أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - الحسين أخدوش - مسألة التوفيق بين أفلاطون وأرسطو عند الفارابي















المزيد.....


مسألة التوفيق بين أفلاطون وأرسطو عند الفارابي


الحسين أخدوش

الحوار المتمدن-العدد: 3039 - 2010 / 6 / 19 - 09:30
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


لطالما عرف عن الفارابي أنه قام بمحاولة التوفيق بين الفلسفة والملة، غير أن ذلك لم يكن ليتحقق دون التوفيق بين أفلاطون الإلهي وأرسطو طاليس الطبيعي . فقد جمع بين رأييهما في منظومة فلسفية واحدة ( الحكمة )، تسمح له بمطابقتها مع الملة الفاضلة. لهذا الغرض كتب الفارابي كتابا سماه (الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطو طاليس الطبيعي)، يصور فيه جهده وعمله العقلي في الجمع بين الآراء الفلسفية بين الفيلسوفين اليونانيين.
وقد خص الفارابي كذلك كتبا ورسائل أخرى لأرائه الفلسفية التوفيقية، نذكر منها: (أراء أهل المدينة الفاضلة)، و(السياسات المدنية) و(فصوص الحكم)، إلى جانب العديد من الرسائل الفلسفية الأخرى: كرسالته (في العقل)، ورسالة (فيما ينبغي أن يقدم في تعلم الفلسفة)...وغيرها من الرسائل والكتب الفلسفية الأخرى.
ولعل ما ينبغي ألا يغفل هنا، هو أن عموم فلسفة الفارابي إنما هي مرتبطة بحركة الترجمة أشد الارتباط، فقد اعتمد ترجمات بعض مدارس الترجمة في العراق وبلاد فارس ومدرسة الإسكندرية. وهناك أثر واضح لهذه الترجمة على مواقفه المشائية، خصوصا فيما يتعلق بمسألة التوفيق، وتصوراته للفلسفة ومكانتها في المجتمع، وكذا نظريته في الفيض. فأين تتجلى تأثيرات أفلاطون وأرسطو على الفارابي فيما يخص نظرية التوفيق؟
للجواب عن هذا السؤال، يلزمنا أن نعرض تصور الفارابي للتوفيق. فهو يصرح بهذا الصدد: " أما بعد فإني لما رأيت أكثر أهل زماننا قد خاضوا وتنازعوا في حدوث العالم وقدمه، وادعوا أن بين الحكيمين المقدمين المبرزين اختلافا في إثبات المبدع الأول، وفي وجود الأسباب منه، وفي أمر النفس والتعقل، وفي المجازات على الأفعال خيرها وشرها، وفي كثير من الأمور المدنية والخلقية والمنطقية أردت في مقالتي هذه أن أشرع في الجمع بين رأيهما، والإبانة عما يدل عليه فحوى قوليهما، ليظهر الاتفاق بين ما كانا يعتقدانه، ويزول الشك والارتياب عن قلوب الناظرين في كتبهما."
يعلن الفارابي في هذا النص، وبشكل واضح، أن غرضه من بحث التوفيق بين الفيلسوفين، يكمن في إبراز الخطأ الذي يقع فيه الرأي القائل باختلاف فلسفة أرسطو عن أستاذه أفلاطون في عدة مسائل: إثبات الخالق، مسألة النفس والتعقل، إضافة إلى المسائل الخلقية والمدنية الأخرى. و لبسط هذا الأمر، نقترح أن نعرض رأيه للتوفيق من خلال تصوراته للوجود.
• رأي الفارابي في الوجود.
لقد استقى الفارابي تصوراته للإلهيات من الأنطولوجيا الأفلاطونية والأرسطية معا، فأدرك الإختلاف الحاصل بين الإثنين بخصوص مفهوم الوجود، الذي يعتبره أرسطو محور الإسناد في المنطق والنحو، ومدار التغيرات التي تلحق بأعراض الموجودات دون أن تلحق بجوهرها، مما يستدعي نظرية المقولات؛ بينما كان أفلاطون يعتبر الوجود مترتب عن نظرية المثل التي ستتحول لذيه إلى نظرية في الصور. فكما أن الحركة والسكون مثلا كلاهما يتجمع مع الوجود ( كلا منهما يوجود وجودا حقيقيا)، كذلك فإن كل واحد منهما مختلف عن الأخر ومماثل لذاته. إن المماثلة والإختلاف يسريان على كل شيء، شأنهما شأن الوجود. ولهذا سيميز أفلاطون في الوجود بين استخدامه في القضية والحكم (الجملة) كرابطة، واستخدامه كانطولوجيا (المثل). غير أنه لم يكن الغرض من هذا التقسيم عنده هو العلم (لأن طريق العلم لذيه هو الجدل)، عكس أرسطو الذي سيحتفظ بهذا التقسيم لصالح نظرية البرهان التي تؤسس للعلم الحقيقي (المادة والصورة مع أفضلية الصورة)، وهذا هو جوهر خلافهما الذي سيعمل الفارابي على اصلاحه.
1. رأيه في ممكن الوجود.
يناقش الفارابي ممكن الوجود في إطار حديثه عن العالم والخالق له، وفي هذا السياق يحدد الممكن وجوده بالماهية المعلولة، التي يخصها بالخصائص التالية:
- إنها في حد ذاتها ممكنة، وتجب بشرط مبدئها، كما تتمتع بشرط لا مبدئها.
- وهي في حد ذاتها هالكة، ومن الجهة المنسوبة إلى مبدئها واجبة ضرورة.
- وهي لا يمتنع وجودها في ذاتها، وإلا لم تكن معلولة.
يخلص الفارابي من هذه الخصائص بنتيجة، تفيذ أن وجود أو بقاء ممكن الوجود، يكون بسبب واجب الوجود بذاته، لأنه من حيث ذاته غير قائم. وقد جائت نظريته في هذا المجال منسجمة مع مذهب أرسطو في الإلهيات ، ثم بين وجود الواجب الوجود المحض الذي وجوده علة وجود كافة الموجودات العلوية والسفلية، وممكن الوجود. فما هو رأيه في واجب الوجود؟
2. رأيه في واجب الوجود.
ينطلق الفارابي من تصور أرسطي ميتافيزيقي يقضي بأن وجود الأول، هو علة وجود باقي الكائنات الأخرى. ولهذا يعتبر وجود الأول، بمثابة واجب الوجود، وهو بذاته لا بغيره، أي أنه علة ذاته. إنه يتميز بمجموعة من الصفات الجائزة في حقه :
- فهو غير مادي، وهذا ما يلزم عنه القول بأنه جوهر.
- وبما أنه الأول، فهذا يلزم عنه القول بأنه قديم.
- ولما لزم القول عنه أنه قديم، لزم أن نقول عنه، أنه موجود بذاته لا بغيره.
- ويلزم كذلك أن نقول عنه بأنه لا يتحرك، وإلا كانت حركته علة له ولحركته.
- أما وكونه أوّلا، فلزم القول عنه كذلك، أنه لا يوجد من عدم، ولا عن كائن سابق له، ولا أدنى منه. فإذن ليست له علة فاعلة.
- أما وكونه أولا كذلك، فيستحيل وجوده مع ضده، لأن الضدين، يستطيع أن يؤثر كل واحد منهما على الأخر. والذي يبطل، ليس قائما بذاته، بل حادثا بغيره.
- أما وأنه أوّل، فلا يمكن تحديده أو تعريفه، لأنه في غاية البساطة، ولأنه ليس بجسم ولا منقسم.
تعتبر هذه الخصائص التي يتصف بها وجود الأول مقدمات عامة، يستخلص منها الفارابي نتائج أخرى نجملها فيما يلي:
- يترتب عن القول بأن الأول غير مادي، أنه جوهر وعقل بالفعل، لأن المادة هي التي تمنع الصورة من أن تكون عقلا بالفعل، ومعقولة بالفعل.
- ويترتب عن القول بكون واجب الوجود يعقل ذاته، أنه عقل وعاقل ومعقول. أما وكونه عقل، فلأنه حين يعقل ذاته يصبح علما. أما وكونه عاقل، فلأن علمه هو جوهره. وأما وكونه معقولا فلأنه حق، وهو موجود لأنه الحياة.
- ويترتب أيضا عن القول بأن الأول واحد متوحد بذاته، أن الصفات التي ننسبها نحن إليه لا تدل على تعدد فيه، بل هي وحدة مطلقة. فنسبة الصفات المتعددة إليه لا يعني أن فيه كثرة، لأن هذه الصفات لا تدل إلا على جوهر واحد، مطلق الكمال.
- كما يترتب عن القول بأنه مطلق الكمال، أنه غير محتاج إلى غيره، من جهة تفرده بذاته، ثم لأن لا كثرة فيه سوى صفاته.
- يترتب كذلك عن القول بأنه العاشق والمعشوق، أنه لا يعشق إلا ذاته، لأنه كمال مطلق ولا يحتاج إلى غيره، في حين يحتاج إليه غيره.
يمكن القول، من خلال خصائص ممكن الوجود وواجب الوجود، أن الفارابي إنما كان يستعيير منظور أرسطو في ضرورة القول بوجود الممكن بسبب واجب الوجود الممكن بذاته، فهذا مذهبه في نظرية الجوهر ، فواحد منهما معلول للآخر في وجوده. وهذا يتوافق كثيرا مع الصلة الموجودة بين الخالق والمخلوقات في الدين.
• رأيه في إدراك واجب الوجود.
إذا كانت المعرفة بواجب الوجود تتناسب ودرجة كمال الشيء الذي نعقله، وإذا كان هذا الأول كمالا مطلقا، وكانت عقول البشر متصلة بالمادة، وهو غير متصل بها؛ فإن القول بتعقله لا يكون إلا إذا تجردت عقول الناس عن المادة. إذن، فالقادر على تعقل هذا الأول، هو المتجرد من المادة والظافر بلذة التأمل، وسعادة النظر العقلي، وهذا لا يتأتى إلا للفيلسوف الذي يسمو بعقله، ويعتنق الفكر المجرد لأجل أن يظفر بلذة إدراك الأول.
1. رأيه في الفيض واتصاله بواجب الوجود .
بما أن الأول يعتبر مبدأ وجود الموجودات، فإن هذه الموجودات محكومة بوجوده من حيث كونها تفيض منه، ويعتبر فيضها منه هذا قديما قدم هذا الأخير. ولأنها قديمة معه، فإنها متصلة ببعضها البعض، وصادر بعضها عن البعض. وقد ربط الفارابي صدور العقل الثاني بالأول ربطا منطقيا، حيث يفيض منه لزوما مما يجعله ( أي العقل الثاني ) جوهرا لا ماديا، وعقلا خالصا، يعقل ذاته ويعقل "الأول".
تصدر من هذا التعقل المزدوج باقي العقول والأفلاك الثابتة، والمتحركة، وعددها سبعة: زحل، المشتري، المريخ، الشمس، الزهرة، عطارد، القمر؛ وكل هذه العقول ليست مادية، وليس لها ضد، إذ للضد مادة مشتركة بينه وبين ضده. ويعتبر كل عقل من هذه العقول فريدا من نوعه، لأن من شأن الاشتراك في النوع الواحد أن يكون ماديا.
فأجسام الأفلاك، حسب الفارابي، لا ضد لها وهي من عنصر غير فاسد؛ أما سعادتها فتكمن في تعقل ذاتها والأول معا. أما بخصوص عناصر عالم الكون والفساد، فإنها تابعة لعالم مادون فلك القمر الذي توجد فيه الأجسام المختلفة: النبات والحيوانات، والإنسان..وكلها قابلة للفساد الذاتي، مع استمرار النوع الذي هو أفراده .
يلاحظ هنا أن الفارابي يربط لزوما بين هذه العقول وبين "الأول"، فيسلم بأن وجود "الأول" الذي هو "واجب الوجود"، هو مصدر وعلة وجود باقي العقول التي يصدر عنها بدورها وجود باقي الكائنات الأخرى. ويأخذ هذه النظرية من أرسطو، وهي في الحقيقة تصور منطقي لمسألة التولد ومشكلة الحركة. فحسب أرسطو يتعذر تصور وجود الوجود من العدم، ولهذا وضع هذا الفيلسوف مسلمة وجود الأول الذي يفيض عنه الوجود ومن ثم يفيض كل كائن من كائن أخر وهذا ما يسمى بالتولد. فكيف يمكن أن يفيض من الكائن الوحيد البسيط، المتعدد المتكثر؟
إن طريقة صدور الكثرة عن واجب الوجود الواحد، هي أن واجب الوجود باعتبار أنه عقل، يعقل ذاته أولا، وعن تعقله لذاته الواحدة ينشأ العقل الأول. حينئذ يصبح هناك مع واجب الوجود بذاته، واجب الوجود بغيره، وهو العقل الأول. ويعقل العقل الأول واجب الوجود وذاته معا، وعن طريق هذا التعقل ينشأ عقل ثان، كما ينشأ من تعقله لذاته الفلك الأول. أما العقل الثاني فيعقل العقل الأول قبله، ويعقل ذاته، كما يعقل الفلك الأول. وعن طريق تعقله للعقل الأول ينشأ عقل ثالث. وعن طريق تعقله لذاته تنشأ نفس الفلك الثاني، وعن طريق تعقله للفلك الأول ينشأ جرم الفلك الثاني. ويستمر الأمر في نشأة العقول، والأفلاك بنفوسها وأجرامها على هذا النحو، إلى أن تصل العقول إلى العقل الفعال، وتصل الأفلاك إلى فلك القمر.
يحرص الفارابي هنا على استثمار تصورات أرسطو في نظرية العقل الفعال، محاولا التوفيق بينها ومسألة خلق العالم. فمن المعلوم عند أرسطو أن الوجود من العدم مستحيل منطقيا، فهو يؤمن بأن الصلة بين العلة والمعلول لابد أن تكون ضرورية. ولتفادي هذا المشكل عمل الفارابي على صياغة نظرية الفيض تماشيا مع أرسطو، فاعتبر أنه من الواحد القديم البسيط يفيض كائن بسيط هو العقل، وهو حادث بالتبعية له، دون أن يعني ذلك أنه مخلوق في الزمان لأنه تابع للأول منذ الأزل، لهذا فالعقل الثاني قديم في الزمان قدم الأول.
ويحاول الفارابي هنا التوفيق بين نظرية الفيض ومسألة الخلق كما هي واردة في النص الديني الإسلامي، اعتقادا منه أن هذا الحل يرضي المنطق الأرسطي القائل بالتلازم بين العلة والمعلول، والمعتقد الإسلامي القائل بالخلق من العدم . فأرسطو يرى أن واجب الوجود بذاته عقل، وأن صدور الممكن عنه يكون عن طريق التعقل. فواجب الوجود بذاته واحد من كل وجه، والكثرة في الوجود تكون بعد ذاته، فهي كثرة الممكن.
2. رأيه في التوفيق واتصاله بواجب الوجود.
حاول الفارابي أن يوفق بين الملة والفلسفة، فسعى في سبيل ذلك إلى تقريب فلسفة أفلاطون الإلهية - باعتبارها محاولة لتقريب المسافة بين الواحد المجرد عن المادة (المثل) وبين العالم الطبيعي المادي الحسي المتكثر والمتغير- وفلسفة أرسطو الطبيعية من جهة، وبين الحكمة والإسلام من جهة أخرى. وتعتبر هذه المشكلة إحدى أعوص الإشكالات الفلسفية التي تعرضت لها الفلسفة اليونانية، وهي إشكالية رد الكثرة إلى الوحدة، أو بمعنى أخر مشكلة الصلة بين الله والعالم.
ففي نظر الفارابي، يكمن فهم إشكالية الصلة بين العالم والخالق، في فهم كيف نتصور الإمكان أو الماهية في الذهن؛ فمتى تصورنا في الذهن أن هذا الأصل مرتبط بتصور "الواجب" الذي لم يسبق بإمكان، فإن وجود العالم لن يكون متأخرا بزمان عن واجب الوجود .
ويمكن تلخيص موقف الفارابي بخصوص هذا الإشكال بالقول أن العالم محدث بدون سبق زمان، أو هو قديم بالزمان وحادث في الوقوع، بمعنى أن وقوعه من غيره وليس من ذاته. وقد خرج الفارابي بهذه الخلاصة إرضاء للدين والفلسفة معا، وهذا هو جوهر توفيقه بين الاثنين.
إذن، فالكل (الكثرة) صادر عن الواحد (الخالق)، الذي يعتبر علمه بمثابة قدرته العظيمة؛ وهو علة الأشياء جميعها بعلمه بما يجب عنه. وكما عنده منذ الأزل صور الأشياء ومثلها، فإنه يفيض عنه منذ الأزل مثاله المسمى بالوجود الثاني أو العقل الأول، وهو الذي يحرك الفلك الأكبر. وتأتي بعده عقول الأفلاك الثمانية تباعا، فيصدر بعضها عن البعض؛ وكل واحد منها نوع على حدة. وهذه العقول هي التي تصدر عنها الأجرام السماوية والعقول التسعة مجتمعة، وتسمى ملائكة السماء، وهي عبارة عن مرتبة الوجود الثانية؛ أما المرتبة الثالثة فيوجد فيها العقل الفعال في الإنسان، وهو المسمى روح القدس الذي يصل العالم العلوي بالسفلي.
يقول الفارابي في كتاب السياسة المدنية: "..منزلة العقل الفعال من الإنسان منزلة الشمس من البصر. فكما أن الشمس تعطي البصر الضوء، فيصير المبصر بالضوء الذي استفاده من الشمس مبصرا بالفعل، بعد أن كان مبصرا بالقوة، وبذلك الضوء يبصر الشمس نفسها التي هي السبب في أن أبصر بالفعل. وبالضوء أيضا تصير الألوان التي هي مرئية بالقوة مرئية بالفعل، ويصير البصر الذي هو بالقوة بصرا بالفعل. كذلك العقل الفعال يفيد الإنسان شيئا يرسمه في قوته الناطقة، منزلة ذلك الشيء، من النفس الناطقة منزلة الضوء من البصر. فبذلك الشيء تعقل النفس الناطقة العقل الفعال، وبه تصير الأشياء، التي هي معقولة بالقوة معقولة بالفعل. وبه يصير الإنسان، الذي هو عقل بالقوة عقلا بالفعل والكمال إلى أن يصير في قرب من مرتبة العقل الفعال، فيصير عقلا بذاته بعد أن لم يكن كذلك، ومعقولا بذاته بعد أن لم يكن كذلك، ويصير إلهيا بعد أن كان هيولانيا. وهذا هو فعل العقل الفعال، ولها سمي العقل الفعال".
إذن يكون العقل الفعال موضوع إدراك الإنسان، فيتيح له ذلك أن يكون عقله مستفادا من العقل الفعال. وهذا العقل المستفاد خالد بخلود الأول.
يظهر من هذه النظرية أن الفارابي يقول بقدم العالم، فهو يصرح بأنه من الله يصدر ومنذ الأزل مثاله المسمى بالوجود الثاني. ويحدد هذا الوجود في العقل الأول، وأنه لم يزل مع الله ومعلولا له ومتساوقا معه؛ فهو غير متأخر عنه بالزمان، بل متساوق له مساوقة المعلول للعلة، وهذا رأي أرسطو الصريح في المسألة.
ولئن كان الفارابي يستدرك على هذا القول الصريح بقدم العالم، بقوله أن تقدم الله على العالم إنما على نحو تقدم العلة على المعلول، وهو تقدم بالذات والرتبة وليس تقدما بالزمان؛ فإنه بذلك يخرج عن مبدأ عدم التلازم بين العلة والمعلول الذي ينبني عليه المعتقد الديني الإسلامي (الخلق من عدم)، وهنا يظهر الأثر الأفلاطوني والأرسطي في نظرية الفيض لدى الفارابي.
إذن يمكن رد تصور الفارابي لله إلى أفلاطون، وذلك من جهة قوله بأنه علة الأشياء جميعها بعلمه، وامتلاكه منذ الأزل لصور الأشياء ومثلها. لهذا يتمثل الفارابي أراء أفلاطون الإلهية، فيجعل للعالم محدثا ومبدعا أزليا، واجبا بذاته، عالما بجميع معلوماته على نعت الأسباب الكلية، فكان في الأزل ولم يكن في الوجود رسم ولا طلل، إلا "مثالا" عند الباري تعالى، يعبر عنه بالهيولى. يقول الشهرستاني معلقا على هذه الفكرة: "وربما يعبر عنه "بالعنصر"؛ ولعله يشير إلى صور المعلومات في علمه تعالى. قال: فأبدع العقل الأول، وبتوسطه النفس الكلية؛ وقد انبعثت عن العقل انبعاث الصورة في المرآة، وبتوسطهما العنصر".
يزكي الفارابي تصور أفلاطون هذا، عندما يجعل للموجودات صورا في عالم المثل. فهو يعتبر أن العقل البشري يدرك من المحسوس "مثلا" بعد أن يجردها من المادة، فتصبح معقولة ومطابقة للمثل الذي يوجد في عالم العقل بكليته، و ذلك لأن للعقل قدرة على إدراك الصور المعقولة للأشياء المحسوسة.
إذن فالعالم عالمان: - عالم العقل، وفيه "المثل" العقلية والصور الروحانية. - وعالم الحس، وفيه الأشخاص الحسية والصور الجسمانية. إن العناصر في عالم المثل عبارة عن مرآة لجميع صور العالم الحسي؛ غير أن الفرق بين العالمين يكمن في أن المنطبع في عالم الحس هي صور خيالية تتحرك بحركة الأشخاص الحسية، بينما يوجد في مرآة العقل ما هو حقيقي وروحاني، وهو موجود بالفعل وتمتلك الوجود الدائم، ولها الثبات القائم، وهي تتمايز في حقائقها تمايز الأشخاص في ذواتها.
لهذا نجد أفلاطون يدعو إلى تجاوز المعرفة بالحس والمحسوسات، لكونها برأيه محدودة ومحصورة بالزمان والمكان. فالمعرفة الحقة تكون عبارة عما نعرفه بالنفس العاقلة، إدراكا لجميع المعقولات وهي غير محدودة بالزمان والمكان، لأنها صور عقلية تامة. فالنفس عند هذا الأخير، تدرك صفات كلية بالتذكر، كالوجود والعدد والهوية، إضافة إلى الصفات العامة التي تتضمنها الأخلاق والفن، لهذا ليس من الممكن أن نصف المعرفة بأنها إدراك حسي، لأن مصدر الحكم بالصواب والخطأ هو النفس، والمعرفة حكم صائب مدعوم بالبرهان، فبدون البرهان ليس هناك معرفة حقيقية.
يقتفي الفارابي تصور أفلاطون هذا، بما يتماشى وآراءه التوفيقية، غير أنه يتخلى عن نظرية تذكر المعرفة لصالح نظرية أرسطو في الصورة والمادة. فالإنسان لا يتذكر المعرفة بشكل حدسي كما يزعم أفلاطون، بل بشكل إرادي، لأن الإرادة تجعل الإنسان يستدعي أفكاره بصورة متشابهة ومترابطة؛ فهو في شقه المادي ( الجسد ) مأسور بالحس، لكن بواسطة قوته العقلية ( النفس )، التي يستشرف بها الكمالات المعرفية، يستطيع الحصول على السعادة المعرفية.
هناك إدراك باطني يحاول عن طريقه كل إنسان أن يتجرد من الصورة المادية، فتصبح معرفته تجريدية ذهنية، تحفظ جواهر الأشياء بعدما أن تنزع منها صفاتها المحدودة مثل الألوان، حيث يدركها الإنسان كمفهوم مجرد بعد أن يدركها حسيا بحاسته البصرية. فالعقل البشري عقل بالقوة، إذ توجد فيه المعرفة مجردة ثم تنطلق نحو الحس، أي من المعاني المجردة نحو الظواهر الحسية، فقد أكد أرسطو في كتاب البرهان أن الكليات شيء يجمعه الذهن من الجزئيات. لذلك، حسب أرسطو، لا نرى أفلاطون الإنسان بعقلنا، بل نرى الإنسان الذي هو في أفلاطون، فلا وجود للمعقولات إلا في الذهن، وهذا عكس ما يقوله أفلاطون في نظرية المثل والتذكر.
خاتمة.
يتضح مما سبق أن الفارابي يفسر نظرية الوجود تفسيرا أفلاطونيا، بإثبات تقدم المثل على المثولات وجودا، وأدائها لدور النماذج؛ بينما يفسر نظرية المعرفة تفسيرا أرسطيا، نافيا أن تكون تذكرا . وبذلك يكون أرسطيا في المعرفة، لأن أرسطو يقول أن الكليات العقلية شيء يجمعه الذهن من الجزئيات، من خلال اعتبار التشابه بين الجزئيات التي تجعله معنى واحدا، ثم يصبح أفلاطونيا في نظرية الوجود ( الانطولوجيا ). وهذه هي أبرز المشكلات التي أوقعه فيها التوفيق بين الاثنين، ربما كنتيجة لما جره عليه كتاب أثولوجيا (المنسوب خطأ لأرسطو) من سوء الفهم والتأويل.



#الحسين_أخدوش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تركة الجابري


المزيد.....




- نهشا المعدن بأنيابهما الحادة.. شاهد ما فعله كلبان طاردا قطة ...
- وسط موجة مقلقة من -كسر العظام-.. بورتوريكو تعلن وباء حمى الض ...
- بعد 62 عاما.. إقلاع آخر طائرة تحمل خطابات بريد محلي بألمانيا ...
- روديغر يدافع عن اتخاذه إجراء قانونيا ضد منتقدي منشوره
- للحد من الشذوذ.. معسكر أمريكي لتنمية -الرجولة- في 3 أيام! ف ...
- قرود البابون تكشف عن بلاد -بونت- المفقودة!
- مصر.. إقامة صلاة المغرب في كنيسة بالصعيد (فيديو)
- مصادر لـRT: الحكومة الفلسطينية ستؤدي اليمين الدستورية الأحد ...
- دراسة: العالم سيخسر -ثانية كبيسة- في غضون 5 سنوات بسبب دوران ...
- صورة مذهلة للثقب الأسود في قلب مجرتنا


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - الحسين أخدوش - مسألة التوفيق بين أفلاطون وأرسطو عند الفارابي