أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الحركة العمالية والنقابية - دنخا البازي أبو باز - ما لم يقله احد عن اضراب سد دربندخان- إضراب بلا عنف















المزيد.....



ما لم يقله احد عن اضراب سد دربندخان- إضراب بلا عنف


دنخا البازي أبو باز

الحوار المتمدن-العدد: 3152 - 2010 / 10 / 12 - 15:25
المحور: الحركة العمالية والنقابية
    


ليس هناك من يخشى الحقيقة ، أكثر من الذي يبتعد عن التأريخ وحوادثه المدونة بأقلام مجايلي تلك الأحداث من الكتبة الموضوعيين ، لا ما كتبه وعاظ السلاطين والمدونين من كتاب الحكم . فمن أولئك الموضوعين ، تستقى صدقية الحوادث وسيرورتها ، منذ بدايتها كأفكار مجردة ، الى أن تصبح واقع ، يتنفس على الأرض ، ويجتليه الجميع ، ويتلبسوه .
ما سأرويه عن اضراب عمال وشغيلة سد دربندخان أثناء تشييده بعد انتصار ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، هو بمثابة تسجيل حي ، لما لم تقله ، لا ذاكرة شخصية ، ولا ذاكرة رسمية . أنها ذاكرتي التي تمخضتها تجليات تلك الأحداث الموشومة في وجداني ، والتي أخلصت لها حد المستحيل .
وسأحرص في سياقات الأحداث التي شكلت ذلك الأضراب الرائع ، على أن أكون وفيا لكل التفاصيل ، لأني كنت أحد شخوص ذلك الحدث ، وأحد أدواته التي حققت نجاح منقطع النظير ، لصالح العمال والشغيلة ، من بنائيين ونجارين وحدادين ولحاميين وعمال خدمات وغيرهم الكثير من الكسبة الذين وفر لهم مشروع بناء السد ، فرص الحصول على عمل ، ولو بأجر بالكاد يسد الرمق ، ويبعد الأنسان عن العوز .
لم يدر بخلد ذلك الشاب الذي لم يتجاوز الثامنة عشر من العمر ؛ أن وريقات سرية يجري تداولها بين العمال بتكتم شديد ؛ ان تزج به ستة أشهر في السجن .
كان اسم تلك الوريقات التي لا تلفت النظر ( القاعدة ) . كانت منضدة بحيث يستوعبها أي جيب في الملابس ، والتي كانت حروفها مكتوبة باليد حينا ، وأحيانا بحروف مطبوعة ، وكانت لا تتجاوز الورقتان في أحسن الأحوال ، ولكنها كانت بمثابة كتاب بمليون صفحة ، ونفير بألف بوق . تلهب الأحاسيس وتوقض المشاعر بشعارها المطبوع بحروف مميزة ( وطن حر وشعب سعيد ) و ( يا عمال العالم اتحدوا ) وبموضوعاتها التي تشير الى الطريق الذي ينقذ العمال والكادحين ، والشرائح الأجتماعية المظلمومة التي كان يعج بها المجتمع العراقي ؛ من الجحيم .
تلك ( القاعدة ) ، كان قد دسها في يدي ، وبحذر شديد لم يمهلني ان أفتح فمي لأقول لذلك العامل الذي دسها بيدي : لماذا هذا التكتم على هذه الوريقة العادية ؟
كان ذلك العامل واحد من عدد كبير من العمال العراقيين الذين كانوا يعملون في تلك الشركة الأنكليزية في مدينة البصرة التي شكل مينائها حاضنة لوعي طبقي وسياسي غير مسبوق .
تلك القاعدة ، كانت بمثابة الأساس الذي شكل كل وعيَ اللاحق ، والتي أدمنت على قراءتها بعد أن اصبحت شيوعيا ، وأنا في ذلك العمر المبكر ؛ لِما ضمت من حقائق مؤلمة ، عن مشاكل العمال والفلاحين ، وسائر الكادين الذين كانوا يشكلون الغالبية العظمى من المجتمع العراقي ، والتي وجدت نفسي أتخبط وسطها منذ وقت مبكر من عمري ، وأنا ابحث عن لقمة العيش في كدٍ يومي لا ينتهي . لكني لم استطع أن أبصر الكيفية التي اواجه بها ذلك الأخطبوط الذي شدني أليه بقوة تعجزني عن مواجهته ، فبقيت اسير تلك الأذرع زمنا من عمري ، حتى قرأت القاعدة التي أتاحت لي رؤية واقعية لرؤيا اليقين التي كانت غائبة عن اي من أحلامي التي كنت أزرعها في حقول السراب التي كنت اسير فوق استحالاتها ، أو إني لم استطع ألأن اتلامس حتى بالتفكير بها ومعها كي أجد لها حلا ؛ لولا تلك ( القاعدة ) التي كونت مني ومن غيري هرم من القواعد ، التي كانت تكبر وتتسع كلما زاد عددها في الأكف وكلما أتسع نطاق توزيعها ، لتواجه تلك القواعد مجتمعتا ، ذلك التيار من الأجتياح والأستغلال الذي كان يمارسه رب العمل بمساعدة الدولة ، على العمال وحقوقهم غير المثبتة في لوائح او قواعد . فقد كان العمال وكل الكادحين ومن يصطف معهم مشروعا للأستلاب والأستغلال والتغييب عن شرعة الحقوق .
كنت اطالع تلك الوريقات خلسة في أي زاوية قصية من مكانات العمل ، وحال أستلامي لها دون أن أتريث ، لأصل الى مكان سكني فأقرأها بترو وإطمئنان .
لم افلت من عيون البصاصين التي كانت تراقب بحذر من يتداول ، او يقرأ تلك الجريدة . فامسكني الشرطة السريون بالجرم المشهود ، لأقدم الى المحاكمة ، وأسجن مدة ستة أشهر ، وأطرد طبعا ، من العمل في شركة ( P.B.C ) الأنكليزية ، الذي كان يدرُ عليَ دخلا ، يجعلني ، وعائلتي المسؤول عن إعالتها ، يعيشون بلا مشاكل مادية .
بعد الخروج من السجن ، أستطعت أن أعمل في شركة أنكليزية آخرى (Harold .T.Smith ) المتعاقدة مع الحكومة العراقية ، على حفر مئتا بئر أرتوازي في سهل سنجار ، تلعفر، كركوك ؛ وأربيل .
كان للشركة هذه ثلاث من الحفارات الضخمة ، التي تحفر الى أعماق في الأرض تتجاوز الألف قدم أحيانا . عملت في هذه الشركة فترة من الزمن تجاوزت السنة والنصف ، لكن كما يقال : دوام الحال من المحال . ولابد أن أشير الى إن العمل في تلك الشركة ، قد مدني بخبرة وتجربة عملية ليست بالقليلة ، وهي بالتالي اشبه بالشهادة التي تنمحك ميزة على أقرانك الذين يفتقدون الخبلاة والتجربة ، والذين أيضا لا يجيدون اللغة الأنكليزية .
في تلك الأثناء ، وفي ذلك الجو التموزي الفائق الحرارة ، قامت ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة ، والمباركة ، عام 1958. المجيدة لأنها ستبقى جرس يقرع في غياهب التأريخ الوطني العراقي الذي تأسس بعد ثورة العشرين الخالدة ، ومباركة ، لأن الشعب العراقي بكل أطيافه ، قد بارك هذه الثورة على النظام الملكي المستبد .
وعلى عكس المثل السائد " مصائب قوم عند قوم فوائد " ، لم أجن ، وغيري من العمال ، والكادحين من الثورة التي أيدناها بكل ما نملك ؛ غير البطالة وشيء قريب الى التشرد أحيانا . لقد جرى تسريحنا من العمل ، بعد أن ألغت الحكومة العراقية عقدها مع تلك الشركة ، مما وضعني وغيري من مئات العمال ، على لائحة جيش العاطلين الكبير ، الذي كانت تزخر بهم المقاهي ، والأرصفة ، الأمر الذي جعلني أواجه صعوبات كبيرة في الحصول على عمل ، بل كان الحصول على فرصة عمل ، يشبه المستحيل ، إن لم يكن مستحلا فعلا ؛ بسبب عدم توفر فرص عمل في أي من مواقع العمل ، سواء في ميادين شركات النفط ، او الشركات الأخرى العاملة في العراق .
في هذا الجو المشحون بالبطالة والحاجة التي تعيشها عائلتي ، التي كنت معنيا بأعالتها ، وبعد أن ذهبت كل محاولاتي سُداً لأيجاد عمل ، يمكن ان يسد هذا الفراغ الذي أجتاحني وأنا بلا عمل ، فقد طوقتني تلك البطالة المصحوبة في أحايين كثيرة ، بوابل من زخات اليأس الذي كان يجتاحني مع كل طلب لا أستطيع توفيره لتلك العائلة .
ومن بين حطام ذلك الأغتراب الذي كنت اعيشه ، شع بصيص من ضوء وشعاع من أمل ، يرسم لي امكانية الخلاص من هذا الكابوس الذي حرم عائلتي من ان أوفر لهم لقمة كافية تحميهم من الجوع ، وهدمةٌ تقيهم وتقيني مما يمكن أن اسمية افتراضا بالعراء . وهكذا استبشرت خيرا حينما اشار عليَ واحد من أقاربي بالذهاب الى أماكن غير بغداد وكركوك التي لم انجح بالحصول فيهما على فرصة عمل تجردني من حبل البطالة وقيدها ، الذي يلفني من كل جنباتي ، ليشدني الى القاع بكل تملك البطالة من ثقل .
نصحني ذلك القريب مشكورا ، بالذهاب الى دربنخان حيث تنفذ واحدة من الشركات الأمريكية ، مشروع سد دربندخان . وهو مشروع من الضخامة بمكان ، بحيث يمكن اعتباره أضخم مشروع إنمائي ينفذ وقتذاك في كل العراق .
لم يكتفي قريبي الطيب بالنصيحة تلك ، بل دس في يدي مبلغ من المال ، يمكن ان يوصلني الى دربندخان التي لم ازرها يوما ، وأيضا يوفر لي ما يمكن أن يغطي شيئا من مصاريفي من أكل وشرب أثناء سفري وبعده .
كان قريبي هذا غير متردد من تأكيده وأصراره المسبق على حصولي على العمل ، في الأقل ، بسبب معرفتي اللغة الأنكليزية بشكل جيد، قراءة وكتابة ، ناهيك عن تجربتي بالعمل في شركات الحفر كما أسلفت ، في سهل سنجار وتلعفر؛ وكركوك . كما أنه من اجل ان يعزز ثقتي بما قاله ، فقد ذكرني بأن هناك شخص من المعارف القريبين يعمل في نفس المكان ، وسوف يساعدني في كيفية الحصول على العمل . وإنه سوف لن يبخل علي بشيء .
لم تتعب ذاكرتي كثيرا باستحضار شكل ذلك الشخص إنه سيد وليم ، فتذكرته بكل تفاصيله ، انه شخص كريم شهم ، لا يتأخر من تقديم المساعدة لليد التي تمتد إليه طالبتا العون ، بغض النظر عمن يكون صاحب تلك اليد ، قريب او غريب .
بحديثه الواثق ذلك ، كان قريبي قد اودع في روحي طمأنينة طاغية ، كنت قد افتقدتها طيلة فترة بطالتي التي أفتضت كل تطلعي بالأستقرار ، ولم يبق أمامي ، غير أن احزم حقيبتي الصغيرة ، وأسافر الى دربنخان ، التي ربما سأجد فيها ما يبدد مخاوفي من عدم الأستقرار أو غيرها من الهواجس والمخاوف التي كانت تجتاحني طيلة زمن بطالتي الذي طال ، وكأنه بلا نهاية ، ولم اعد ابصر في نفقه المعتم غير الظلمة .
* * *
لم تكن مدينة دربندخان ، سوى أخاديد ومرتفعات تنسدح على طبيعة توفر لها كلما تعشقه العين من خضرة وشجر وماء . يخترق حوافها نهر سيروان الهابط من جبال بعيدة ، بقمم مكللة بالثلج ، الذي يستحيل عند ذوبانه الى نعمة تحيل الزرع والضرع الى حياة وديمومة ترفل بالخير .
لم تكن بيوت تلك المدينة الصغيرة قبل مجيء الشركة الأمريكية إليها ، قد تجاوزت العشرات ، ولكنها بعد ذلك ، جاوزت الخمسمائة بيت ، أغلبها من الطين والحجر ، وهي بالعموم ، منازل تعود لفقراء تلك المدينة ، منازل المدينة تلك ، كانت عبارة عن الآنية التي تضم كل سكنتها ، الذين تعايشوا بسلام منذ فتحت هذه المدينة عيونها للشمس والبرد . هذا التكوين البشري المتضامن ، ضم أيضا القادمون اليها من مدن وقرى أُخرى طلبا للعمل في المشروع .
حال وصولي الى منطقة سكن قريبي ذاك ، سألت عنه ؛ فدلني أحد الطيبين على البيت الذي استأجر فيه قريبي واحدة من غرفه الطينية . كان البيت عبارة عن بناء بسيط من الطين يتكون من ثلاث غرف ، تحيط بالحوش الذي يتوسطها ، الى جانب زاوية في أحد الأركان ، كنا نسميه مطبخا ، يشترك به الجميع لأعداد طعامهم . أما المرافق ( اللاصحية ) التي يتشارك بها الجميع ، فتقع في ركن آخر من باحة الحوش . يسكن هذه الغرف ، خمسة من العمال العاملين في المشروع . تلك الغرف ، كانت بلا مواصفات مميزه ، خالية من اي اشارة للتنظيم ، شأنها شأن أي غرفة يسكنها عازب وحيد ، وغريب .
إذن سأعيش في هذه الدار التي تعودت عيوني وروحي على التعايش مع مثلها ، لأني سبق أن سكنت في دور ، وغرف مماثلة لهما ، حينما كنت أعمل في مدن غير مدينتي ، وأسكن في بيوت غير بيتي ، وأنام في أفرشة غير فراشي .
استقبلني قريبي ولم يُخَيبَ ظني . فقد احسن استقبالي كما توقعت ، وأدخلني غرفته البسيطة المؤجرة في هذا البيت . وبعد أن فرغت جعبته من مفردات الترحيب ، وكذا الأسئلة عن الأقارب والأهل ، دعاني الى العشاء في أحد المطاعم البسيطة ، نظرا لأنه لم يعلم بقدومي مسبقا ليتهيأ لأستقبالي ، أو ليعد ما تتطلبه ضيافة الأحبه امثالي حسب قوله ، الذي لا أشك أبدا في مصداقيته . كما إنه كان مضطرا للذهاب الى العمل بعد ساعة من وصولي ، لأن فترة عمله هي الفترة المسائية ، مما استوجب ، دعوتي للمطعم .
كان الوقت يقترب من المساء عندما اخبرته عن سبب مجيئي الى دربندخان ، فلم يزد على ما دعا لي به بالتوفيق في الحصول على العمل . عندها هممنا بالخروج من الغرفة الى المطعم لنتعشى ، بعده ، يذهب هو الى العمل ، وأعود أنا الى الغرفة التي وضع مفتاحها ومفتاح البيت على الطاولة الكسيحة ، القائمة على ثلاثة أرجل قائلا :
هذه هي المفاتيح . احتفظ بها ، وستنام الليلة في فراشي هذا ، لحين عودتي من العمل في الساعة السابعة صباحا ، لتنهض أنت وأنام أنا على نفس الفراش . فليس هناك من حل . ابتسمت له إبتسامة تعبر عن شكر يعجز اللسان عن قوله ، وتركني في وحدة مألوفة ، كنت قد عشتها سنوات وأنا اتنقل من عمل الى عمل ومن مدينة الى أخرى .
كانت ليلتي طويلة حافلة بأحلام يقظة ، حافلة بآمال ضاحكة بالحصول على عمل ؛ فأسعد . ولم تتركني الكوابيس التي داهمتني تلك الليلة ، إلا اشبه بالحطام ، ممد على محفة أكثر منها فراش .
نهضت فجرا من الفراش المحفة مهدود الحيل ، بعد ان عصفت بي فصول مختلفة من كوابيس سادها اللامعقول من أحداث لم ادر من أين أتت فواتت منامي . كانت تلك الكوابيس قد ركبت صدري ، فلم استطع معها حراكا ، لأتخلص من مطارديً ، من الأشباح ، وغير الأشباح ، الذين افترسوا مني كل أحلام اليقظة المبتسمة التي أحاطتني أثناء يقضتي .
ومع اشراقة الشمس ، وقبيل مجيء قريبي ، خرجت الى السوق ؛ لأشتري ما يمكن ان نسميه فطورا ، مع بضعة أرغفة من الخبز . وعندما جاء قريبي مكدودا من عمله ، وجد كل شيء حاضرا على الطاولة الكسيحة ؛ الشاي الساخن والخبز الحار كانا جاهزين لسد الرمق ، بعد ساعات من العمل المرهق في شركة ( D.K.C ) الأمريكية .
وقبل أن ينام وأثناء تناول الشاي ؛ شرح لي كيفية الوصول الى بوابتها الحديدية . وصلتها بعد مسير في وادٍ فسيح عميق ، يقع عند أسفل القمم الجبلية التي تحجب عنك السماء , والتي تتكل بالثلج شتاءا ، فيكون المكان باردا الى حدود لا تحتمل . أما في الصيف فإن درجات الحرارة تصل أحيانا الى مستوىٍ عالٍ لا يطيقه بشر، إنه فرن يستعر بلا نار . غير إن للقمة العيش متطلباتها التي تقتضي من العمال ، تحمل تلك الأجواء التي لم توفر معها تلك الشركة الأمريكية أي من متطلبات الراحة الدنيا لعمالها الذي تجاوز عددهم الثلاثة آلاف عامل .
احتوتني جمهرة الواقفين أمام بوابة الشركة ، والباحثين عن عمل مثلي . هذه الجمهرة كانت غير مستقرة على عدد محدد أو اشخاص بعينهم . إنها في حالة تبدل دائم بالقوام والنوع ، تبعا للرفض او القبول الذي ياتيهم كرد على طلباتهم العديدة التي يقدموها الى إدارة الشركة من اجل العمل فيها ، فهم حالة أنتظار دائم ؛ لسماع رد ، إما أن يبشر طالب العمل برد إيجابي حتى لو كان مؤقتا ، وإما بالبقاء كواحد من جيش العاطلين الجرار ، الذي لم تستطع ثورة تموز الوليدة أن تجد حلا مناسبا للبطالة المستشرية ، التي ورثتها من النظام الملكي .
كل الواقفين والقاعدين امام البوابة الحديدية ، كانت أياديهم الفارغة ، تحمل ما احمله بيدي الآن . ورقة مدون فيها طلب للعمل في الشركة كعامل في أي مجال متاح . غير إن ورقتي مختلفة عن غيرها ، لأنها مكتوبة بلغة إنكليزية جيدة وبخط ، هو الآخر جميل ، كما كان يلوح لمن يقرأه ، او كما يلوح لي على الأقل ، بالاضافة الى تحديدي أحد نوعين من العمل ، أحدهما بعنوان ( ضابط وقت ) والآخر بعنوان خراط ( تورنجي ) .
لم تبق الورقة وقتا طويلا بيدي ، بعد أن أرشدني بعض الحضور الى من يجب أن أقدمها . كانت أثنائها ، تراودني هواجس الأمل ، لذا لم اتوقع ان اسمع بعض التلميحات المستخفة أو الشامته من بعض الحاضرين القريبين من البوابة على غرار ( مش بوزك ) أو ( إحنه هم قدمنه ، بس ماكو حظ ) ، وسمعت تلميحات قاسية أيضا ، ولكني لم اعتبر أذني قد سمعت شيئا ً، ودرت ظهري لكل ما قيل من قبل المنتظرين .
فقد قدمت طلبي الى الموظف المختص ، وأنا أعيش لحظة أمل تائهة تصدم بهذا التعليق الشامت او المستخف ، وبذلك التلميح المؤدب ، الداعي لي بآمال الحصول على نتيجة طيبة .
عدت الى بيت الطين والحجر ، بعد أن وجدت عدم جدوى البقاء مع المتجمهرين انتظر مثلهم ، فلم يمض من وقت يمكن أن يحسب على تقديمي الطلب ، لأنتظر مثلهم ، فبعضهم كان ينتظر منذ أكثر من شهر . أذن فذهابي مبرر ، ومن الغد سأباشر حضوري وسط هذه الجمهرة ، لأنتظر الرد كما ينتظره البقية من العاطلين . حملت نفسي عائدا الى البيت قبيل ظهيرة ذلك اليوم الربيعي المفعم بنجاح تقديمي لعريضتي .
أثناء عودتي الى ذلك البيت المهجور من كل تأنيث ، عرجت على السوق لأشتري ما يمكن ان اطبخه لي ولقريبي النائم ، ليأكل شيئا قبل ذهابه الى العمل ، فعلاقتي بالمطبخ الفقير، قد توطدت منذ أن بدأتُ أكدُ من اجل العمل في مدن بعيدة .
أثناء العشاء ، رويت له كل الخطوات التي قمت بها في ذلك اليوم ، من اجل أن يكون في صورة ما قمت به . بشرني خيرا بهذه الخطوة ، مضيفا بأن الفترة التي سأتلقى فيها النتيجة ، ربما ستكون طويلة بسبب كثرة الطلبات ، فأوصاني بالصبر وعدم الجزع إذا ما طالت الفترة التي سأستلم بها النتيجة . ذهب هو الى عمله ، وبقيت أنا وحيدا أدخن ، تمتصني أعقاب سجائري . طال زمن أرقي ، حتى إحتوتني المحفة الفراش ، دون أن يراودني أي حلم يقضة كما كان في الأمس ، عكس الكوابيس التي شدتني الى إراداتها المبهمة ، حالما اغمضت جفوني مستسلما لنوم خالي من أي راحة .
تكررت أيامي هكذا ، اصحوا صباحا لأعد الشاي وأعود بعيد الظهر لأعداد الغداء ـ العشاء ، نتناول ما قسم ، ونشرب الشاي ، ليذهب بعدها هو الى عمله كما هو الحال كل مساء ، وأبقى أنا وحدي ابحر فوق ذلك الفراش الوحيد في بحار الظلمة التي ينقلني فيها منامي الى متاهات تلك الأحلام الموحشة الغاضبة من حياتي ، فتارة تراني بين فكي حوت ، يبتلعني غصة غصه . وتارة في أعلى جبل أتربع على فوهة بركان ، يقذفني مع حممه الضاجة بألسنة اللهب الى أعالي ، لا احسب أني قد سمعت عن مثلها ، لا في قصص الخرافات التي كانت جدتي تحدثنا بها في ليالي الشتاء الباردة ، حين كنا صغارا ونحن نحيط بمنقلة الحطب أنا وأخوتي ، ولا في قصص الف ليلة وليله التي كنت شغوفا بقراءتها في وقت مبكر من عمري . ولم يحدث طيلة مكوثي في تلك الغرفة الفقيرة ، أن تركتني تلك الكوابيس الكريهة ، ليلة واحدة بدون أن تصطادني بواحد من فخاخها المرعبة .
دامت حالة الأنتظار المتعبة، ودوامة الكوابيس الشرهة هذه ، تختزل منامي الى مجرد عذابات تلدغ روحي كافاع مسمومة ، لبث الرعب في أوصالي وفي قلبي الموجوع .
بعد أكثر من شهر ونصف ، وهي المدة التي كان يسبقني فيها أنتظاري لرد على طلبي ، كان يسبقني الى بوابة الشركة ، لأحرن بين كتل بشرية ، تنتظر هي الأخرى الرد ، ليكونوا ، أو لا يكونوا .
في هذا الزمن المديد ، الذي طال وأستطال ، حتى قارب فيها جيبي ان يفرغ من اي مبلغ من الدراهم ، يمكن أن تعينني على الأستمرار في مواجهة الأنتظار الممل ، وشراء السكائر التي كانت تبعدني عن وجع الروح حينا ، وعن مواجهة الوحدة ثانيا .
تلك الأيام الخمسين ، كانت اشبه بنفق بلا ضوء او نهاية ، وقد اوقعتني تلك الأيام المتخمة بالأنتظار في حبائل اليأس ، فعزمت على ترك دربندخان الى مدينة أخرى ، أبحث فيها عما يسد رمق عائلتي التي تنتظر بفارغ الصبر ، أن اعود إليهم ، وأنا احمل لهم ما يقيهم ذلك الكفاف الذي كانوا يعيشونه . ولولا تلك العناية التي كان يغمرني بها قريبي السيد وليم ، ما كنت لأبقى مواجها اعصار الحاجة التي كانت تجتاحني أمام كل تطلباتي ، حتى وإن وصلت أثمانها حد الفلس الواحد .
كان الأنتظار الذي يأخذ مني كل ذلك الوقت ، قد وضع أمامي صورة العلاقات النفعية التي كانت تسود بين العديد من العاملين في تلك الشركة .
فالسيد مدير التوظيف ، صاحب السمعة الملطخة بالأتاوات والرشا ، يجعل من أمر الحصول على عمل ، اشبه بمقامرة خاسرة ، فلهذا المدير السيء بطانة من المقربين اليه ، يمكن ان نطلق عليها كلمة عصابة لدلالتها الواضحة .
كان هؤلاء الغلاظ ، يهيئون لمديرهم ، أسماء من يجب فصلهم من العمل ، وأسماء من يتم الأستغناء عن خدماتهم . لقد كان كل شيء ممكن أمام هذه العصابة ورئيسها مدير التوظيف . فالمطرود من العمل بتوصية حتى من مدير الشركة ، يمكن أن يعاد الى العمل ، والمعين الذي قبلت اضبارته وحدد له يوم للمقابلة ، سرعان ما تختفي اضبارته ، وتحل محلها اضبارة أخرى ، ولشخص آخر .
كان كل شيء يمكن أن يحدث ما دام هنالك من يقدم الرشا ، وليس هنالك من فرق في طبيعة ما تكون ، فجميع الأنواع مقبولة ، من الورقة النقدية الحمراء من فئة الخمسة دنانير ، الى صندوق الويسكي ، الى المصوغات الذهبية ، بل حتى الفضية منها ، او التعهد من طالب العمل أن يدفع بعد التعيين . وللأسف وأمام كل هذا العسف لم يحرك أحدا ساكنا ، لا من العمال ، ولا من النقابيين ، فالكل كانوا بلا حول ولا قدرة على المواجهة أو رمي ولو حجر صغير واحد على سطح بحيرة الصمت الذي كان يسود كأنه لعنة مكتوبة على مصائر الجميع . أما لماذا هذا الأصرار من قبل طالبي العمل على البقاء أمام بوابة الشركة ؟ فيعود أمره ، الى الرواتب المجزية التي كانت تدفعها الشركة للعاملين فيها ، مما يغري بالصمت على كل الحيف الذي يلحق بحقوق العمال .
كنت خلال المده التي قضيتها في إنتظار رد الشركة على طلبي ، الذي أعتقد انه صار من المستحيلات التي يمكن ان أفكر بها ، قد وطدت علاقاتي مع العمال المنتظرين . فتوطيد وتمتين العلاقة بين العمال ، او الفقراء عموما ، لا يحتاج الى المداهنات اوشيء من التعقيد ، فكلما يتطلب الأمر ، هو أن تكون صادقا فقط ، فتحاط بصداقة مخلصة خالية من أية منفعة شخصية . هكذا علمتني التجربة ، ومنها ، كسبت ثقة ومودة الجميع ، بل تجاوز الأمر ، من علاقات يومية عابرة ، الى صداقات تمتاز بالمتانة والثقة المتبادلة .
لم يتوقف يأسي ومرارتي في الحصول على عمل ، بل صارا ككرة الجليد التي تتدحرج من نفسها ، فتبتلع ما تجده أمامها لتكبر رويدا مع كل شبر تتدحرجه من علِ . لذا فإن شرارة فكرتي بالذهاب الى بغداد للبحث عن عمل ، قد إبتلعت كل رمادات الأمل التي توهجت ، حين كانت أحلام اليقضة تجتاحني في البدايات .
عرف جميع المواظبين على التواجد أمام بوابة الشركة ، بنواياي هذه ، بل كانوا يتداولون ما كنت أصرح به بين فينة وأخرى ، من إني عندما أذهب الى بغداد سأفتح مشروعا كبيرا هناك. ومن باب المشاكسة التي كانت ترافق حواراتي مع الآخرين ، كنت أقول : بأني سوف أفتح مشروعا هناك وسوف ادعوا الجميع للعمل في مشروعي المنتظر قلت هم الذين صدقوا كلامي المعسول بنفس المشاكسة ، أما البقية فهم يعرفون بوضعي ، لذا لم يعيروا اهتماما جديا لِما قلت .
وبين ما كنت أدعيه ، كانت الآذان تصغي لما كنا نتهامس به عن الوضع المزري الذي تعامل به الشركة العمال . وبعد زمن وجيز ، لم يعد ذلك الهمس حبيس آذاننا ، فألسنتنا أخذت تتداول همساتنا جهارا ، فكانت الآذان تفلتر ما كنا نتحدث به ، وكأنها اسرار تتطلب منا توخي الحذر ممن يترصدنا نحن العمال ، غير إن رباط الثقة التي يجمعنا ، جعلنا لا نخشى لا السريون ، ولا جواسيس الشركة الذين كانوا يحيطون بمدير التوظيف .
كما أننا كنا لا نشك بوجود واش بيننا ، ولم نكن نخشى من الآخرين ، ان ينقلوا ما كنا نتداوله من هموم الى أولئك الجواسيس الذين وظفتهم الشركة لتكون هي على علم بكل صغيرة وكبيرة ، يمكن ان يفكر بها العمال ، ليتدارك الأمر ، مركز الشرطة الوحيد في هذه القرية التي تقترب بعجالة من مواصفات المدينة حاملتا في أحشائها المتناقضات ، كما هو حال المدن الكبيرة ، او التجمعات العمالية الضخمة .
* * *
يقال ان الأفكار بنات لحظاتها . وفي لحظة من لحظاتي الضائعة ، وأنا في معمعمة الأنتظار الذي زاد عن حده ، نطت من لساني واحدة من الأفكار المشاكسة ، هذه الأفكار التي كانت تراودني كلما إبتعد عني الأمل بالحصول على عمل ، وأيضا كلما خيم إخطبوط اليأس على مجسات إلتقاطي لما كان يدور من حولي .
كنت جالسا كعادتي في المطعم المقام في الهواء الطلق على جانب من البوابة الوحيدة للشركة . وأثناء ما كنت اسرح بخيالاتي التي لا تنتهي ، كان الفضول يدفع بشعاع عيوني السارحة الى أفق لا اتحسس مداه ، ولكن هذا الشعاع كان دوما مهيئا للولوج الى ما يلي بوابة الشركة ، الى داخلها ، متفحصا ما كان فيها من بنايات عديدة ( بنكلات ) . واحدة كانت تضم المكاتب الخاصة بكل الموظفين الأداريين . والأخرى للمهندسين والفنيين . وفي منطقة قريبة من هذه البنكلات ، كانت هناك عدد من البنكلات الكبيرة التي توجد فيها غرف نوم هؤلاء المدللين من قبل الشركة . أما العمال فلم تفكر بهم ، ولم تضع في حسبانها اي خدمة تقدمها لهم ، ولو بحدودها الدنيا ، فلا مكانات لمنامهم ولا مساحات منظمة لراحتهم ، كالمقهى أو مكان استراحة يقيهم حرارة الشمس صيفا ، وغزارة المطر في شتاءات هذه المنطقة الباردة .
هكذا كانت ارادة الشركة تفرض سلطانها الجائر على العمال دون سواهم . ومما يؤلم ، ان ادوات هذه السلطان الجائر كانوا عدد من الموظفين والعمال الذين يذودون عن مصالحهم الشخصية بالأخلاص لهذه الشركة او سواها ، لقد كان هؤلاء الحفنة ، يحرصون على مصالحهم الشخصية ، ومصالح الشركة الأمريكية هذه ، أكثر بما لا يقاس من حرصهم على مصالح العمال ، أبناء جلدتهم ، كما هو الحال مع مدير التوظيف وبطانته من ضعاف النفوس ، التي كانت تحيط به .
كان ذلك المطعم الرث ، هو مقهانا ودار استراحتنا بذات الوقت ، كان مقرنا ونقطة تجمعنا ، نحن الذين ننتظر فرجا عن طلباتنا التي هي حبيسةٌ داخل الأدراج في مكتب مدير التوظيف وأعوانه ، الى أن يستجيب مقدم الطلب الى إبتزازاتهم التي لا تنتهي .
كان هذا الوضع التي تتضارب فيه مصالحنا مع مصالح مدير التوظيف وعصابته ، والشركة الأمريكية بشكل عام ، يشعل في رأسي عشرات من الأفكار التي تداعي : أين حقي ؟
ومن بين ما كان يقدح به التفكير ، كانت تلك الفكرة المشاكسة التي واتتني وأنا أتناول ذلك الصحن من التشريب الخالي من اللحم على الأطلاق، والذي لا يحسدني أحد على أكله . إذ لم يتأخر لساني حين شطح أمام الجميع وقال : اني سأسافر غدا الى بغداد . وهناك سأعرج على الأتحاد العام لنقابات العمال والصحف الوطنية شارحا لهم مأساة ما يجري هنا . بل إني سأحمل مذكرة مكتوبة بأسم الجميع مكتوب فيها كل الظلم الذي نعانيه هنا ، ومطلوب من الجميع والحالة هذه ؛ التوقيع على هذه المذكرة بلا استثناء ، لآني سوف أكتبها بإسم جميع العمال وبإسمنا نحن الذين قدمنا طلباتنا للعمل هنا ولم نتلق ردا الى الآن إلا حين نقدم الرشاوي للمتنفذين في الأمر . فهل أنتم موافقون ؟
لم يتأخر أي من الحاضرين عن الموافقة الشفاهيىة ، لحين احضار هذه المذكرة غدا صباحا . في صباح اليوم التالي ، أحضرت معي تلك الورقة التي دونت فيها معاناتنا وعدد من مطاليبنا ، فوقع عليها أكثر خمسين عاملا ، وهو عدد ضامن لتأخذ تلك المذكرة طريقها الى الأعلام او النشر .
ما لم يكن بحساني أن تكون لتلك الفكرة المناكدة ، رد فعل سريع من قبل مركز الشرطة ، حينما وقفا أمامي شرطيان مرسلان من مدير المركز ووقفا قبالتي . كان الوقت ظهرا وهو وقت أكل صحن ثريد الطماطم الذي يبيعه المطعم لأمثالي الذين لا يملكون غير ثمن ارخص وجبه فيه . لم يكن تشريبا كما يتراءى للقاريء ، ولكنا كنا نسميه تشريبا هكذا ، وتيمنا بما كان يأكله المهندسون والفنيون في الشركة من تشريب حقيقي باللحم والعظم .
أصر الشرطيين على وجوب حضوري معهم لمركز الشرطة ؛ لأن السيد المعاون يطلبني حالا . لم ارتبك ، أو تأخذني الدهشة من الوضع الذي وضعت نفسي به ، ورغم أني لا اعرف مدير المركز هذا ، استجمعت كل ما أملك من جرأة الشيوعي وعيناي لم تترك أبصارهما عن صحن التشريب :
ماذا يريد حضرة المعاون ؟
فرد أحد الشرطيين بلا مبالات : لا ندري . ولكنك يجب ان ترافقنا الى المركز . وبذات البرود واللامبالات ، سألتهم : هل معكم أمر بالقبض علي ؟
رد الذي وشح ذراعة بثلاثة اشرطة سوداء : لا .
نطقت بعد أن مضغت لقمة الثريد المحمرة بفعل الطماطم : أذاً لن اذهب معكم ، ما لم تقولا لي السبب .
فرد ذلك الشرطي بنفاذ صبر : يمكن أن يكون قد طلبك المعاون بسبب تلك التواقيع التي جمعتها على المذكرة التي ستذهب بها الى بغداد .
قلت بمناكدة : عن أي تواقيع تتكلمون ؟
قالا كلاهما بصوت واحد : تواقيع الناس ، العمال العاطلين عن العمل .
ضحكت ضحكة صفراء لم ترق للشرطيين ، وأعقبتها بسؤالي المستخف الحاسم : وما دخله هو ؟ هل هو محام عن الشركة أم وكيلها ؟
لم يرق الأمر للشرطيين المصريين على أخذي للمركز ، وراحا ينظر احدهما للآخر بنظرات ، قرأت فيهما قرارا يقضي أخذي بالقوة .
قهقهت بصوت مازح لأتلافا نفاذ صبرهما وقلت : ماذا بكم ؟ لقد فعلت ذلك فعلا وجمعت التواقيع من العاطلين ، لأني ذاهب الى بغداد غدا ، وهناك سأفتح مشروعا يشتغل فيه كل الذين وقعوا على تلك العريضة ، حتى ترتاح الشركة ومعاون المركز ومدير التوظيف منهم . وانتم أيضا سوف ترتاحون مني ومنهم .
نظر احدها للآخر ببلادة ظاهرة تحف بهم نظرات الجالسين المتضاحكة ، وأكملت حديثي الذي بات ساخرا : اذا كان معكم أمرا بالقبض عليَ ، فأنا مستعد أن اترك هذا التشريب وأذهب معكم أينما شئتم . أما إذا كنتم بلا القاء قبض ، فلا اتزحزح حتى بالقوة ، ولكني أذكركم بأن زمن القوة قد ولى بغير رجعة . إذهبا رجاءا ، وقولا للسيد معاون المركز عن لساني :إن زمن نوري السعيد قد ولى . وإذا ما أراد أن نلتقي ، فليكن لقاءنا هنا ، في هذا المكان وأمام جميع العمال ، وعندها سأكون مستعدا للتفاهم معه حول تلك التواقيع . هذا كل ما عندي ليعرفه السيد المعاون ومع السلامة . وأكملت أكل التشريب الذي جف ، مثلما جف فمي ، فتناولت قدح الماء الذي أمامي وجرعته مرة واحدة .
لم يجد الشرطيان ما يمكن أن يفعلاه ، وهما بدون أمر إلقاء القبض ، وأيضا بسبب سلاطة لساني ، وتأييد الحضور من الجالسين ، والواقفين ، بأني أملك كل الحق فيما قلت ، وأني غير مجبر على الذهاب مع الشرطة ، بدون أمر القاء القبض .
أدار الشرطيان ظهريهما لي وذهبا ، بعد أن ودعاني بلياقة غير معهودة ، بسلوك الشرطة عادة ، ثم غابا وراء الكتل البشرية ، التي وقفت تتفرج على جرأتي وغفلة رجال الشرطة غير المتوقعة . بعد أن قلت جملتي الأخيرة التي فيها كثير من المشاغبة وأكثر منه ، التحدي : اذا كان للمعاون من شغل معي ، فليأت هو الى هنا , وسأكون بإنتظاره على أحر من الجمر ، وعلى الرحب والسعة .
تطلعت في تلك الوجوه الشاحبة المشرأبة ، وقد طواها صمت يتلبسه فضول لما سياتي به الغد لي من مشاكل . لم يقلقني ذلك ، وواصلت اكل تشريبي اليومي ، وأنا اتنقل من فكرة لأخرى ، كعصفور تائة ، يبحث في فناءات البيوت عن عش كان قد بناه . فتارة استعيد بعض من صور وأحداث الماضي ، التي جعلتني أسجن ستة أشهر، ذلك لأني فقط ، كنت أقلب ورقتي ( القاعده ) أول مرة ، رغم إني حتى لم ادر انها جريدة الحزب الشيوعي العراقي ! وتارة أخرى ، انتقل الى واحد من تلك القواويش المتخمة بالقمل والبشر على حد سواء في سجن أعزل ، بمنطقة شبه مقطوعة عن كل شيء ، ومحرومة من أية صلة بالحياة .
وفي حمأة هذه التداعيات المثارة في دواخلي السارحة في صحن التشريب البارد ، تذكرت جريرة نزلاء ذلك السجن المقصلة ، التي توئد كل حلم . تذكرت كما تحدث أحدهم ، كل جريمتنا ، إننا رددنا في تظاهرة جماهيرية عارمة ، تحيا الحرية ، يحيا الوطن ، تحيا الديمقراطية ؛ والخبز للفقراء .
سكنت اصابعي جامدة فوق فمي وهي تدفع بآخر لقمة من التشريب في جوفي ، وسكنت أنا الآخر كصنم أخرس . غير إن روحي كانت تتحاور مع ذاتها فأسمعها ترصف جمل متأملة تخاطب حاضري الذي يبدو إنه تناسى ، إن لي عائلة تنتظر ، فرحت أتلاسن مع الشرطة .
كانت الشرطة ورجالها السريون المتخفون حينا بأسمال بالية , وحينا بملابس يحسدون عليها , اشبه بالبعبع الذي يأتيك في أية لحظة ، فيقبض عليك كما يقبض ملك الموت على الروح في لحظة غير محسوبة من العمر . وليس مهما الحديث الآن ، عما سيأتي عليك من ضرب مبرح بعصي الخيزران ، او أحزمتهم الجلدية التي لا تنهي مهمتها إلا وتترك آثارها من دم وقروح على جلدك المزرق .
ذهاب الشرطة دون أن يتعرضوا لي زاد في تماسكي وادركت أن نكتتي بتقديم تلك المذكرة المتوهمة الى الإتحاد العام لنقابات العمال ، والصحف الوطنية البغدادية ، قد تركت تأثيرها الملموس ، وغير المتوقع لدى السيد معاون مركز الشرطة ، وبتلك السرعة القياسية أيضا . ومن المؤكد أيضا ان هذه الأخبارية لم تأت أعتباطا ، ولم تأتي من السماء ، ما لم تكن قد جاءت من قبل عصابة مدير التوظيف السفلة ، وبدفع منه . ولابد أيضا من علم الشركة بالأمر .
وعلى ضوء هذا الأستنتاج قدرت أن حصولي على عمل في هذه الشركة ، أصبح من أضغاث الأحلام . وأن بطالتي ستطول وستبقى أفواه عائلتي معلقة في فراغ الحاجة ، لأمد اطول مما توقعت . لكن ذلك سوف لا يفت بعضدي وبعضد قناعتي التي تآخت مع سلوكي وقناعاتي السياسية التي مدتني بها عضويتي في الحزب الشيوعي العراقي . فما أنا ماض فيه ، ليس به عودة الى وراء . وعليَ ان اغذ السير الى أمام ، من اجل ما إقتنعت به " وطن حر وشعب سعيد " .
تندت من شفاهي ابتسامة تحمل كل معنى الشماتة بهؤلاء الذين ضربوني وأهانوني وغيري عشرات المرات ، لأن بدلاتهم الكاكية وسداراتهم المتوجة بالتاج الملكي كانت تعطيهم سلطة ان يهينوا أي كان من الذين يرفعون صوتهم من أجل الفقراء .
ذابت تلك الأبتسامة في حوارات روحي الداخلية ، وهي تمتثل للقول الشائع " يوم لك ويوم عليك " .
من كان يصدق إن يوما كهذا الذي نعيشه ، سيأتي ؛ يوم يتاح فيه للمواطن أن يقول ويساءل أقوى مؤسسة قمعية وهو يدافع عن حقوقه كمواطن . يإلهي من كان يستطيع أن يقف موقفي هذا ، حتى أمام ظلها ، وهي الشرطة ، وهو ضامن ان لا يتعرض جلده للزرقة ، أو وجهه للكدمات من قبل جلاوزتها ؟!
ناجيت روحي بذلك ، وكأني أصلي من اجل أن تدوم الثورة التي حمت إنسانيتي الآن ، بغض النظر عما سيحمله الغد من مفاجآت , بسبب تحركات أعدائها الكثر في الداخل والخارج ، من اجل العودة بنا الى النظام السابق .
ذهبت لأغسل يدي , ولما عدت الى طاولتي ، كان قد سبقني إليها شاب يتسم بالوسامة بالوجه ، والطول بالقامة . وقبل أن أتامله مستفسرا عمن يكون ، كلمني بلغة كوردية طليقة ، وغالبا ، بلغة عربية لا تلد المعنى بيسر : سمعنا انك قد جمعت عدد من التواقيع . قلت وبلا أدنى تردد : نعم . فهل تريد اضافة توقيعك بإعتبارك عامل عاطل ؟ رد هو الآخر بلا تردد أيضا ، ولكن بظل ابتسامة تنم عن طيبة : لا ، أنا عامل في الشركة ، وعضو في الهيئة الأدارية لنقابة العمال فيها . وأسمي حسين عيشاخان .
قلت وفي كلامي ملامح خباثة غير خافية : وهل توجد هنا نقابة حقا ؟ فهز رأسه علامة الأيجاب ، دون أن يضع اعتبارا لخباثتي التي لا تحتاج الى البوح . وأضاف : توجد هنا نقابتان ، واحدة صفراء تعود للحزب الديمقراطي الكوردستاني ، والأخرى حمراء تعود للجميع . قلت وما تزال ملامح الخباثة تنسج وجه سؤالي غير البريء : وأكيد الحمراء يقف خلفها الحزب الشيوعي . على كل حال . أنت من أي من الأثنين ؟ الصفراء ، أم الحمراء !؟ أجابني بكل ثقة وهدوء مغلف بأبتسامة يتندى منها خجل الأدعاء : من الحمراء يا عزيزي .
لا أدري أي من الهواجس دفعتني في حديث ناقد عن تلك النقابتان وأدائهما الذي لا يلاحظ : جميل أن اسمع أن هناك نقابات للعمال في الشركة ، رغم أنني ، ومنذ ما يقرب من الشهرين ، لم ألمس أي نشاط ، او حركة مطلبية لكم ، والجميع يعرف قلة ما تقدمه الشركة من خدمات للعمال ؛ ناهيك عن الفصل الكيفي من العمل ، والتعيين بالوساطات وقبول الرشاوي من قبل مدير التوظيف وعصابته ! أين انتم من هذا الوضع , وأي نقابة هذه التي لا تدافع عن حقوق العمال ، وهم بأمس الحاجة لمن يدافع عن حقوقهم ، ولماذا تسمونها نقابة للعمال ، إذا كنتم من أصحاب الياخات البيضاء مثل ما قال صاحبكم ابو شوارب !
دفعت جملتي الأخيرة الى سطح الحديث الذي سخن ، بابتسامة عريضة ، حتى لا افسد على هذا الشاب الواضح الطيبة ، ثقته بنفسه ، التي دفعها أمامي كورقة رابحة في سجال من طرف واحد .
علق بصوت خفيض على كلماتي الخارجة من وجدان ، ثلمته الحقوق المنقوصة للعمال في هذا الموقع من مواقع العمل في العراق الجديد وقال : إننا نبذل كل جهدنا من اجل مصالح العمال ونقابتهم ، ولكن الأمر يحتاج الى عمل مضاعف لكي نحقق ما تطمح أليه ، والذي تنادي به ، لا اعتقده بعيدا عن أذهان الهيئة الأدارية للنقابة ،التي انتمي إليها . لذلك أدعوك الآن لزيارة مقرها ، للتعرف عن قرب على أحوالها.
لم تهزني أو تبهرني هذه الدعوة السريعة ، ولم تغرني بتلبيتها ، فأعتذرت حينها ، ولكني وعدته بالزيارة في مساء نفس اليوم ، حين تكون الهيئة الأدارية حاضرة ، حتى يمكن أن تكون للزيارة من فوائد ، وأيضا أن يكون لها معنى .
في المساء كنت هناك ، وكان أغلب أعضاء الهيئة الأدارية للنقابة موجودون كما توقعت . هذا محمد مرزا سعيد رئيس النقابة , وذاك عيشاخان ، وذا ميخائيل شعيا ،وأيضا ابراهيم الذي ينادونه أبو خليل ؛ وهذا برويس الجاف .
لم يدم تعارفي بالجميع سوى دقائق ، كنت اعرف وجوههم وبعض ألقابهم حين يشار اليهم حين يمروا أمام جمهرة العاطلين تحفهم كثير من الملاحظات التي ليست لصالح نقابتهم ولا لصالحهم . اما التعليقات فكانت كما أتذكرها معبرة عن سخط مبرر من العاطلين المتجمهرين يوميا أمام البوابة التي يقترب شكلها من بوابات المعتقلات التي أوتني زمنا ، أو من الذين سرحوا من الشركة على أمل عودتهم الى العمل بعد أن دفعوا لمدير التوظيف ما طلب منهم كرشوة مقابل عودتهم من جديد ، وأيضا من الذين سرحتهم الشركة بسبب المرض ولم تعوضهم بأي شيء فيجيئون الى بوابة الشركة كل يوم ، علها تستجيب لطلباتهم بالتعويض ، خصوصا وإن أمراضهم كانت بسبب العمل وأثنائه .
كانت سمعة هؤلاء النقابيون لا تسر ، حتى يخيل لمن يسمع الملاحظات عليهم ، بأنهم لم يكونوا إلا مدافعين عن الشركة ، وهم والحالة هذه لا يختلفون عن مدير التوظيف في نظر العمال ، بل يحسبهم البعض على إنهم من بطانة ذلك المدير الملطخ بعار الرشاوي وصناديق الويسكي .
دار بيننا حديث طويل نسيجه هي العزلة التي تعاني منها النقابة ، من الناس العاديين ، والعمال غير الشيوعيين ، بل العزلة تأتيهم بقوة حتى من العمال الشيوعيين الذين لم يتلمسوا أي نشاط للنقابة في الدفاع عن حقوق العمال ومطالبهم بتحسين أوضاعهم الخدمية والمعايشة التي كانت تتغاضى عنها الشركة ، فتركت مدير التوظيف ، يتصرف على هواه مع العمال دون مراعاة لأي جانب مهني أو أخلاقي .
هدوء من الصمت ، ساد هذا اللقاء غير المخطط له ، بعد ان أخضعنا كل شيء للتشريح والنقد ، وقد شاركتهم في استعراضهم للمشاكل ، بكل ما بي حرص على وجوب العمل ، لأنجاح عمل النقابة . لأنها في قناعاتنا كلنا ، تمثل وحدة العمال ، وقنطرتهم للوصول الى تحقيق مطالبهم المشروعة ، وهي بمنتسبيها وغيرها من النقابات ، سياج يحمي جمهوريتنا الخالدة ، من المتربصين بها .
لم يطل هذه الهدوء من الصمت غير الثقيل ، والذي كان يعني بمقاييس العمل السياسي والمهني الجملة الشهيرة : ما العمل ؟
ما العمل أمام الأولويات المطلوب العمل عليها ، لكسب العمال ، كل العمال الى جانب نقابتهم ، ولألزام الشركة على التعامل مع معها بشكل مهني بأعتبارها ممثلة العمال الرسمية أمامها ، وأنها العقل والمهندس لما يريدوه .
كانت اللحظات تمضي كأنها ساعات ، ولكن بلا أية آلية لترجمة ما توصلنا إليه . ومن بين طيات ستارة الصمت التي كانت تسود ، كانت كذلك تخترق أسماعنا بعض من همسات ضاجة بما العمل ؟!
لم يجد لساني أمامه ، وأمام هذا الصمت الذي يعني الكثير من الأفكار التي تنتظر من يحرك رماده بمحراث يوقد نارا ، ويطلق منه العنقاء التي كان العمال بأمس الحاجة إليها ، لكي يطيحوا بالأستبداد والظلم الهمجي الذي كانت تمارسه الشركة عليهم ، وبذلك لم يجد لساني غير أن يقول بصوت واثق : الأضراب !
إلتفت إليَ الجميع بدهشة موشاة بالأستغراب ، والى بعضهم بذات الدهشة وكثير من الأستغراب وقد فتحوا أفواههم بلا شعور، وكأن كلمة الأضراب التي قلتها كانت قد فعلت فعلها ، كما فعلت كلمات علي بابا والأربعين حرامي عندما خاطب جلاميد الجبل بـ " افتح يا سمسم " ، ففتح له الجبل بابه السرية التي ضمت كنوزه التي لا تقدر بثمن . ثم اكملت حديثي المتفجر لأزيل صاعق الدهشة الذي غلب على الوجوه قائلا : انه انسب وقت للإضراب ، وليس هناك من خوف منه إذا ما نظمناه ليكون إضرابا عماليا حقيقيا خاليا من العنف . سيكون إضرابا من أجل تنفيذ مطالب العمال فقط ، ولا شيء غير ذلك ، نقطه راس السطر .
جملتي الأخيرة كانت تشبه رذاذ ماء بارد مر عليهم فأنعش فيهم الحضور الذهني ، وأخرج جملة أسئلة من قيعان دواخلهم المتوترة ، فأحدهم قال : لم تخطر هذه الفكرة ببال أحد . وقال آخر وهو يتسقط ردود الفعل : ولكنها فكرة مخيفه . وقال عيشاخان : كيف ندير الأضراب ؟! ومن يتحمل المسؤولية ؟ ولم يتأخر محمد مرزا رئيس النقابة عن القول وكأنه يحسم الأمر : بل قولوا كيف سنبدأ . فتجارب من سبقونا من العمال كثيرة ونجحوا بأنتزاع حقوقهم وهم يتحدون الموت والسجون والجوع ؛ فتلكم اضرابات العمال في كاورباغي والميناء وكي ثري ودوكّير وأضرابات أخرى غيرها . وكلها جرت في ظل النظام الملكي الذي واجه اضرابات العمال بالحديد والنار ، غير إن العمال نفذوا ما عزموا عليه ، لينالوا حقوقهم ، وليثبتوا بأنهم جسد وفكر واحد . فما بالنا لا نضرب الآن ، ونحن نعرف جيدا ان ، النظام الجمهوري جاء لينصفنا ، لا ليقتلنا .
ما خَطبَ به فينا رئيس النقابة محمد مرزا ، كان أول حل لطلاسم الكلمة السحرية ، الأضراب ، لتنفتح مغاليق أفواه الحاضرين عن ملاحظات جديرة بالأهتمام ، وهي تشكل أول الخيوط التي يمكن ان تنسج النقابة منها ، وبدعم العمال إضراب ناجح . وقد اجمعت ملاحظاتهم على وجوب أن تكون أهداف الأضراب ، هي توفير سكن للعمال كما هو متوفر للموظفين والفنيين وغيرهم من المهندسين ، والأعتراف بالنقابة كونها الممثل الرسمي للعمال ، وفتح مستشفى في المشروع ، وأيضا ، توفير الخدمات التي يحتاجها العمال كالمطعم والكازينو ودار استراحة ومدرسة لأبناء العمال ، وغير ذلك من تطلبات مشروعة لهم تحتاجها حياة العمال في المشروع .
عقدة الخوف من نتائج الأضراب ، او فشله لدى قادة النقابة لم تعد مستعصية ، فقد بدأ الحذر والخوف يغادر أحاديثهم بلا رجعة ، وهم يسابقون الوقت بالنقاشات التي يمكن أن توفر للأضراب فرص نجاحه الممكنة ، وطبعا هذا الحدث الكبير يجب أن يحظى بموافقة اغلبية الهيئة الأدارية للنقابة وعليه فقد جرى الأتفاق على أن يبقى ما جرى هذا المساء سرا ، حتى يعد من قبل كل الهيئة الأدارية الأعداد المناسب للأضراب .
ذهب كل الى سبيله ، وحين توجهت الى بيت الطين والحجر حيث أقضي ليالي بصحبة الظلمة او بصحبة أحلام اليقظة التي تضاعفت هذه الأيام ، وبلا شك ، أن هذه الليلة ستكون حافلة بذلك النوع من أحلام اليقظة التي يخيطها التفاؤل .
وفعلا وحال وصولي الى الغرفة الطينية ، حتى احتواني ذلك الفراش الأبيض، فحطت على روحي ليس فقط تلك الأحلام الوردية ، ولكن أيضا بدأت استعيد شريطا جلي الوضوح عن أيامي الخوالي التي كنت فيها شاهدا على نجاحات اضرابات عمالية عديدة في شركة نفط البصرة ، كان يديرها قادة عماليين ، ذوي تجربة أعجب كيف خبروها . غير إنهم ما كانوا يعتبرون الأمر من الأسرار ، بل كانوا يدفعون الى اكتساب تلك الخبرة سيما وإنها تتوفر عند الأنغمار في النضال اليومي للعمال . وبعد ثورة الرابع عشر من تموز ، عرفت منبع الأستزادة تلك عن كفاح العمال ونضالهم من أجل مطالبهم المشروعة ، وكيف يمكن أن تدار أقوى الأضرابات . عرفت كل ذلك من صفحة من صفحات جريدة ( إتحاد الشعب ) الناطقة بلسان الحزب الشيوعي التي اطلقها بعد ثورة تموز الخالده لتكون راعيتا لحاجات الناس ومتطلباتهم أمام السلطة .
لقد كنت مدمن على متابعة أخبار العمال في هذه الجريدة ، لأني كنت واحد منهم . ولم أجدها غير معلم أول ، يوزع معارفه على كل من يريد ، وليس أمام هذا وغيره ، غير أن يتصفحها ويقلب أوراقها ، ليكتشف انه في عالم يسود فيه استغلال الأنسان للأنسان من قبل المتحكمين بقوت ومصائر الفقراء خاصة والناس عامة ، وبذلك فهو مطالب أن يناضل من أجل وقف هذه العبودية وهذا الأستغلال ، من أجل أن يتآخي الناس ويحولوا دون غنى القلة على حساب الأكثرية الساحقة التي لا تملك أي شيء . وأدركت من خلال هذا العلن عن الحرية وأساليب النضال ، بأن الفقير إذا وقف بوجه الأستبداد والأستغلال ، فأنه لا يخسر سوى قيوده ، ذلك لأنه لا يملك أي شيء في واقع الحال .
دروس كثيرة في فن الممكن تلك التي وهبتي إياها جريدة ( إتحاد الشعب ) ، مقابل أن اتعلم متى استعمل الكلمتين ( نعم او لا ) كل على حدة . كل هذه الفصول من التعلم وتجارب التهيئة للأضرابات الناجحة التي خبرتها عند نقابيون من طراز رائع ، جعلتني أمس أطرح فكرة الإضراب بكل أملك من ثقة بالنفس ، وبكل ما أملك من ثقة بنجاح الإضراب إن أقدمت عليه النقابة وقادت العمال اليه بلا عراقيل .
لم تزد الشمس من طلوعها كثيرا ، حتى كنت في مقر النقابة البسيط حسب الأتفاق الذي أبرمناه مساء الأمس . كنت اول من حضر ، فجلست انتظر بقية من التقيتهم البارحة ومن لم ألتقيهم . فامامنا تدبير ربما سيغير من وضع العمال في الشركة ، ويتغير معهم وضع العاطلين الذي أنا واحد منهم . في هذه الهدأة القصيرة سبحت ضد تيار يقظتي ، وعاد بي التيار الجارف الى عائلتي التي تنتظرني وتنتظر ما يمكن أن اوفر لهم من تطلبات بعد أن احصل على عمل في هذه الشركة ، غير أني زججت نفسي في هذا المعمعان الذي لا يبدوا من أمامه او وراءه غير ؛ إما الأعتقال ، أو أن اخسر فرصة حصولي على عمل ، وأعود بخفي حنين الى أهلي .
قطع محمد ميرزا علي تأملاتي ، وبادرني بالتحية الصباحية مصحوبة بحيوية غير أعتيادية كما يفعلها غيره . ثم تقاطر البقية من النقابيين ، وجلسوا وأنا بينهم ، وأعادوا ما قالوه بالأمس ليعلم من لم يكن حاضرا بما جرى إقتراحه بالأمس . لم يزد الحاضرين الجدد على ما تم الأتفاق عليه .
لم نتحاوركثيرا ، عندما طلبوا مني المساهمة بإغاء الموضوع سيما وأنهم عرفوا عن تجربتي بأضرابات قد ساهمت فيها منذ سنوات خلت ، فأختصرت حديثي بنقاط معدودة هي أقرب الى الشروط منها الى الملاحظات ، فبدون تحقيق هذه الشروط ، لا يمكن أن نبدأ الأضراب : واحد - كسب أكثر من نصف الفورمنية في الشركة . ثانيا : حماية المشروع ومرافقه من التخريب ، ووكذلك حماية الأجانب . ثالثا : أن نشخص أكثر من لجنة ، احداها للمفاوضات وأخرى للتحرك الميداني والتحضير . ورابعا : كتابة مذكرة نثبت فيها مطاليب العمال .
لم أزد فوق ذلك شيء ، لأننا اتفقنا على ما هية مطالب العمال ، فقد خضنا في كل تفاصيلها ليلة أمس ، بما فيها خضوع الشركة للقوانين التي أصدرتها الحكومة الوطنية بعد ثورة الرابع عشر من تموز التي تعني بمصالح العمال وحقوقهم . كان كأنه أجتماع التقت فيه القناعات من اجل أنجاز هذا الأضراب .
بعد ثلاثة أيام من ذلك اللقاء ، عقدت الهيئة الأدارية للنقابة ، إجتماعا دعتني إليه , وقد جمعنا هذا الأجتماع ، مع بعض الكوادر الشيوعية في المنطقة ، منهم الكادر الحزبي المجرب ملا علي . إتفقنا في هذا الأجتماع ، على كتابة مسودة للمذكرة التي سيجري تقديمها للشركة ، مترجمة الى اللغة الأنكليزية ، وترسل نسخة من هذه المذكرة ، بعد أعدادها بشكل نهائي ، الى كل من وزارة الأعمار ، وزارة الشؤون الأجتماعية ، الأتحاد العام لنقابات العمال ، الصحف المحلية في بغداد ، وخصوصا التقدمية منها . والى مديرية الشؤون الأجتماعية في السليمانية .
كتبنا انا والشيوعي ملا علي ، المذكرة بالتفاصيل التي إتفقنا عليها في اللقاء ، ومن أجل ان تأخذ المذكرة كامل أبعاد نجاحها ، فقد عرض النص ، على المهندس الشيوعي سالم الشيخ ، طالبين منه رأيه بها ، ثم ترجمتها الى اللغة الأنكليزية . لقد توطدت علاقتي الحزبية بهذا المهندس بعد نجاح الأضراب ، فصار مسؤولي الحزبي لفترة غير قليلة .
* * *
في أقرب لقاء في النقابة بُلغتْ بأني سأتولى مسؤولية توزيع المذكرة الى الجهات والدوائر ذات العلاقة ، ولأنهم يعرفون بأني عاطل عن العمل ، لا أملك أي إمكانية مادية ، يمكن أن تغطي تكاليف السفر والإقامة ، فقد تكفلت النقابة بكل ما أحتاج أليه من مصاريف سفر وإقامة في بغداد والسليمانية ، للوصول لتلك الدوائر، ومسؤوليها الذين لا اعرفهم ، متحدثا باسم عمال المشروع الذين تجاوز عددهم الثلاثة آلاف عامل وفني .
كان هذا العد الضخم من الشغيلة يشكل أغلب طوائف سكان العراق ومدنه . فالى جانب المسلم كان كان يقف المسيحي والأيزيدي والمندائي والشبكي ، والى جانب الكوردي كان يعمل العربي والتركماني والكلداني والآشوري . ويستطيع ان يجزم المرء ، انه كان يلمس العراق بكل تفاصيله البشرية في مرجل ذلك المشروع الجبار ، الذي سيضع كل العراق ، على عتبة جديدة في مضمار التقدم الزراعي والعمراني .
لم يخطر ببالي ، وأنا أكلف بتلك المهمة غير الأعتيادية ، بأني سوف امثل هذه البودقة العراقية من تنوعاته ، فهامت روحي في علياء لم ارتقيه من قبل . كما لم يخطر ببالي بأني لست سوى مجرد عاطل عن العمل ، اتسكع مع غيري من العاطلين يوميا أمام بوابة الشركة التي انتظر منها ، ان تطلق سراح موافقتها على تعييني فيها ، كي احسب نفسي حقا من عمالها او شغيلتها . حين إجتاحني هذا التذكر ، لم اضع في حسباني غير نجاح الأضراب ونيل الحقوق ، فنسيت كل شيء ، بما فيهم اهلي المنتظرين مني فرجا يفتح لهم باب أن يعيشوا بالكفاف الذي لا يشعرون معه بالعوز والفاقة .
مرحلة سفري الى بغداد والسليمانية التي كُلفتُ بها ، كانت قد سبقتها مراحل عملية تحضيرية قامت بها النقابة للتهيئة للأضراب . فقد تم بنجاح ضمان موافقة أكثر من سبعين بالمئة ، من مسؤولي الأقسام (الفورمنيه ) ، اذ وافقوا على عدم العمل أثناء الأضراب رغم ضخامة رواتبهم . وكذلك موافقة أكثرية ساحقة من العمال على المشاركة الطوعية في هذا الأضراب المنتظر . كما لم تحدد النقابة فترة للأضراب ، بل جعلته مفتوحا ، لا يتوقف ، حتى يتم تحقيق مطالب العمال التي وردت في المذكرة .
ابتدأتُ رحلتي الميدانية الى السليمانية ، تلك المدينة الصغيرة الهادئة الوادعة بأهلها المتصفون بطيبة ، ومزاح مرح ؛ وفطنة يتميزون بها على سواهم . وقد وزعت فيها المذكرة بنجاح على الدوائر المعنية . وبدون أي تأخير يمكن أن يلاحظ مني ، سافرت منها الى بغداد .
وبغداد لم تكن مدينة عادية ، إنها العاصمة بما فيها من أبهة وبهاء . فهي صاحبة الجسور العديدة ، والمراكز التجارية المختلفة ، أما شوارعها المكتظة بالناس فهي عبارة عن قناطر لمرور السيارات والبشر ، كانت تلك الطرقات المبلطة النظيفة ، تسرق أنظار أمثالي ، الذين لم يألفوا هذه الظاهرة في مدنهم المتعبة .
صحوت متعبا وكأني كنت أكد في نومي ، رغم ان الفندق الذي نزلت به كان مريحا وفراشه افضل بما لا يقاس عن الفراش المحفة ، الذي كنت أتقاسمه مع قريبي ؛ ليلا كان لي ، وفي النهار كان له . وحال خروجي من الفندق ، توجهت الى الأتحاد العام لنقابات العمال ، لم أكن اعرف مناطق بغداد ، بإستثاء المعالم التي كانت تشكل قلب بغداد ، خصوصا للذين يأتونها من مدن بعيدة أخرى . لذلك فكنت كثير الأستفسار من المارة وأصحاب المحلات عن الأماكن التي اروم الوصول إليها . لذا كان سؤالي الأول عن مكان الإتحاد العام لنقابات العمال . وصلت إليه ، قبل أن افكر بالذهاب الى أي من الدوائر التي يتوجب وصولها لأترك عندهم المذكرة .
أستقبلني هناك عند الأستعلامات ، شاب بهاءه لافت ، وتواضعه جم ، لم يتركني اغرق في تفاصيل أسباب مجيئي ، وكأنه كان يقرأ ما بعد الكلمات التي كانت تنز من لساني . أخذ مني المذكرة ، وهو يوقف شلال كلماتي النازفة من وجداني ، بسؤال أختصر عليَ كيفية أختيار البدايات في الحديث : هل تأكدتم من استعداد العمال لهذا الإضراب ؟
كان قد سَمْى لي رؤساء الأقسام تحديدا . ولما أجبته بالأيجاب ؛ أنفرجت أساريره . كأنه سمع ما يزيح عن صدره كل هم . وضع يساره بيدي ، أما يمينه فكانت ممسكة بالمذكرة ، بأصابع لا ينضح منها الماء ، وتحرك بي ، وكأنه قد تحرر من كل قيد ، او أثقال كانت تعيقه . أوصلني بحيوية لافتة الى واحدة من الغرف التي يتربع على طاولتها وكرسيها الخشبيان رجل توسط عمره العقد الخامس . أمامه لوحة خشبية مستطيلة بلون بني ، تماما ، كتلك التي كان يضعها مدير مدرستي الأبتدائية أمامه ، وقد خط فوقها كلمة المدير ، اذ لفتت نظري حينها لما دخلت غرفته لأخذ الطباشير الى الصف . غير إن ما أراه على هذا المستطيل الخشبي هنا ، هي كلمة أخرى ، او جملة لم المح معانيها . إذ لم يشجعني وضعي المربك للإنتباه الى ما كان مكتوب عليها .
رحب بي الرجل كأني واحد من أصدقائه ، وقدم لي نفسه ، على انه سكرتير الأتحاد ، فتلصصت عيوني على المستطيل الخشبي ، فوجدتها ( السكرتير العام لنقابات العمال في الجمهورية العراقية ) . وبالقدر الذي أثلج صدري هذا العنوان ، فقد أثلج صدري أكثر ، تواضعه الذي لا تجده عند آخرين يجلسون خلف مناضد شبيهة بمنضدته ، بل حتى أقل منها زحمة بالأوراق والاقلام . وبعد أن قلت له من أكون ولماذا أنا هنا ؛ طلب مني الجلوس على واحد من الكراسي التي تعج بها الغرفة . فدس ذالك الشاب في يده مذكرتنا التي تواجه منذ الآن إما القبول ، او عدم القبول . إن أمامها مارثون طويل من الأيادي التي ستتلاقفها . وأمامي أنا أيضا مارثون طويل هو الآخر ستتنقل فيه يدي من كف لآخر ، ومن يد الى أخرى مختلفة . بين تلك الأيادِ من ستصافح ، وربما فيها أيضا من سوف لا تصافح .
تأمل الرجل كثيرا في المذكرة . ثم استقرت عيناه طويلا عند جمل بعينها . راحت هواجسي أثنائها ، تلتقط من هذا المشهد المزدحم بالأفكار ، نتائج محددة ؛ ليس بينها اي لون رصاصي ، فإما اسود ، وإما ابيض . كانت توقعاتي تنتقل من فكرة الى ثانية ، أحدهما لا تشبه الأخرى . اذن فمذكرتنا تقف الأن أمام إمتحان ، فإما أن تكون ؛ فيطلق لأفكارها العنان ، وإما أن لا تكون ، فأعود الى النقابة بخفي حنين ، لأقول لمن فيها من منتظرين عودتي محملا بأخبار مفرحة ، فأقول لهم ما لا يسر ، ولا يشرح القلب .
كنت وأنا انتظر أن ينتهي من قراءة المذكرة ، اتقلب على نار ، جعلت مسام جسدي تتقيأ كل عرق فيها . حتى ان اللعاب الذي كان في فمي قد استحال الى مادة لزجة ، قد حالت دون أن تكون كلماتي واضحة له ، حين واتتني اللحظة لأقول : نعم ، ردا على سؤاله ، لما وضع المذكرة على سطح طاولته ببطء : هيأتم انفسكم للأضراب ؟!
لم يكن سؤال ولم يكن جواب . كان مبهما بلا ملامح ، بل كانت الجملة التي قالها ، اشبه بابتسامة لوحة دافنشي الموناليزا ، تقبل كل الأحتمالات والتأويلات . بعد نعمي المتأكدة له ، ساد صمت وجيز ، استنزف مني كل قوة أعصابي ، ليبادرني بسؤال كاد صداه ان يمزق طبلة أذني ، لا لحدته ، بل لأنه كان في لحظة سماعي له ، حسبت سؤاله قد تردد في أذني آلاف المرات .
شربت قدح الماء الذي وضعه أمامي مع قدح الشاي رجل مسن ، يقوم بهذه المهمة مع كل ضيوف السكرتير ، وبعد أن شربت ما كان في القدح ، تسلل الى خارجي ، ذلك الشد العصبي الذي حرر لساني من الحران دون حركة أو كلمة ، فسردت له كل ما هييئنا له لكي ندير اضرابا ناحجا ، وخاليا من العنف . بدءا من لجان المفاوضات الى لجان حماية الأجانب ، وإلى كل ما يمت على حماية المشروع من الأضرار بصلة ، كالماء والكهرباء وضمان وجود السوق أيضا .....
تناول من درج مكتبه ملفا أسمر ، وبعد أن طواه كتب على واجهته ( إضراب عمال سد دربندخان ) ودس بين دفتيه مذكرتنا التي همشها بجملة " يتابع الأضراب ونتائجه " ثم وضعه في درج المكتب ، ليتطلع بعدها بي ، وكأنه يتطلع في وجوه جميع عمال المشروع ، حينما هزم صوته الواثق ، ذلك الصمت الأخرس الذي سادني : يبدوا إنكم تملكون خبرة ممتازة في الأضرابات ، فقد رتبتم اموركم بشكل جيد ، وليس أمامنا غير أن نتمنى لكم النجاح . وإن الأتحاد بدوره ، سوف يرسل لكم ممثلا عنه عند الأضراب ، لتقديم المشورة والمساعدة ، إذا اقتضى الأمر ذلك طبعا . نتمنى لكم ولطبقتنا العاملة ، كل النجاح من أجل نيل حقوقها المشروعة .
ودعني نيابة عن الأتحاد كما قال عند مغادرتي غرفته . ظل معي ذلك الشاب الذي استقبلني حتى باب الإتحاد الرئيسية وهو يتمنى لنا النجاح في إنجاز مهمتنا ، بقي هذا الشاب ، يقدح في ذاكرتي ، حتى بعد أن قتله من قتل وإغتال ثورة الرابع عشر من تموز في اليوم الذي جلله وطنيو العراق بالسواد ، لكثرة ما خلف من نساء توشحن بالسواد ، وهن اللواتي ثكلن بأزواجهن ، أو أبنائهن بنين وبنات ؛ أو إخوانهن وأخواتهن . كان ذلك اليوم هو يوم الثامن من شباط من العام 1963 .
كان الذي ودعني لأذهب الى وزارة الشؤون الأجتماعية ، هو القتيل تحت التعذيب بلا رحمة ، العامل النقابي الشيوعي طالب عبد الجبار ، الذي تذوقت - بعد أن عملنا سويا في المجال السياسي حين ابعدت عن دربندخان لأسباب سياسية - أقول : تذوقت من جهاديته ووطنيته من اجل العمال والوطن ، حلاوة ان تكون أول من يضحي وآخر من يستفيد .
راحت أقدامي التي تعودت ان تلتهم المسافات مهما طالت ، تغذ بي السير الى المنطقة التي كانت تنتصب فيها وزارة الشؤون الأجتماعية كمعلم من معالم تلك المنطقة . في هذه الوزارة لم افعل غير أن قدمت المذكرة الى الأستعلامات ، فسجلوها في قسم الواردة ، ثم وضعوها في ملف أنيق كتب عليه ( البريد الخاص بالسيد الوزير ) ، بعدها اعطوني ورقة كتبوا عليها الرقم والتأريخ لغرض المتابعة ، وأبلغوني بأنهم سوف يدخلوها الى الوزير مع البريد الخاص به . شكرتهم وتركت الوزارة هذه ، الى وزارة الأعمار .
في الطريق اليها ، أستعدت بذهني ما قلته لطالب عند باب الأتحاد : اتوجس من هذا القومجي يا طالب أن يعيقنا ويخلق لنا المتاعب ! فأجابني بإبتسامة نفذت الى الوجدان ، وتوشمت على جدرانه : إنهم لا يستطيعون تغيير المقادرير ، ومقادرينا نحن بالذات ، إلا إذا مسحونا من وجه الأرض ، ودفنونا فيها ، نحن وأفكارنا .
كانت تلك النصيحة التي دوت في داخلي ، قد اشعلت كل حماستي لقضية العمال ، ولم تبق خلية في جسدي لا تتغنى بتلك الحماسة الطاغية ، حتى ان أقدامي قد احسستها ، لا تلتهم المسافات فحسب ، ولكنها كانت تشربها أيضا ، وعلى وجه الخصوص، تلك المسافة المؤدية الى الباب الشرقي ، حيث تقع وزارة الأعمار ، المطلة على نهاية شارع الجمهورية ، الذي ينتظر هو ، والناس أيضا ، أن يفتتحه عبد الكريم قاسم في القريب العاجل .
لايزال يسري بي شيء من الخوف ، الخوف الذي يصل احيانا الى هاجس يستحيل في ثنايا لحظة ، الى رعشة غريبة بيدي ، بل في جسدي كله ، رغم شحنة المعنويات التي ربضت بي كالقلاع ، للدفاع عما احمله من قضية .
عند وقوفي في باحة استعلامات الوزارة ، تلفتُ لأتأكد من مكان من سأتحدث معه من الموظفين حول المذكرة التي احملها معي في كيس ورقي أسمر . في تلك اللحظات المديدة التي تماسك فيها زمامي ، تقدمت الى أحد الجالسين خلف منضدة مزدحمة بالملفات والسجلات التي كانوا يدونون فيها ما يرد الوزارة من بريد ، وقلت له مباشرة وبلهجة لا تخلوا من اصرار ملحوظ : أريد اللقاء بوكيل الوزارة لأمر هام جدا . لقد جئت من مشروع سد دربندخان ، حاملا هذه المذكرة الى السيد الوزير ، وهي تتضمن قرار أعلان عمال المشروع ، الأضراب المفتوح عن العمل ، حتى تتحقق مطاليبهم .
لم أزد حرفا على ما قلت ، لأني شعرت بأن جعبة لساني قد جفت من أية كلمة ، يمكن أن تضيف الى ما قلت من معنى جديد ، لتنطلق من الموظفين همة وهياج ، عج بها المكان بحراك هد كل أسوار السكون المخيم على هذا البهو الفاره ، فهرع إثنان منهما يحملان المذكرة كأنها وليد تمخضته أم لمليون إبن ، وغاصوا في ممر طويل . غير إن الحراك لم يترك حدود المكان الذي كنت اقف عنده . وبين فينة وأخرى تسرقني نظرات بعض الموظفين ، ربما ليتبينوا من أكون ، أنا المتضامن بثبات أمام طاولة الأستعلامات. لم اعر ما كانت تصوب علي العيون من نظرات ، أي إهتمام ، بما فيها عيون شرطيين وقفا متربصين ينتظران إشارة ليمارسا لعبتهم مع سيء الحظ الذي يقع بين أيديهم .
مرت دقائق معدودة ، ولكنها كانت اطول مما كنت أعانيه من أنتظار أمام بوابة الشركة . لم يقل الحراك من حولي إلا لحظات ؛ حتى هاج مرة أخرى بصخب منظم ، ومن حيث ما دخل أولئك الأثنان . إزدحم المكان بالهمس الصاخب ، وأحاط بي من كل جانب : جاء سيادة الوكيل .... جاء سيادة وكيل الوزير !
لم يتوانى الوكيل بعد أن تطلع بوجهي بأمتعاض لا يوحي بأي أمان أو رضا ، من سحبي من يدي بقوة . كانت لحظتها قد غطت وجهي دهشة مجحفلة بخوف لم يتبدى عليَ ، ولكنه سكنني بكل قوة . جرتني يده اليسرى المطبقة على يدي ، إذ كانت يده الثانية ممسكتا بالملف الأنيق ، الذي احتوى مذكرة عمالنا ، التي هزت الوكيل في عرشه ، فجاء ليأخذني الى غرفة يحرسها شرطيان ورجل أمن . وقفنا أمام الباب المتوجة بلوحة نحاسية تلصف كالذهب ذو العيار الثقيل وقد كتب عليها بخط النسخ كلمة ( الوزير ) . طرق الوكيل الباب بلياقة لا تنم عن أي قلق ، منتظرا أذنا بالدخول .
لم أكن حينها إلا بحال لا أحسد عليه . تتطاير من عيوني نظرات ، تشرأب الى السقوف النظيفة حينا ، والى بلاطات الأرضية اللامعة حين ثان ، عليَ أهرب من نتائج مقابلة إما أن تغتصب كل أحلامي ، أو تدعها تطير كفراشات ملونة بين دوالي رياض الغد . هذا الوزير هو من يعطي الضوء الأخضر لمصائرنا ان تستمر في سيرها ، او يشعل الأحمر الذي سيجهض كثير من احلامنا وهي لم تكمل أوان ولادتها ، لذا لم اتوقع أن تتم المقابلة بهذه العجالة وبهذا المشهد الذي وضعني به السيد الوكيل .
وقفنا كلنا أمام الوزير ، كانت قد اجتاحتني سمعته المتسمة بالهوى القوماني . وقد سبقت رؤيتي له الآن بكثير .. سبقت ذلك الى مرابع تفكيري ، فتربعت على تخوم ذاكرتي المشبعة بالنفور منهم . كنت احمل عنه فكرة مسبقة تجمعت من هذه الملاحظة وتلك التي كنت اسمعهما من أفواه كثيرة ، تلك الملاحظات كانت تتعلق بميوله السياسية القومية ، وميله للقوة من أجل أن يكون متسيدا هو وحزبه ، ولم ادري إنه هو من أسس القيادة القومية لحزب البعث في العراق منذ 24 تموز من عام الثورة بعد أن وصل ميشيل عفلق الى العراق ليقنع القيادة العراقية ، بالأنضمام للوحدة العربية القائمة بين سوريا ومصر , إلا حين وضح لي ذلك ، طالب عبد الجبار ، عندما ودعني أمام بناية الأتحاد العام لنقابات العمال ، وأنا في طريقي لأكمال مشواري في تقديم المذكرة الى الجهات ذات العلاقة بإضرابنا ومنها وزارة الأعمار . ولا أدري لماذا أكد لي طالب قائلا : إن هذا الوزير ينحدر من مدينة الأوائل ؛ الناصرية ، جّبْانَة الفن والسياسة ، وهو المعتمد سياسيا كأول مسؤول لتنظيم حزب البعث في العراق .
في هذه الأثناء خيم على تفكيري هاجس ما قالوه في الأتحاد العام لنقابات العمال : من المؤكد أنه سيكون لهذا الوزير موقف رافض ، وسلبي ، ليس فقط تجاه ذلك الإضراب وإنما ضد العمال المضربين أيضا ...
عدم الرد على تحيتي له ، عزز لدي تلك الهواجس بموقفه السلبي خصوصا عنما ارتفعت نبرة صوته العالية ، وكأنها سيل من شتيمة وسباب : البلد بأي وضع ، وأنتم تريدون القيام بإضراب ؟! وداوم بذلك الصوت المرتفع ، الذي تجاوز حتى جدران مكتبه : انكم تريدون خلق الأضطرابات والبلبلة في البلد .. انكم بهذا الإضراب الذي تريدون القيام به ، إنما تعملون ضد ثورة 14 تموز ، وضد الزعيم عبد الكريم .
تأكد لي ان هذا الوزير قد وضع في رأسه سلفا ، ان جهة محددة تقف وراء هذا الإضراب ، بعد أن بقي لسانه يقذف بجمرات كلامه ، وكأنها سكاكين مثلومة ؛ إن جرحت ، فأن عمق جراحها سيكون غائرا في اللحم : إني أعرف من يقف وراء هذا النشاط الهدام .. انه نشاط مشاغبين ، انه نشاط شيوعيين .. نعم .. فهم الذين يقفون وراء كل إضراب هدام يقوم به العمال .. انهم يريدون ان يوقفوا مسيرة الثورة .
هذه التهديدات التي كنت احسها سهاما موجهة من جعبة قد أعلن راميها عداءه غير المنصف للعمال ، ليس لهم فقط ، ولكن لمن يمثلون العمال من قوى سياسية في نضالهم المطلبي أيضا , وكنت شخصيا أحس بوخز النبال الحادة تصلي وجداني وأنتمائي العمالي ، كلما أوغل ذلك الوزير في أتهام العمال بالوقوف ضد الثورة وزعيمها ، لمجرد انهم يرومون القيام بإضراب سلمي خال من أي عنف من أجل نيل حقوقٍ مستحقة لهم ؛ كانت الشركة الأمريكية المنفذة للمشروع تحرمهم منها ،رغم شرعية هذه الحقوق . هؤلاء الذي أوغل الوزير بشتمهم وإتهامهم بالخيانة ، لم يكونوا غير عمال عراقيين يطالبون بحقوقهم لا أكثر ولا أقل .
هذا التجاوز غير المعقول من قبل الوزير ، قد جعل مني ؛ مثل مرجل غلى في أتونه دمي ، الذي كنت احسه يزداد غليانا ، مع كل مخرج حرف يلفضه الوزير .. وقد غلى وغلى ، حتى سرى الدم الحامي بي وصولا الى قمة رأسي . فأرتسم على وجهي بلون أصفر ، وحينا بلون احمر ، وتبدى على يديَ وساقيَ بهيئة ارتعاش ملفت ، فبدوت كشجرة تقترب من نهايتها في فصل خريفي تزدحم به رياح ضاربة بالقوة ، لتصدم بكل شاخص على الأرض ، فتهزه بعنف . حالتي هذه ، وأرتعاشي المفرط ذاك ، لم أعهدهما بي سابقا ، حتى في اصعب المواقف .
لم أتمالك اعصابي ، فلا أدري ، هل قاطعته ، أم طلبت منه الأذن بالكلام ، حينما شرحت موقفنا نحن العمال قائلا : سيادة الوزير يبدوا انك حانق علينا ، وهذه المذكرة قد فجرت فيك حنقك هذا ، بشكل وضعنا نحن العمال الذي نحمي الثورة وزعيمها في مصاف الخونة والمجرمين ، وسيادتك يعرف جيدا ، ان زمن المجرمين والقتلة والخيانة قد ولى مع عدو الشعب نوري السعيد ، فقد داسته وداستهم عجلة الثورة التي نحميها نحن وبواسل الجيش . ويعلم سيادتك ان البنادق التي كانت توجه ضد صدور العمال قد ولى عهدها ، بعدما جردهتا الثورة والزعيم من رصاصها .
يا سيادة الوزير ، أنت تعلم إن عهد قتل العمال والكادحين بلا حساب ، قد ولى الى غير رجعة ، فلم تعد هناك من سجون مفتوحة للعمال الذين يطالبون بحقوقهم المشروعة ، وهم يحرصون كل الحرص على ان تكون وسيلتهم للحصول على حقوقهم تلك ، وسيلة حضارية ، خالية من أي عنف . وقد أقسم العمال على حماية المشروع من أي ضرر يمكن أن يتعرض له ، لأنه وسيلة رزقهم ، وهم لا يعدمون أية وسيلة للدفاع عن مصدر رزق عوائلهم حتى لو واجهوا الموت . وها نحن نسلم سيادتك هذه المذكرة التي فيها مطالب العمال ، وإلا سيكون الأضراب مفتوحا ، حتى تستجيب الشركة لمطاليبهم .
لم اضع في حساباتي أي احتمال بأن أتعرض لأذى من الوزير الركابي او زبانيته ، حين اقتحمت ثورتي الرافضة حصونه وقلاعه ، لا لأنه شهم أو أنساني ، بل لأنه أدرك أني في لحظتها كنت لسان حالهم ، وما مطلوب مني غير العوم ضد تياره ، ليعرف بإننا العمال كلٌ في جسد واحد .
ولولا هذا الهاجس الذي ركبني وأحالني الى فهد يعرف متى يهاجم ، فلربما كانت قد خانتني شجاعتي ، فتجعله يطمع في أذيتي تحت تأثير نوازعه العدائية ضد العمال ، لأني أمثلهم أمامه . ولربما أيضا ، لا يتأخر عن توجيه الشرطة السرية ومراكز الشرطة في بغداد او حتى مركز الشرطة في مكان أقامتي في دربندخان ، ليقتصوا مني أعتقالا او إعتداء في الشارع .
في غفلة من سرحاني التي تهدهدني به السيارة الخشبية السادرة في سيرها الرهواني ، هاجمتني بعض من أفكار بليدة تقصت كل نتائج ما اقوم به من جهود . فصفعتني بحاجة عائلتي وحاجتي الى ما يشبعنا ويكسينا . حتى خيل ألي بأني سأحرم من الحصول على فرصة عمل في المشروع ، بل أتوقع أن احرم فعلا من العمل ، فأبقى عاطلا الى أجل غير مسمى ، مما يجعل من جهدي هذا بلا طائل على الصعيد الشخصي .
عشت في خلال تلك التداعيات ، شوطا من جلد الذات ؛ فلقد كان بإمكاني أن أترك المذكرة عند الأستعلامات كما فعلتها في وزارة الشؤون الأجتماعية ، او كما فعلتها في السليمانية ، غير أن ذلك الفهد الذي تلبسني في حضرة الوزير الشاتم لما اُقدس ، جعلني ألوي عنق هذه الهواجس الكسيحة التي حكمتني ردحا من زمن لا يحسب على حياتي ، وبددت من مضامين هواجسي ، أشباح تلك الأفكار المجنزرة بالغباء ،إذ سعت بكل طاقتها الى إقصاء قناعاتي المخلصة بأن كل ما أقوم به ؛ هو فعلا أخلاصا للطبقة العاملة ، وليس لمصلحة تتعلق بي رغم حاجتي الماسة للعمل أو بالحقيقة حاجتي للمال .  
* * *
في اليوم التالي عدت أدراجي الى دربندخان . وفي مسافة الطريق الذي دام أكثر من ثمان ساعات بتلك السيارة الخشبية ، كانت الأفكار تتصادم على حواف جدران وسق جمجمتي ؛ فيستحيل صداها ، الى ألم وصداع ، يسرق مني كل سكنة بي ، أو يبتلع أية غفوة قصيرة كانت تجتاحني ، وأنا في ذلك الباص الخشبي الذي كان اشبه بمهد يرجني بلا نهاية ، فأغفوا بلا أمر ولا رغبة مني .
لا تزال فيضانات الجزع من تلك المقابلة التي لم أكن مجبر عليها مع ذلك الوزير المغرور ؛ تدفعني من جديد ، الى أحضان تداعيات السجن او المعتقل ، اللذين أخذا من عمري عمرا ، ومن صحتي شرخا ، ومن استقراري دهرا .
لم اشعر ان هذه التجليات قد جرتني عميقا الى قعر التداعيات التي وشمتها بي وبكل تلافيف المخ ، معاناة السجن ، رغم قصر زمنها . حتى أني قد سايرتها ، وكأني سأقاد حال وصولي لدربندخان الى المعتقل ، فحارت روحي بين ما كنت أتجلد به من شجاعة دفعتني الى ملاسنة الوزير ، الذي لم يتأخر عن إعلان انتهاء المقابلة ، وهو مشحون بمقدار من الحنق المكتوم ، يمكن أن يدمر السد الذي نبنيه لو تفجر ذلك الحنق علنا ، وبين متاهات التفكير بالعجز عن الحصول على عمل .
هذه الأملاءات الباطنية ، كانت تراودني طيلة السرحان الذي تجرني فيها مآقيَ الى سكرات من أغفاءات بليلة بالهواء الربيعي العذب ، وصولا الى بعض من شجارات داخلية بيني وبين ذاتي .
الذات تلومني على ما كان لا يجدر بي أن أتحدث مع الوزير بتلك الطريقة المدافة بإهانة غير مباشرة له . وحين أنط أنا من بين الحطامات التي تحيط بروحي من كل جانب بسبب البطالة ، لا يلوح مني أي لوم ، أو شيٍ منه عليَ ، بعد أن هاج الوزير كثور بلا قرون ، وهو يكيل كلاما شاتما مفعم بالتجريح بالعمال والشيوعية .
لذلك لم يكن من مفر المناطحته معه ، مناطحة بقرون تبقر أدعاءاته السوداء ، فناطحته بتلك الجمل التي تمنيتها أن تذل كبرياءه ، الأمر الذي جعله يفتح خزينه من الأفكار الصارخة التي لا يرشح منها غير مفردات تجرح الحياء ، ووقاحة خالية من كل لياقة .
راح يشتم يمينا ويسارا لاعنا الإضراب ولاعنا من سيقوم به من عمال أتهمهم بالجهل ، ولاعنا الشيوعيين الداعمين لهم ، فلولا تشجيعهم للعمال وتعاونهم معهم ، لما أقدم أولئك الحثالة على القيام بأي إضراب طوال حياتهم ، بل ، ولا حتى التفكير به ، ولا على إتخاذ مثل هذه الخطوات الكبيرة على تفكيرهم . والتي لا يرتقون الى فعلها بدون أمداد ومساعدة وتأييد الحزب الشيوعي ومقاومته الشعبية .
هكذا تقيأ لسانه هذه الجمل اللاعنة ، والتي عكست جيشان كرهه للعمال ومن وراءهم الشيوعيين ومن يقفون في محيطهم الذي يتسع يوما بعد يوم ، ليشكل سدا بوجه أعداء الثورة والشعب .
كنت أقرأ فيما أقرأ من بين جمله الشريرة التي أطلقها من عقالها ، بعضٌ من لعناته على الثورة ، وزعيمها عبد الكريم قاسم ، اللذان أطالا رقاب العمال ، لتسموا الى علا ، فجعلا من أصوات هؤلاء الشغيلة ، مزامير صادحة تعلوا فوق صوت ذلك الوزير المتغطرس ، فيقف ذلك العامل القادم من أوساط عمال مشروع سد دربندخان أمامه ويتحداه ، ذلك العامل الذي لا يتعدى في نظر السيد الوزير ؛ غير مجرد عامل نكره ، لا يتعدى تحصيله الدراسي الشهادة الأبتدائية ، فهل يستقيم ذلك وهو الوزير الحاصل على شهادة الهندسة المدنية من اكبر كلية للهندسة في العراق ، وهو أيضا القائد والمؤسس لحزب سياسي ملون بتأريخ عروبي تمتد جذوره الى سوريا ، وقد أجبرت هذه المعطيات الزعيم الذي قاد الثورة وصار رئيس وزرائها الأول على استيزاره وزيرا للأعمار في أول وزاره في العهد الجمهوري .
في صباح اليوم التالي من وصولي ، التقيت بالهيئة الأدارية للنقابة في مقر النقابة وشرحت لهم نتائج حركتي وبالذات موقف الأتحاد العمال لنقابات العمال في العراق الداعم لحركة إضرابنا ووعدهم بأرسال ممثلا عنهم الى دربنخان لدعم الأضراب، وكذلك نقلت لهم توصيات سكرتير الأتحاد طالب عبد الجبار ( ابو سعيد ) عما يجب أن يكون عليه الأضراب ، والأبتعاد قدر الأمكان عن أي خطأ يمكن ان يربك ذلك الأضراب الذي يعني للأتحاد الكثير عند تحقق مطالب العمال . ونقلت لهم أيضا تحذيره من مغبة قيام عملاء الشركة بعمل تخريبي يمس المشروع ، كما نقلت لهم توصيته بالحذر من نجاحهم في ذلك ، فأنه يعني بالأخير ضعف الطبقة العاملة العراقية وعدم قدرتها على حماية مصالحها .
بعد ذلك وضحت لهم بقية ما انجزت من المهام المكلف بها من قبلهم بشأن أيصال المذكرة الى الجهات ذات العلاقة بما فيها مجريات لقائي بوزير الأعمار . ما اسعدني في كل اللقاء معهم ؛ أن اي منهم لم يقف موقفا معارضا لما قلته للوزير ، بل أيدوه بكل قوة ، مما عزز في نفسي شخصيا ثقة عارمة تطيح بأعتى حاجز يمنع تحقيق طموحي بعمل في المشروع .
خلص هذا الأجتماع الى تحديد فترة زمنيه امدها اسبوعا ، ثم يبدأ الأضراب . وأثناه ذلك الوقت الذي بات حين يسري ، وكأنه يمشي بحافلة على سكة خالية من العثرات . وبعد ان أقترب يوم الأضراب ، او ساعة الصفر كما كان يحلو أحمد باني خيلاني أن يسمي ساعة الأضراب المنتظرة بصبر لايصدق ، تم تشخيص عمل اللجان التي ستدير الأضراب , وكذلك تعيين اسماء من سيقف خلف تلك اللجان .
كان الأول من أيار العيد العالمي للطبقة العاملة يقترب حثيثا من تأريخه الموعود ، وكانت استعدادات اللجان المكلفة بالأضراب في كامل حيويتها واستعداداتها ، وكأن الأعداد للأضراب قد تزامن مع هذا العيد المعد له من الطبقة العاملة العراقية في بغداد وكافة مدن العراق ، إعداد غير مسبوق للأحتفال بمناسبة كهذه ، وهو الحدث الذي لا يعني الطبقة العاملة العراقية فحسب ، ولكن يعني الطبقة العاملة في أرجاء العالم من شرقه الى غربه ، ومن شماله حتى أقاصي جنوبه ، وكانت الأحتفالات في الدول الأشتراكية والشيوعية تحديدا تمثل قمة ما كان يجري من احتفالات بذلك اليوم العيد الذي سيدشن علنيته ورسمية الأحتفال به لأول مرة في العراق على صعيد الدولة العراقية ، بل ولربما في المنطقة قاطبة .
وفي خضم هذا الأندفاع من الطبقة العاملة العراقية ، كنا نحن عمال المشروع في دربندخان نشعل فتيل ثورة بلا عنف من أجل مصالحنا وحقوقنا المشروعة التي تغتصبها عنوة منا الشركة الأجنبية التي تبني السد . لقد تعاهد العمال الذين سيديرون الأضراب عن العمل ، على أن لا يتعرض المشروع الى أي تخريب أو أذى ، لأنه في النهاية هو مشروع لخدمة الوطن ، هو مشروع سيرسم الفرحة على وجوه آلاف الفلاحين وعوائلهم حين ستغدوا مزارعهم وحقولهم بساط اخضر يبشرهم بالخير العميم حين تتحول السنابل الذهبية الى غلال من الحبوب التي ستشبع البطون وتوفر الرفاه لأصحاب من ستزور أراضيهم أموال السد ، وكذلك فائدته في حماية بغداد من أي فيضان مماثل كما حدث في عام 1954 حين غرقت أقسام كبيرة من بغداد .
لذلك فكل التكليفات والمهمات التي اقرتها لجنة أدارة الأضراب كانت قيد التنفيذ عند أشارة البدأ به .
وفي رحم هذا المخاض العمالي ، كان الشيوعي الفذ احمد ملا قادر الباني خيلاني وهو المهندس الميداني لأدارة الأضراب ، يدور ويتنقل بين العمال بلا كلل أو ملل ، يقدم لهم هذه النصيحة وتلك ، والى اللجان المعنية بالأضراب بالتشجيع ورسم خارطة الأضراب لهم على أرض الواقع . كان ناحلا ولكنه بحيوية مائة رجل . كان لا يفارق على الأطلاق رئيس النقابة محمد مرزه سعيد وسكرتيرها ابراهيم كريم الملقب بأبو خليل القادم من عاصمة الثقافة والسياسة الكوردستانية ، مدينة السليمانية . هذه الحاضرة التي تضم خيرة مناضلي أبناء الشعب الكوردي ومثقفيه وسياسييه . وكان الأخيران لا يتحركان إلا بعد استشارة رفاقهم في الهيئة الأدارية للنقابة ميخائيل شعيا وبرويس أحمد وجلال كريم (ابو شوارب) وحسين عيشه خان وعلي احمد خورشيد (دعبا) . كانوا هؤلاء أشبه بخلية النحل التي لاتعرف الراحة وهم يخططون لكل شيء من أجل أن ينجحوا في الأضراب الذي اعدوا له بعناية فائقه برعاية أحمد باني خيلاني الذي يختزن خبرة غير عادية في العمل السياسي والتنظيمي .
لقد كان هذا الأحمد مشروعا للنجاح اذا ما وضع لمساته على اي نشاط تاركا بصمات المهندس المخضرم ، وهذا ما كان يتجلى في الأضراب وقبيله . كان يتابع بحرص متناه أعضاء اللجنة التي تشكلت لحماية السد والموظفين والمنشآة بكاملها ، والمكونة من تسعة عمال . فعلي عبد القادر وأسعد ملا قادر الباني خيلاني يعتبران حلقة الوصل بين لجنتهم وأحمد باني خيلاني الذي يمدهم بالتوجيهات ليقوموا بدورهم بأيصالها الى بقية أعضاء اللجنة الذين وضعوا أنفسهم في الأنذار ، حتى أن بعضهم لم ينم ليال عديدة إلا دقائق لا تتجاوز الساعة في أحسن الأحوال ، فعبد الله محمد وحمه شريف وعلي حمه أمين وحمه فرج فتاح وسالار محمد نادر وعبد القادر فارس وفائق رشيد مع العديد من العمال ، لم يغادروا ، ولأيام طويلة النقاط المكلفين بحمايتها من السد ، حتى باتت وجوههم كالحة مصفرة بسبب الأرهاق والسهر وقلة النوم الذي دام طيلة أيام الأضراب القليلة والتي دامت فقط ثلاث أيام .
أما لجنة المفاوضات التي كان يرتكز عليها ثقل نجاح الأضراب الذي يسير على أكتافهم بدأب وحماس منقطع النظير . فقد كان يتابع مهمة أدارتها مع إدارة الشركة والجهات الرسمية التي حضرت الأضراب ، الدكتورعز الدين مصطفى الذي كان بمثابة المستشار والموجه للوفد المفاوض ، كان يتلقى التعليمات من احمد باني خيلاني دقيقة بدقيقة ، فينقلها الدكتورعزالدين بدوره الى عبد الله حمه وعلي حمه أمين وحمدي حمه وقادر شيخ طه وعبد الله زرا أعضاء لجنة المفاوضات ، ليكونوا على أطلاع بآخر ما يجري .
كان التنظيم والضبط العالي صفة اشترك فيها جميع أعضاء اللجان المذكورة ، حتى ان ثقة العمال بهم بلغت أوجها يوم أعلان البدأ بالأضراب . وكان هؤلاء بمثابة قادة الأضراب الفعليين والذي كان يوجههم بتكليف من المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي ، الشيوعي أحمد ملا قادر الباني خيلاني . فقد كان بمثابة حلقة الوصل بين الحزب وقادة الأضراب .
أول الخطوات العملية لبدأ الأضراب كانت توزيع المذكرة التي تحوي مطالب العمال المقدمة للشركة من قبل لجنة ادارة الأضراب الى جميع العمال . كانت المذكرة بمثابة البيان الأول لهذه الجمهرة الكبيرة لعمال المشروع ، يشرحون به اسباب دعوتهم للإضراب ، وأيضا ينذرون به الشركة من غمط حقوقهم المشروعة التي أحتوتها المذكرة .
لم يختلف أي من العمال الذين اطلعوا على مذكرة الأضراب على أحقية المطالب التي أحتوتها المذكرة ، الأمر الذي جعلهم يقفون صفا واحدا من اجل إنجاح الغاية من الأضراب .
كان يوم البدأ غير عادي في مواقع المشروع . لاعمال ، ولا آلات تمزق صمت المكان كما يحدث كل يوم حتى في أيام العطل الرسمية وأيام الجمعة التي أصبحت في عهدنا الجمهوري الجديد عطلة رسمية .
كان الصمت على غير عادته في مكانات العمل بالمشروع ، فقد ساد المكان السكون والصمت ؛ وكأن الطير على رؤوس الجميع ، بشر وشجر .
أشرت البداية الناجحة والخالية من أي أشكال بأن الأضراب سوف يحقق غاياته الأولى والثانية . الأولى ؛ القاضية بحصول العمال على حقوقهم التي تتعمد الشركة بتغييبها عنهم ، والثانية تتعلق بسلامة المشروع من أي أضرار بما فيه حماية الموظفين الأجانب العاملين في الشركة . وكان المنطلق في ذلك ؛ يكمن في أن رؤية العمال الى كامل المشروع ، على أنه السد ملك للشعب العراقي ، لذا يقتضي حمايته من أية أضرار محتمله من عمليات تخريب يقوم بها أعداء الثورة ؛ لتشويه سمعة العمال الذين يقومون بالأضراب ، وأيضا تشويه سمعة من يدعم هذا النشاط العمالي المتصف بجوانب مطلبية مؤطرة بإطار سياسي .
كان الشيوعي الناحل احمد باني خيلاني في حركة دؤوبة تنسج أحداث ذلك اليوم الربيعي الذي اكتسى بدفء مميز وشمس يطل منها النورعلى كل أرجاء المكان . كان احمد يوجه بتحركاته الزئبقية غير المنظورة تلك ، سيرورة الأضراب وآفاق تقدمه .
وعلى غير العادة لم يحضر أي من عمال المشروع الذين يشتغلون في الوجبة النهارية ، والذين يجب أن يستلموا العمل من عمال الوجبة الليلية الذين غادروا مواقعهم في العمل ، بعد انتهاء فترتهم الليلية .
تلك الاستجابة المدروسة من العمال لقرار النقابة القاضي بعدم المجيء في الصباح كما يجري كل يوم ، قد شكلت ساعة صفر ناجحه للأضراب المنطلق من ساحة النقابة وسوق المدينة عند الساعة التاسعة من صباح ذلك اليوم الندي ، وهو الموعد الذي تقرر لبدأ الأضراب بعد أكتمال تجمع العمال في ذلك المكان .
كانت صبيحة يوم 25 نيسان من العام 1959 يوم البداية للحراك السلمي لعمال المشروع من اجل مطالبهم التي ضمتها مذكرة النقابة الى إدارة الشركة . والتي رفضتها بدورها جملة وتفصيلا ، مما استوجب من النقابة العمل على اتخاذ قرار الإضراب والذهاب به الى أن تتحقق المطالب ، وهو ما أتفق عليه جميع من كان يقف خلف فكرته .
أزدحمت ساحة النقابة والسوق بالآلاف من العمال وسكنة المدينة وهم يدشنون نضالا مطلبيا يمارسوه لأول مرة في هذه المدينة الصغيرة . وكانت كلمة النقابة التي القيت في هذا الجمع الحاشد ، المتضمنة بإختصار شديد أسباب توقف العمال عن العمل ، وانهم سوف لا يتوقفون عن الأستمرار به ما لم تحقق الشركة كافة مطالبهم .
كانت هذه الكلمة هي الأشارة الصريحة الى الأضراب الذي حضره من بغداد ممثل الأتحاد العام لنقابات العمال ، وأيضا ممثل عن كل من وزارتي الأعمار والشؤون الأجتماعية .
في معمعة هذا الجو المشحون بالتوتر كانت لجنة التفاوض مع الشركة قد اعلنت عدم التوصل الى شيء يرضيها ، ومن جانبها أعلنت الشركة عدم قناعتها بمطالب العمال . مما اضفى على جو الأضراب الكثير من التوتر سيما وأن ممثل وزارة الأعمار لم يكن جديا بالوقوف الى جانب مطالب العمال ، بل انه كان موقفا متذبذبا وسلبيا على حد تعبير مفاوض النقابة الدكتور عز الدين .
كانت حناجر العمال لم تكف عن ترديد الهتافات التي تمجد الطبقة العاملة العراقية وثورة الرابع عشر من تموز وقائدها الزعيم عبد الكريم قاسم . كانت حماستهم تكتسح كل شيء يمكن ان يقلل من عزمهم على الأستمرار في الأضراب . لم تكن الساعات الربيعية الطويلة تستنزف من همة المضربين في إضرابهم ، بل كانت وجوه الجميع تتصافح بالإنشراح ، والأفواه بالأبتسام ، والقلوب بحب جارف لثورتهم ، والعقول تستشرف النجاح في نضالهم من اجل تحقيق مطالبهم .
الملفت في سياق ما كان يجري ، هو عدم تدخل الشرطة في شأن الأضراب ، او مضايقة المضربين ، بل كانوا مراقبين فقط . وهذا ما لم يكن معتادا من الشرطة على الأطلاق في العهد السابق ، فلا هراوات ولا تمزيق لافتات ولا إعتقالات ولا شهداء ، كما كان يجري في انشطة جماهيرية قريبة الشبه من هذا النشاط الجبار الذي أمتلك قدرة كبيرة على التحدي من خلال الأنضباط العالي والألتزام بما كانت تقوله النقابة .
ما حققه الأضراب من نجاح في يومه الأول أنعكس على عناوين الصفحات الأولى من الصحف الوطنية التي تصدر في بغداد . وكانت اخبار اليوم الثاني للأضراب شبيهة بيومها الأول ، والأضراب مستمر رغم إصرار شركة ( D.K.C) الأمريكية صاحبة المشروع . كان العمال قد إزدادوا حماستا بعد أن مر اليوم الثاني والمفاوضات على أشدها بين العمال وسالبي حقوقهم .
في اليوم الثالث والمفاوضات على أشدها ، وليس هناك ما يشير الى أن الشركة سوف ترضخ لمطالب العمال ولا هم سوف يوقفون إضرابهم ، أصدر الزعيم عبد الكريم قاسم قراره التأريخي الى وزير الأعمار فؤاد الركابي ولجنته المفاوضه ، الذي يقضي في حالة رفض الشركة تحقيق مطالب العمال ، أن يفسخ عقدها وترحل من العراق فورا .
كان قرارا منصفا من الزعيم عبد الكريم قاسم ومتضامنا مع العمال الذين قامت الثورة من أجلهم ، ومن أجل جحافل الفقراء الذين كان يعج بهم العراق .
ولم تجد تلك الشركة في نهاية ذلك الصراع ، بدا من أن ترضخ لكل المطالب التي جاءت بها مذكرة النقابة . وشكل ذلك النجاح سلما ارتقت به الطبقة العاملة العراقية ظهر نضالها السلمي ، المطلبي ، الذي كان يواجه دوما بالهراوات والمعتقلات وصولا الى الأستشهاد الذي طال الكثير ممن آمنوا بقضية الطبقة العاملة العراقية من أجل نيل حقوفهم المشروعة .
كان ذلك النجاح الذي حققه عمال مشروع سد دربندخان أشبه بهدية قدموها الى الطبقة العاملة العراقية وهي على أبواب الأحتفال بعيدها الأممي المجيد واحد أيار . كان ذلك الأول من أيار من العام 1958 قد شهد اعظم مسيرة مليونية للعمال العراقيين لا يزال صدى ذكراها يرن في الذاكرات الحية ويلون صفحات النضال المجيد للعمال في العراق .
 
 
 
 



#دنخا_البازي_أبو_باز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- “اعرف هتقبض كم؟؟”.. قيمة مرتبات شهر مايو 2024 بالزيادة الجدي ...
- ثلاث حوادث لطائرات بوينغ في 48 ساعة…هل هو العامل الإنساني أم ...
- اليونان تعتزم استقدام آلاف العمال المصريين في مجال الزراعة
- Meeting of the WFTU committee for Democratic and trade union ...
- 100 ألف دينار زيادة فورية. سلم رواتب المتقاعدين الجديد يُفاج ...
- زيادة 500 ألف دينار على الراتب.. “وزارة المالية” تُفاجئ روات ...
- برنامج أنشطة اتحاد النقابات العالمي في مؤتمر العمل الدولي رق ...
- سوق العمل والوظائف.. -اليد العليا- لصناعة الروبوتات
- حقيقة إيقاف منحة البطالة في الجزائر 2024 في هذه الحالات.. ال ...
- WFTU Program of Activities in the 112th ILC, Geneva 3-14 Jun ...


المزيد.....

- الفصل الرابع: الفانوس السحري - من كتاب “الذاكرة المصادرة، مح ... / ماري سيغارا
- التجربة السياسية للجان العمالية في المناطق الصناعية ببيروت ( ... / روسانا توفارو
- تاريخ الحركة النّقابيّة التّونسيّة تاريخ أزمات / جيلاني الهمامي
- دليل العمل النقابي / مارية شرف
- الحركة النقابيّة التونسيّة وثورة 14 جانفي 2011 تجربة «اللّقا ... / خميس بن محمد عرفاوي
- مجلة التحالف - العدد الثالث- عدد تذكاري بمناسبة عيد العمال / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- نقابات تحمي عمالها ونقابات تحتمي بحكوماتها / جهاد عقل
- نظرية الطبقة في عصرنا / دلير زنكنة
- ماذا يختار العمال وباقي الأجراء وسائر الكادحين؟ / محمد الحنفي
- نضالات مناجم جبل عوام في أواخر القرن العشرين / عذري مازغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الحركة العمالية والنقابية - دنخا البازي أبو باز - ما لم يقله احد عن اضراب سد دربندخان- إضراب بلا عنف