(*) صميم حسب الله
الحوار المتمدن-العدد: 3168 - 2010 / 10 / 28 - 12:06
المحور:
الادب والفن
ان التحولات السياسية والاقتصادية التي يمر بها العالم في العصر الحديث تلقي بظلالها الكثيفة على جميع ميادين الآداب والفنون .. ويعد فن المسرح أحد أهم تلك الفنون بوصفه المؤثر والمتأثر بما يدور حوله من أحداث ومتغيرات ، تدفع بالقائمين على هذا الفن من كتاب ومخرجين ومنظرين وممثلين وغيرهم الى التواصل مع تلك المتغيرات بحثاً عن فرضيات فكرية وجمالية تمنح المتلقي فرصة لاستثارة عقله وتطوير مدركاته الحسية والتي تدفعه الى البحث قيم عاطفية تعزز التفاعل الإنساني .
الأمر الذي يدفع بالمخرج المسرحي بوصفه قائدا لأوركسترا الفضاء الجمالي الى البحث عن أساليب تعبيرية جديدة، من اجل خلق حالة من التفاعل مع العصر ، ولكي لاتبقى الأفكار حبيسة الكتب التي يمر عليها الزمن دون ان يحرك فيها اي ساكن ، يقرر المخرج وفريقه العودة الى تلك النصوص التي طالما كانت مؤثرة في زمن كتابتها .
ان البحث في اغوار النص المسرحي بشكل عام يتطلب جهداً وقوة ملاحظة ،اما اذا كان هذا النص لفيلسوف بحجم (سارتر) فإن الامر يحتاج الى جرأة كبيرة ذلك ان ما يكتبه سارتر ليس مسرحاً بالشكل المتعارف عليه وإنما هو فلسفة بشكل مسرحي ، بمعنى ان نظرية سارتر (الوجودية) والتي ملأت الكتب والتي اراد ان يحولها الى شريحة يثق بفاعليتها في المجتمع ألا وهي شريحة المسرح ،لذلك فإن الجرأة الاولى التي اختار فريق هذا العرض الدخول فيها هي في اختيارهم لنص بهذا التعقيد الفلسفي .
ان قراءة مسرحية (جلسة سرية) على خشبة المسرح يتطلب وعيا وادراكاً بأن كل مقطع فيها يحتوي على محمولات تأويلية يمكن لها ان تنقل العرض الى فضاءات بعيدة عن تلك التي تبثها الشخصيات من خلال الحوار، ذلك أن نص (سارتر) يمنح القارئ كل شيء ولا يمنحه أي شيء كذلك ،إذ أن الجحيم الذي يقصده (سارتر) في فلسفته ونصه المسرحي هذا يختلف عن ما تذكره الكتب السماوية، ذلك أن سارتر ينادي بوجود الجحيم على الارض يدور بين الناس ويعبر عن شخصياتهم ، فجحيمنا هو الاخرون الذين يضغطون من اجل ان تبقى الانا التي يحملونها عاليا ولا يعنيهم من الآخرين أي شي.
ان المخرج في هذا العرض اراد ان يختزل النص المسرحي لينطلق من فكرة الجحيم الارضي الذي ينادي به سارتر عبر النص متمثلا بجملة (الجحيم هو الاخرون) ويبدأ العرض بملامح بصرية تكشف عن تشكيلات لجحيم من نوع اخر
متمثلا بسلطة الدين التي تقمع كل من لا ينتظم تحت لواءها ، رافضة العقل الانساني وقدرته على الخلق الابداع ، وقد عبر المخرج عن هذه الافكار بصور بصرية وسمعية خلق من خلالها اجواءا طقسية تمنح لكلا العالمين خصوصيته فقد كان توظيف الاجراس والازياء الكهنوتية والتي يصاحبها أداء تعبيري للممثلين قد منح العرض ميزة الطقوس وقد عبر عنها في إشارات حركية وصرخات يبثها الممثل الذي يؤدي دور قمة الهرم السلطوي بين الحين والأخر تمنح الجو المسرحي شيئاً من الإيقاع الذي استمر ممسكاً بزمام العرض حتى النهاية.
اما قراءة المخرج للعالم الآخر ألا وهو عالم العقل والمعرفة والمتمثلة بشخصية صاحب الكتاب الذي يرفض ان يضحي بعلمه ومعرفته ، على الرغم من محاولات السلطة الكثيرة مرة بالترغيب وأخرى بالترهيب وثالثة بالاغواء رابعة بالسخرية ، إلا أن صاحب الكتاب يرفض ذلك الأفق الضيق الذي تنادي به سلطة العالم الاخر ويتمسك بعقيدة المعرفة.
وقد اعطى الكتاب الذي تتمسك به الشخصية علامة مزدوجة على خشبة المسرح فهو من جهة علامة مرتبطة بالعلم والمعرفة ، ومن جهة اخرى ومن زاوية نظر سلطة الدين علامة على كتاب للكفر والالحاد ، كون السلطة الدينية ترفض الاقتراب منه والنظر الى الافكار الموجودة داخل هذا الكتاب لتتبين الحقيقة ، وتنظر اليه بوصفه رجس من عمل الشيطان، ليكشف لنا البطل ان كتابه هذا ماهو الا كتاب معرفة ، وان الشخصية تطلب العلم والتطور ، ولا تبحث عن الوجود والعدم كما يدعي الاخرون، وبهذه الحقيقية التي يعبر لنا المخرج من خلالها عن فرضية جحيم سارتر الأرضي والمتمثل بتدخلات الاخرين في حياتنا تلك التدخلات التي تحول حياتنا الى جحيم اكثر قساوة من ذلك الجحيم الغيبي الذي ينتظر المذنبين في الآخرة.
(*) ناقد عراقي
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟