أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - وسام عبدالله الدباغ - احلام في قناني فارغة















المزيد.....

احلام في قناني فارغة


وسام عبدالله الدباغ

الحوار المتمدن-العدد: 897 - 2004 / 7 / 17 - 08:17
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن
    



كان دائما منعزلا لوحده..لا يتحدث لاحد..الا في الساعة المخصصة لنا فيها للتمشي في الساحة الجانبية للسجن كان لا يمانع بان يرافقه احدهم للتمشي وكانت من عاداته المشي السريع بما لا يناسب قامته القصيرة وعمره الذي تجاوز الخمسين الا انه كن نشطا متعافيا ياخذ حمامه كل صباح باكر وبماء بارد حتى في ايام الشتاء القارص..كنا ندعوه بالحاج لانه فعلا كان حاجا للبيت الحرام ورغم انعزاله الا انه دائما يستقبل المتحدث له بامتسامة مقتضبة ومجاملة محاولا ان لا يطيل في الكلام وينهي الحوار باءختصار وادب وكان له مشاغل كثيرة عليه ان يؤديها.
كان مدرسا للتاريخ في الدراسة المتوسطة بعد اكماله لدراسته الجامعية ولعدة سنوات ولحين اعتقاله في السجن متهما بالخيانة العظمى الا وهي التجسس لصالح دولة اجنبية ومن المضحك المبكي هو ان كل جريمته لا تتعدى عن انه قد اوقف سيارته على الطريق العام لانقاذ بعض الجرحى المصابين من جراء انفجار كبير لاحدى دور السينما في المدينة وقد اتهم بانه هو العقل المدبر لهذه العملية ولصالح احدى الدول المجاورة واتضح في ما بعد بان العملية كلها مدبرة من جانب قوى الامن الحكومية لخلق البلبلة الازمة لتبرير اعتقال اشخاص غير مرغوب فيهم.
اكثر الوقت كان الحاج يقضيه مستلقيا في فراشه مفكرا شاردا لا احد يدري ما الذي يفكر به او انه مشغولا بتنظيف فلينته والفلينة هي من اهم مقتنياتنا في السجن الا وهو صندوق من الفلين وبغطاء نقوم بحفظ طعام والثلج للمواجهات التي نحصل عليها من اهلنا ومن مشاغله المهمة الاخرى هي جمع القناني وبكل الاحجام من قناني القهوة او المربى او العلب المعدنية حيث يقوم بجمعها وغسلها جيدا وينشفها ثم يحتفظ بها ليوم المواجهة القادمة ليعطيها لزوجته الحاجة..والحاجة زوجته سيدة بنفس عمره تقريبا هادئة مثله وذو وجه جميل مسالم ومبتسم دائما تحضر لمواجهته في كل فرصة سانحة والحاج كنا ننتبه له وبشكل غير عادي للسعادة مرتسمة على وجهه قبل يوم من المواجهه ويكون في ذلك اليوم مشغولا بحلاقة راسه الاصلع وحلاقة ذقنه وكوي ملابسه وتنظيف سريره ومكانه الذي من المفروض هو المكان الوحيد الذي من حقه المواجهة فيه..وفي صباح الباكر هو عادتا اول سجين يقف بالباب بانتظار زوجته ولحظة اللقاء بينهما من اجمل المناظر التي كنا حريصين بان نتابعها لانهما كانا يلتقيان بشوق ولهفة وكانهما لا يزالان في عهد الصبا يقبلان احدهما الاخر ويحتضنان وهم في طريقهم الى المكان المعد له للمواجهة..يجلسان ويتحاوران ويبتسمان وكاءنهما طيرين من طيور الحب ثم يبدئان بتناول الوجبة المهمة جدا بلنسبة لكل سجين في ذلك الوقت لانها وجبة طازجة ومطبوخة بالبيت وشهية..كانا يطعمان بعضهم البعض وبكل الحب الذي يعتمر قلبيهما وفي نهاية المواجهة يودعان بعضهم البعض ولعدة مرات والاسى مرتسما على وجهيهما ..كما انه لا ينسى ابدا ان يعطيها كل العلب والقناني الفارغة مؤكدا ولعدة مرات عليها بان تحتفظ بها وبشكل جيد لحين خروجه من السجن..هذه التوصيات استمرت ولعشرون سنة..نعم عشرون سنة وهي سنوات التي حكم بها..عشرون سنة والحاج يجمع القناني الفارغة ويعطيها لزوجته الحاجة وبدون كلل او تعب..حتى جاء اليوم الذي انهى به الحاج مدة محكوميته لجريمته وخيانته العظمى للوطن الحزين.
قبل شهر من خروجه كنا قد اعددنا قائمة الدعوات للفطور او الغذاء او العشاء حيث تلك كانت من تقاليدنا في السجن فكل سجين عليه ان يدعو الحاج على وجبة ومما تيسر لديه حتى ولو كانت وجبة فقيرة لكنها مليئة بلحب والصدق والنضال..وبدوره قام الحاج وعلى غير عادته بتوديعنا واحدا بعد الاخر قبل ليلة خروجه وكنا نمازحه مالذي سيفعله اول ما يصل لبيته..ابتسم وقال ساتفحص ما لدي من قناني.
وصل الحاج لمنزله وكان في استقباله زوجته التي نزعت الملابس السوداء التي كانت ترتديه طوال العشرون سنة الماضية ولبست ولاول مرة ملابس لها الوانا زاهية كما كان كل الجيران والاقارب وطلابه ينتظرونه للاحتفال به..كان الحاج سعيدا وفرحا لملاقات كل الاحبة لكنه كان باديا عليه انه يريد الاختلاء بنفسه وزوجته فغادر الجميع مبكرين وعلى غير ما كانوا يعتقدون والزوجة المسكينة فرحة بذلك لشوقها بالاختلاء بزوجها بعد كل ذلك الانتظار والحرمان..الا ان الحاج ذهب يبحث في زوايا البيت عن شيئ وكاءنه قد اضاع شيئا فسئلته زوجته ما الذي تبحث عنه فقال لها مبتسما..اين وضعتي القناني التي كنت قد اعطيتها لك..ارتسمت علائم الحيرة والخوف بنفس الوقت على وجه الزوجة لكنها تداركت نفسها واخذة بالضحك والحاج اخذته الضحكة اولا ثم توقف عن الضحك وقال مرة ثانية وبشكل اكثر جدية..حسنا والان اين القناني..توقفت الزوجة عن الضحك وهي حائرة وخائفة مرة اخرى ثم توجهة للمطبخ واحظرة له قنينة فارغة واحدة واعطته اياه..ارتسمت علامة الراحة الغير اكيدة على وجهه ومتسائلا.. اين باقي القناني..قالت له الزوجة والبسمة المرتعبة على وجها.. يا عزيزي لا حاجة لنا بكل تلك القناني وانا كنت قد اخذتها منك فقط كي ادعك تكون مشغولا بشيئ يلهيك في حياتك القاسية..احمرة عينىالحاج والغضب المتفجر من وجهه صائحا ..اين القناني..فاجابت الزوجة وبسرعة مرتعبة.. كنت ارميها عند باب السجن في كل مرة اغادرك فيها..اغمض الحاج عينيه وقد طفرة دمعتان كبيرتان من عينيه فاخذ القنينة الوحيدة المتبقية وذهب الى غرفته القديمة واغلق الباب على نفسه..ركضت الزوجة وهي باكية منتحبة تتوسل بان يفتح لها الباب كي تعتذر منه وانها لم تعتقد ان الامر بهذه الاهمية لكنه لم يجب كل توسلاتها واعتذارتها وبقى صامتا لا صوت يصدر منه..بقت الزوجة المسكينة تشرح له طول معاناتها وعذاباتها وكم هو مهم لها هذه اليلة التي حلمت بها هو كان المصدر الوحيد لصبرها وبقت تشرح وتشرح حتى غلب عليها النعاس والتعب فنامت على الارض امام باب غرفة النوم..حين استيقظت في الصباح الباكر واصلت المحاولة لكن لا من مجيب فاخذتها الحيرة والخوف فذهبت للجيران تطلب منهم مساعدتها بفتح الباب..حضر بعض الجيران وقاموا بفتح الباب..كان الحاج جالسا على كرسيه الهزاز وكما كان متعودا في السابق مغمض العينين والدموع لا زالت لم تنشف بعد.. وقد فتح شباك الغرفة المطل على الحديقة الخلفية العامرة بالورود ..على حافة الشباك وجدوا القنينة وقد زرع الحاج فيها وردة.



#وسام_عبدالله_الدباغ (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سماء السجون
- قصة كلب


المزيد.....




- الأمم المتحدة: أكثر من 10 آلاف فلسطيني مفقود تحت أنقاض غزة
- الامم المتحدة تعلن عن كلفة إعادة إعمار غزة
- ثاني إعدام بنفس اليوم بقضية -خيانة- السعودية.. المملكة تنفذ ...
- السعودية: العفو الدولية تطالب بالإفراج عن مواطنة محكوم عليها ...
- اليونسكو تمنح جائزتها لحرية الصحافة للصحفيين الفلسطينيين في ...
- اليونسكو تمنح جائزتها لحرية الصحافة للصحفيين الفلسطينيين في ...
- لاوغاي.. معسكرات الاعتقال في الصين (الجزء الثاني)
- قانون تجريم المثلية الجنسية.. التمييز ومطالبات الإلغاء
- اليونيسكو تمنح جائزة حرية الصحافة للصحافيين الفلسطينيين في غ ...
- حرب غزة: قصف متواصل على القطاع واعتقال مشتبه به حاول مهاجمة ...


المزيد.....

- في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية * / رشيد غويلب
- الحياة الثقافية في السجن / ضرغام الدباغ
- سجين الشعبة الخامسة / محمد السعدي
- مذكراتي في السجن - ج 2 / صلاح الدين محسن
- سنابل العمر، بين القرية والمعتقل / محمد علي مقلد
- مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار / اعداد و تقديم رمسيس لبيب
- الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت ... / طاهر عبدالحكيم
- قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال ... / كفاح طافش
- ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة / حـسـقـيل قُوجـمَـان
- نقش على جدران الزنازن / إدريس ولد القابلة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - وسام عبدالله الدباغ - احلام في قناني فارغة