أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كريم المسعودي - سطور من أوراق الذكريات/مع الأستاذ الدكتور علي عباس علوان















المزيد.....


سطور من أوراق الذكريات/مع الأستاذ الدكتور علي عباس علوان


كريم المسعودي

الحوار المتمدن-العدد: 3051 - 2010 / 7 / 2 - 02:27
المحور: الادب والفن
    


[هذه تحية لأستاذي أبي زيد، وهو يتألق عطاء في عامه الثاني والسبعين- أطال الله عمره بخير وعافية وأمان- ومن خلاله أحيي كل أستاذ نبيل]
حين تريد الحديث عن شخصية تمتلك من الثراء الإنساني، والأصالة الفكرية ما يشهد به كل من عرف صاحبها، وحين يكون المجال لذلك الحديث محدوداً, فإنك ستُحار- ولا شك- فماذا تذكر، وأي شيء تدع؟!
ولأن هذه المقالة هي محاولة لرسم ملامح صورة إنسانية لأستاذي الدكتور علي عباس علوان, فسأركز على ما يؤكد أنه تجسيد رائع لمعنى الأستاذ الجامعي, وشرف الإنسان, وموقف المثقف.
ولن أتكلف رسم صورة مثالية تنطلق من خيال تلميذ مازجته المحبة, ولوّنه الوفاء، بل سأحرص على أن أسجل مواقف حية عشتها مع أستاذي, وكنت شاهداً عليها, وهي جزء حميم من ذكرياتي الشخصية,ولهذا؛ فلن أحرص على جمال التعبير, بل سأتوخى التقاط الموقف الجميل الذي تسعى المقالة إلى تثبيته، فإن لم يهز الموقف أريحية القارئ , أو لم يحقق له المتعة الجمالية، فلأني عجزت عن اختيار الموقف البليغ: تعبيرًا، وتأثيرًا!
في بدء السنة الأخيرة من مرحلة البكالوريوس, كنا ننتظر في القاعة الدراسية, نترقب دخول أستاذ النقد الأدبي الحديث, وقد سبقته شهرته أستاذًا قديرًا لا يمكن إرضاءه بسهولة, ولا تنطوي عليه( ألاعيب) الطلاب, وفي شخصيته ما يدفع الطلبة إلى الرهبة ولا سيما من يحرص على (الدرجات) هي جلُُّ همِّه، ومَن يريد نجاحاً سهلا هو كل مبتغاه!
وهو أستاذ معروف لأغلب الطلبة- مذ كنا في المرحلة الثانوية- بكونه شخصية لها حضورها شبه الدائم( في التلفاز) ضمن برامجه الثقافية: ضيفــًا على تلك البرامج, أو مشاركــًا في ندوة حوار حول الأدب، والفن، وبمقالاته المقروءة في المجلات، والصحف المتداولة حينذاك، وغير قليل مَن يعرف كتابه ( تطور الشعر العربي الحديث في العرق/ مجالات الرؤية وجمالات النسيج)، وهو من أكثر الكتب في مجاله أهمية: منهجـًا، وأفكارًا، وإثارة لأسئلة كبيرة.
دخل القاعة, فنهض الطلاب, وألقى تحيته متعجلا ليشير إليهم بالجلوس, وقبل أن يصل المنصة توقف ليسأل ( منو... كريم مهدي؟) فتطلع الطلبة إلى حيث أجلس, وأجبتُ مستغرباً: " نعم.... دكتور"
- هل لديك امتياز في العام الماضي؟
- لا..
- جيد جداً عال؟
وخشيت أن يستمر الأمر ليصل إلى إعلان تقدير هو( جيد) في حدوده الدنيا.. ولم أكن أعنى بالدرجات, ولا يهمني أن يكون تقديري جيدًا، أو مقبولا, بل لم أكن أهتم بحضور قاعات الدراسة إلا لدى قلة من أساتذة أدين لهم حتى الآن بأنهم علموني, وعند هؤلاء الصفوة لا أتنازل عن( الامتياز)!
فقلت: عفوًا أستاذي, ولماذا السؤال؟!
فرَدَ بشيء من حدة: لأني أبحث عن الطالب المتميز, وقد مرت أكثر من دورة, وأنا أدير رأسي فلا أرى أحدًا!.. وفي هذه المرة جاءني أكثر من زميل ممن أثق بهم, وأحترم تقييمهم, ليقولوا لي: ستجد في هذه الدورة طالباً ممن تبحث عنهم, وذكروا اسمك!..وما دام الأمر كذلك، فلا بد من أن تكون درجاتك عالية!
فقلت- وفي داخلي يتصارع إحساس بالزهو, وشعور بالندم لأني لم اصطبر على أساتذة (ابتُليت) بهم العربية, فصاروا أساتذة في أقسامها, فكنت وأمثالي (مشكلتهم) الكبرى, وكانوا لي ولأمثالي(عثرة) في طريق النجاح الكبير- :" حتى أنت يا سيدي ترى التميز بالدرجات، وتحكم على أساسها؟".
فقال- وقد تفاجأ بصوت ينطوي على جرأة ربما لم يعهدها لدى الطلبة-: " ولكن الطالب المتميز يسعى إلى الدراسات العليا, ولا تكون هذه بغير الدرجات العالية"..فقلت بنبرة تشي بالألم:" الدراسات العليا ليست لي" ]وأقولها الآن وأنا أستحضر الموقف: إنني لم أكن أنطلق من جرأة أو شجاعة, بل هو الشعور بالإحباط تفجر في لحظة صدق مع الذات، فأنساني الالتفات إلى ما يصح وما لا يصح من القول.. فقد دخلت الحرب عامها الثاني, ولا تخلو قاعة دراسية من عميل للأمن, أو وكيل للمخابرات، أو رفيق حزبي موكل بكتابة (التقارير), وهو يتصيد هذا القول وأمثاله... ولو كنت أركن إلى وعيي بهذا لأحجمت عن قولي, فلست أسعى وراء بطولات زائفة ثمنها باهظ قد يكلفني حياتي, أو حرماني من الحصول على الشهادة في أبسط تقدير... ولكن الله سلـَّم!![.. وكانت الشجاعة تتجلى رائعة في ردِّ أستاذي- وهو يعي حقيقة الزمن المّر الذي نعيشه- ولم يكن(بعثيًّا), وقد كسر قلمه منذ بداية الحرب, ولم يعد يظهر في البرامج التلفزيونية كما كان سابقاً.. وهو يعلم أنه مُراقب- وقد علمت ذلك فيما بعد- كانت الشجاعة الحقّة, والجرأة التي تؤكد صلابة الأستاذ الذي لا يريد أن يبدو ضعيفاً أمام تلميذه, بل يحيِّي شجاعته( المفترضة), ويقوي عزيمته، وهو يقول: " قد يكون ما قلته صحيحاً، فالدراسات العليا ليست للجميع, ولكن...لا تنس أننا في بلد (قرارات), وقد يأتي وزير إلى المدرسة التي ستتعين فيها-إن تعيّنت!- زائرًا, وربما يجمع المدرسين ليتحدث عن رعاية الثورة للإبداع, وتوفير الفرص للمبدعين!! فلو كنت ممن يتخرجون بامتياز، أو جيد جداً لأمكن أن تقول له: إنني- يا سيادة الوزير- تخرجت بهذا التقدير, ولكني لم أجد فرصةً لإكمال دراستي للحصول على( الماجستير)، ويمكن أن يسجل اسمك, ويطلب منك مقابلته, وقد تحصل على( فرصتك) في زمن المصادفات العجيبة!!.. ولكن هل ينفعك أن تكون ذكيًا،ً ومثقفاً في مثل هذا الموقف, وتقديرك( مقبول، أو متوسط)؟!.. ثمّ- وهنا علت نبرة صوته محتدّاً- دعك من الدراسات العليا.. ألا تبحث عن مجدٍ شخصي لتقول: إنني تخرجت بتقدير امتياز, أو أنني من الأوائل!
فقلت له بثقة غريبة: سأحصل على الامتياز في هذا العام, وسأكون من الأوائل إن شاء الله!.. فقال: سنرى!...ثمَّ أكمل طريقه إلى المنصة ليجلس، ويبدأ محاضرته.
] في تلك السنة حصلت على الامتياز في حدوده العليا ليصبح تقديري( جيد جداً) وأصبحت بذلك من العشرة الأوائل: وهو ما أهلني- فيما بعد- للقبول في الدراسات العليا.. ويقيني أنْ لولا موقف أستاذي ذاك لما أكملت دراستي، ولم أكتب هذه.. مقالتي![.
(2)
في المحاضرة الأولى أملى علينا عدداً كبيراً من المصادر العربية، والمترجمة في النقد الأدبي، وفلسفة الفن، وعلم الجمال و...لكي نقرأها, وحثنا على القراءة, طالباً أن نستثمر مرحلة الشباب، وخلونا من المسؤولية العائلية، وأعباء الوظيفة التي ستمنعنا من كثرة القراءة, وربما ستدفعنا إلى الانصراف عنها مستقبلاً!
وأذكر أنه قال لنا : لا تأخذوا كل ما أقوله لكم مسلَّمات, فما أقوله في محاضراتي لا يعدو أن يكون آراء قابلة للمناقشة, وأحكاماً تحتمل الاختلاف, والكتاب الوحيد الذي لا يناقش في أحكامه هو( القرآن الكريم)، وكل ما عداه وجهات نظر يمكن أن تُقبل أو تُرد!.
ومع المحاضرة الثانية, وما تلاها على امتداد العام الدراسي, كان يبتدئ محاضرته بقوله: إذا كان هناك سؤال، أو استفسار، أو تعليق, أو وجهة نظر حول المحاضرة السابقة, فأنا مستعد لأن أسمع لنتحاور! وكثيراً ما كان وقت المحاضرة ينتهي بمناقشة( قضية) نقدية يثيرها سؤال, أو( فكرة) تتضمنها ملاحظة طالب!. وبين مدة وأخرى في أثناء السنة الدراسية كان يتوقف ليتساءل: هل يُعقل أن يكون كل ما أقوله مقبولا عندكم, ولا يحتاج إلى المراجعة والمناقشة؟!
كان يدعونا بل يحرضنا على ( الاختلاف), ويدفعنا إلى عدم الأخذ بكل رأي.. وأتذكر أنه قال لنا في أحدى محاضراته:" إن من يعيد علي ما أقوله في الامتحان، فأحسن ما يحصل عليه هو أدنى( درجة) للنجاح، فثار بين الطلاب (لغط) وعلت (همهمات) مستنكرة.. فقال: ليس في الأمر إجحاف, فإنكم تكتبون ما أقول, وقد تخطئون في الكتابة، وحين تجيبون عن السؤال سأجد الأغلاط اللغوية، والنحوية, و....، ومن هنا فأنتم تعيدون لي سلعتي مشوهة, وتريدون مني( درجات عالية)، وتلك إذن قسمة ضيزى! أمامكم المصادر, فأقرؤوا, وأثبتوا لي رأيا أخر, واختلفوا معي لتحصلوا على أعلى الدرجات!.. ومن أطرف ما حصل في الامتحان أن زميلا لنا لا يُعرف لشدة سمنته بغير( طارق السمين)- وكان فكهاً طريفاً- حفظ المحاضرات عن ظهر قلب, وأجاب عن السؤال بما حفظه نصاً, وفي نهاية الجواب كتب: هذا رأي أستاذنا الفاضل الدكتور علي وأنا أختلف معه!!!
(3)
في منتصف السنة الدراسية مر بي أستاذي ,وكنت أسير باتجاه البوابة الرئيسة للكلية, فبادرني بالسلام، وسألني عن أحوالي، فشكرت له اهتمامه .. وقد قرأت دراسته( عن الرواية العربية ومشكلات الواقع) قبل أيام من هذا اللقاء, وبدا لي ( رأي) في بعض ما جاء فيها, فخطر في ذهني أن أستثمر هذه الفرصة لأذكر له رأيي, فاستحضرت كل ما أعرف من عبارات التهذيب، واللياقة كي أقول له:( إن في رأيه حول رواية( الوشم) شيئاً..أعني.. لو نظرنا إلى الرواية من زاوية... هل يمكن أن نقول..)ولم يدعني أكمل إذ توقف فجأة, وأمسك بذراعي ليوقفني: اسمع يا كريم!.. عليك أن تختلف معي, وأن يكون لك رأيك، بل عليك أن تتجاوزني فيما كتبت, وتضيف شيئاً جديداً!! فصُعِقْتُ, ولا يمكن أن يقدر ما أنا عليه في تلك اللحظة إلاّ من عرف الدكتور علي عباس علوان حقيقةً: حضور شخصية, وسعة علم, وعمق ثقافة, ودقة رأي, فقلت أستغفر الله.. أستاذي..فقال لي: لقد قرأتني ,ولم ابخل عليك بما عندي, وكنت أحرضك على السؤال، حتى بددت حرجك لتسأل دون خوف من أن يكون سؤالك مهما، ًأو ساذجاً, وقد قرأت مصادري، وأنت الآن تقرأ ما لا أجد متسعاً لقراءته؛ لأنك متفرغ للقراءة, فإن لم تتجاوزني فهذا يعني أنك تلميذ فاشل, وأني أستاذ لم أحسن القيام بدوري.. وإذ لم( تتفوق) علي, فإن في حياتنا خللاً.. الحياة تتقدم, فإذا لم يتقدم الطالب النابه ليبدأ من حيث انتهى أستاذه- مهما كان أستاذه قديراً- فتلك كارثة حقيقية.. والآن ما الرأي الذي تريد مناقشتي فيه؟!..
ليلتها لم أنم, وأنا أفكر في ذلك الموقف العظيم الذي لا يمكن أن يصدر إلا عن عالم بحق يحترم مهمته- ولا أقول مهنته- وناقد كبير يدرك بعمق صيرورة المعرفة، وتطورها! وكان السؤال الذي بقيت أردده مع نفسي حتى هذه اللحظة: هل استطعت- بل هل استطيع- أن أحقق مراده في التخطي والتجاوز بمعناه الإنساني الرائع؟ وسأعترف أننا نعيش (الكارثة الحقيقية) على الرغم من كوني أنتمي إلى (جيل) يتوسم فيه أساتذتنا الكبار خيراً, ويعدونه امتداد أصيلاً لهم!!
(4)
في تلك السنة طلب منا أستاذنا الدكتور رؤوف الواعظ أن يكتب كل طالب عرضاً لكتاب من الكتب التي درست الشعر العراقي الحديث, فاخترت كتاب الدكتور جلال الخياط - رحمه الله- ( الشعر العراقي الحديث: مرحلة وتطور), وفي أثناء قراءته خطر لي أن أناقش جملة من الآراء، والأفكار التي وردت في الكتاب, وصار العرض أقرب إلى المراجعة النقدية, فاحتفى الدكتور الواعظ بما كتبت, وطلب إلي أن أقرأه أمام زملائي, ثم حثني على نشره، وهكذا بعثته إلى مجلة (ألف باء) لينشر, وقد علمت أنه قُبل للنشر في تلك المجلة, وبعد أسابيع عدة طلب مني أستاذي الدكتور علي عباس علوان أن أوافيه إلى مكتبه بعد المحاضرة... وهناك قال لي: سينشر( مقالك) في العدد القادم من المجلة كما أعلمني محرر القسم الثقافي, ولكني سألته أن يتريث لأخبرك أن الدكتور جلال الخياط يعاني أزمة قلبية, وقد أدخِل المستشفى بسبب ذلك, وأعتقد أن المقالة ستتسبب في انزعاجه.. والآن.. لك أن تصر على نشر المقالة- وهذا حقك الأدبي والعلمي - وسأطلب إلى المحرر نشرها, ولك أن تترك النشر مراعاة لحالة الدكتور جلال الصحية, وهو موقف إنساني يحسب لك..فقلت: الأمر لك أستاذي.. فقال لا..لا المقال مقالك, وأنت صاحب الحق في أن تنشره, أو تتوقف عن نشره! فقلت: لا داعي لنشره إذن!..
بعد تخرجي علمت بأن بين الدكتور علي، والدكتور جلال ( جفوة) في ذلك الحين, وأنهما كانا يتحاشيان حتى اللقاء!! ولم يعلم بذلك الموقف غيري, وبعد عشر سنوات من ذلك التاريخ, وكنت طالباً في مرحلة الدكتوراه, وكان الدكتور جلال الخيا ط –رحمة الله عليه- من أساتذتي الرائعين في هذه المرحلة, فأعلمته بالموقف، فأكبره، وربما صار الموقف جسراً للتواصل بينهما!
(5)
بعد تخرجي مباشرةً توجهت إلى معسكر للتدريب في ( الموصل)، ثم بقيت مع آلاف الشباب سنةً كاملةً في أحد المعسكرات في ( بابل) بانتظار أن ( نُساق)- وآمل أن يلتفت القارئ إلى دلالة الفعل!- إلى (الجبهة) وقودًا لنيران حرب مستعرة، ولم أنقطع عن زيارة أستاذي أبداً, وفي إجازاتي كلها كنت أحرص على زيارته في الكلية، أو في بيته الذي صار (ملاذاً) للروح الملتاعة بحثًا عن وطن لا يسكنه الخوف....
في إحدى إجازاتي اتصلت بأستاذي تلفونياً لأعلمه بوجودي في بغداد, ولأستأذنه في الزيارة, فقال لي سأكون غداً في الكلية, وهي فرصة لك لترى أساتذتك الآخرين ممن يسألون عنك, وأعرف محبتك لهم! وذهبت إلى الكلية فعلاً, وفي نهاية الدوام خرجت بصحبته, وتوجهنا إلى سيارته القديمة التي هي أقرب إلى (السكراب), فدعاني إلى الغداء قائلاً:وجبة الغداء اليوم( أكلة) هائلة, فإياك أن تعتذر( لأن تفوتك!) ]في أثناء الدراسة وعلى الرغم من رعايته الصادقة لي, ومودة لا يخفيها إلا أنني لم أصل معه إلى أبعد من سياج الكلية مرافقاً.. وهو حريص على أن تظل بينه وبين طلابه( مسافة) كافية لكي لا يطمع الطالب من جانب, ولكي لا يتنازل الأستاذ عن شرط الاحترام الذي قد تخل به( الميانة) الزائدة[، فشكرت له دعوته، ورافقته وأنا أعيش فرحة حقيقية, لأن ذلك سيوفر لي وقتاً أضافياً أمضيه برفقته التي لا تمل أبداً.. ولكن المفاجأة أن السيارة تعطلت بعد دقائق من المسير, فترجلنا منها لنركنها جانباً, ووقفنا بانتظار سيارة أجرة, وبعد لحظات توقفت سيارة حديثة على مقربة منا, وترجل منها(الدكتور...)، وهو شاعر لم يكف عن( الزعيق) ممجداً انتصاراتنا الحربية, وبطولات القائد الضرورة( !!) , وترجّل من السيارة ليهتف مع أول خطوة: أستاذنا الدكتور أبو زيد... لماذا تقف هنا, فقال له: بعد تبادل التحية: لقد تعطلت( المحروسة!), فقال: تفضل معي كي أوصلك, وألح كثيراً مصرًّاعلى طلبه.. وحال جلوسنا في سيارته الفارهة قال:"والله يا دكتور علي, أنا أستحي أن أركب هذه السيارة, وسيارتك بهذه الحال! أنت أستاذنا وخيرة النقاد في البلد ولكن- وهنا بدا متردداً يخشى أن يكمل كلامه- أرجوك يا دكتور( لا تزعل).. لماذا تصّر على موقفك.. فالأستاذ لطيف- وهو وزير الثقافة والإعلام حينها- يقول: سيارة د. علي عباس علوان حاضرة يستلمها بمجرد أن يكتب مقالة...! فقال له: اسمع ( دكتور...) أنا أدري بما قاله( لطيف نصيّف).. وأرجو أن تطمئن, ولا تحس بالحرج, و( لا تزعل أنت أيضاً), فهذه السيارة ( المجرقعة) هي عنوان شرفي!!
(6)
بعد عام من التحاقي بالعسكرية تقرر نقلي مع عدد كبير من الجنود إلى ( الجبهة)التي تعني الموت المحقق جسدياً, أو الموت البطيء معنوياً جئت لزيارة أستاذي قبل اليوم الموعود لالتحاقي مساءً, وأخبرته بذلك، فظهر على ملامحه الألم الذي سرعان ما اختفى وراء ( إعصار) من غضب رهيب, وهو يصب لعناته على (صدام) وحربه القذرة.. احترمت غضبه, ولزمت الصمت.. وقد جاء أولاده إلى غرفة ( الاستقبال) ليتبينوا الأمر, فأومأت إليهم أن لا شيء يدعو إلى الخوف، أو القلق، ثم صمت دقائق, وأنفاسه المترددة بصوت عال تشير إلى غليان الدواخل.. وفجأة نهض قائلا: سأتصل به.. إنه يحلم بهذه اللحظة.. ولكن المهم أن لا تكون حطباً لهذه الحرب المجنونة.. قلت له: أرجوك أستاذي, دعني أفهم بمَ تفكر ما دام الأمر يخصني، فقال سأتصل بعبد الجبار محسن, ليلحقك بمجلة (حراس الوطن)، أو جريدة ( القادسية).. فقلت متوسلاً: أستاذي أرجوك.. أنا لا أملك أن أمنعك عن شيء تريده, ولكني أتوسل إليك.. أقبل يديك كي تسمعني أولاً.. فقال- ولم يزل واقفاً قريباً من الباب - ماذا تريد؟.. قلت: ( استرح) أولاً .. تفضل بالجلوس وأنا طوع أمرك, ورهن إشارتك, وسأفعل ما تريد.. ولكن تفضل, وأجلس أولا لتسمعني... أرجوك!! فعاد ليجلس على كرسيّه, وقد أشعل ( سيجارته) وسحب منها نفساً عميقاً لينفثه بشدة قائلاً: تفضل!! فقلت: هل تعتقد أنني ألازمك شأن ( المريدين) لأنك علمتني شيئاً من الأدب والنقد؟ أنت أستاذي وسيّد قلبي المتوج بمحبته وإكباره بمواقفك أستاذاً، وإنساناً.. لقد علمتني أن الإنسان موقف, و( سيارتك) لا تزال تشهد على ذلك, وكذلك عدم مشاركتك في المهرجانات, وأنت سيد المهرجانات والمحافل إن شاركت فيها بحضورك المهيب, وشخصيتك الآسرة, وكم ردّدت أمامي القول الرائع، ومنك حفظته: "ماذا يفيدني احترام الناس كلهم لي إذا كنت لا احترم نفسي" .. وقد قلت لي يوماً: إنني أنام بمجرد أن أضع رأسي على الوسادة إذ لا شيء يثقل ضميري... أنا أفخر أنك أستاذي, وقد لا يكون ذلك مهماً, فحتى الفاشلون من الطلبة حينما يكون أستاذهم كبيراً, وموضع احترام الآخرين وتقديرهم, سيقولون بفخر إنه أستاذنا, ولكن ( المفخرة) الحقيقية هي أن يقول الأستاذ الكبير: " فلان تلميذي" , وقد منحتني هذا الفخر, وأنت تحرص على تقديمي إلى أصدقائك, بل أساتذتك بعد تخرجي مباشرةً, فقد أمسكت بيدي يوماً, وقلت لي تعال معي, وفاجأتني أن قدمتني إلى الأستاذ الدكتور علي جواد الطاهر, والأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائي - رحمهما الله- وكم تعرفت بفضلك على أساتذة كبار, وأدباء لامعين هم أصدقاؤك، وأهلُ ودِّك, وكنت تردد أمامهم ما يشير إلى أنك تنتظر أن يكون لي شأن في يومٍ ما... وقبل هذا وبعده فتحت لي قلبك، وعقلك، وأدخلتني بيتك معززاً مكرماً، فهل( فخرٌ) أكبر من هذا؟!!
فقال لي- وقد هدأ إلى حد كبير, وصار ينظر إليَّ مبتسماً, والكلمات تتلاحق بسرعة كأني أريد أن أقول كل شيء دفعة واحدة خوف أن يقاطعني-: أولاً هذا حقك، فأنت (ولد) نجيب, و(ابن أوادم)!.. واهتمامي بك، وبغيرك من الطلبة النابهين هو من صلب واجبي العلمي، والأخلاقي.. ولأني أتحدث إليك وحدك, وفي بيتي, فسأقول لك بصدق: إنّه واجبي (الوطني)، فمن للعراق غير الشرفاء من أبنائه المثقفين، ومن سينهض به يوماً بعد هذا الخراب غيركم؟!.. وثانياً ما علاقة هذا بموضوعنا؟! فقلت: حين أعمل في جريدة (القادسية), أو في مجلة( حراس الوطن) محرراً, فسأضطر إلى تمجيد سلطة القتل, وتزييف الحقيقة, وتشويه وعي الناس فيما أكتبه، وستكون مقالاتي لافتة للنظر, ولا شك, ( فأنا تلميذك!!), ولكن حين يُقال لك: إن فلاناً يكتب مقالات (رائعة) في تلك المجلة، أو الجريدة, فهل ستقول بمحبة واعتزاز: إنه تلميذي!... ثمّ - ولن أقول شيئا آخر بعد هذا- لقد سمعتك مرةً تتحدث عن موقف الشيخ( أبو الأعلى المودودي) – رحمه الله- يوم محاكمته العلنية التي انتهى فيها القاضي إلى حكمه بالإعدام، وسيُنفذ الحكم إلا إذا كتب الشيخ( استرحاماً) لحاكم بلاده الظالم كي يعفو عنه، وكان هذا الشرط من الحاكم نفسه( ليسقط) الشيخ أمام تلاميذه، ومريديه حتى يُظهره خائفاً من الموت يستجدي الحياة ممن يدعوهم إلى الثورة عليه, فرفض( المودودي) ذلك, والتفت إلى أهل بيته والمقربين من أتباعه ليقسم عليهم أن لا يفعلوا ذلك نيابة عنه, وهو يقول لهم: إن الموت شيء يتقرر في السماء, فلو اجتمعتم على منحي لحظة حياة واحدة حين يريد الله موتي, فلن تستطيعوا ذلك, ولو أجمع الناس جميعاً على موتي في غير يوم كتبه الله لما استطاعوا ذلك ابدآ!!
فأخذ أستاذي يرد: نعم.. نعم.. كان موقفاً عظيماً!! وكان يتطلع إلي بزهو الأب يرى( ولده) وقد صار( رجلاً) يمكن الاعتماد عليه.. وكان قد تحرر من(مشاعر) اللحظة, واستعاد السيطرة على زمام الأمور أستاذاً, وهو يقول: مَن بقي من شبابنا يا كريم؟ وإلى أين يدفع( الحقراء) بهذا البلد؟ لقد أنساني خوفي عليك ما تقول، ونحن بشر تحكمنا عواطفنا، وعلى كل حال, فليس كل من ذهب إلى الجبهة قُتل هناك.. اذهب..! فالله خيرٌ حافظا وهو ارحم الراحمين... واحرص على أن تظل موضع اعتزازي، وثقة محبيك!
(7)
كان الدكتور علي عباس علوان لطلابه- ولا يزال- أستاذاً, وأباً, وأخاً, وصديقاً, وسأذكر هذين الموقفين فقط مما يدل على ذلك.. فأما الأول فيتعلق بنا- أنا، وثائر العذاري، وهو من النقاد المعروفين اليوم, وأستاذ متميز في جامعة واسط - وكنا من طلابه المقربين, وكان ثائر يعاني من ضعف البصر يداريه بإرادة صلبة, وهو أحوج إلى من يرعاه, ويؤازره لتستقيم حياته, ولكن ذلك ليس مما نتحدث فيه أبداً، ويوم تخرجنا قال لنا أستاذنا: ثائر.. عليك أن تتزوج قبل التفكير بالدراسات العليا!.. أما أنت يا كريم، فأكمل دراستك أولاً، ثم تزوج!! كان ينظر إلينا بعناية الأستاذ, ومحبة الصديق، وحنو الأب، وهو يهتم بأدق شؤون حياتنا!
وأما الآخر: فهو أني غادرت العراق في منتصف التسعينيات، ولم ألتق أستاذي أكثر من عشر سنوات، وحين عودتي ذهبت للقائه في البصرة، وهو رئيس جامعتها، تطلع إلي بعد دقائق من جلوسي إلى جانبه، وسألني ما هذه النقطة السوداء فوق عينك؟.. وكان ما يشبه الخال( الشامة) قد تشكل قبل سنتين فوق جفن عيني اليمنى، ولا أعرف كيف ظهر، وما تأثيره- ولا تأثير له حتى الآن!- فقلت له: ظهر هذا السواد قبل مدة...فقال لي: حاول أن لا تعبث به!! ولم ألمح في سؤاله دقة ملاحظة (الناقد)، بل رعاية( الأب) الذي يحفظ قسمات وجوه أبنائه، وأقسم أن أحداً لم يلتفت إلى ذلك الخال حين عودتي غيره.. ومما يدعوني إلى التأثر حد البكاء حين أذكر ذلك، أنه حين زيارتي له في ذلك اليوم كان يعاني ألمًاً بسبب أزمة قلبية، ولكنه أخفى ذلك عني، وأخبرني نجله(خالد)بذلك، وقد عافاه الله الآن بعد إجراء عملية جراحية، وهو بأتم الصحة، والحمد لله!
(8)
لم أتطرق إلى مواقف تظهر شخصيته التي تجمع بين الصلابة التي تفرض هيبةً، واللطف الذي يجعل له حضورا محبباً، ولم أتكلم على قدرته العجيبة في شد الآخرين إليه، فلا يملك من يتعرف عليه إلا تعلقا ًبه، إذ لا يسع المجال لذلك، فما هذه المقالة إلا سطور من أوراق الذكريات التي تؤلف سجلا كبيراً، وأمل أن تنشر تلك الأوراق مع وقفة متأنية مع شخصيته ناقداً للكشف عن منهجه في مقاربة الإبداع، ورؤاه النقدية في كتاب سننجزه قريباً- إن شاء الله تعالى- أنا، وصديقي الدكتور ثائر العذاري وفاءً لأستاذنا، وإنصافاً له ناقداً متجدد الرؤى، دائم المتابعة للجديد.
أطال الله عمر أستاذنا الدكتور علي عباس علوان، وحفظه وجميع أساتذتنا الطيبين من كل مكروه!



#كريم_المسعودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لغة القصيدة وشعرية المعنى
- إقبال والليل والبحث عن وطن الذات


المزيد.....




- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...
- فنانة لبنانية شهيرة تتبرع بفساتينها من أجل فقراء مصر
- بجودة عالية الدقة: تردد قناة روتانا سينما 2024 Rotana Cinema ...
- NEW تردد قناة بطوط للأطفال 2024 العارضة لأحدث أفلام ديزنى ال ...
- فيلم -حرب أهلية- يواصل تصدّر شباك التذاكر الأميركي ويحقق 11 ...
- الجامعة العربية تشهد انطلاق مؤتمر الثقافة الإعلامية والمعلوم ...
- مسلسل طائر الرفراف الحلقة 67 مترجمة على موقع قصة عشق.. تردد ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كريم المسعودي - سطور من أوراق الذكريات/مع الأستاذ الدكتور علي عباس علوان