أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد كامل عجلان - جدلية العلاقة بين التجريبية والليبرالية















المزيد.....


جدلية العلاقة بين التجريبية والليبرالية


محمد كامل عجلان

الحوار المتمدن-العدد: 2951 - 2010 / 3 / 21 - 17:19
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


جدلية العلاقة بين التجريبية والليبرالية :
التجريبية والليبرالية – فى الغالب – هما منتجان لثقافة واحدة هى الثقافة الإنجليزية ، مما أورث كلاً منهما سمات مشتركة وذلك انطلاقاً من واحدية المنطلق . لذلك سيحاول الباحث أن يعرض لبعض تلك السمات المشتركة ، من خلال إلقاء الضوء على كل من التجريبية والليبرالية .
1- التجريبية الإنجليزية :
يقول برتراند رسل : " إن أعمال ديكارت الفلسفية قد أدت إلى ظهور تيارين رئيسيين للتطور : أحدهما هو إحياء التراث العقلى ، الذى كان من أكبر دعاته فى القرن السابع عشر اسبينوزا وليبنتز . والثانى ما يُطلق عليه بوجه عام اسم التجريبية الإنجليزية . ويجب ألا نستخدم هذين الوصفين ( العقلية والتجريبية ) بشكل مطلق " ، فإذا كان الحسيون يفضلون الحس على العقل، والعقليون يؤثرون العقل على الحس ، فليس معنى هذا أن الحسيين ينكرون العقل إنكاراً تاماً ، أو أن العقليين ينكرون الحس إنكاراً تاماً . ففيما يتعلق بموقف الحسيين من العقل ، نقول إنه لا يوجد مذهب فلسفى يبيح لنفسه أن ينكر العقل تماماً ؛ لأن الفلسفة كلها تقوم على التأمل العقلى . وفيما يتعلق بموقف العقليين من الحس ، فيجب أن نفهم كلامهم فى هذا الموضع ، على أنهم يفضلون العقل على الحس ، فليست المسألة مسألة إلغاء العقل عند الحسيين ، أوإلغاء الحس عند العقليين ، بل مسألة أفضلية الحس على العقل عند أصحاب المذهب الحسى ، وأفضلية العقل على الحس عند أصحاب المذهب العقلى .
وسيعرض الباحث للتجريبية الإنجليزية من خلال أبرز ممثلى هذه التجريبية الإنجليزية وهو جون لوك .
يعتبر لوك هو رائد الفكرين التجريبى والليبرالى على حد سواء ، ففى إطار التجريبية يُعتبر أول من اهتم بالبحث عن أصول المعرفة فى الذهن الإنسانى وأول من نقد بشجاعة الأفكار الفطرية . فيرى أن بعض الناس يجزم بأن فى الذهن مبادئ فطرية معينة ، وعدداً من المفاهيم والحروف قد طُبعت – إن صح التعبير – على عقل الإنسان منذ أن وُجد وجاء بها معه إلى العالم . ويكفى للتدليل على بطلان هذا الزعم أن نبين أن الناس يستطيعون باستخدام ملكاتهم الطبيعية فقط أن يحصلوا على المعرفة التي بحوزتهم دون الالتجاء إلى الانطباعات الفطرية ، وأن يتوصلوا إلى اليقين بدون مثل هذه المفاهيم أو المبادئ " . وذلك لأن كثيراً من الناس لا يُسلِّمون بها تسليماً أولياً ، وآخرون لا يعتقدون فيها إطلاقا ً، وضرب مثلاً بالطفل والمخبول والبدائى ، حيث يتبعون فى تفكيرهم أسلوباً منافياً للمنطق . وكذلك اختلاف الناس فى تقرير ما هو خير وما هو شر ، ما هو صواب وما هو خطأ ، ولو كانت هناك أفكار فطرية لما وُجد هذا الاختلاف فى المنطق والأخلاق والدين والعلم بين مختلف الشعوب . وهنا يذكر لوك أن هناك شعوباً ليست لديها أية فكرة عن الله والعقائد الدينية الأساسية بوجه عام . فالمعرفة العقلية إذن ليست فطرية ، أى سابقة على التجربة بل هى معرفة مكتسبة ، وأن جميع الأفكار التى تكون فى الذهن إنما ترجع إلى الخبرة أو التجربة فحسب .
ويتضح مما سبق أن فلسفة لوك التجريبية ترفض الأفكار الفطرية ، وتؤسس المعرفة على دعائم تجريبية ، وتطالبنا بالتحرر كلية من التقاليد ، والمعتقدات الموروثة التى عوقت العقل البشرى عن التقدم والابتكار .
فالتجربة الحسية إذن هى مصدر المعرفة عند لوك ، ولا وجود للأفكار الفطرية ، إلا أنه يقبل طائفة من المبادئ النظرية ، كالبديهيات Axioms والمبادئ الضرورية والمعرفة الحدسية والبرهانية لها ويدرك العقل وضوحها إما بالحدس أو بالبرهان ، مثل فكرة الذاتية التى هى أساس العمليات العقلية الأخرى والتى ظن الناس بفطريتها لتميزها ووضوحها . ففى التجربة تقوم كل معرفتنا ومنها تُستمد، والملاحظة التى إما أن تتجه إلى الأجسام المحسوسة الخارجية ، وإما إلى عمليات العقل الداخلية التى ندركها ونتأملها ، وهى التى تزود أذهاننا بكل مواد التفكير . هذان هما المصدران الوحيدان للمعرفة ، عنهما تنشأ كل الأفكار .
2- الليبرالية :
الليبرالية Liberalism – فى أبسط معانيها – مذهب أو اتجاه ، يؤمن أصحابه بأن رخاء المجتمع وتقدمه لا يمكن أن يتحققا إلا بإعطاء الحرية الكاملة للفرد فى كافة المجالات ، بشرط ألا تتعارض هذه الحرية مع حريات الآخرين ، وبهذا ينكمش دور الدولة ، فتصبح ولا عمل لها سوى حفظ الأمن والنظام والحكم بين الناس على هدى المواثيق التى يعقدونها فيما بينهم ؛ ولذلك فإن الدولة فى هذا المذهب (التحررى أو الفردى) تُسمى بـ " الدولة الحارسة " Guardian State . فالدولة ليست هدفاً فى ذاتها ، وإنما هى مجرد وسيلة لتحقيق ازدهار الفرد ، فالمجتمع يجب أن يقوم على أساس الاعتراف للفرد بحقوق محددة ومكفولة .
والحرية فى المذهب الفردى تمثل ضماناً ضد تدخل الدولة ، وهى بمثابة المتاريس الواقية من عسف السلطة ، والسياج الذى يحمى الأفراد من بطش الحكام. فالمذهب الفردى التحررى وهو يساند " الفردية " Individualism ويُطلق العنان للأفراد فى مزاولة نشاطهم ، يرى أن الخير كل الخير فى تركهم أحراراً ، وأن تدخل السلطة فى نشاطهم يجب أن يكون فى أضيق الحدود الممكنة لمنع التعارض بين حرية الفرد وحرية الآخرين .
وقد استعان المذهب الليبرالى وهو يسعى إلى تأصيل هذه الحرية بكل النظريات الفلسفية والسياسية والاجتماعية التى تهدف إلى إبراز كيان الفرد أمام المجتمع ، وتعمل على تغليب النزعة الفردية على النظم الجماعية ، والدفاع عن حرية الأفراد ضد المذاهب المطلقة . ولقد قسم اللورد جيمس برايس الحريات فى المذهب الليبرالى إلى ثلاثة أنواع :
1- الحقوق المدنية Civil Rights أى تحرير شخص المواطن وممتلكاته من سيطرة الحكومة .
2- الحقوق السياسية Political Rights أى الأخذ بالنظام الديمقراطى ، ورفض نظام الحكم المطلق ، ويرى برايس أن حق كافة المواطنين فى المشاركة فى السلطة السياسية عن طريق اختيار حكومتهم بإجراء انتخابات دورية ، متعددة الأحزاب ، سرية الاقتراع ، هو أهم الحقوق الليبرالية . وذلك ما يبرر – من وجهة نظره – الصلة الوثيقة تاريخياً بين الليبرالية والديمقراطية .
3- الحقوق الدينية Religious Rights أى السماح بحرية العقيدة ، والتعبير عن الآراء الدينية وحرية ممارسة العبادة .
إلا أن الليبرالية ذات جناحين ، أحدهما اقتصادى وهو الرأسمالية ، والآخر سياسى وهو الديمقراطية .
الرأسمالية :
اجتمعت عوامل عدة كانت الرأسمالية Capitalism نتاجها ، حيث أن الرأسمالية كانت فلسفة جديدة لعصر جديد ، إلا أن ذلك لا يعنى أن الرأسمالية قد خرجت إلى حيز الوجود فجأة ودون سابق إنذار ، بل كانت الرأسمالية جنيناً فى رحم العصور الوسطى – فالتاريخ لا يعرف البدايات المفاجئة ، ولا النهايات القاطعة – كانت ولادة هذا الجنين ( الرأسمالية ) فى أواخر العصور الوسطى وبداية عصر النهضة . فلقد أدت مجموعة من العوامل الاجتماعية والاستكشافات الجغرافية والكشوف العلمية خلال تلك الفترة إلى ظهور فئة جديدة من المشتغلين بالأعمال التجارية والاقتصادية بوجه عام ، هى الطبقة البورجوازية أو الطبقة الوسطى . ارتكزت تلك الرأسمالية على فكرة أساسية خالفت بها فكرة العصور الوسطى ، فبعدما كان رأس المال خادماً للإنسان ، فإن الرأسمالية جعلته سيده . فلقد كانت أوجه النشاط فى العصور الوسطى وسيلة لغاية هى الحياة نفسها ، إلا أن النشاط والنجاح والكسب المادى أصبحت فى الرأسمالية غاية فى حد ذاتها .
وقد كانت الطبقة الوسطى حينئذ تتكون من أكثر عناصر سكان غرب أوربا نشاطاً ووعياً ، ومن ثم كان لها أثر كبير فى توجيه هذه المجتمعات ، فتحالفت مع الملوك لمقاومة الجهود التى كان يبذلها سادة الإقطاع ورجال الدين للاحتفاظ بالأوضاع الإقطاعية القديمة ، وظهر ذلك واضحاً فى فرنسا ، أما فى إنجلترا ، حيث كانت الأوضاع الاجتماعية ومؤسسات الحكم مختلفة بعض الشئ ؛ بسبب اختلاف الظروف التاريخية ، فإن البورجوازية تحالفت مع طبقة الأرستقراطيين ضد الملكية المطلقة بهدف الاستئثار بالسلطة فى مواجهة الحكم الملكى المطلق ونفوذ النبلاء معاً .
ولقد قامت الرأسمالية على أساس الحرية الفردية ، بمعنى أنه يجب ترك الأفراد أحراراً لتحقيق مصالحهم الشخصية ، وأن يكون تدخل الدولة فى أضيق الحدود ، سواء فى ميدان الإنتاج أو التوزيع . وهى تؤمن بالفردية ، على أساس أن الفرد بسعيه وراء مصلحته وسعيه من أجل تحقيق سعادته إنما يساهم بذلك فى تحقيق مصلحة الجماعة ، فالنظام يثق فى عملية المنافسة الحرة ، ويعتبر أن الربح هو خير حافز شخصى على الإنتاج ، وأن الملكية الخاصة هى الدافع نحو العمل والكد والاجتهاد .
ولقد كانت نظريات علماء الاقتصاد الإنجليز من أهم الدعامات التى استند إليها الفكر الليبرالى – خاصة الجانب الاقتصادى – فى القرن التاسع عشر ، وعلى رأسهم آدم سميث مؤلِّف كتاب " ثروة الأمم " The Wealth of Nations كما استند هذا الفكر أيضاً على مذهب جماعة الفيزيوقراط Physiocrates الذى نشأ فى فرنسا فى القرن التاسع عشر ، ونادى أصحابه بحرية الصناعة والتجارة ، وبأن الأرض هى مصدر الثروة ، وكان شعارهم المشهور " دعه يعمل ، دعه يمر "Laissez Faire – Laissez Passer بمعنى ضرورة مناهضة العراقيل التى تضعها الحكومة أمام الفئات الصناعية والتجارية الكبرى ، ومنح هذه الفئات أكبر قدر من الحرية ، عن طريق تحجيم دور الدولة . وقد تبلور كل هذا فى فكر ديفيد ريكاردو مؤلِّف كتاب " مبادئ الاقتصاد السياسى " Principles of Political Economics والذى نجح فى استخلاص أهم قوانين الاقتصاد الكلاسيكى ، وعلى رأسها نظرية " فائض القيمة " التى تقدر قيمة السلعة على أساس ما يُبذل فيها من ساعات عمل ، وتُحدِد أجر العامل بأنه أجر الكفاف ، الذى يسمح بمجرد الاستمرار فى الحياة، بلا تعويض عادل عن الجهد الذى يبذله عند صاحب العمل .
ولقد وُجهت سهام النقد إلى ذلك الاقتصاد الكلاسيكى ، باعتباره يقوم على افتراضات فلسفية ناقصة ؛ لأنها تعتبر المنفعة هى الدافع الرئيسى والمحرك لسلوك الفرد ، دون أن تأخذ فى اعتبارها ظروف الزمان والمكان . وكذلك أُخذ على الليبرالية ثقتها العمياء فى العقل والطبيعة ؛ مما أدى بها إلى عدم مراجعة مبادئها وفروضها على ضوء ملاحظة تطورات الواقع ، فاقتصر شكلها على الصورة التى وضعها جون لوك منذ قرنين من الزمان . فى ظل تلك الفترة كانت الرأسمالية قد تطورت من حيث الكم والنوع ، ونمت الصناعة إلى حد زاد من أخطارها خاصة فى أواخر القرن التاسع عشر ؛ لذلك بدأت الرأسمالية تتعرض للنقد منذ ذلك التاريخ ، حيث اعتبر كثير من المفكرين أن الحرية الاقتصادية هى التى أدت إلى تكوين احتكارات ضخمة قضت على المشروعات المتنافسة ، واستأثرت بالأسواق ، وحددت الأثمان عند مستويات مرتفعة استغلت بها المستهلكين وأرهقتهم لصالح المحتكرين .
وابتداءً من منتصف القرن العشرين اتضح أن الرأسمالية لم تعد تعتمد على وحدات ذرية ، وإنما أصبحت تقوم على وحدات كبيرة ، وتعتمد فى اقتصادياتها على السيطرة على الأسواق العالمية الخارجية . فظهرت العلاقة الوثيقة بين الليبرالية والإمبريالية العالمية التى تعمل على وأد الاقتصاد فى الدول النامية . ومن هنا ، فإن المذاهب الاشتراكية قد عارضت المذهب الليبرالى ، وأكدت أهمية التخطيط الاقتصادى الذى يقضى بتدخل الدولة فى المشروعات الكبرى وعدم تركها للحرية الفردية، والالتجاء إلى التأميم، لكى تضمن حسن الإنتاج وعدالة التوزيع .
ولقد تعرض النظام الرأسمالى فى مختلف أنحاء العالم لما عُرف بأزمة الكساد الكبير فى عام 1929 ، مما عمل على تحطيم أوهام الفكر الكلاسيكى الذى كان يستبعد حدوث أزمات فى النظام الرأسمالى ، ويرى أنه ليس ثمة تعارض بين مصلحة الفرد ومصلحة المجموع . ولقد أدى ذلك إلى ضرورة تدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى تدخلاً إيجابياً ، يعمل على توجيه الفرد لمصلحته توجيهاً علمياً . وذلك ما عُرف باسم الليبرالية الموجَهة أو المنظمة أو التدخلية ، والذى أرسى دعائمها جون ماينور كينز ، والتى تقوم على أساس أن الرأسمالية فقدت قدرتها التلقائية على التوازن ، وأصبحت معرضة لأزمات دورية ؛ بسبب الاحتمالات القوية لعدم تناسب قوى الطلب مع قوى العرض ، مما يستتبع بالضرورة تدخل الدولة لمنع حدوث الكساد والتضخم .
ولقد ميز الدكتور رمزى زكى بين ثلاث مراحل مرت بها الرأسمالية ، المرحلة الأولى وهى مرحلة الرأسمالية المطلقة التى تمتد فيما بين ظهور الثورة الصناعية وحتى اندلاع أزمة الكساد الكبيرة ( 1750 – 1929 ) والمرحلة الثانية ، وهى مرحلة الليبرالية الموجَهة أو المنظمة ، وتمتد خلال الفترة ما بين أزمة الكساد الكبير إلى بداية عقد السبعينات من القرن العشرين ( 1929 – 1970 ) أما المرحلة الثالثة وهى ما يُطلق عليها الدكتور رمزى زكى اسم "الليبرالية المتوحشة" والتى تمتد من بداية السبعينات وحتى الآن .
ولقد أدى إلى ظهور الليبرالية المتوحشة عدة أزمات ، تمثلت فى الزيادة الواضحة لمعدلات البطالة ، والتضخم ، وتدهور معدلات النمو الاقتصادى ، وتراجع معدلات الإنتاج ، وزيادة عجز الموازنة العامة ، وارتفاع حجم الدَيْن العام، وتزايد عجز موازين المدفوعات (باستثناء حالة اليابان وألمانيا الغربية) الأمر الذى أدى إلى تزايد نزعة " الحماية " Protectionism وإبطاء نمو التجارة العالمية . مما عمل على ظهور الدعوة إلى حماية أصحاب رؤوس الأموال ، والعودة إلى المفاهيم والمقولات الكلاسيكية المبكرة لليبرالية ؛ وذلك إيماناً منها بقدرة الرأسمالية على النمو المستمر وتجاوز أزماته بشكل تلقائى ، لو عادت له الحرية المطلقة ، ورفعت الدولة يدها عن التدخل فى النشاط الاقتصادى .
بعد العرض السابق لكل من التجريبية والليبرالية ، فإن الباحث يرى أن ثمة علاقة تبادلية بين المذهبين بدت فى أبرز صورها فى فكر " جون لوك " الذى جمع بين التجريبية فى الفلسفة والليبرالية فى السياسة ، تمثلت تجريبية لوك الفلسفية – أساساً – فى رفضه للأفكار الفطرية التى كانت بمثابة مصادرة قبْلية Prior لمضمون العقل البشرى ، تمثل وصاية عليه ، حيث يتحرك انطلاقاً منها، فرفض لوك تلك الوصاية الفطرية للأفكار ، وجعل الأولوية للتجربة الفردية ، أى التجربة التى يقوم بها الأفراد دون مساعدة من الخارج . وكأننا هنا بصدد ليبرالية فلسفية قابلتها تجريبية سياسية – إن جاز التعبيران – مثَّلتها الليبرالية ، حيث إيمانها بدور الفرد ، ورفضها للقبْليات السياسية ذات الطابع المطلق ، والتى تمثلت فى الحق الإلهى المقدس للملوك ، وحق الوراثة، وغيرها من المبادئ التى لا تصمد فى وجه العقل والتجربة ، واعتمدت الليبرالية فى مقابل تلك المبادئ ذات الطابع القبْلى المطلق على أفكار تساندها التجربة المعاشة وتخضع للنسبية البشرية ، ممثلة فى فكرة العقد الاجتماعى .
وانطلاقاً من ذلك نجد أن تلك التبادلية فى العلاقة بين التجريبية والليبرالية تتمثل فى عدة نقاط منها :
1- مركزية الفرد : ففى المذهب التجريبى نجد أن الملاحظة والتجربة دعامتان أساسيتان يقوم عليهما ذلك المذهب ، وما يعنينا فى هذا الأمر هو أن كلاً من الملاحظة والتجربة لا يقوم بهما إلا الأفراد ، ويتم بعيداً عن أية اعتمادات لا تقرها كل من الملاحظة والتجربة ، كالأفكار الفطرية فى مجال الفلسفة والوحى فى مجال الدين ... الخ . وذلك الفرد هو الفرد بالمعنى العينى المحسوس ، وليس الفرد فى إطار أية تهويمات مثالية أو ماورائية ، الفرد الذى يسعى فى تلك الحياة لبلوغ أهداف محددة بحدود حياتية ، وليست أهدافاً مؤجلة لعالم آخر لا تستطيع الملاحظة والتجربة إدراكه ، وإن كانت لا تملك رفضه . فللفرد دور محورى فى المذهب التجريبى ، وإن كان ذلك لا يعنى انعدام ذلك الدور فى غيره من المذاهب ، إلا أنه فى المذهب التجريبى هو المبتدا والمنتهى ، فى حين أن المذاهب الأخرى وإن كانت قد أفردت له مساحة كبيرة ، إلا أنه ليس وحيداً ومتفرداً فى إطار تلك الصورة ، لكنه مُعَانٌ بمعينات أخرى .
أما إذا انتقلنا إلى الليبرالية فإن الأمر يبدو أكثر وضوحاً ومباشرة ، فإن مبدأ أولوية الفرد على الجماعة يعتبر هو حجر الزاوية فى الفكر الليبرالي، فلقد ذهب بعض الليبراليين إلى أن المجتمع ما هو إلا مجموعة من الأفراد يسعى كل واحد منهم لتحقيق مصالحه واحتياجاته . فمن سمات الليبرالية الأساسية أنها تعطى الأولوية للفرد وحقوقه على الجماعة ، وذلك بخلاف غيرها من المذاهب الجماعية التى تُولى المجتمعات أولوية مطلقة على الأفراد، وليس الأفراد فيها سوى تروس فى آلة كبيرة . وتبدو تلك المركزية الفردية فى مفهوم الليبرالية نفسه Liberalism والذى يعنى مذهب التحرر ، حيث أن لفظة الليبرالية مشتقة من اسم الحرية Liberty ذاته ، وهذا التحرر أو الحرية ما هو إلا تحرر للفرد من القيود .
2- أولوية الزمنى على الروحى : لقد تقلصت مساحة الجانب الروحى فى كل من الفكرين التجريبى والليبرالى ؛ وقد يكون ذلك رد فعل لتلك الحالة التى سادت القرون الوسطى فى أوربا من سيطرة للكنيسة – ممثلة الجانب الروحى – على غالبية جوانب الحياة ، وانعكاس مساحة ذلك المقدس على الناحية السياسية بعد ذلك فيما سمى " الحق الإلهى المقدس للملوك " . فنجد أن التجريبية قد وقفت حجر عثرة ضد وصول تلك الحالة من القرون الوسطى إلى عتبات عصر النهضة وما تبعه ، فحاولت التجريبية تقليص تلك المساحة لما يعرف بالروحى أو المقدس ؛ وذلك نتيجة لما ترتب عليه فى القرون الوسطى الأوربية من إعاقة طريق العقل والعلم وسيطرة عقلية الخرافة .
وعلى الصعيد الليبرالى فلقد تقدمت مساحة الزمنى إلى المقدمة ، رافضة الروحى بما يمثله من سلطات الكنيسة ، وكذلك ما كان يؤكده من أبوية بعض الحكام وحقهم المقدس فى الحكم . وكذلك رفضت مُسكِّنات ذلك الروحى التى تعد بحياة أخروية أكثر خيراً وأرغد عيشاً ، محاولة أن تنال جزاءها فى هذا العالم ، دون تأجيل أو ترحيل للجزاءات والنجاحات لعالم آخر لا يستطيع الإنسان تصوره بشكل قطعى . فبذلك تقدم الزمنى بكل ما يعنيه من حركية حياتية تسعى نحو بلوغ الأهداف بناءاً على ما تبذله من جهد . وكذلك تقلصت مساحة الروحى إلى دائرة علاقة الفرد بربه علاقة مباشرة ، لا علاقة لها بنواح العلم أو مجالات السياسة .
3- النسبية والقابلية للخطأ : يتحرك المذهب التجريبى فى إطار نظرية المعرفة ، أى كيف نعرف ؟ وما هى حدود هذه المعرفة ؟ وما هى وسيلتها ؟ وبصدد الإجابة عن هذه الأسئلة ، فإن المذهب التجريبى قد سيطرت عليه النظرة النسبية ، فقد رفض الأفكار الفطرية ذات المصدر المطلق الذى لا يخضع للنسبية والتغير ، واعتمد على الملاحظة والتجربة التى تحتمل النسبية ، كما أنها تكون قابلة للخطأ وليست مطلقة الصواب ، وذلك التوجه النسبى القابل للخطأ يُفْرِد للإنسان مساحة أكبر ، حيث أن ذلك الإنسان هو مصدر تلك المعرفة ، فهى وإن كانت نسبية فإنه يعتمد فى الوصول إليها على ذاته ، وليس على أى مصدر خارجى، مما يعمل على مراجعتها من حين لآخر وينفى عنها صفة التقديس التى تصيب الفكر بالجمود والقطيعة عن الواقع .
أما الليبرالية ، فنجد أن الليبراليين يرفضون القول بأن الحقيقة النهائية قد وصل إليها البشر سواء فى العلم أو فى السياسة أو الحياة الإنسانية ؛ ذلك لأن أية حقيقة ليست فى نظرهم أكثر من احتمال يمكن أن يتغير إذا ما جدت وقائع تغير فى معتقدهم القديم ، ويقول برتراند رسل فى مقاله " الفلسفة والسياسة " : " إن الفيلسوف الليبرالى لا يقول هذا حق ، بل يقول فى مثل هذه الظروف يبدو لى أن هذا الرأى أصح من غيره ، وإذا طبقنا هذا المبدأ التجريبى على الفلسفة السياسية فسوف نجد أن الحقيقة قابلة للتغيير حسب الملاحظة العلمية ، ولن يرى الفيلسوف السياسى فى اختلاف الرأى مثاراً للعداء ؛ ذلك لأن الحقيقة يمكن أن تختلف دائماً بحسب التجارب التى يمر بها الإنسان .
فلهذه النسبية والقابلية للخطأ فى كل من التجريبية والليبرالية دور هام فى صبغ الوعى البشرى بطابع المرونة وقبول الآخر ، وعدم إصابة الفكر بحالة من المطلقية الجامدة ، حيث أن المطلق ضد طبيعة الإنسان النسبية المتغيرة . كما أن هذه النسبية تجعل الفكر فى حالة تجدد وتغيير مستمر ؛ وذلك لاعتمادها على الملاحظة والتجربة ذات الطابع المتغير .



#محمد_كامل_عجلان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أطروحة العقد الاجتماعى والحرية الفردية


المزيد.....




- -نال ثقة الشيخ زايد المُطلقة-.. رئيس الإمارات ينعي طحنون بن ...
- علي بن تميم يوضح لـCNN الدور الذي يمكن للذكاء الاصطناعي أن ي ...
- شاهد: إسرائيل تعيد فتح معبر إيريز للسماح بتدفق المساعدات إلى ...
- نتنياهو لبلينكن: إذا لم تتخل حماس عن شرط إنهاء الحرب فلن يكو ...
- الشرطة تزيل مخيماً احتجاجيًا ضد الحرب على غزة في جامعة ويسكو ...
- -حزب الله- يستهدف 3 مبان وانتشارا للجنود وموقعا عسكريا إسرائ ...
- غالانت يرافق بلينكن إلى غلاف غزة ويؤكد استعداد الجيش الإسرائ ...
- طهران: إصدار البيانات المتكررة لن يضمن للكويت أي حق بشأن حقل ...
- تقارير غربية تتوقع زيادة نفوذ روسيا والصين في إفريقيا بعد ان ...
- مطالبات في الكونغرس باستقالة رئيس مجلس النواب على خلفية المس ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد كامل عجلان - جدلية العلاقة بين التجريبية والليبرالية