أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عمر أبو رصاع - قراءة حول إشكالية النهضة في الخطاب المعاصر















المزيد.....


قراءة حول إشكالية النهضة في الخطاب المعاصر


عمر أبو رصاع

الحوار المتمدن-العدد: 903 - 2004 / 7 / 23 - 12:27
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تقتضي الضرورة المنهجية كما أرى أن يكون سؤالنا الاستهلالي عن ماهية النهضة، أي ما هي النهضة؟
النهضة إذا ما أردنا استخدام التعبير الماركسي وفق قانون الجدل "الديالكتيك" يمكن أن تعرف بأنها ذلك التغير النوعي في التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الناجم عن بلوغ التراكمات الكمية الناتجة عن التناقض الداخلي لأسلوب الإنتاج للمعيار الذي يؤدي بلوغه إلى نقلنا كليا إلى تشكيلة اجتماعية اقتصادية جديدة ، لنعيد ترتيب ذلك بلغة ابسط فنقول : النهضة هي نقلة نوعية تحوي تغيرا جذريا في الواقع الاقتصادي الاجتماعي بحيث تتغير أساليب الإنتاج الاقتصادي بما تتضمنه من طرائق ومواد وتقنيات وعلاقات إنتاج وأشكال ملكية ……الخ وهذا ما يسمى بالتغير في البناء التحتي ، وكذلك بالضرورة تغير عالم الأفكار والقيم والعادات والقوانين والأنظمة السياسية……الخ وهذا ما نسميه التغير في البناء الفوقي ، ماركسيا المحرك الحقيقي هو البناء التحتي بتناقضه الكامن وتفاعلاته جدله أو صراعه ؛ بدقة اكبر تطوره الناجم عن تفاعل تناقضه الداخلي دون إغفال التفاعل التبادلي مع البناء الفوقي وأهميته ، لكن الأساس والمحرك أو دينامو التطور هو أسلوب الإنتاج ، أما هيغل-هيغل كما نعلم هو مؤسس جدل "ديالكتيك" الأفكار وهو السباق في توظيف الفهم الجدلي للتطور- فيرى عكس ما يراه ماركس أي أن دينامو التطور عنده هو البناء الفوقي أي أن التطور يأتي نتيجة التفاعل التناقضي بين الفكرة ونقيضها أما العالم المادي أو البناء التحتي فتطوره يأتي كنتيجة لهذا التطور في البناء الفوقي ، عموما إن أي فهم للنهضة لن يخرج في جوهره عن تطوير البناءين الفوقي والتحتي اللذان ذكرناهما فمن أي منطلق تحليلي انطلقنا لا اعتقد أن خلافا جذريا حول ماهية النهضة قد يثور أمامنا سواء كانت نظرتنا التحليلية هيغلية أو ماركسية ، ولكن ما يثور في الذهن ونحن نطالع واقعنا العربي هو أين يمكن أن نصنف من يطلق عليهم في الخطاب المعاصر الإسلاميين ، هل ينطبق عليهم كونهم مثاليون وفق التصنيف الماركسي ما ينطبق على الهيغليين ؟
إذا ما أخضعنا سؤالنا السابق لمفهومنا للرؤية الجدلية قلنا أنه لا يمكننا أن نصنف هؤلاء ضمن أهل المدارس الجدلية لسبب واضح تماما هو أن الجدليين سواء كانوا من مدرسة الجدل المثالي الهيغلي أو مدرسة الجدل المادي الماركسي يربطون بين البناءين الفوقي
والتحتي ، أي أنهم ينظرون إلى التاريخ نظرة تطورية جدلية بصرف النظر عن محرك
التاريخ ، علّني اجعلها أوضح إذا ما قلت أن أهل الجدل "الديالكتيك" يرون أن تاريخ الإنسان هو تاريخ تطور ناجم عن التفاعل بين النقائض التي هي نسيج الأشياء و كل مرحلة من تطوره ترتبط بما بعدها وما قبلها وهي أكثر تطورا مما قبلها وأقل تطورا مما بعدها هذا الترابط العضوي بين البناءين الفوقي والتحتي من جهة والنظر إلى تاريخ الإنسان على أنه حركة تطور تتجه دائما نحو الأمام من جهة أخرى ليس من مسلمات الخطاب الديني الإسلامي الذي نقابله اليوم ، فتطور البناء التحتي المادي ليس عندهم دليلا على تطور البناء الفوقي وبالتالي لا تلازم بين البناءين ، و القرن العشرين عندهم لا يمكن بحال وصفه بأنه أفضل من القرن السابع وبالتالي تاريخ الإنسان ليس حركة تطور تتجه دائما نحو الأمام بل على العكس أنه من مسلماتهم ولا خلاف بينهم على أن البناء الفوقي لمجتمع الصحابة بقيمه وعاداته ونظمه بالضرورة اكثر رقيا من أي بناء فوقي آخر بل يجعلون هذه المسلمة من مستلزمات صحة الإيمان ، بل أنه أي ذلك البناء الفوقي لمجتمع الصحابة القمة التي يمثل بلوغها أسمى الأهداف والدليل الدامغ على ذلك إنها المثال الذي يقاس عندهم عليه ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا خلفه! فما من رأي يحاك إلا بالقياس على ذلك المجتمع ورجحان الرأي وصوابه إنما يكون عندهم بإسناده بحديث أو موقف بدأً بالنبي ومن ثم صحابته……هلم جر ، وكلما ابتعدت زمانيا عن مركز التاريخ وقمته تلك في إسنادك لأرائك كلما ضعفت حجتك وتهافت خطابك وسقط في يدك ! ، بغض النظر أصلاً عن القيمة التي يحملها الرأي .
هذا حقيقة ما دفعنا لأن نبدأ بالتساؤل عن ماهية النهضة ، قد يبدو السؤال للوهلة الأولى ساذجا أو تعريفيا إجرائياً بسيطاً ، لكن المسألة أعمق من ذلك فالنهضة كما يراها الخطاب الإسلامي المعاصر في جوهرها رجوع إلى الدين مع ضرورة التنبيه هنا على أن الدين عندهم هو ذلك الفهم للنص الديني الذي بناه وصاغه فقهاء بعينهم من مدرسة بعينها وفي زمان بعينه ومقتضى التنبيه هنا ألا يلتبس الأمر على القارئ فيخلط بين رفضنا لرؤية ما أصطلح على تسميته بالخطاب الإسلامي المعاصر وبين الإسلام نفسه وهو الالتباس الذي نواجه به من قبل هذا الخطاب الذي يسوي بين الدين وبينه ويطرح نفسه على أساس يقينية رؤيته للدين وبذلك يعتبر رفضك لرؤيته للدين رفضا للدين ذاته شاهرا سلاح التكفير في وجه كل من خالفه ، هذا الخلط الذي يمكن ملاحظته بسهولة من خلال أسلوبه في وصف نفسه ، الأسلوب الذي يكشف عن هذا الخلط المتعمد فهو الشيخ والإمام والسني والأخ المسلم وهو الذي يدعم موقفه بالنصوص الدينية كيفما تكلم وفي أي شيء تحدث وهو الذي يحاول أن يقدم نفسه على أنه الإسلام باتخاذه شكلاً وزياً وطابعاً تحدثنا المرويات أنه كان للنبي وصحابته ، وهو الذي يدعو لمن خالفه بالهداية موحياً أن المتحدث طبعاً ضال عن طريق الحق و جادة الصواب ، وهو الذي متى اتسع لديه الحفظ من قرآن وسنة اتصف بالعالم مع أننا لا نعرف أين هو العلم الذي أضافه أو قدمه ، وهو المنافح الصنديد عن الدين رغم إهداره لكل ما هو إيجابي في الدين الذي يتوهم أنه يحامي عنه ، وهو الذي يخترق بقراءته للتاريخ التاريخ نفسه مستحضراً ومرسلاً أحداثه كيفما ساقه الهوى كأن لا حركة له فهو ماثل قائم في الذهن يعيش في زمن واحد ومكان واحد مهما اختلف المكان أو الزمان ، يقرأ التاريخ قراءة عاطفية مشاعرية وكأنه قصص وسير تملأ النفس بالعجب فهي فوق منطق التاريخ تروم اسطرته وتأليهه ظالمة إنسان التجربة مهدرة إنسانيته مخرجة إياه من بيئته بمكانها وزمانها وبكل معطياتها حائلة دون الوصول إلى قراءة واعية متأنية لهذا التاريخ قراءة تكشف عبقرية المكان والزمان والإنسان في هذه التجربة متيحة الفهم الموضوعي لإنسان ممكن وليس أسطورة لا محل لها إلا ذهنه، ومن هذا الفهم التأليهي لكل ما هو متصل بالتجربة تصبح النهضة كما يراها أصحاب الخطاب الديني المعاصر هي الرجوع إلى الأصول أما الجانب المادي للحياة فيرون أنه من الممكن لأي أمة امتلكت الاشتراطات العلمية أن تتقدم مادياً وهذا عندهم لا يقتضي نهضة حضارية على مستوى المفاهيم والقيم والأفكار والقوانين إلى غير ذلك من تراكيب البناء الفوقي المولود مكتملا عند مجتمع الصحابة سقفا لا يمكن اختراقه ضداً على كل التطور القيمي الذي أنجزه وينجزه الإنسان ، هذا الصراع المفتوح منذ وقت مبكر ، والذي عبر عنه شاعرنا العربي :
إني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تأت به الأوائل
لن نسمح بمعركة وهمية مع التراث نصاً أو تجربة فلن نحاول الخوض في النصوص ولعب دور الفقهاء الشيء الذي يدخلنا في لعبة جدلية بيزنطية تقود إلى الشيء ونقيضه على حد سواء ؛ أنظر مثلاً رأي الفيلسوف الأندلسي ابن رشد الحفيد حول الخلاف في التفسير "… أجمع المسلمون على أنه ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل ، واختلفوا في المؤول منها من غير المؤول "بل أنه يذهب إلى القول "ونحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان و خالفه ظاهر الشرع ، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي" (ابن رشد ، سلسلة التراث الفلسفي العربي مؤلفات ابن رشد 1 ، فصل المقال ، مركز دراسات-بيروت-ص128) ، فليس أسهل من اللعب بالألفاظ لإخضاع النصوص لمقاصدنا وأهوائنا مما يهدر علمية القراءة ، إن إعادة قراءة التراث مسألة في منتهى الأهمية وهي بالإضافة إلى وجوب خضوعها للمناهج العلمية في القراءة التراثية ، يجب أن تكون قراءة بحثية معرفية "إبستمولوجية" تستهدف إخضاع هذا التراث تماما لعملية إعادة إنتاج ، وعلى أساس من التسليم بالقاعدة العلمية الثبات للنص والدوران للعقل المنتج ، ذلك أن النص لا ينطق الدلالة إلا من خلال العقل المستدل ، وإن كان النص من حيث هو نص ثابتاً فإن العقل المتلقي لا محالا دائراً بمعنى متحركاً ، ولما كانت الدلالة أي دلالة النص لا تتحقق إلا من خلال الفضاء المعرفي للمتلقي ، فإن ثباتها مستحيل طالما كان الفضاء المعرفي للإنسان المتلقي متطوراً متغيراً ، هكذا ينعكس التغير المستمر في بيئة العقل المتلقي بالضرورة تغيرا في نتائج القراءة لذات النص والنتيجة ثبات النص وتحول الدلالة الدائم ، ولا نزعم هنا أننا أصحاب نظرية جديدة في فلسفة القراءة والتأويل فنظرة موضوعية في علم نقد النص كافية للوصول إلى هذه النتيجة، ولو أننا طالعنا الفارق البين بين القراءات المختلفة للنص الديني للاحظنا بوضوح الفارق الاستنتاجي الضخم الذي لا يمكن التغاضي عنه، سواء كان ذلك ناجما عن تغير العقلانية الطبيعي والناتج عن التطور التاريخي أو ناتج عن المنطلقات المرتبطة أيضاً بهذا الواقع المادي الموضوعي وصراعاته .
عندما وصف ماركس الدين بأنه أفيون الشعوب ، بالتأكيد كان يعني استخدامه المؤسسي قراءته و توظيفه ، فالدين ابن البيئة ملتصق بها وليس معزولاً عنها وهو ظاهرة زمكانية أي زمانية مكانية ، وأياً كان الموقف من مصدره فما لا خلاف عليه أنه تجربة لامست وحاكت الواقع ولا سبيل إلى قراءتها إلى من خلاله ، كان هيغل يرد على من يتهمه بنقض الأسس الدينية بأنه من خلال فلسفته يحاول إنقاذ أسس المسيحية وأخلاقها ، ولسنا هنا في مجال تقيم فلسفة هيغل أو الحكم عليها لكن يهمنا هنا أن نصف هذا العمل الهيغلي بأنه قراءة تعيد إنتاج المسيحية ، ودائماً هناك قراءة تعتمد على طبيعة الدين المرنة أقصد كنظام دلالي تعيد إنتاجه في ضوء واقعها ، في التاريخ العربي الإسلامي تجد مثلاً ، أن قراءة المعتزلة أكثر انفتاحا بما لا يقاس من قراءة ابن تيميه ولو أمعنا النظر لعرفنا أن القراءة المعتزلية بانفتاحها كانت تستجيب لمعطيات معينة منها تطور البنية المادية والحاجة للعلوم للاستجابة لذلك و تنامي القوة والصدام الحضاري مع الآخر من مركز المنتصر أما ابن تيميه فكان يعيش عصراً انكفائياً تواجه فيه الأمة خطراً يهدد كيانها ككل ولذا من الطبيعي إن يُستند إليه ويستلهم في حالات مماثلة كما نشهد اليوم !
إن إعادة قراءة التراث من موقف اللحظة الزمانية الحالية ضرورة ، ولكن الأهم أن نعي الآن أن النهضة ليست مشروعاً لقراءة التراث وأنه حتى هذه القراءة البديلة التي نتحدث عنها لن تكون كذلك ، بل هي نتائج على ضفاف النهضة وصور لها تلازمها لأنها منطلقة بوعي أو بدون وعي من محاولة لوصل الشخصية التاريخية ببعضها ومنع تعارض الأنا فصامها أو انفصامها ، هي محاولة للنهوض بالبناء الفوقي للمجتمع أو هي جزء من هذا النهوض ، محاولة ترمي إلى حفظ الانسجام بين البناءين الفوقي والتحتي ، أما النهضة فلا يمكن أبداً أن تنطلق من قراءة تراثية بل على العكس إن أي قراءة تراثية مهما كانت تقدمية لن تعدو كونها محاولة للتكيف مع الواقع المادي لأن الهم الرئيس الماثل أمام القارئ التراثي هو عملية التوفيق أو معقولية النص والتراث فكيف يمكنه إذاً أن يتجاوز ذلك إلى استخدامه في تطوير الواقع ، لم يحصل أبداً في التاريخ أن كانت إعادة قراءة الدين مصدرا للنهضة ، بل العكس هو الصحيح كان الدين دائما يستلهم لإعاقة التطور كان دائما يتم تكيفه لمصالح الطبقة المسيطرة هذا تماما برأيي ما عناه ماركس عندما قال الدين أفيون الشعوب ، حتى في الإيديولوجيات الثورية القروسطية التي استلهمت الدين كان استلهامها الدين يعيقها حتى وهو يخدمها ذلك أنه سرعان ما يتحول قيدا وقراءة بحاجة إلى إعادة إنتاج وطالما ربطت نفسها بقراءة معينة طالما قيدت نفسها فجدل الواقع المادي أسرع تطوراً من أي عقيدة مهما بدت منفتحة وتقدمية ، هكذا فإن الخطاب الديني المعاصر ليس فقط دون مستوى القراءة الموضوعية للتراث بل هو مصاب بعمى الزمن يتجاهل تماما أن العالم يتطور وينكر هذا التطور أصلاً بل هو عنده أي ما نعنيه بالتطور والتقدم تخلفاً أما المستوى المادي الذي لا يستطيع من في رأسه عينان إنكاره فهو يرى أن من الممكن عبر استلهام العلوم بلوغه ناسياً أن العلم مرتبط بوثوق بالبيئة المادية للمجتمع وأن هذه الأخيرة وحدها محرك التطور والإبداع العلمي ، وأن البناء الفوقي المتعالي نتيجته وليس سببه و كذلك جدله وتطوره هو انعكاس لجدل الواقع المادي وتطوره .
ومن الخطاب الديني المعاصر إلى الخطاب المضاد خطاب الحداثة التغريبي الذي ينطبق عليه وصف ابن خلدون للأمة المهزومة في تقليدها للأمة الهازمة ذلك أن تمثلها تقليدا يبدو للوهلة الأولى حلا لأزمة التخلف، أنها وصفة سهلة مفادها بما أني متخلف عن ذلك الآخر المتفوق علي فالحل يكمن في أن أقلده واخذ عنه أسباب تقدمه وعناصره ثم أسبقه وأتفوق عليه، هل هذا الأسلوب عملي ؟ هل يمكن أن أغير المجتمع ببناءيه الفوقي والتحتي نهضويا بالتقليد؟ هل هذا الطرح ممكن في الأمة العربية هل هي مستعدة لذلك؟ ثم هل هذه هي النهضة ؟إن التاريخ لا يحمل أي دلالة على أن النهضة بدأت هكذا ، صحيح أن فتح الشعوب أبوابها للآخر أو للعقلانية الأخرى من مقتضيات النهضة بل من شروطها ، لكنه الفتح الذي يروم توظيف المنجز الحضاري ماديا كان أو فكريا لتلك الحضارة السابقة في إطار مشروعها الحضاري النهضوي أي أنه لا يمكن أن يكون بديلا عنه ، ثم أن تمثلها للآخر معناه بالضرورة إهدار الأنا وهو الأمر الذي يستحيل أن توافق عليه أي أمة حية مهما بلغ ضعفها وهكذا يثور جدل الهوية والتراث الذي لا ينتهي وكله في إطار رغبة التأكيد على الأنا ورفض التخلي عن متعلقاته وحتى لو كانت متخلفة ، ولنا أن نتساءل هنا ما معنى جدل الهوية وهل التأكيد عليها إلا محاولة لرفض فنائها أو على الأقل الشعور بالخوف عليها من ذلك ؟! أرباب هذه الدعوة ينتصرون بالعو لمة والدولة ما بعد الأمة والثقافة العالمية ، إن الانصهار بالثقافة الغربية وفق تصورهم هو بمثابة الوصفة الماركسية "حتمية تاريخية" ، وهذا ما يتماها مع خطاب التنظير الليبرالي الغربي الأكثر جدة خطاب فرا نسوا فوكاياما حول نهاية التاريخ والإنسان الأخير، فجل ما يمكن أن نطمح إليه هو الانتقال من عالم ما قبل التاريخ إلى العالم الغربي عالم ما بعد التاريخ ، ذلك أن نظامه الناجز هو نهاية التاريخ كما يرى فوكاياما ، فعند فوكاياما الهيغلي بوضوح تعادل المرحلة الليبرالية المرحلة الشيوعية في نظرية كارل ماركس ، هذا التنظير المتأخر خدمة للمصالح الإمبريالية لرأس المال العالمي المتمثل بالشركات عابرة القومية التي ابتلعت الدولة وأصبحت الدولة أضيق من مقاسها ، نسائله هل حقا النظام الرأسمالي الغربي نظاما رأسماليا كما تصور عراب الرأسمالية آدم سميث ؟ إذن أين تصنف نظرية كنز في الاقتصاد التي تم تمثلها إثر أزمة الكساد العظيم 1927-1934 التي أثبتت خطأ الفرض المركزي للرأسمالية السمثية إن جاز لنا التعبير ، والتي طرحت ضرورة تدخل الدولة لإنقاذ الاقتصاد المتهاوي ثم أصبح من غير الممكن أصلاً أن تلتزم أي دولة في العالم اليوم بنظرية توازن السوق التلقائي هذا التغير الهام ليس ثانوياً كما يوهمنا فوكاياما بل جذرياً ، إن عالم ما بعد كنز الاقتصادي لا مكان فيه إطلاقا لحرية السوق الحقيقية أو حتى النسبية و الدولة الغربية اليوم تستحوذ على قرابة نصف الدخل القومي وهي اللاعب الرئيس في الاقتصاد ، اقتصاد يتركز فيه رأس المال بمعدلات فلكية وأتمت فيه الاحتكارات الضخمة بناءها الذي يمثل مجرد تخيل دخول منافسة حرة معه نكتة سخيفة ، إن ضخامة رأس المال وتعقد شروط الإنتاج جعل الدول نفسها عاجزة عن دخول المنافسة لأن كل قوتها كدول لا تكفي لتأمين متطلبات هذا الإنتاج الرأسمالي الضخم ! فأي نظام حر ليبرالي هذا الذي ينافح عنه فوكاياما ؟!
ثم هل أكتمل شكل النظام الغربي فعلا وأصبح ما بعد تاريخي كما يقول فوكاياما ؟
إذن أين تصنف مليارات الخطوات التدريجية على طريق الإصلاح الاشتراكي ومعاندته ومقاومته في نفس الوقت وهي لازالت تتوالى ، من قوانين العمل و حقوق العمال والضمانات الاجتماعية ، نعم نجحت الإمبريالية الرأسمالية الغربية في اتخاذ التدابير التي مكنتها دائما من إجهاض الثورة بل ومواصلة التقدم ، لكن ذلك كان ولو اضطراريا بإدخال إصلاحات اشتراكية من ناحية وتصدير الأزمات على شكل استغلال وحروب للعالم المسمى ناميا من جهة أخرى ، إن النظام الغربي لم يكتمل نموه ويستقر بعد كما يدعي فوكاياما ، وتطوره وإن كان بطيءً وغير ثوري فإنه يحدث مع الوقت تغيراً جذرياً وليس ثانوي كما يرى فوكاياما ، نعم انتصر الغرب ولو افترضنا فعلا تحول العالم إلى الليبرالية وسيادتها عليه فإن ذلك لا يعني أنها الشكل الأخير أو نهاية التاريخ ، إن هيمنة نظام معين على كل العالم عند لحظة أو لفترة زمانية معينة طالت أو قصرت لا يعني أنه النهاية التي لا يمكن تجاوزها كما يرى فوكاياما ، فالنظام الإقطاعي ونظرية الحق الإلهي في السلطة و العصور الوسطى بكل ثقلها وهيمنتها على كل العالم لقرون طويلة تم تجاوزها ، وطالما أن الواقع المادي ببنائه الاجتماعي الاقتصادي في حالة تطور فالتاريخ سيظل مفتوحا ويكتب ويتطور ونهايته الحقيقية ، باعتقادي هي نهاية للجنس البشري ، أو القيامة حسب المفهوم الديني إذا جاز لنا توظيف المصطلح هنا.
آخرون في العالم العربي وعلى رأسهم الفيلسوف الدكتور محمد عابد الجابري يرون أن مشكل النهضة مشكل بنيوي أي أنه في بنية العقل العربي"والأصح كما نرى أن نقول العقلانية أو المعقولية العربية" ، ففي مشروعه الموسوعي "نقد العقل العربي" الذي من الواضح أنه تطلب منه جهدا عظيما يتقدم الجابري على كل أتباع هذا التيار منظرا ومحلل لهذا الخلل البنيوي ، ويخلص بنا الجابري إلى أن مشكل النهضة العربية مشكل بنيوي أي أن بنية العقل العربي بنية تحول دون تقدمه أو أن بناءه لا يمكن أن يعتمد عليه في صناعة النهضة ، نتساءل هنا إلى أي عقل ينسب الجابري نفسه ؟ أهو محسوب على العقل العربي أم الغربي ؟ ثم نعود بالجابري ومعه إلى المأخذ الماركسي على جدلية هيغل هل البناء الفوقي سبب أم نتيجة؟ ولمن الحاكمية في الجدل الدافع للتطور؟ وإذا كان لإشكالية العقل المُكوِّن والعقل المُكوَّن اللالاندية –إذا ما قبلنا توظيفها على هذا النحو الذي وظفها فيه الجابري- فعاليتها تلك فما هو الموقف من دور الواقع المادي إذا ، وكيف تعمل فعاليته ؟ أليست هذه قراءة من الأعلى تعتقد أن الفكر وجدله هو دافع التطور وليس العكس أي الجدل المادي جدل البناء التحتي؟ مع أهمية التفاعل المتعاكس مع البناء الفوقي المرآة كما نعتقد أو النتيجة وليس السبب ، ثم هل هذا الفصل القصري بين عقل غربي علمي وآخر شرقي لا علمي فصلا صحيحا وإلى أي مدى؟ أليس التصور الجابري لهذا الانفصال في العقل العالمي دائرا في فلك المركزية الأوربية مهدرا للتواصل الحضاري بين الشرق والغرب؟ رغم أن الجابري هاجم في كتب أخرى له هذا التصور للعالم المنطلق من المركزية الأوربية مثل كتابه مراجعة نقدية للمشروع النهضوي العربي ، لكن يبدو أن تأثره المشروع بها دفع مشروعه هو لتفكيك وإعادة بناء ما يسميه بالعقل العربي ، الجابري وعبر مشروعه النقدي كله يغفل تماما الواقع المادي والتطور التاريخي ثم يرمي العقل العربي بأنه هو من يتجاهل ذلك ، إذ يعقد مقارنة بين العقلانية العربية والغربية ، متناسيا أولا ترابط الحضارة الإنسانية معاً وتواصلها ، والفارق
الزماني ، فالعقلانية الأوربية ما بعد عصر النهضة ليست بحال هي العقلانية الإغريقية في العصور القديمة ، وإذا كانت الذاكرة الإنسانية قد حفظت التراث الإغريقي ذا الطابع العقلاني فإن هذا التراث كان استثناءً في تلك الثقافة وليس القاعدة ، كما كان المعتزلة والكندي و ابن رشد استثناء في العقلانية التي يصفها الجابري بأنها إيمانية ، إن العقلانية التي سادت الثقافة القروسطية بعامة كانت إيمانية ، سواء عند العرب أو عند الغربيين ، فالقرون الوسطى كانت هنا كما كانت هناك ، أم أن أوربا لم تكن موجودة في القرون الوسطى ولم يكن عقلها "عقلانيتها" إيمانياً ؟!
لقد عادت أوربا النهضة إلى ما هو عقلاني في تراثها لتستند إليه وهي تنهض وتخرج بدافع تحول بنيتها الاقتصادية الاجتماعية من عصور ظلامها ، وأهملت وهي تفعل ذلك الجزء الأضخم من ذلك التراث والذي يمثل فعلا العقلانية التي كانت سائدة وليس الاستثناء ، فهل يجوز لي أن أستند إلى الأستثناءات العقلانية في التراث العربي وأقول إن العقلانية العربية عقلانية علمية ؟!
إن إطلاق النهضة يحتاج إلى إطلاق الطاقات المادية الكامنة ، إلى التحول للإنتاج ، إن تثوير البناء المادي للمجتمع العربي هو مفتاح الحل ، وهو القادر على إنتاج متطلباته النهضوية ، والهم المرافق لذلك ينبغي أن يكون فتح الأفاق أمام هذا التطور المادي وإزالة ما يعوقه ويعرقله ، وما أعاق النهضة عندنا أو بدقة حسب رأيي ما أفشل مشاريعها وأتى بها دون المستوى يعود أساساً ، لإعاقة النمو في البنية الاقتصادية الاجتماعية وتشويهها المستمر ، واستهلاك قوانا في الصراع السياسي والطحن الطبقي والقضاء المتوالي على القاعدة المادية للإنتاج وتشويهها والنمو المختل وسوء توزيع الثروة جغرافيا وسياسيا ، نعم لازالت إشكالية النهضة مطروحة "الاتحاد والترقي" وستظل مطروحة أبد الدهر ما لم نحقق شرط النهضة الأساسي وهو التراكم الرأسمالي وتحويل مجتمعاتنا إلى الإنتاج وإيجاد كل السبل إلى ذلك وأولها التخلص من الأنظمة السياسية العفنة وإرساء نظام مرتبط أصلاً بقضية النهضة قائم على تداول السلطة ، فكيف لا يكون النظام المصري معيقاً للنهضة والأمية بين نساء مصر 60%!
وكيف لا يكون النظام السعودي معيقا للنهضة وهو يتكلف نفقات أكثر من اثني عشر ألف أميراً !……الخ القائمة التي لا تنتهي
النهضة تتطلب تحويل رأس المال النقدي العربي إلى رأس مال منتج ، وفتح الأسواق البينية العربية وخلق السوق المشتركة والتكتل الاقتصادي وتدعيم قاعدة الإنتاج وتحول الاقتصاديات العربية من متنافسة إلى متكاملة ، إلى ما لا نهاية من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي نعرفها جميعاً ونعرف من يعيقها فعلاً ، إن إطلاق الطاقات المادية والحرية هما شرطا النهضة وقاعدتها الكفيلة بأن تزودنا بالبوصلة التي تشير لنا إلى خط النهضة الحقيقي وتدفعنا تلقائيا باتجاهه.



#عمر_أبو_رصاع (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- السيسي يكشف عن أرقام مهولة تحتاجها مصر من قطاع المعلومات
- -عار عليكم-.. مظاهرة داعمة لغزة أمام حفل عشاء مراسلي البيت ا ...
- غزة تلقي بطلالها على خطاب العشاء السنوي لمراسلي البيت الأبيض ...
- نصرة لغزة.. تونسيون يطردون سفير إيطاليا من معرض الكتاب (فيدي ...
- وزير الخارجية الفرنسي في لبنان لاحتواء التصعيد على الحدود مع ...
- مقتل شخص بحادث إطلاق للنار غربي ألمانيا
- أول ظهور لبن غفير بعد خروجه من المستشفى (فيديو)
- من هم المتظاهرون في الجامعات الأمريكية دعما للفلسطينيين وما ...
- إصابة جندي إسرائيلي بصاروخ من لبنان ومساع فرنسية لخفض التصعي ...
- كاميرا الجزيرة ترصد آخر تطورات اعتصام طلاب جامعة كولومبيا بش ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عمر أبو رصاع - قراءة حول إشكالية النهضة في الخطاب المعاصر