أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - نذير الماجد - البغدادي يلقي الضوء ويرحل














المزيد.....

البغدادي يلقي الضوء ويرحل


نذير الماجد

الحوار المتمدن-العدد: 3107 - 2010 / 8 / 27 - 08:36
المحور: المجتمع المدني
    


يبدو أن للمثقف صورة نموذجية في ما قاله الشاعر ناظم حكمت: "إذا لم تحترق أنت، إذا لم أحترق أنا، إذا لم نحترق نحن فمن أين يأتي الضياء". فليس هو إلا شعلة تحترق، يمنح الضوء ويزيل العتمة باشتعاله الداخلي، يقترب من المعرفة لحظة يتلاشى كالفراشة، إنه كائن متألم، وهو في الآن نفسه فارس يمتهن البطولة، فهو حين يتجاذب الفكر والقناعات والاهتمامات التي تجمع حشود المتسمرين أمام الحقيقة والطامحين إلى الارتشاف من معينها لا يفعل سوى أن يشعل المحارق ويكشف الحجب التي تغطي الحقيقة، الحقيقة المعرفية التي تجعل من القراءة كما الكتابة أو أي نشاط معرفي آخر هي أقرب إلى مسامرة الألم، الحقيقة العارية التي يفصح عنها المثقف المسكون بالألم لها مذاق الموت، والصمت هو ملاذ الخائفين البعيدين عن كل شيء يمت بصلة إلى البطولة.

هكذا يبدو كتمرد أنجبته الآلهة، مثل إله إغريقي يسرق النار من آلهة الأولمب ليمنحها الإنسان ويعاني بعد ذلك عذابا أزليا، لذلك لا يمكن أن يكون المثقف كائنا مسالما إلا حين لا يكون كذلك، إنه نصف إله يثير الزوابع أينما حل، ويحرك الركود ويثير الأسئلة المربكة.

هذه هي مهمة المثقف حسب ادوارد سعيد، فدور المثقف يكمن قبل كل شيء في "طرح الأسئلة المربكة علناً، ومواجهة التزمت والجمود (لا توليدها)، وأن يكون امرأ لا تستطيع الحكومات أو المؤسسات الكبرى احتواءه بسهولة، والذي مبرر وجوده هو أن يمثل الناس والقضايا التي نُسيت".

عدم الاحتواء أو الامتثال، والتحمل في مواجهة التحديات التي يثيرها الوسط السكوني والجامد ضد احتراقه الداخلي، وضميره المتيقظ دائما هي الصفات الأبرز في شخصية الراحل الكبير المفكر الدكتور أحمد البغدادي.

فصاحب "تجديد الفكر الديني" كما أراه ليس مثقفا من الطراز المهادن أو المنسحب من مواجهة تحديات التنوير، ليس مثقفا مطمئنا متماهيا مع ما هو واقع معاش، إنه مسكون بقلق التجاوز، قلق معرفي يضنيه ويجعل حواسه النقدية مشتعلة متوهجة تلامس الأشياء والأفكار والتأملات والتاريخ والحاضر بروح مرهفة حساسة وقلقة في الآن نفسه.

لدى البغدادي بوصفه مثقفا كإله، تتوحد صفة الجمال مع جلال وكبرياء المثقف والمفكر الذي هو بطبيعته يحمل ذاتا نرجسية متعالية على الواقع ومتجاوزة لتخوم السماء. التواضع والأريحية التي يتصف بها الراحل تتداخل مع حاسة المثقف المتعالية وازدراءه لكل ما هو دوني وصغير، فالذات المتضخمة تحدها ذات متواضعة مسكونة بالحب والابتسامة البيضاء.

المثقف كما يتجلى في راحلنا الكبير ليس إنسانا متجهما خشنا يكتفي بالصفع وكيل الضربات، ليس متغطرسا مستبدا وإنما هو محبٌ لطيفٌ خفيفُ الروح حتى وهو يلقي الحجارة على الركود، الحب هو ما يحركه حتى وهو يحترق ويشتعل كالضوء في تبديد العتمة.

التقيت الراحل البغدادي مرات معدودة لكنها كانت ثرية ودافئة، أهداني بكل تواضع ومحبه كتابه المهم "تجديد الفكر الديني"، وكتب فيه: (... ذكرى صداقة متواصلة، أحمد البغدادي، يونيو 2009م) كان هذا في لقاءنا الأخير الذي كان حافلا بالحب وفوائد معرفية جمة، ونصائح فيها دفء الأبوة. وبوصفه أبا من آباء التنوير نصحني: لا توغل في تمويه المتلقي أو إجهاده بأدوات الكتابة النخبوية، نهدف إلى التنوير لا إلى التعقيد وإلقاء حاجز من الغموض، التنوير يجب أن يجد طريقه إلى المتلقي بسلاسة ووضوح وإلا انتفى الغرض منه، حتى تشق طريقك إلى الناس يجب أن تجيد اللغة التي يفهمها أغلبهم وفي ذات الوقت لا تتنازل عن فكرتك.

لقاءنا الأول كان ملغما بالأسئلة، كنت أرغب في الاستزادة من فكره وخبراته الواسعة في الاحتكاك مع الزيف والجمود والأصولية وهو الذي عانى من عنتها وتزمتها وغلوائها، سألته وأجاب وتحدث كثيرا، وفي حديثه كان التفاؤل يتجاور في إيقاع متناغم مع التشاؤم الناجم عن الانسدادت المتعاقبة في واقعنا، التفاؤل والتشاؤم هو نبض الواقع في صدر البغدادي: تراجع الديموقراطية يزيد من وتيرة الإحباط الذي يحد منه تموج التنوير في العالم العربي كما بدا له وذلك رغم تواطؤ كل أشكال السلطة.

قبل أن ألتقيه كنت أخشى أن يتحطم التمثال الذي رسمته له، خشيت أن أجد مثقفا من النوع الساخط والغامض والقابع في برجه وأحلامه، خشيت أن ألمس تأثير خصومه السلفيين على شكل استجابة حادة تستأصل شأفة التمايز والاختلاف، لكنه كان على العكس، ديموقراطيا وشفافا ومنفتحا ومتسامحا، لم يكتب عن التسامح أو الانفتاح إلا حين يكون كذلك على صعيد الممارسة، كان يكتب ويعيش ما يكتب، لا كالمغتربين عن ذواتهم والذين يعانون من انشطار وانقسام حاد بين الذات والوعي، بين النظرية والممارسة، بين الكتابة والحياة. تلمح الشاعرة فروغ فرخزاد إلى أنها شاعرة وهي كذلك في كل حياتها، البغدادي كان كذلك وأكثر، يعيش التسامح قبل أن يكتب عنه، ويعيش الانفتاح قبل أن يدعو إليه، وهو في هذا كالكبريت الأحمر بين كثير من المثقفين.

إن خفة الروح للبغدادي لم تحل دون أن يتسم بثقل معرفي ضروري للمثقف الرزين، قال لي في لقاءنا الأول: إن المثقف المتحول عادة ما يكون خفيف الوزن بل منعدم الوزن لا يعرف ماذا يمكنه أن يقول كما لا يمكنه أن يتجذر في بستان، الخفة المعرفية لا تلائم المثقف الذي عليه أن يتعاطى الشأن الثقافي بحذر، إن التحول هو ديدن المثقف كما يرى البغدادي، ولكن بأدوات معرفية تشده إلى الأرض، وليس كريشة يتقاذفها الهواء، هذه كانت رؤيته للاشتغال الثقافي والتحولات المعرفية، وهي رؤية وتصور متماسك ومتين، مما جعلني أتوقف لأقوم على الصعيد الشخصي بمراجعة ذاتية لا تخلو من وخز الندم.

هكذا وجدت البغدادي وهكذا كان حضوره في الذاكرة: ذكرى صداقة متواصلة.



#نذير_الماجد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سعودة الحداثة !
- المشروع التغييري والمسكوت عنه: الشيخ الصفار أنموذجا
- حين يكون -جان كالاس- سعوديا !
- التصوف كخطاب تنويري
- التشيع والشيرازي وفلسفة التاريخ *
- عندما يتحول التاريخ إلى دين -3-3-
- عندما يتحول التاريخ إلى دين (2-3)
- عندما يتحول التاريخ إلى دين (1-3)
- ماراثون القطيف وصديقي المتشائم
- تمرين على السياسة الشخبوطية !!
- من اللاهوت إلى علم الأديان: محاولة للفهم
- ما وراء كلمات العريفي
- السيستاني والعريفي والتقيؤ الطائفي
- بين المتدين الأصولي والشامان
- البطولة الزائفة
- أنفلونزا التبشير المذهبي
- ذهنية التحريم في العقل الشرعوي
- عيد وطني ينقصه وطن !!
- حول اشكالية العلمانية في الاسلام
- المهدي المنتظر في القرن الواحد والعشرين


المزيد.....




- النصيرات.. ثالث أكبر مخيمات اللاجئين في فلسطين
- بي بي سي ترصد محاولات آلاف النازحين العودة إلى منازلهم شمالي ...
- -تجريم المثلية-.. هل يسير العراق على خطى أوغندا؟
- شربوا -التنر- بدل المياه.. هكذا يتعامل الاحتلال مع المعتقلين ...
- عام من الاقتتال.. كيف قاد جنرالان متناحران السودان إلى حافة ...
- العراق يرجئ التصويت على مشروع قانون يقضي بإعدام المثليين
- قيادي بحماس: لا هدنة أو صفقة مع إسرائيل دون انسحاب الاحتلال ...
- أستراليا - طَعنُ أسقف كنيسة آشورية أثناء قداس واعتقال المشتب ...
- العراق ـ البرلمان يرجئ التصويت على مشروع قانون يقضي بإعدام ا ...
- 5 ملايين شخص على شفا المجاعة بعد عام من الحرب بالسودان


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - نذير الماجد - البغدادي يلقي الضوء ويرحل