إبراهيم جوهر
الحوار المتمدن-العدد: 3079 - 2010 / 7 / 30 - 00:02
المحور:
الادب والفن
لقد نقل إبراهيم نصرالله هذيان شرفته إلى شرفة( جوجل) التي صارت تهذي وتخلط ولا تجيد الفرز ! فلم تفرّق بين إبراهيم نصرالله وحسن نصرالله وإبراهيم نصر في مقالب الكاميرا الخفية . ولكني وجدت في هذيان( جوجل) جمالا يهذي بمعنى من المعاني حين جمعت بين الكاميرا الخفية وهذيان شرفة إبراهيم نصرالله وتألق لغة نصرالله الخطابية الحاسمة ...
لقد فتحت( جوجل) دون أن تدري وبغباء التكنولوجيا شرفة للتخيّل والإبداع ، فشكرا لخلطها الهاذي !
أما( شرفة الهذيان) لإبراهيم نصرالله التي جاءت صرخة احتجاج وسخرية من دول القمع والدم والعار فقد كسرت المألوف وقلبت الموازين لأنها تهدم من أجل البناء ، وتثور على الجمود وقوالبه في الحياة والأدب والفن .
لقد حكت عن واقع مجنون بجنون واع ، وبلغة ساخرة تقدّم الواقع غير المفهوم بصورة تنفّر وتحرّض وتسخر .
لذا جاءت لغتها متفجّرة ، قصيرة الجمل ، سريعة الإيقاع رغم البساطة في السرد وبراءة الكلمة الخادعة التي تحمل أبعد من معناها القريب . هي لغة موجزة رغم بعض التفصيلات المقصودة لغرض معنوي يتضافر مع موضوعات الرواية ليحيط بالشخصية المحاصرة من العائلة الصغيرة والعائلة الكبيرة ، ومن السماء ومن الأرض . إنها لغة موجعة تكشف الجرح وتنكأه بدهاء وذكاء لتنزل دمعة حزن وتستدعي ابتسامة في الآن ذاته . إنها الهذيان الذي يرسمه المؤلّف ويقدّمه إلى قارئه ليبصّره .
في( شرفة الهذيان ) أضحت الصورة لغة ؛ الصورة الشخصية ، وصورة الحدث ، وصورة النبأ في الصحيفة اليومية ، وهذه التوليفة اللغوية الأسلوبية ( البلفونية ) تنسجم مع العنوان ، وتتناغم مع الأساليب الحديثة التي تخاطب قارئا واعيا ، وتحمل أبعد من الحكاية ذات المستوى البسيط المكتفي بالإمتاع والتعبير والسرد الحكائي الساذج المكتفي بالحدث المشوّق والشخصية .... إنها تؤسس لنهج تال سينمو ويتطور في سبيل البحث عن أفق جديد للتعبير والتغيير .
وكأني بالكاتب يقول : إذا لم تتحطم الأسوار ولم تبن جسور جديدة ولم تقم مفاهيم جديدة ولغة جديدة لن تتحقق الحرية ، وسيظل النظر إلى الغرب ممنوعا ، وسيظل الكلب خيرا من العصفور ...
إبراهيم نصر الله كاتب مجدّد في ساحة الإبداع والتعبير ، يبحث عن التميّز والنوعية ليبني مشروعه الثقافي الخاص . من هنا كانت اللغة والمضمون والأسلوب وإشراك الأبناء في الكتابة ، وكان التناص الأدبي متوفرا ليوصل رسالته الإبداعية الجديدة .
واللغة من أهم مكوّنات الخطاب الروائي لأنها تنقل أهداف المؤلف وتشي بنواياه الخفية وتستفيد من الخصائص اللغوية الكامنة لتبني عالما خاصا أراده الكاتب . فهذا الغلاف الداخلي الأول يحمل لنا مقطعا توجيهيا ذا مضمون محاصر وهاذ ... ورد فيه خمسة أفعال أمر ، وإشارة إلى عدم الجرأة في السؤال والاستفسار ، (سيزورك صحفيون لتصوير المكان ، وها أنا أحذّرك ، لا تسمح لأي منهم أن يصعد إلى سطح المبنى ليلتقط الصور. اجلب له تلك الطاولة ، ضعها في وسط الساحة ، ثم دعه يعتليها ...).
وتبدأ الرواية بعنوان غير ذي علاقة بالمضمون ( الأغنية الأولى !! ) متبوعا بعلامتي تعجب الأمر الذي يوفّر للقارىء فرصة الاستنتاج والوقوف على التناقض المقصود بين دلالة العنوان الموحية بالسعادة والشعور بالحرية والحدث الذي تحمله هذه ( الأغنية !! ) والتحذير الصادم بالوصف النهائي (ولكن حين يأتون ...تذكّر : لن تكون أكثر من من كتلة العري تلك ، فوق كتلة العري التي تحتها ، فوق كتلة العري التي تحتها .....) ثم يستفزّ مشاعر غضب القارىء ليضمن حقده عليهم وهم يتضاحكون متطلعين لعتمة كهفك الصغير !
( الأغنية الأولى ) ليست أغنية ، وليست مريحة ولا تحمل شيئا من ظلال الكلمة الزائفة الموحية بالهناء ، بل هي أغنية على الطريقة المغايرة ، إنها ( أغنيتهم ) وليست ( أغنيتك ) . إنها الدستور الذي يحاصر بقوانينه وتعليماته الشخصية الرئيسة التي ظلّ اسمها غفلا لأن الاسم لا يعني شيئا هنا ، فالكل واحد ، لذا جاء الخطاب بالضمير المخاطب ( باستطاعتك أن تغمض عينيك ، وأن تدير ظهرك ..... ) ثم نعرف أن هذا المخاطب المغلوب على أمره المحاصر بالممنوعات اسمه ( رشيد النمر ) وهو اسم مناقض لواقع صاحبه وحامله فلا هو بالرشيد ولا هو بالنمر ، وإنما يتعرض لتنمّر الآخرين .
تحمل ( الأغنية الأولى ) معنى القمع والخرس والإهانة وانتهاك الخصوصية والتعذيب السادي ....فهذا هو الغناء الموعود ، وهذه هي اللغة التي يخاطب من خلالها المواطن رشيد النمر .
وعبّر المؤلف إبراهيم نصرالله عن هذا كله بالسخرية والاستغباء ؛استغبائهم للمخاطب المقموع .
كما توسل بالمصطلح والتكرار والتناقض والتورية وباللغة التي تلخّص نفسها رعبا وجحيما .
إبراهيم نصرالله في (شرفة الهذيان ) ينقل هذياننا ليحرّضنا على سكوننا ، وليفتح لنا بوابة الأمل .
____________________________________
شرفة الهذيان ، إبراهيم نصر الله ، الطبعة الثالثة ،مكتبة كل شيء ، 2010 م.
( ورقة مقدمة إلى ندوة اليوم السابع في المسرح الوطني الفلسطيني /الحكواتي ، الخميس 29 /7
/ 2010 م.)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟