أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - ذاكر محي الدين عبد الله - المؤثرات والضغوطات الخارجية ودورها في انقلاب 1958 في السودان















المزيد.....


المؤثرات والضغوطات الخارجية ودورها في انقلاب 1958 في السودان


ذاكر محي الدين عبد الله

الحوار المتمدن-العدد: 2954 - 2010 / 3 / 24 - 00:22
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


المؤثرات والضغوطات الخارجية
ودورها في انقلاب 1958 في السودان

يعد انغمار الجيش في السياسة معلماً بارزاً في تاريخ السودان المعاصر ، اتضحت صورته وبشكل جليّ من خلال سعي القائمين عليه لإحداث التغيرات السياسية عن طريق الانقلابات العسكرية . وغدت مقولة أن كل من يقود دبابة يستطيع أن يحدث انقلاباً في الصباح أمراً واقعاً على الأقل خلال مدة خمسينيات وستينيات القرن المنصرم في السودان .
أن الملاحظ في كل المحاولات الانقلابية بروز التأثيرات والضغوطات الخارجية في إحداثها ، ولعل انقلاب الفريق إبراهيم عبود عام 1958 من ابرز تلك الانقلابات حيث تشابكت المؤثرات والضغوطات الأجنبية والعربية ، مع احتدام شديد للصراع السياسي الداخلي والتي تضافرت جميعها في تهيئة الأجواء السياسية المناسبة لإحداث الانقلاب المذكور في صبيحة يوم 7 تشرين الثاني 1958 .

الصراع السياسي الداخلي :
دخل السودان بعد الانتخابات العامة في آذار 1958 مرحلة جديدة في مسار تطورات السياسة الداخلية ، إذ خيبت هذه الانتخابات آمال الأحزاب التقليدية ، والتي كان يأمل منها حزب الأمة الحصول على الأغلبية التي تمكنه من الانفراد بالحكم ( ) . واصبح أمامه أمر تشكيل حكومة ائتلافية أمراً ضرورياً لا مناص منه في حصوله على أكثرية الأصوات التي تؤهله لتشكيل حكومة مستقلة فلجأ الى الائتلاف مع حزب الشعب الديمقراطي الذي عد منبراً لطائفة الختمية ( ) . وقد إستندت هذه الصلة على التحالف الذي كان قد نشأ بين زعيمي الطائفتين علي الميرغني وعبد الرحمن المهدي اثر لقائهما عام 1955 ( ) .
واجه عبد الله خليل وحزب الأمة صعوبات كبيرة للاتفاق مع حزب الشعب وباقي الأحزاب بتأليف الحكومة الجديدة ، وذلك للخلافات حول توزيع المقاعد الوزارية ( ) . ورجح البعض سبب ذلك الاختلاف الى تباين وإختلاف أفكار ومبادئ هذين الحزبين ، ولتضارب واختلاف توجهاتهما في السياسة الخارجية السودانية . فنشأ عن ذلك انتشار الفوضى في الداخل واضطراب في جهاز الحكومة وفي الخدمة المدنية لتهافت رجالات هذين الحزبين على السلطة ومقاعد البرلمان ولعل ابلغ دليل على ذلك احتفاظ بعض وزراء هذين الحزبين بأكثر من منصب وزاري واحد ( ) .
شهدت وزارة عبد الله خليل المؤتلفة أيضاً ، صراعاً عنيفاً بين القوى الوطنية المعارضة لها والقوى المساندة بها ، بسبب اشتداد الضغوط الخارجية على السودان والرامية الى التدخل في شؤونه لإخضاعه لنفوذهم ( ) . لا سيما الضغوط الأمريكية على السودان لقبول المعونة الأمريكية المقدمة لهم - كما سنرى لاحقاً – ومما زاد من مشاكل الحكومة الائتلافية وأعبائها اشتداد الأزمة الاقتصادية ، للفساد الذي أصاب صادرات القطن السوداني لانخفاض سعره عالمياً ( ) . فنتج عن ذلك ، فقدان الشعب السوداني ثقته بالحكومة القائمة المتعبة بعدم الانسجام داخل مجلسها ، وسعي كلا الحزبين المؤتلفين للاتصال بالمعارضة في الوقت الذي تكونت داخل مجلس النواب كتلة برلمانية معارضة قوامها أحزاب الوطني الاتحادي والشعب وبعض النواب المنشقين عن حزب الأمة ، فلم يكن أمام رئيس الوزراء إلا إعلان الأحكام العرفية في البلاد ( ) .
أقلقت اللقاءات المتكررة التي جمعت قادة حزبي الوطني الاتحادي والشعب الديمقراطي ، قادة حزب الأمة ، وكان لقائها الأخير في القاهرة عشية انقلاب 17 تشرين الثاني 1958( ) ، وقع الصاعقة على قادة هذا الحزب ، سيما بعد تجاهل خليل للنصائح المقدمة اليه من قبل سفيري بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية للعمل على تشكيل حكومة انقلابية تضم حزبي الأمة والاتحادي بغية احتوائه وتلافي ضغوطاته ، وبرر خليل ذلك في تشكلة من إمكانية نجاح مثل هكذا ائتلاف بعد مهاجمة الأزهري للوزارة وسياستها الداخلية والخارجية وإعلانه عن سعيه لإسقاطها ( ) .
وفي محاولة من عبد الله خليل للتمويه عن خطته بتسليم السلطة للجيش ، طلب من مجلس السيادة الموافقة على تأجيل عقد جلسة افتتاح البرلمان والمقررة في 17 تشرين الثاني الى إشعار آخر ، مما دفع المعارضة الى المطالبة بعقدها في ميدان عبد المنعم ( ميدان الشهداء ) وسط الخرطوم ، للإعلان فيها عن حجب الثقة بالحكومة وإسقاطها ( ) . ولتلافي جميع هذه الضغوط حث خليل خطاه نحو المؤسسة العسكرية الموالية له مسلماً إياها حكماً مدنياً ديمقراطياً لم تتعب كثيراً في الاستحواذ عليه .

المؤثرات والضغوطات الخارجية :
دأبت الحكومات السودانية المتعاقبة على السلطة منذ إعلان استقلال السودان في مطلع عام 1956 ، على الإعلان عن انتهاجها سياسة خارجية تلتزم بالحياد الايجاري وعدم الانحياز ولإقامة علاقات الاخوة وحسن الجوار مع كافة الدول ( ) . إلا انه يمكننا أن تؤشر وبوضوح تأثير المؤثرات والضغوطات الخارجية على استمرار الأزمة السياسية الداخلية في البلاد والتي تعرضت لها قبل أن تنال استقلالها السياسي . إذ جاءت السياسة الخارجية السودانية لمعظم هذه الحكومات في ثوب قوامه الفتور والسلبية واللامبالاة فغدت قوة الدبلوماسية السودانية وتأثيراتها في السياسة الخارجية السودانية تتفاعل في حالتي القوة والضعف والإقدام والتراجع مع الواقع السوداني بسلبياته وإيجابياته ( ) . ويمكننا تقسيم هذه المؤثرات والضغوط الى قسمين : أجنبية وعربية .

1- المؤثرات والضغوطات الأجنبية :
خضعت الأقطار العربية وبطبيعة الحال السودان لاستراتيجيات القوى الكبرى ( الشرقية والغربية ) القائمة على تطويق هذه المنطقة ومد نفوذها السياسي والثقافي والاقتصادي اليها فباتت هذه التأثيرات لكلا المعسكرين متناسبة مع درجة نفوذ كلا منهما في المنطقة ( ) . وتعد مجموعات القلب التي تشمل مصر وفلسطين والسودان والقرن الأفريقي من اشد المناطق العربية تأثراً بنزاع هذه القوى ومن اكثر مناطق العالم حساسية ، الأمر الذي دفع لقوى العظمى لفصلها واحتوائها لكي لا تقوم بدون فاعل في الوطن العربي ( ) .
كان للاتحاد السوفيتي السابق ، ولو بدرجة اقل من الولايات المتحدة وحلفائها ، تأثيراته الواضحة على التطور السياسي والثقافي والفكري في السودان( ) ويرى البعض ان الاتحاد السوفيتي في تلك الحقبة كان اكثر حيطة وحذراً واشد حرصاً على تلمس مواطئ أقدامه في تحركاته تجاه الأقطار العربية ، لذا فضل " 000 الروس ان تتولى أجهزة الحزب الشيوعي السوفيتي رعاية الحزب الشيوعي السوداني وشق قنوات الاتصال المباشر مع زعمائه 000 " ، والتي برز دورها ونشاطها أثناء تصديها للمساعي الغربية لاحتواء السودان من خلال الصحف التابع للحزب الشيوعي الذي كان أول من أعلن عن وجود خطة أمريكية لإحداث انقلاب في السودان تتولاه القوى الموالية لها ( ) . وهو ما حصل فعلاً في انقلاب 17 تشرين الثاني 1958 .
سعت الولايات المتحدة في إطار سياسة ( الحصر الأمريكي ) الموجهة ضد الاتحاد السوفيتي السابق ، لاحتواء السودان وباقي الأقطار العربية وربطها بمخططها الهادف الى إقامة الأحلاف والمعاهدات الدفاعية ( ) . وفي هذا الإطار أبدت دعمها للجهود البريطانية الرامية لضم مصر والسودان الى منطقة ( قيادة الشرق الأوسط ) الذي تقدمت به الى مصر في تشرين الأول 1951 ( ) . كما ساندت أيضا الجهود البريطانية لإدخال السودان في حلف بغداد والمعلن عنه في عام 1955 لغرض تطويق مصر بعد أن خيبت ثورتها الآمال الاستعمارية ، لمقاومتها سياسة الأحلاف وانتهاجها الحياد وعدم الانحياز ( ) . غير أن يقظة الشعب السوداني حالت دون تحقيق ذلك ، لذا لن تتجرأ أية حكومة سودانية بعد الاستقلال على طرحه ومناقشته داخل مجلس النواب ( ) .
أبدت حكومة عبد الله خليل الأول ( تموز 1956- آذار 1958 ) ، والمعروفة بولائها للغرب استعدادها وترحيبها بالمشروع الأمريكي الذي طرحه الرئيس دوايت ايزنهاور ( D. Eisenhower ) والخاص ( بالشرق الأوسط ) في كانون الثاني 1957 ( ) . وقامت الحكومة السودانية باستقبال الوفد الأمريكي الذي ترأسه ريتشارد نيكسون ( R.M.Nixon ) نائب الرئيس الامريكي انذاك الذي زار الخرطوم في منتصف شهر اذار 1957 للتباحث حول المشروع وكانت الحكومة قد شكلت لجنة وزارية من الحزبين المؤتلفين لهذا الغرض ، غير أن هذه المحادثات فشلت بسبب رفض وزراء الائتلاف الموافقة عليها وتهديدهم لحزب الأمة والحكومة برفضه وسحب الثقة عن الحكومة داخل البرلمان ( ) .
كان موقف وزراء الائتلاف هذا متوافقاً مع موقف المعارضة الشعبية الذي تبلور في عقد القوى الوطنية المعارضة مؤتمراً لها في الخرطوم لرفض هذه المشاريع والتنديد بها وبحزب الأمة ووزرائه ، لا سيما بعد أن ترردت الأنباء عن نية الحكومة منح الولايات المتحدة الأمريكية قواعد جوية في شرق وشمال السودان ، ونتيجة لما حصل تراجع عبد الله خليل وحزبه عن موقفهما تجاه المشروع ، كما لم يتجرأ على عرضه داخل البرلمان ليقينه بسعي المعارضة لسحب الثقة عن حكومته ( ) .
يبدو أن الآمال الأمريكية قد انتعشت مرة أخرى بعد فوز عبد الله خليل وحزبه في الانتخابات البرلمانية في آذار 1958 ، ذلك الفوز الذي رشحه لتشكيل وزارة ائتلافية جديدة ، أظهرت ومنذ يومها الأول انعطافاً بينا نحو الغرب واستعداداً واضحاً لتنفيذ مشاريعه في السودان ، وكانت التأثيرات الأمريكية بادية على نواب حزب الأمة منذ الانتخابات التي خاضوها حسب تعبير أحد الباحثين " 000 بسيارات أمريكية مكشوفة 000 " ( ) في الوقت الذي أعرب فيه السفير البريطاني في الخرطوم عن تخوفه من وصول الحزب الوطني الاتحادي بقيادة إسماعيل الأزهري الى رئاسة الحكومة بقوله " 0000 إن هذه التطورات لا تشجع المرء على القول بان مجيء هذا الحزب الى الحكم سيحسم الموقف الحالي 000 " أي الانحياز الى المشاريع الغربية ( ) .
ومن جهة أخرى ، مارست الولايات المتحدة ضغوطها الاقتصادية ، لإدراكها العجز الذي يعانيه السودان من عدم توفر العملات الأجنبية بسبب كساد تصدير القطن السوداني وتدني أسعاره عالمياً . وكانت الولايات المتحدة تدرك أهمية تصدير القطن بالنسبة للسودان ، فاتفقت مع بريطانيا على عدم استيراده من السودان للضغط عليه ، لكي تقبل بالمشاريع الغربية . كما أعلن رئيس الوزراء عن حاجته للأموال اللازمة لعملية التنمية والنهوض الاقتصادي في البلاد ، لان ما يتوفر من موارد مالية لا يكفي لسد حاجة البلاد ( ) . وهنا تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية عارضة على السودان قبول برنامج المعونة الأمريكي( ) . فأبدت الحكومة السودانية بدورها استعداداً لقبولها شريطة تعديل بعض بنودها بما لا يمس السيادة السودانية . وتم التوقيع عليها في مطلع نيسان 1958 ، ثم أجازها البرلمان تحت ضغط الحاجة والحكومة في مطلع حزيران بأغلبية ضئيلة ( ) .
احدث قبول المعونة الأمريكية ردود فعل عديدة لدى الفئات الوطنية السودانية المعارضة لها والتي سارعت الى تشكيل ( جبهة وطنية ) ضمت أحزاب الوطني الاتحادي والشعب واتحاد نقابات العمال واتحاد المزارعين وبعض النواب المنشقين عن حزب الأمة لإدانة الحكومة والمعونة . واعتبرها الحزب الوطني الاتحادي بمثابة التمهيد لتبعية السودان في سياستها الداخلية والاقتصادية ( ) . واستطاعت هذه الجبهة من تعبئة مظاهرة شعبية واسعة في مساء يوم 9 أيار 1958 طافت شوارع العاصمة ، وقد قدر عدد المشاركين فيها بعشرة آلاف مواطن ، كما تولت الصحف الوطنية وخاصة الشيوعية منها مهمة التحذير والتنديد بالمشاريع الاستعمارية والتحذير من احتمال قيام انقلاب عسكري في السودان بتدبير أمريكي ( ) .
وعلى هذا ، فقد كان من أهم نتائج قبول المعونة ، تأزم العلاقة بين الحزبين المؤتلفين وزيادة حدة الخلاف والاحتدام بين حزب الأمة وكل الأطراف ، مما كان له أثره الواضح في توجه عبد الله خليل نحو تسليم المؤسسة العسكرية التقليدية السلطة في البلاد ، تلك المؤسسة التي حافظت على صلتها بالغرب والتي كانت - وكما يظهر - على قناعة تامة بان تحقيق الاستقلال وإنجازه لن يكون على حساب الأمن الأمريكي ، بل هو جزء من خطته وأهدافه ( ) .

2- المؤثرات والضغوطات العربية :
شهدت الأقطار العربية آنذاك مجموعة من الأحداث المهمة والتي ألقت بضلالها على السودان ، وكان من أبرزها التأثير المصري الذي لعب دوراً بارزاً في نمو وتطور الحركة الوطنية والثقافية فيه . كما جاءت اكثر النشاطات السياسية والعسكرية فيه في حدود انعكاسات الجو الملتهب لذلك التأثير تجاه القوى الاستعمارية ، وكان لابد للثورة المصرية التي بدأت آنذاك في قلب الدائرة العربية من أن تتداعى مضاعفاتها الى كل أجزاء وأطراف الوطن العربي ( ) .
كان رد الفعل على مستوى النخبة التقليدية السودانية مختلفاً في النظرة تجاه نموذج الرئيس عبد الناصر التقدمي( ) ، إذ فضل بعضها التغيير الاجتماعي البطيء والتدريجي على التغيير الثوري ( ) . ويرى البعض أن الجهود المصرية السابقة لثني السودان عن التمسك بالمطالبة بالاستقلال قد خلقت شكوكاً وهواجساً نحو القاهرة مما أدى الى سلوك سياسة الحذر تجاهها من وقت الى آخر لدى السودانيين . كما أبدى صغار الضباط تعلقاً واضحاً في التجربة المصرية شجعهم على ذلك تفتح عقولهم وتفتح ميولهم الوطنية في أجواء الاستقلال . بينها تفتحت عقلية كبار الضباط السودانيين في ظل النظام الاستعماري لذا شكل صغار الضباط تنظيمهم على غرار النموذج المصري بعد ان حظيّ على الدعم اللازم لذلك ( ) .
تزامن مولد الدولة السودانية مع سقوط النظام الملكي في مصر بعد أن حلت ثورة تموز 1952 الأحزاب وسرحت البرلمان واقامت نظاماً مركزياً . وفي نفس اللحظة ولد في السودان نظاماً برلمانياً يقوم على التعددية الحزبية ، وبالرغم من ان اختلاف نظم الحكم بين بلدين متجاورين لا يقود الى خلاف ومواجهة بينهما ، ولكن في ظروف نشأة الدولة السودانية أدى ذلك الى مزيد من التوتر بفضل مركزية القرار المصري . بينما كانت في السودان على النقيض من ذلك ، لان مركز صنع القرار فيه متعددة ولها قوتها الضاغطة على الحكومة ( ) . ولعلنا نستطيع وبمعنى آخر أن مركزية القرار المصري كان لها صداها في السودان ، وفي الوقت الذي أقلقت الحكومة المصرية دبمقراطية النظام السوداني ، أقلقت الحكومات السودانية مركزية القرار المصري بعد امتلاكها من وسائل التأثير على الأنظمة العربية التقليدية الشيء الكثير ( ) .
يمكننا أن نتبين حجم التأثير المصري على الساحة السودانية من خلال ما أحدثه العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 من ضغوط كبيرة على حكومة عبد الله خليل الأول التي ترجمت عملياً في مساعي المعارضة داخل البرلمان وخارجه وفي التظاهرات الشعبية الواسعة ( ) ، التي أدت الى وضوح الحكومة والبرلمان السوداني وقيامها بالإعلان عن مؤازرة السودان لمصر مادياً ومعنوياً ( ) .
ظل الشعور الأخوي يسود العلاقة بين البلدين مستمراً حتى شباط 1958 ، وتوترت بعد بدء التحضيرات للانتخابات العامة السودانية التي تزامنت مع إعلان إتمام الوحدة المصرية السورية وقيام الجمهورية العربية المتحدة وما افرزه هذا الإعلان من مشاعر قومية سودانية خشيت معها حكومة عبد الله خليل الثانية التي تشكلت في آذار 1958 من قيام العناصر الوحدوية السودانية بتسليم السلطة لمصر ( ) ؛ عندما شعر قادة حزب الأمة بالتحركات والاتجاهات الحديثة لدى العناصر الوطنية والقومية السودانية داخل الجيش وخارجه والرامية الى التكتل في جبهة وطنية لعزله والوقوف ضده ( ) ، فلم يكن أمامه سوى إثارة شعور وطني انعزالي يدفع بالسودانيين الى حالة من العداء مع مصر ومن ثم توجيه السودان نحو الغرب وأحلافه العسكرية كمحاولة منه لإظهار موقفه وكأنه محاولة وطنية للدفاع عن السودان ( ) . ولعله وجد ضالته هذه في افتعال مشكلة الحدود بين مصر والسودان قبل الانتخابات العامة في المنطقة المعروفة بحلايب ( ) ، أسفرت عن تصعيد الموقف السياسي بينهما ومن ثم رفع القضية الى الأمم المتحدة في 20 شباط 1958 دون اللجوء الى الجامعة العربية . ولم تكتف حكومة خليل بذلك بل توجت ضغوطاتها هذه بالمطالبة في آب 1958 بتعديل معاهدة 1996 والخاصة بتقسيم مياه النيل بين مصر والسودان ( ) .
وهنا يمكن أن ندرك حجم الضغوطات السودانية على مصر لتزامنها مع الضغوطات الخارجية التي تعرضت لها آنذاك بعد إقدام الولايات المتحدة على تجميد الأرصدة المصرية منذ مطلع عام 1957 وامتناعها عن تزويدها باحتياجاتها المالية والعسكرية ثم سحبها لعرضها الخاص في تحويل السد العالي ، وحثها للحكومة السودانية على قبول المعونة الأمريكية والمطالبة بتعديل المعاهدة الخاصة بمياه النيل لتكون بمثابة عقبات أمام مصر عند تنفيذها لمشروع السد العالي ( ) .
رأت مصر في هذه الأزمة على إنها ( مؤامرة أمريكية ) لافساد مناخ الوحدة بين مصر وسوريا وحاول الرئيس عبد الناصر احتواء الضغوطات السودانية ضده ، كما أعلن بأن القوات المصرية نشأت لتكون سند للسودان منذ الغزو المشترك ثم وجه دعوته للحكومة السودانية لزيارة القاهرة للتباحث حول القضايا المعلقة بين البلدين ( ) ، بعد أن وردت الأنباء عن زيارة عبد الله خليل لأديس أبابا واجرائه مباحثات مع المسؤولين الأثيوبيين والأمريكيين حول مياه النيل ( ) . كما سعت الحكومة المصرية على إحداث التقارب بين قادة حزبي الوطني الاتحادي والشعب الديمقراطي وذلك لاستغلال تواجدهما في القاهرة آنذاك . وذلك لإدراك الحكومة المصرية نظرة الارتياب الدائم التي كان عبد الله خليل ينظر بها الى هذين الحزبين لطبيعة العلاقة القائمة بينهما وبين الحكومة المصرية والتي كانت في نظره أيضا بمثابة الخطر الأكبر الذي يدفعه الى الاستعانة بأية جهة للوقوف ضدها ( ) .
تضاعفت مخاوف عبد الله خليل اكثر بعد أن وصلته التقارير عن تحركات سرية يقوم بها الموظفون في السفارة المصرية في السودان وكذلك ورود تقارير عن لقاءات كانت تتم سراً بين الملحق العسكري المصري وعدد من الضباط السودانيين في أماكن مختلفة الغرض منها القيام بانقلاب عسكري في السودان ، وتعززت هذه الأنباء لديه إثر التحذيرات الأمريكية لها من هذه التحركات أيضاً ، فكان عليه أن يحسم الأمر بسرعة ، لإحباط تحركات الضباط الصغار والتي تزامنت مع توتر الوضع الداخلي السوداني ( ) ، ووقوع أحداث عربية أخرى كان لها صداها الواسع واثرها الواضح في تأزم الوضع السياسي الداخلي في السودان ( ) ، والذي بدا في خارج نطاق سيطرة الحكومة المدنية ، سيما بعد أن تضافرت عوامل شخصية برئيس الوزراء كان من أبرزها تعرضه شخصياً الى كثير من المضايقات اليومية من قبل الجماهير المعارضة ، إضافة الى ضعف وتضعضع مركزه داخل حزب الأمة لتغير توجهات بيت المهدي عنه وميلهم نحو عزله وتوليته سكرتارية الحزب لاحد أفراد آل المهدي ( ) . مع قناعة شخصية بحراجة موقف حكومته في حالة افتتاح البرلمان في 17 تشرين الثاني 1958 .

استلام الجيش السلطة :
كل هذه الظروف الداخلية والخارجية والشخصية دفعته الى تسليم السلطة للجيش ، وحينها كان مقتنعاً تمام الاقتناع بأن السودان يجب أن يحكم من قبل العسكر وإلا سيفقد استقلاله ( ) . ولم تخرق الحكومة بتصرفها هذا الدستور وتتمرد عليه فحسب ، بل سلبت السودان جميع مكاسبه من الحرية والديمقراطية .
في صباح يوم 17 تشرين الثاني بدأت قطعات عسكرية سودانية تنتشر في العاصمة الخرطوم . جاء هذا الانتشار إثر اللقاءات المتعددة التي قام بها عبد الله خليل وحزب الأمة مع كبار القادة العسكريين المتواجدين في العاصمة ، ولم تكن اتصالاته قائمة على أسس ودوافع حزبية وانما على أساس التدخل لاستلام السلطة ( ) . عقد أول هذه اللقاءات في مستهل أيلول 1958 في منزل الصديق المهدي بأم درمان لغرض التداول لاختيار وزير من بين قادة الجيش ، وانفض هذا الاجتماع الذي حضره كل من الفريق إبراهيم عبود القائد العام ونائبه احمد عبد الوهاب وحسن بشير نصر قائد حامية الخرطوم وعوض عبد الرحمن قائد سلاح المهندسين ( الهندسة العسكرية ) دون أن يتم الاتفاق على شيء محدد ( ) .
وتكرر اللقاء مرة أخرى تحت تأثير تأزم الأوضاع الداخلية واشتداد الضغوط الداخلية فذهب خليل الى رئاسة الأركان وكرر طلبه مشدداً على ضرورة تسليم السلطة للعسكر ( ) فقام عبود بالاتصال بكبار الضباط لاطلاعهم على طلب رئيس الوزراء هذا ، فتم في منزل احمد عبد الوهاب وضع الخطة التي قضت بالتحرك تحت ستار حفظ الأمن تحسباً من حدوث إحداث عنف بمناسبة افتتاح البرلمان تقوم بها الأطراف السياسية المتنازعة على السلطة والتي اطلع عليها بمناسبة زيارته الأخيرة لرئاسة الأركان في 14 تشرين الثاني 1958 ، وكان خليل على قناعة تامة بأنه في حالة عدم حدوث الانقلاب فإن السودان سيشهد أحداث عنف دامية وان استقلاله سيضيع ( ) .
على هذا الأساس بدأت القطعات العسكرية السودانية وبرئاسة الفريق إبراهيم عبود والتي مثلت مختلف صنوف الجيش وغالبية وحداته الرئيسية بالانتشار بالعاصمة الخرطوم في ساعة مبكرة من صباح يوم 17 تشرين الثاني وفق خطتها السابقة ، فتوجهت بعض هذه القطعات نحو القصر الجمهوري ومبنى البرلمان والمباني الحكومية الرئيسية من العاصمة ومكاتب البريد ومنازل زعماء الطوائف الدينية والأحزاب السياسية والوزراء السابقين الذين ابلغوا بإعفائهم من مناصبهم والتزامهم بعدم مغادرة دورهم ، كما أحكمت هذه القوات قبضتها على الطرق الرئيسة والجسور في العاصمة ( ) . وبدأت الإذاعة السودانية ومنذ الفجر ببث الأناشيد العسكرية لتهيئة الرأي العام ، ولتلفت انتباهه الى أن بياناً هاماً صادراً عن قيادة الجيش سيذاع عليهم في الساعة السابعة والنصف من صباح ذلك اليوم . وهكذا أحكمت القوات السودانية سيطرتها على العاصمة دون أن يراق فيها قطرة دم واحدة . وفي الوقت المحدد أذاع الفريق إبراهيم عبود بيانه الأول والذي حاول فيه إضفاء الشرعية على حركته وإظهارها بمظهر ثوري ومنتقداً فيه سياسة الحكومات المدنية السابقة ومتهماً إياها بالفساد والفوضى وعدم الاستقرار والقصور في تحقيق تطلعات جماهير السودان ( ) .
وبذلك هوى نظام الحكم المدني الأول دون ان يجد من يمنع او يقاوم الانقلاب ، بعد أن تضافرت العوامل الداخلية والمؤثرات والضغوطات الخارجية ، مع اعتقاد البعض بأن الحكم الجديد قد يكون المخرج والحل الوحيد للخروج من الأزمة السياسية السودانية الداخلية وبأقل الأثمان . إلا أن واقع الأمر اثبت العكس فقد كان هذا الانقلاب ، انقلاباً تقليدياً وظهر عملية استلام وتسليم للسلطة الى درجة أن دورهم الغني لم يكن في إسقاط الحكومة السابقة ، وانما للتصدي لأي رد فعل يستهدف النظام الحاكم في السودان ( ) . لذلك كانت مهمة الفريق عبود ، الذي طرح نفسه بديلاً للحكم المدني الديمقراطي الأول ، هو تنفيذ السياسة الأمريكية في السودان ، فقد أعلن في مستهل شهر كانون الأول قبول مشاريعها الخاصة بالسودان . وعليه - وكما يرى - البعض لم يكن هذا الانقلاب سوى حلقة في سلسلة من الانقلابات التي حدثت في العالم والتي استبدلت بموجبها الولايات المتحدة الأمريكية أنظمة تقليدية موالية وعاجزة أمام الشعبي بأنظمة جديدة موالية محاطة بهالة ( الانقلابية والثورية ) .



#ذاكر_محي_الدين_عبد_الله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- علاقات العراق مع دول الجوار العربية في رؤية أمريكية خالصة
- دور الحكومة الالكترونية في التنمية العربية المستدامة دراسة ت ...


المزيد.....




- رمى المقص من يده وركض خارجًا.. حلاق ينقذ طفلة صغيرة من الدهس ...
- مسيّرة للأمن الإيراني تقتل إرهابيين في ضواحي زاهدان
- الجيش الأمريكي يبدأ بناء رصيف بحري قبالة غزة لتوفير المساعدا ...
- إصابة شائعة.. كل ما تحتاج معرفته عن تمزق الرباط الصليبي
- إنفوغراف.. خارطة الجامعات الأميركية المناصرة لفلسطين
- مصر.. ساويرس يرد على مهاجمة سعد الدين الشاذلي وخلافه مع السا ...
- تصريحات لواء بالجيش المصري تثير اهتمام الإسرائيليين
- سيدني.. اتهامات للشرطة بازدواجية المعايير في تعاملها مع حادث ...
- ليبيا وإثيوبيا تبحثان استئناف تعاونهما بعد انقطاع استمر 20 ع ...
- بحضور كيم جونغ أون.. احتفالات بيوم الجيش في كوريا الشمالية ع ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - ذاكر محي الدين عبد الله - المؤثرات والضغوطات الخارجية ودورها في انقلاب 1958 في السودان