ كيف عليه اكتشاف أثره ثم حضوره..؟ إن اكتشاف هذا (الأثر) ما هو إلاّ تلك البصمات الشبـحية التي بصمـها المنشئ، فهي آثاره التي تركها على رمال النص.


المراجع والاحالات

1- يوسف كرم/ تاريخ الفلسفة اليونانية – مصر- ص/84 -85.
2- مجيد محمود مطلب/تاريخية المعرفة منذ الاغريق حتى ابن رشد / الموسوعة الصغيرة/ العدد 27، بغداد عام 1980م.
3- جوزيه سيتا / التربية في النزعة الانسانية بايطاليا / فينتيسيا، سنو1928 عن كتاب (الانسانية والوجودية في الفكر العربي) لعبد الرحمن بدوي- دار القلم – بيروت /لبنان / سنة 1982 م.
4- جورج سارتون / تاريخ العلم – ترجمة لفيف من العلماء – دار المعارف مصر سنة 1975 م، ص /4.5
5- مجيد محمود مطلب / تاريخية المعرفة منذ الإغريق حتى أبن رشد / الموسوعة الصغيرة – العدد 72 – بغداد عام 198.م.
6- جورج سارتون / تاريخ العلم، السالف الذكر.
7- مجيد محمود مطلب / تاريخية المعرفة، السالف الذكر.
8- نقـلاً عن كتاب (تاريخ العلم) ثم نقلاً عن كتاب الموسوعة الصغيرة (تاريخية المعرفة، منذ الإغريق حتى أبن رشد) السالف الذكر
9- د. جعفر آل ياسين / التعريف والحدود في الفلسفة بين العرب واليونان – دوريات آفاق عربية / العدد الخاص بالفلسفة والثقافة – العدد – (2) – مايس 1985م.
10- المرجع نفســـه.
11- المرجع نفســـه.
12- جاك دريدا / صيدلية أفلاطون – ترجمة: كاظم جهاد – دارالجنوب للنشر 1998م.
Jacqes Derrida La Pharmacie de Platan in La Dissemination
13-منطقة في قلب اليونان، تشكل أثينا مركزياً.
14- جاك دريدا / صيدلية أفلاطون – ترجمة : كاظم جهاد – دار الجنوب للنشر 1998م.



#محمد_علي_النصراوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الترافد بين الأجناس والأنواع الأدبية .. في المدونة العراقية ...
- شبح ( المنطقة المقدسة ) .. ومثيراتها المعرفية
- قراءة في خريف المآذن للشاعر باسم فرات


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد علي النصراوي - الفارماكون بين غياب الأب / وحضور الأبن في الأسطورة اليونانية