أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - كاظم حبيب - العولمة ومخاوف العالم العربي!















المزيد.....



العولمة ومخاوف العالم العربي!


كاظم حبيب
(Kadhim Habib)


الحوار المتمدن-العدد: 202 - 2002 / 7 / 27 - 00:40
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


 

Die Globalisierung und die Aengste der arabischen Welt


".. لا يكفي أن تصف موج البحر, وظهور السفن, حين تريد أن تتكلم عن حياة البحر .. لا بد لك أن تفهم ما في القاع .. قاع البحر المليء بالغرائب والتيارات والوحوش .. وقاع السفينة حيث يجلس عبيد وملاحون إلى المجاديف أياماً كاملةً, يدفعون بسواعدهم بضائع تحملها السفن, وثروات وركاباً .. وينزفون عرقاً, وتتمزق أجسامهم تحت السياط .. أجل! ينبغي أن تعطيني الصورة كاملة, عندما تريد أن تقنعني بأمر من الأمور". 


                من مقدمة بان خلدون 

أ. كاظم حبيب
Prof
. Kadhim A. Habib 
 

طبيعة مخاوف العالم العربي الإسلامي من العولمة

تثير العولمة منذ سنوات حوارا صاخبا اقتصر في الغالب الأعم على جمهرة من المثقفين وبعض القوى السياسية في العالم العربي, إذ كانت وما تزال الآراء والمواقف مختلفة بشأنها تتراوح بين مناهض عنيد ومؤيد متحمس أو قلق متردد. وعجز المتحاورون حتى الآن عن إثارة اهتمام مختلف الفئات الاجتماعية ومشاركتها الفعلية في الحوار, رغم ارتباطها الوثيق بحياة الناس وفرص العمل والأجور والخدمات. وينتمي المناهضون والمؤيدون إلى أحزاب وقوى ذات إيديولوجيات وسياسات ومصالح متباينة ويرتبطون بطبقات وفئات اجتماعية مختلفة تتباين في تحديد الأسباب التي تدعوها إلى رفض العولمة ومقاومتها أو السير في ركابها. وقد شمل هذا الرفض قوى يسارية وأخرى قومية وجماعات إسلامية ونقابات في آن واحد, مع اختلافات واضحة في منطلقات رفضها. وإذا كان اللقاء الفكري بين القوى القومية وجماعات الإسلام السياسي واضحا, فأن الاختلاف بينهما وبين اليساريين العرب, ومن بينهم الماركسيين, ما يزال كبيرا. أما تأييد العولمة فما زال محدودا جدا ومحصورا بجمهرة من المثقفين والسياسيين اللبراليين التي تتبنى مواقف حكوماتها عمليا أو تمارس الضغط على حكوماتهم لتبني سياسات العولمة وممارستها, كما هو الحال في مصر وتونس ولبنان والمغرب. وينتقل رفض العولمة المشحون بالمخاوف منها إلى المجتمعات في الدول العربية ويسيطر على أذهان كثرة من الناس ويقترن عندها بذكريات وتداعيات غير طيبة وغير عادلة من جانب الغرب إزاء العرب والمسلمين. فما هي تلك المخاوف التي تثيرها العولمة؟ وكيف يجري التعامل معها في العالم العربي حتى الآن؟ وما هي حقيقة هذه المخاوف ارتباطاً بعملية العولمة الجارية؟ في هذه المداخلة المكثفة محاولة للإجابة عن بعض هذه الأسئلة من منظور مختلف كثيرا عن المواقف السائدة في الدول الرأسمالية المتقدمة, رغم وجود التناقض والصراع فيها حول دور العولمة ودور الدولة الوطنية والثقافة القومية فيها أيضاً.

تعتبر العولمة عند أغلب اليساريين العرب عملية موضوعية ومرحلة متقدمة في النظام الرأسمالي العالمي, ولكنها تقاد من جانب الدول الرأسمالية المتقدمة التي تمارس سياسات ليبرالية جديدة تستثمر من خلالها منجزات الثورة الصناعية الثالثة, ثورة الاتصالات والمعلومات, لصالح المزيد من استغلال شعوبها وتشديد استغلال شعوب وموارد البلدان النامية وتهميشها دوليا. وتقترح هذه القوى على الدول العربية وشعوبها رفض الانخراط في العولمة الرأسمالية لتفادي المزيد من التبعية والتهميش, والسعي من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستقلة المعتمدة على الذات. وهذه الرؤية تجد تأييدا ملموسا في أوساط المجتمع, علماً بأن اليساريين العرب, ومنهم الماركسيين, لا يتقاطعون مع العولمة في قضايا العلمانية والعقلانية أو في الدعوة إلى التجديد والتحديث الثقافي والتقني, كما لا يراها البعض منهم خطرا يهدد الهوية الثقافية, بل يركزون على جانبها الاستغلالي التهميشي والتبعي لمجتمعاتهم واقتصادياتهم, وما ينشأ عن ذلك من تناقضات وصراعات على الصعيد العالمي. وهناك من اليساريين العرب من يرى في عملية العولمة فرصة سانحة لتسريع عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتغيير واقعها الراهن, خاصة وأنها تمتلك مقومات خوض هذا التحدي العصري, إن سعت مجتمعة إلى التعاون والتنسيق والتكامل في ما بينها. وتطرح في هذا الصدد تجارب النمور الآسيوية باعتبارها نماذج لمثل هذا التطور المحتمل في إطار الرأسمالية. 

2. أما القوى القومية العربية فأنها تلتق مع جماعات الإسلام السياسي, أي الجماعات الأصولية, في خشيتها الفائقة من العولمة باعتبارها خطرا داهماً يهدد مجموعة من الثوابت القومية والدينية التي لا يجوز المساس بها بأي حال, كما أنها تلتقي مع اليساريين في موضوع الاستغلال والتهميش للمجتمعات النامية وتحويلها إلى توابع خاضعة لسياسات ومصالح المراكز الرأسمالية المتقدمة, علماً بأن بعض القوميين العرب علمانيو النزعة. 

تستند جماعات الإسلام السياسي ومجموعات من القوى القومية في معارضتها للعولمة إلى صراعات الماضي البعيد ابتداءا من الحروب الصليبية ومرورا بالهيمنة الاستعمارية المباشرة وغير المباشرة على الدول العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين وانتهاء بالسياسات التي تمارسها الدول الرأسمالية المتقدمة إزاء القضايا العربية, ومنها القناعة بوجود موقف متحيز دوما إلى جانب إسرائيل ضد الحقوق العربية المشروعة, وفي مقدمتها قضية فلسطين, وكذلك الحصار التجويعي المفروض والموجه ضد الشعب العراقي وليس ضد نظام الاستبداد في بغداد. كما تنظر نسبة كبيرة من سكان الدول العربية تحت هذا الهاجس, إلى العولمة لا باعتبارها عملية موضوعية بل بدعة غربية, ومشروعا أمريكيا تحديدا, يراد من خلالها فرض الهيمنة الكاملة على العالم العربي والإسلامي باسم الموضوعية والحتمية التاريخية. فالدكتور محمد عابد الجابري كتب يقول بأن العولمة "تعمل على تعميم نمط حضاري يخص بلداً معينة, هو الولايات المتحدة الأمريكية بالذات على بلدان العالم أجمع". فهي مشروع غربي جديد يستهدف مواجهة وتخريب الرؤية الكونية الشمولية للإسلام والمسلمين. إنها مشروع معادي قديم بلباس جديد. وفي مثل هذه الحالة يكون الفكر مغلقا إزاء العولمة ويصبح الحوار حول الموضوع أكثر تعقيدا. ولكن ما هي تلك الثوابت القومية والدينية, أو بتعبير آخر: ما هي نقاط الصراع التي تثيرها جماعات الإسلام السياسي, ومعها بعض القوى القومية العربية في المرحلة الراهنة إزاء العولمة؟ 

أولا: تعتبر الجماعات الإسلامية والقومية العولمة بمثابة تهديد مباشر للهوية العربية والإسلامية, فهي تهديد لل "أنا" التي تجسد قومية ودين وثقافة وتاريخ ولغة وتقاليد وعادات ووطن الإنسان العربي المسلم. فالبعض منهم يدّعي أنها تبشر بالفكر الديني المسيحي "الآخر" الذي يستند إلى الثقافة الغربية المناهضة للثقافة الشرقية العربية الإسلامية. في حين ترفض جماعات من القوميين العرب هذا التحديد, إذ لا ترى أنها تحمل فكرا دينيا مسيحيا, بل فكرا وهوية هلامية وشمولية عالمية مضللة, وأن العولمة تستهدف كل الأديان بما فيها المسيحية, وهي بهذا المعنى تحمل معها وتنشر الكفر والإلحاد. فهي ثقافة أوروبية-أمريكية مناهضة للعرب ولكل الأديان ولهذا يفترض أن ترفض والقبول بها يعني السماح لها بتفتيت الشخصية العربية الإسلامية واستسلامها أمام الضغط العولمي الجارف. وتشير هذه الجماعات إلى دور الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا حيث تركز جهد المستعمرين على إلغاء الهوية العربية والإسلامية لشعوب المغرب العربي وإلغاء لغة القرآن من خلال فرنسة المجتمعات, التي كانت واضحة جدا في الجزائر. ويرى هؤلاء بأن العولمة ليست ظاهرة جديدة, بل هي قديمة والجديد فيها أن حاملها هو التقنيات الحديثة التي تمنح الثقافة الأقوى إمكانية القضاء على الثقافة الأضعف والحلول محلها. وبما أن الدين الإسلامي هو مكون أساسي للثقافة العربية, فأن القبول بالعولمة يعتبر القبول باختراق وغزو المجتمعات العربية الإسلامية ثقافيا. وهذا الخطر الكامن على الثقافة الإسلامية, التي عجزت الحضارة الغربية على تدميرها طوال قرون, تبرز الآن في جملة من المظاهر ابتداءا من إغراق دور السينما بالأفلام الأمريكية ومحطات التلفزة بأفلام الجنس والرعب والعنف والمخدرات والعربدة, والدعاية التي تروج لها وتتعامل بها الشركات المتعددة الجنسية. 

ثانيا: وترى هذه الجماعات بأن العولمة بطبيعتها الكونية المناهضة للكونية الإسلامية تسعى إلى إلغاء التنوع الثقافي وفرض ثقافة بعينها, هي الثقافة الإنجلو-سكسونية أو الأمريكية, باسم العولمة, فهي الملبس الأمريكي, (الجينز الأزرق), باعتباره الزي الموحد للنساء والرجال, والمأكل السريع (الهامبورغر) والمشروب الجاهز البيبسي والكوكا كولا, وسبل قضاء أوقات الفراغ وأنماط الحياة الغربية والموسيقى ونوع القراءة ومواد الدراسة, إنه تجاوز تام على أنماط حياة العرب والمسلمين, وأنها نفي للوطن والأمة والدولة. ولا شك في أن كثرة من الكتابات في الدول الرأسمالية المتقدمة تقدم أدلة غير قليلة على هذا المنحى في سياسات العولمة وفي صراعها ضد الثقافات الأخرى, ومنها الثقافة الإسلامية. فقد كتب صاموئيل هنتنكتون في كتابه "صدام الحضارات" يقول: 

"في هذا العالم لن تكون الصراعات المهمة والعنيدة والخطيرة بين الطبقات الاجتماعية أو بين الأغنياء والفقراء أو بين أي جماعات محددة اقتصاديا, الصراعات ستكون بين شعوب تنتمي إلى كيانات ثقافية مختلفة.” ثم يواصل قوله في مكان آخر "وكما يظهر سوف لن تكون العلاقات بين الدول والجماعات التي تنتمي إلى ثقافات مختلفة علاقات وثيقة, بل غالبا ما ستكون عدائية. بيد أن هناك علاقات ثقافية هي أكثر عرضة للصراع من غيرها. على المستوى الأصغر, فإن أشد خطوط التقسيم الحضاري عنفا هي تلك الموجودة بين الإسلام وجيرانه الأرثوذكس والهندوس والأفارقة والمسيحيين الغربيين. وعلى المستوى الأكبر فإن التقسيم السائد هو بين "الغرب والبقية", مع أشد الصراعات القائمة بين المجتمعات الإسلامية والمجتمعات الآسيوية من جهة والغرب من جهة أخرى. ومن المرجح أن تنشأ في المستقبل أخطر الصراعات نتيجة تفاعل الغطرسة الغربية والتعصب الإسلامي والتوكيد الصيني". وفي هذا التوجه تبرز مخاطر جدية على العلاقات في ما بين الشعوب وعلى الخلط بين العولمة كعملية موضوعية وبين العولمة كسياسة تمارسها البلدان الرأسمالية المتقدمة. 

ثالثا: وترى هذه الجماعات بأن القيم الغربية المعولمة وإيديولوجيا العولمة يراد من خلالها القضاء على القيم الإسلامية والعربية الأصيلة والسماوية, وعلى الإيديولوجيا العربية. فالعولمة, بالنسبة لهم, تهديد مباشر للثوابت الدينية السماوية باعتبارها سننا كونية لا يمكن ولا يجوز تغييرها. فهي في نشاطها ضد العولمة تؤكد على ما يلي:

إن العالم يسير وفق سنن كونية ثابتة, وهي من عند الله ولا يمكن تعديلها أو تغييرها؛
وأن الدين الإسلامي دين كوني وشمولي يجسده القرآن والشريعة الإسلامية, وهي أحكام قابلة للتطبيق عالميا وفيها الإجابة عن كل الأسئلة التي تطرحها الحياة على مدى العصور, كما لا يجوز فصل الدين عن الدولة, في حين تسعى العولمة إلى فرض عملية التنوير والعلمانية والعقلانية والقضاء على الدولة والسيادة الوطنية لصالح الغرب والشركات المتعددة الجنسية؛
وأن الأزمة التي يعيشها المجتمع الإسلامي وانتشار المظالم والفساد في العالم الإسلامي ناشئة عن هرولة العالم الإسلامي لاهثاً وراء الثقافة والحضارة الغربية الدخيلة التي إن تواصلت ستدمر العالم الإسلامي وتقضي على حضارته؛
وأن الصراع الراهن مع الغرب ليس إلا عملية تجديد للتحديات السابقة التي واجهها العالم الإسلامي من جانب الغرب قبل قرون عديدة, وأن العولمة الجديدة, التي تستند إلى حضارة المجتمعات التكنولوجية المتطورة, تريد نشر الفساد والمظالم والتفسخ الأخلاقي وتغيير القيم والعادات في جميع أرجاء العالم الإسلامي. والقبول بها يعبر عن ضعف المسلمين إزاء تحديات الغرب. إذ أن العولمة تريد فصل الإنسان العربي عن وطنه وأمته ودولته ودينه ليصبح مفرغاً من أي محتوى فكري وثقافي وسياسي, ولتفرض عليه إيديولوجيا العولمة الغربية؛ 
وأن السبيل الوحيد المتاح لمواجهة كل ذلك يكمن في العودة إلى الأصول, إلى ماضي الإسلام الذي عاشه المسلمون في زمن النبي محمد والخلفاء الراشدين, ولذلك فالشعار الذي تطرحه هذه الجماعات هو: "الإسلام هو الحل", وإقامة "حكم الله" على الأرض, أي إقامة "دولة الإسلام". 

رابعاً: وتبشر هذه الجماعات بأن الغرب يحارب الثقافة والهوية العربية الإسلامية من خلال نشر قيمه الغربية التي لا مكان لها في القرآن والشريعة الإسلامية وفي عادات وتقاليد وتراث المسلمين, ومنها بوجه خاص: 

- فرض عملية التنوير والعلمانية على المجتمعات الإسلامية, بما فيها الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة؛ - فرض الديمقراطية على المجتمع؛ الترويج للائحة حقوق إنسان غربية المصدر والثقافة؛ - الدعاية لحرية المرأة ومساواتها بالرجل ورفض تعدد الزوجات؛ - الترويج للحرية الجنسية والسماح بالزواج من الجنس المماثل؛ - رفض الرق الذي لم يحرمه الإسلام؛ - التحلل من كل التزام أخلاقي وعائلي؛ - رفض العقوبات التي يمارسها المسلمون إزاء المذنبين؛ - تنظيم وتنفيذ الغزو والاختراق الثقافي الغربي العولمي للعرب والمسلمين. 

وترى هذه الجماعات الإسلامية في التلفزة والفضائيات والكومبيوتر والهواتف اليدوية أجهزة تخترق حرمة البيوت وتقاليد وعادات وأخلاق وثقافة الأسر المسلمة بعرضها مظاهر الحياة والحضارة الغربية المعولمة لفرض أنماط حياتها المتفسخة والإباحية وأفلام الرعب والعنف والجنس والجريمة وأفلام الدعاية الجنسية المثيرة للشهوات على المجتمعات الإسلامية والدعاية لسلع مرفوضة إسلامياً لبث التحلل والفساد في المجتمعات العربية الإسلامية وبين الشباب على نحو خاص لكي تتمرد على مجتمعاتها وقيمها وتتخلى عن عاداتها وتقاليدها العربية والإسلامية, وهي عاجزة عن إيقاف مثل هذا الغزو الثقافي. إنها عملية معادية ينبغي التصدي لها. وهي مسعى خبيث لنفي الحضارات الأخرى غير الغربية وأهم آلياتها تقويض السيادة الوطنية والهوية الثقافية للإنسان العربي المسلم وصورته الجمعية الاجتماعية والسيطرة عليه. وعلى هذا الأساس فهي ترى بأن القيم الإسلامية السماوية هي التي تتعرض إلى غزو من الثقافة الوضعية التي أقامها الغرب, والتي تدفع باتجاه خسارة العرب والمسلمين لهويتهم القومية-والإسلامية لصالح النزعات المادية العولمية, وهي إفساد فظ لأخلاق المسلمين وإبعادهم عن دينهم وعروبتهم. ولا بد لنا أخيراً من الإشارة إلى وجود قوى إسلامية معتدلة, ولكنها قليلة, تحاول أن تجد لغة مشتركة مع العولمة الجارية والتمييز بين ما هو قابل للأخذ وما يفترض رفضه منها.

الواقع الراهن في المجتمع العربي

ولكن ما هو الوعاء الاجتماعي والسياسي الذي يفرز مثل هذه الأحكام والمخاوف بشأن العولمة؟

يتشكل العالم العربي من 22 دولة (عدا فلسطين) موزعة على قارتي آسيا وأفريقيا, يبلغ تعداد سكانها 285 مليون نسمة تقريباً, يدين غالبية سكانها بالدين الإسلامي, إلى جانب وجود أديان عديدة أخرى, وخاصة الديانة المسيحية. وتقطن فيها إلى جانب العرب قوميات أخرى مثل الأكراد والأمازيغ (البربر) وشعب جنوب السودان وغيرهم. خضعت جميع البلدان العربية بأشكال مختلفة للهيمنة الاستعمارية الأوروبية قبل أو في أعقاب الحرب العالمية الأولى وبعد انهيار الدولة العثمانية. وتشكلت دولها الحديثة في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين أو في أعقاب الحرب العالمية الثانية حيث أحرزت استقلالها السياسي بعد نضال شاق وطويل كلفها الكثير من التضحيات. وتعرضت لاستغلال بشع من جانب الرأسمال المالي العالمي, وهي ما تزال تعاني منه بصيغ مختلفة ومتنوعة. وقد ترك هذا بصماته في ذاكرة وفكر وحياة وعلاقات هذه الشعوب بالغرب الرأسمالي.

رغم الجهود التنموية التي شهدتها العقود المنصرمة فأن جميع الأقطار العربية ما تزال تعتبر ضمن مجموعة بلدان العالم الثالث, بما فيها مصر, حيث تعاني اقتصاداتها من مظاهر التخلف والتبعية للتجارة الخارجية. ففي جميع البلدان العربية ما تزال توجد بقايا العلاقات الأبوية وشبه الإقطاعية البالية التي تعيق تطور العلاقات الإنتاجية الرأسمالية وتطور المجتمع المدني الحديث, كما تعيق تحقيق عملية التنوير الضرورية للمجتمع التي تحققت في أوروبا منذ قرون. وفي الوقت الذي لم تحقق هذه المجتمعات ثورتها الصناعية الأولى يمر العالم الغربي في المرحلة الثالثة من الثورة الصناعية, وهو تعبير عن الفجوة الحضارية والتقنية التي تفصل العالم الغربي عن العالم العربي الإسلامي حالياً. فما يزال الاقتصاد الوطني وحيد الجانب ومشوه وريعي, سواء كان زراعيا أم نفطياً, كما ما تزال الصناعة ضعيفة التطور ومشوهة البنية حتى في أكثرها تقدما. ويتجلى ذلك في اعتمادها الواسع على الاستيراد لتغطية نسبة عالية جدا من حاجاتها المحلية, وفي تشوه البنية الاجتماعية وتخلف الوعي الاجتماعي للسكان والمستوى الضعيف لتطور المجتمع المدني سياسياً وحضاريا. فإلى جانب تخلف البنية الاجتماعية تنتشر الأمية على نطاق واسع وخاصة في الريف وبين النساء. وتسيطر على مقدرات هذه المجتمعات حكومات استبدادية (أو) وديمقراطية شكلية بشكل عام, حيث يتم التجاوز الفظ على الحرية الفردية والديمقراطية وحقوق الإنسان. وأكثر هذه الدول تقدما تعمد إلى تقنين الديمقراطية وحقوق الإنسان وتفرض رقابة الدولة الخانقة, كما هو الحال في كل من مصر والمغرب والأردن, في حين تتعرض الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى المصادرة والتجاوز الفظ في بقية الدول العربية دون استثناء, كما هو الحال مثلا في كل من العراق والسودان وليبيا والسعودية وتونس والجزائر.

واستطاعت نظم الحكم القائمة في الحصول على تأييد الغرب أو الشرق في سياساتها المعادية للديمقراطية وحقوق الإنسان, مما خلق توجساً وعداءا للغرب على نحو خاص, يتجلى في الموقف منها في الوقت الحاضر. كما أن اعتماد الغرب على القوى الرجعية والقوى الدينية المتعصبة في الكفاح الذي كانت تخوضه ضد البلدان الاشتراكية والأحزاب الشيوعية قد ساعد على نهوض هذه القوى وازدياد تأثيرها وتأثير الشعوذة والخرافات وأعمال السحر في المجتمع والذي تعاني منه هذه الشعوب في الوقت الحاضر. 

وفي الوقت الذي تحقق هذه المجتمعات معدلات نمو اقتصادي متدنية, فأن معدلات النمو السكانية مرتفعة وتتراوح بين 2,5-3,2 % سنويا. وتتم عملية انتقال متسارعة من الريف إلى المدينة لا بسبب وجود فرص عمل في المدينة بقدر ما هي محاولة للتخلص من البؤس والفاقة والبطالة المقنعة في الريف. ويخلق هذا الواقع تضخما بشريا في المدن وتعاظم فئة أشباه البروليتارية أو الفئات الهامشية فيها التي تعيش في المدن في حزام البؤس المحيط بها بسبب البطالة الواسعة. ويمكن تلمس هذا في كل من المغرب والجزائر والسودان ومصر (سكان المقابر الأحياء) والعديد من الدول العربية الأخرى. وبسبب تفاقم التمايز الطبقي في المجتمع فقد بدأت الفئات المتوسطة بالتقلص لصالح نمو الفئات الفقيرة والهامشية في المجتمع, وبالتالي تزداد معضلة الصراع بين فئة الأغنياء ذات العدد الضئيل التي تزداد غنى وفئات الفقراء المتسعة باستمرار والتي تزداد فاقة وبؤسا. وترمي شعوب هذه البلدان بالمسؤولية لا على عاتق حكوماتها فحسب, بل على عاتق الغرب أيضا الذي يستغلها ويدعم حكوماتها ويمارس سياسة ضارة بحقها. وفي مثل هذه الأوضاع يصعب على الشعوب العربية أن تتوقع الخير من الغرب الرأسمالي. لهذا فأنها ترى في العولمة طريقاً جديدا لتشديد استغلالها ونهب مواردها الأولية وفرض التبعية والخضوع للغرب عليها. 

طبيعة العولمة ومضامينها الأساسية

ولكن هل تؤدي العولمة إلى مثل هذا العواقب بالنسبة للعرب والمسلمين؟ وهل أن ما تثيره الجماعات الإسلامية والقوى القومية واليسارية صحيح بشأن العولمة. للإجابة عن هذا السؤال يتطلب تقديم تصور واقعي عن العولمة ثم مراجعة المخاوف في ضوء ذلك لتحديد الموقف منها.

تعتبر العولمة من الناحية الموضوعية مرحلة متقدمة ومتميزة من مراحل تطور الرأسمالية على الصعيد العالمي, إذ أن لها امتداد في تاريخ الرأسمالية منذ نشوئها وتطورها والتحولات التي شهدتها في القرن التاسع عشر وبخاصة في النصف الثاني منه وأوائل القرن العشرين. وهي نتاج الثورات الصناعية المتتالية والتحولات البنيوية العميقة التي كانت تجري في رحم الرأسمالية الإمبريالية, منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى بداية العقد السابع من القرن العشرين, والتي اتخذت مسارا أكثر وضوحا وتميزا مع انهيار نظام الحكم الاستعماري والبدء بممارسة أشكال جديدة للهيمنة والاستغلال الرأسماليين على اقتصاديات وشعوب بلدان القارات الثلاث, آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وبعض أجزاء من أوروبا. ثم تسارعت هذه العملية في أعقاب انهيار بلدان "المنظومة الاشتراكية" وتفكك الاتحاد السوفييتي وغياب مجلس التعاضد الاقتصادي. وعملية العولمة مستمرة, إذ ما تزال في بداية الطريق. وتشمل العولمة جميع مراحل عملية إعادة الإنتاج أو العملية الاقتصادية بمجملها, كما أنها لصيقة بالمجتمعات الرأسمالية والمدنية المتقدمة, ولكن وقائع دورها وفعلها وتأثيرها ونتائجها أو عواقبها لا تقتصر على تلك المجتمعات فحسب, بل تمتد, سلبا أو إيجابا, إلى بقية بلدان وشعوب العالم. ويمكن فيما يلي تشخيص عدد من الخصائص الأساسية التي تميز هذه العملية: 

تقترن العولمة بثورة مستمرة في مستوى تطور القوى المنتجة في الجزء الأكثر تقدما من العالم الرأسمالي وبتعاظم الطابع الاجتماعي للقوى المنتجة, واستمرار امتلاك الرأسمالية القدرة على توفير التناغم النسبي المطلوب بينها وبين علاقات الإنتاج الرأسمالية. ويسمح لها هذا التطور والمنافسة بتثوير القوى المنتجة وتغيير بنية الإنتاج والخدمات وإنتاجية العمل وعلى استخدامها الواسع للمنجزات الحديثة في جميع مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية والسياسية والإعلامية والبيئية والعسكرية, وفي المواصلات والاتصالات المعلوماتية الدولية, إضافة إلى غزو الفضاء الكوني والبحث فيه وتقريب آجال استثماره الفعلي, وكذلك في البنيات الإنتاجية وأشكال التنظيم والإدارة العلمية الجديدة لمختلف مراحل عملية إعادة الإنتاج الاجتماعية وتنامي دور ومكانة ووظائف الشركات المتعددة الجنسية اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا.

وتقترن العولمة بثورة في المكونات الثلاثة لما يسمى بالتقارب التكنولوجي Convergence , أي بين الحوسبة الحديثة (الكومبيوتر) والاتصالات والوسائط المعلوماتية (الالكترونيات) الأكثر حداثة التي تشكل مجتمعة المسار الجديد في البنية الصناعية الحديثة التي تتطلب المزيد من التوظيفات الرأسمالية, والتي خصصتها المراكز الصناعية الثلاثة لها فعلا حتى عام 2015م.

وستظهر التغييرات العميقة لهذين الاتجاهين في العولمة على نمط تفكير وأساليب وأدوات عمل وحياة ونشاط الإنسان في مختلف المجالات, بما فيها الثقافة والبيئة والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية المحلية والدولية. وهي تمارس دورها منذ الآن في تغيير الكثير من قيم وأخلاقيات وتقاليد وعادات وسلوك الفرد والمجتمع لا على صعيد العالم الرأسمالي المتقدم فحسب, بل ستمتد لتشمل بلدان وشعوب العالم الأخرى تدريجاً. وستواجه كثرة من الأفكار القديمة الراسخة, وخاصة بين القوى الإسلامية السياسية والقومية, حتى الآن مثل إشكاليات الهوية والأصولية والعنصرية والأحكام المسبقة إزاء الآخر والحنين للماضي في الحاضر اهتزازا شديدا ورفضا واسعا باعتبارها جزءا من ماض لا يمكن أن يعود. ومن الجدير بالإشارة إلى أن العالم سوف لن تكون له في القريب المنظور ثقافة عالمية واحدة, ولكن ستساهم التقنيات الحديثة إلى مزيد من التقارب والتفاعل بين الثقافات, وفي هذا انتصار للبشرية وليس في ذلك أي خطر على أي من الثقافات, إذ ستبقى لكل ثقافة ملموسيتها على ارض الواقع. ولكن مثل هذه الاتجاهات تهدد بالانغلاق الثقافي والإثني أو العنصري أو الديني على خلاف ما كانت عليه من تفتح نسبي في السابق. وهذا ما يخيف البعض من القوى المشدودة بحنين مشوه إلى الماضي ويخشى أي تبادل وتفاعل بين الثقافات, في حين يشهد العالم كله عدم وجود ثقافة نقية خالصة دون تأثير وأخذ وعطاء مع الثقافات الأخرى في مختلف أرجاء المعمورة. 

وسيساهم عصر العولمة, عصر ثورة الأنفوميديا, في فتح أبواب جديدة أمام شعوب وبلدان العالم الثالث لاستقبال رياح التغيير الحضاري الجديدة, ولكن مقدار الاستفادة منها سيكون متفاوتاً بالارتباط مع مدى قدرة تلك البلدان في مستويات تطورها الراهنة على تقبل الجديد القادم ومدى انفتاحها عليه. ومن هنا يمكن أن تتقلص فجوة التطور بين بعض البلدان أو تتسع بالنسبة لعدد آخر منها مع الدول الرأسمالية المتقدمة في مراكزها الثلاثة. إن الثورة المعاصرة ستجد طريقها إلى جميع أرجاء العالم ويمكن أن تصل إلى كل الناس دون قيود أو حدود, فهي لا تحتاج إلى جواز سفر أو سمة دخول. وفي هذا تكمن قوتها أيضاً, وتثير في الوقت نفسه مخاوف غير قليلة. 

       سياسات العولمة الجارية
 

ولكن عملية العولمة الموضوعية التي جرت الإشارة إليها تتداخل مع السياسات اللبرالية الجديدة التي تمارسها الدول الرأسمالية المتقدمة في ظل العولمة إزاء العالم كله. ومن هنا تأتي المخاوف بشأنها. إذ أنها قادرة, بسبب قدراتها الاقتصادية والعسكرية وموازين القوى الدولية على فرضها على الآخرين, فتثير الكثير من الإشكاليات لبلدانها, ولكن بشكل خاص لبلدان العالم الثالث. فسياسات العولمة الجارية تدعو بصرامة إلى:

ممارسة التدخل الفظ لفرض "الحرية التامة", وهي من جانب واحد, أمام انتقال رؤوس الأموال والتبادل التجاري وإلغاء القيود الجمركية وتحقيق الإصلاح والتكيف في اقتصاديات البلدان المختلفة مع بنية واقتصاديات الشركات الرأسمالية المتعددة الجنسية على بقية بلدان العالم دون الأخذ بالاعتبار ظروف تلك البلدان ومشكلاتها. ولكنها تقف في الوقت نفسه ضد انتقال وهجرة الأيدي العاملة (عدا هجرة الأدمغة التي تشجعها) وتقيم الحواجز إزاء العالم النامي لهذا الغرض. 
وهي تسعى إلى تغيير وظيفة الدولة وجعله مجرد جهاز إداري مهمته تنظيم وجبي الضرائب وتأمين توزيعها لصالح تنمية مشاريع القطاع الخاص وتأمين مستلزمات نشاط هذا القطاع وضمان أرباحه. كما تبقي لها دورها العسكري والأمني واحتكار ممارسة القوة والعنف أو القمع لضمان الأمن والاستقرار ومستلزمات استمرار تطور الرأسمالية وبقاء الحياة العامة هادئة دون تهديد للنظام الرأسمالي, أي دون أن تعصف بها التناقضات والصراعات الاجتماعية والسياسية. وهي في هذا تتجاوز حتى على أسس الديمقراطية التي تستوجبها طبيعة العولمة ذاتها.
وتساهم هذه الاتجاهات في تشديد التناقض بين الطابع الاجتماعي المتعاظم للإنتاج وبين الطابع الخاص لعلاقات الإنتاج والهيمنة الخاصة المتعاظمة على القسم الأعظم من الثروة الاجتماعية والدخل القومي لا في داخل الدول الرأسمالية المتقدمة بل وعلى الصعيد العالمي, حيث تبدو بوضوح عمليات الاستلاب المستمرة للثروة من أجزاء متزايدة من السكان وحرمانها من أبسط مقومات استمرارها في العمل والعيش الكريم في مقابل المزيد من الثروة والاغتناء لمجموعات صغيرة جدا من الاحتكاريين المهيمنين على الاحتكارات المتعددة الجنسية, ويساهم في جانب آخر منه في زيادة حجم البطالة على الصعيد العالمي.
وتقترن العولمة بسعي مجموعة من الشركات الاحتكارية المتعدية الجنسية للسيطرة على العملية الاقتصادية الدولية برمتها, أي على مجمل مراحل عملية إعادة الإنتاج على النطاق الدولي باستخدام أساليب وأدوات كثيرة تسمح بها القوانين السائدة. والصحافة مليئة بأخبار عمليات إفلاس وابتلاع واندماج الكثير من الشركات الرأسمالية ببعضها تحت ضغط المنافسة أو من أجل إقامة أكبر الاحتكارات العالمية القادرة على الهيمنة الفعلية على العملية الاقتصادية الدولية. وتقوم تلك الشركات المتعددة الجنسية بالسيطرة على مصادر إنتاج الموارد الأولية وإخضاعها لمصالحها وسياساتها, كما هو الموقف من النفط الخام في الشرق الأوسط مثلا.
ويلعب الرأسمال المضارب والأسواق المالية الدولية دورا متميزا ومتناميا في سياسات العولمة ويلقي بظلاله على اقتصاديات وبورصات العالم الثالث ويتسبب لها بأزمات حادة تدفع إلى هروب رؤوس الأموال منها إلى بلدان الشمال المتقدمة. 
وأذ تسمح العولمة بنشوء نظرة ذات طبيعة شمولية وعامة للطبيعة ومواردها الأولية والبيئة والإنسان وحقوق الإنسان, وكذلك للإمكانيات المتاحة والحاجات المطلوبة, بسبب طابعها الشمولي والدولي والطابع الاجتماعي المتعاظم للقوى المنتجة حيث تنشأ إمكانية ممارسة برمجة واستخدام عقلانيين للموارد والطاقات والإمكانيات المتوفرة والحاجات الضرورية للمجتمع البشري, فأن هذه الإمكانية المتاحة عمليا يصعب استثمارها بشكل عقلاني لصالح المجتمع البشري كله بسبب الطبيعة الاستغلالية للرأسمالية أساساً والعفوية والفوضوية النسبية التي تفرضها طبيعة القوانين الاقتصادية الموضوعية للرأسمالية واستمرار عمل تلك القوانين التي تبقي على أو تنمي التمايز الشديد في مستويات التطور بين الدول والتباين في مستويات الدخول والمعيشة في ما بين الطبقات والفئات الاجتماعية وفي ما بين الدول, وكذلك المنافسة غير العقلانية المحتدمة في ما بينها, والاستغلال الشديد الذي تريد تلك الشركات فرضه على شعوب العالم عموما. فالعولمة التي يمكن أن تكون في مضمونها وبسبب التطور الرفيع والمستمر للقوى المنتجة على النطاق الدولي ذات طبيعة إيجابية كبيرة لكل الشعوب, تتحول في بعض ابرز جوانبها إلى طبيعة سلبية بسبب تلك السياسات في إطار علاقات الإنتاج الرأسمالية. وتجارب الشعوب تشير إلى أن الدول الرأسمالية المتقدمة بدأت تستخدم حقوق الإنسان أداة للتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى عندما تجد في ذلك ما يخدم مصالحها وتكف عنه عندما يتعارض مع تلك المصالح. 
وبسبب التناقضات التي تثيرها سياسات العولمة فأن هذه الدول ما تزال تشعر بضرورة مواصلة التسلح وتعزيز حلف الأطلسي وتكوين قوات التدخل السريع بما يثير شكوك بقية بلدان العالم إزاء النوايا الفعلية لتلك السياسات, خاصة وأنها تشجع على سباق التسلح في بلدان العالم الثالث التي تستنزف الكثير من مواردها المالية وتنشط ذهنية ورغبة حل نزاعاتها, وهي غير قليلة, عن طريق استخدام القوة والحرب, إضافة إلى سعي الولايات المتحدة لتلعب دور الشرطي الدولي على نطاق واسع, باعتبارها القطب الأوحد والأقوى, أو الإمبراطورية الدولية الجديدة. 
وتمارس الشركات المتعددة الجنسية سياسة نشر فكرة وثقافة وأخلاقيات الثقافة الغربية على إنها العولمة الجارية. وهي تثير صراعات حادة في هذا الصدد فتثير حفيظة البلدان والشعوب الأخرى. ويبدو هذا واضحا من أساليب الدعاية التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية في نشر فكرها وثقافتها على إنها فكر وثقافة العولمة. كما يمكن أن يلاحظ الإنسان ذلك في الدعاية المكثفة للمركزية الأوروبية, أو "للثقافة القائدة", كما يجري التعبير عنه في ألمانيا مثلا, أو الثقافة النقية التي يفترض أن لا تشوه باحتكاكها مع الثقافات الأخرى. ومن هنا أنطلق البعض للقول بوجود عولمة أمريكية وأخرى أوروبية تقاوم العولمة الأمريكية, رغم أن العالم كله لا يعرف ثقافة نقية واحدة, فثقافات الشعوب كانت وما تزال وستبقى في تماس وتفاعل متبادل مستمر, كما لا توجد ثقافة قائدة بالمعنى الذي روج ويروج له العنصريون والنازيون القدامى والجدد. 

ولا شك في أن العولمة تطرح مشروعا ثقافيا وحياتيا حديثا يتناغم مع مستوى التقنيات الحديثة ويختلف عن الماضي أو السائد حاليا, ولكنه ما يزال في بداية الطريق. وهذا الجديد بما يحمله من حداثة وتوافق مع الزمن قادر على إبعاد القيم والعادات والتقاليد القديمة والبالية العاجزة عن مسايرة الزمن المتكاثف بشدة, لا في المجتمعات العربية والإسلامية فحسب, بل في جميع المجتمعات. ولكن هذه الثقافة الحديثة ذات الاتجاهات العامة ستأخذ خصوصيتها الملموسة من واقع ومستوى تطور كل بلد من البلدان ومن تراثها المخزون نسبياً. إن الحنين إلى الماضي في الحاضر والرغبة في عدم التغيير استنادا إلى مبدأ "ليس في الإمكان أبدع مما كان" كان وما يزال المحرك الرئيسي لمقاومة العولمة من هذا الجانب, إذ أن بعض الجماعات الإسلامية والقومية ترى في التقنيات الحديثة المتطورة الأداة الرئيسية بيد العولمة لقهر الإنسان العربي المسلم, لفرض الاستسلام عليه وإخضاعه لإرادة الغرب. ومثل هذه الفكرة تعتبر حمالة أوجه, إذ أن الممارسة الفعلية تعكس شيئا من الصحة, ولكن التقنيات في الجوهر تخدم تقدم الإنسان وتحسين أوضاعه. 

ولا شك في أن العولمة تثير مخاوف رجال الدين المتشددين والأحزاب الأصولية المتطرفة وبعض القوى القومية, إذ أنهم غير قادرين على التخلص من الحنين المفجع إلى الماضي, الماضي الذي يعيشونه فكرا وحلماً وسلوكا في الحاضر. وينبري كثرة من أئمة المساجد في بلدان شمال أفريقيا أو في بلدان المشرق العربي لممارسة الدعاية لا ضد العولمة فحسب, بل ضد العلمانية والعقلانية في التفكير وضد أي شكل من أشكال التنوير في العالم العربي, وهم يسعون إلى تثقيف الجماهير على التصدي لكل تلك الاتجاهات الحديثة. ولكن في مقابل هذا تحاول بعض القوى المعتدلة أن تفصل بين التقنيات الحديثة التي يفترض على المسلمين الاستفادة منها لصالح عملية التنوير, وبين الفكر السياسي للعولمة الذي يريد فرض اتجاهات معينة ذات مضمون استعماري حديث وهيمني في التنمية الاقتصادية والتطور الاجتماعي في البلدان العربية. 
نشير أن المادة باللغة العربية قد تم نشرها في مجلة عيون في عددها 11/2001

 

 

IBN RUSHD FORUM for Freedom of Thought
Minbar Ibn Rushd li-l-Fikr al-Hurr
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)       Kadhim_Habib#          




اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العولمة الموضوعية تقرّب العالم، لكن سياسات العولمة الحالية ت ...


المزيد.....




- كوليبا يتعرض للانتقاد لعدم وجود الخطة -ب-
- وزير الخارجية الإسرائيلي: مستعدون لتأجيل اجتياح رفح في حال ت ...
- ترتيب الدول العربية التي حصلت على أعلى عدد من تأشيرات الهجرة ...
- العاصمة البريطانية لندن تشهد مظاهرات داعمة لقطاع غزة
- وسائل إعلام عبرية: قصف كثيف على منطقة ميرون شمال إسرائيل وعش ...
- تواصل احتجاج الطلاب بالجامعات الأمريكية
- أسطول الحرية يلغي الإبحار نحو غزة مؤقتا
- الحوثيون يسقطون مسيرة أمريكية فوق صعدة
- بين ذعر بعض الركاب وتجاهل آخرين...راكب يتنقل في مترو أنفاق ن ...
- حزب الله: وجهنا ضربة صاروخية بعشرات صواريخ الكاتيوشا لمستوطن ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - كاظم حبيب - العولمة ومخاوف العالم العربي!