|
أحبها بجنون
سولاف هلال
الحوار المتمدن-العدد: 2867 - 2009 / 12 / 24 - 08:05
المحور:
الادب والفن
كنت أكذب أحيانا وأدعي المرض أحيانا أخرى ، لالشىء سوى أن أستدر عطف أمي . كثيرا ماعانيت من إحساس لم أدرك مغزاه في تلك المرحلة المبكرة من عمري . كنت في العاشرة وتسلسلي بين إخوتي يقع ماقبل الأخير، ربما حظيت بمحبة الجميع ، لكن .. ليس بالقدر الذي ناله أخي الأصغر ، كونه آخر العنقود . من المؤكد أن كثرة عددنا قد أرهقت أمي ووضعتها في حرج ، لأن إقامة موازنة عادلة ترضي الجميع شىء صعب وربما مستحيل ، كما أن توزيع الوقت على عشرة أبناء من كلا الجنسين أمر ليس بالهين أو اليسير . مازالت صورتها محفورة في ذاكرتي ، تلك المرأة الطيبة المتفانية ، لم تكن حياتها على مدار الساعة سوى عمل دؤوب ، حتى في الليل ، وحين يخلد الجميع إلى النوم ، أسمع صوت احتكاك الفرشاة بأرضية البيت . أتسلل .. أختبئ .. أرقبها دون أن تراني ، فأجدها تعمل بنشاط ، ولا ترقد قبل أن تترك البيت في أبهى صورة ، يستعد لاستقبال يوم جديد . في تلك الفترة من عمري ، وفي الأعوام التي سبقتها ، كنت شديدة الولع بها ، حتى أنني كنت أمقت المدرسة ، لأن الساعات التي أقضيها هناك تحول بيني وبينها . لذلك وضعت جل اهتمامي في كيفية استقطابها نحوي ، ونيل القسط الأكبر من الحب والدفء والحنان فادعيت المرض ، وبتكرار ادعاءاتي ، صرت أشعر بآلام حقيقية ، وكثيرا ماشعرت بوخز الضمير ، وأنا أراها تلهث متنقلة بين معامل التحليلات ومراكز الأشعة ، لكن رغبتي في الاستحواذ عليها تبرر لي أفعالي ، فأعرض عن التفكير في أي شىء دون تلك الرغبة الجامحة في امتلاك هذه المرأة التي تمثل لي العالم بأسره .
بطلت ادعاءاتي حين اطلع الطبيب على الأشعة والتقارير ، فرحت أمي لسلامتي من الأمراض التي كنت أدعيها ،ولا أدري إن كانت قد اكتشفت أكاذيبي أم أنها لم تسئ الظن بي من الأساس ، أما أنا فقد شعرت بالهزيمة ، ثم رحت أبتكر طرقا جديدة ، ولم أترفع عن القيام ببعض الأفعال الصغيرة لألفت الانتباه . فتارة أترك العلكة في فمي أثناء النوم ، دافعة نصفها إلى الخارج ، وأخرى أعض على السندويتش الليلي ، ثم أغمض عيني ، حين ألمح قدومها ، ولشدما أشعر بالابتهاج حين أسمعها تشهق مرددة " بسم الله الرحمن الرحيم " وهي تنتزع من فمي العلكة أو السندويتش ، فأنام لأحلم بفكرة جديدة . صحوت ذات صباح على همسات تدور بين إخوتي ، شعرت بنظراتهم تلسعني ، قال لي أحدهم وهو يرمقني بنظرة ساخرة : ـــ ألا تخجلين مما تفعلين ؟ ـــ ماذا فعلت ؟ ـــ تسيرين وأنت نائمة .. تتحدثين بكلمات غير مفهومة ، أول أمس كنت تتأبطين نعليك والبارحة تحملين الوسادة فوق رأسك ، لقد صرت أضحوكة، فكفي عما تفعلين. لم أعلق على شىء ، ورحت ألجأ إلى النوم متحاشية بذلك عيون إخوتي المتسائلة المستنكرة . وفي ليلة من ليالي الصيف ، صعدت إلى سطح الدار في حدود الساعة الثامنة مساء.. مددت بصري إلى الأسطح المجاورة ، حيث الأسرة البيضاء والأغطية الملونة ثم تسللت إلى فراشي ، كان باردا يغري بالنوم ، تطلعت إلى الفضاء الرحب ورحت أفكر في وسيلة أستعيد بها لهفة أمي من جديد . بعد مرور ساعات نزلت إليهم .. دخلت إلى غرفة المعيشة ، كان الجميع يتابعون مادة السهرة التي يعرضها التليفزيون . قلت بتعجب : ـــ أنتم هنا .. حسبتكم تبحثون عني ؟! التفت الجميع نحوي ، قال أخي الأكبر : ـــ نبحث عنك ؟ أين كنت ؟! ـــ هناك . ـــ هناك أين ؟ تكلمي . ـــ في الخرابة . ـــ أية خرابة ؟ ـــ تلك التي تقع لصق بيتنا.. أعني ذلك البيت الذي انهار منذ عامين إثر عاصفة عنيفة. تبادل الجميع النظرات والابتسامات .. شعرت بالحرج جاءني صوت أمي دافئا . ـــ ألم تكوني نائمة ؟ ـــ بلى .. لكنني سقطت في ذلك البيت . ثم رحت أسرد الحكاية . كنت نائمة بالفعل ، لكنني فزعت حين ارتطم جسدي بالأرض ، يبدو أنني تسلقت الجدار وأنا نائمة فسقطت . كان الظلام يهيمن على المكان وقطع الزجاج تفترش الأرض ، حتى أنني شعرت بشظاياه تنغرز في جلدي . نهضت .. بحثت عن مخرج ، لكن باب البيت كان موصدا ، لم أصرخ .. لم أخف ،ذلك لأني كنت مدركة تماما أين أنا ، ثم رحت أبحث عن وسيلة تعيدني إلى بيتي . أجلت النظر في أرجاء المكان ، ثمة غرفة تقع لصق بيتنا ظلت صامدة .. بحثت عن سلم يوصلني إلى سطحها ، لكنني لم أجد سوى جذع نخلة يتكئ على الجدار ، تسلقته بمشقة ، ثم اعتليت الجدار الذي أوصلني إلى سطح دارنا بسلام . وما أن أنهيت كلامي ، حتى انفجر الجميع بالضحك ، صاحت أمي ، فصمت الكل ، وصمتت هي أيضا ، ثم بدد الصمت صوت أحد إخوتي : ـــ إنها تكذب يا أمي .. فهل من المعقول أن تسقط من ذلك الارتفاع دون أن تتحطم عظامها ؟ ألم تلاحظي كيف دخلت علينا ، إنها أحسن حالا مني . أيده الجميع فانفجرت بالبكاء ، قلت موجهة كلامي لأمي : ـــ أنا لا أكذب هذه المرة ، صدقيني . اصطحبتني إلى إحدى الغرف .. أغلقت الباب فهويت على الأرض ، لقد خشيت أن تضربني ، لكنها مدت لي يدها الحانية ، ثم قالت بصوت عطوف : ـــ انهضي ولا تخشي شيئا . رفعت جلبابي ، كان الدم قد تجمد على سطح جلدي دون أن أشعر به ، صرختْ ، فتوافد الجميع ، قالت وهي تبكي : ـــ إنها صادقة .. لقد سقطت بالفعل ، هذه الجروح تؤكد ذلك . ضمدت أمي جراحي ، وصرت لا أنام إلا في أحضانها ، لكنها لم تكتف بذلك ،بل راحت تفكر في طريقة تقيد حركتي ليلا ، فاهتدت إلى وسيلة جعلت قلبي يزغرد فرحاً كل مساء ، لقد أخذت تربط قدمها بقدمي أثناء النوم . فكان ذلك الرباط المادي الذي جعلني ألتحم بها كل ليلة هو الرباط الروحي الذي كثيرا ماحلمت به .
#سولاف_هلال (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فنان إيطالي يتعرّض للطعن في إحدى كنائس كاربي
-
أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال
...
-
-كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟
...
-
مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان
...
-
الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل
...
-
فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل
...
-
-سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال
...
-
مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م
...
-
NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
-
لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
المزيد.....
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
-
الهجرة إلى الجحيم. رواية
/ محمود شاهين
المزيد.....
|