انمار رحمة الله
الحوار المتمدن-العدد: 2843 - 2009 / 11 / 29 - 14:15
المحور:
الادب والفن
حثيثة ٌ هي الأيام حينَ تمرُّ على قلب ِ متمرد ٍ ،يرسمُ في الأفق ِ شعوذة َ الأماني،ويرّشفُ من أحداقِهِ عصارة َ التنهدات ،تدورُ في أفلاك رأسِهِ الخيالات/المطبات العاطفية/الاستشعار الجنوني الذي أرهقهُ طوالَ فترة ِ المسير في مسالك الذات،وحيدا ً كأنهُ في هذا الكوكب المليء بالتناهيد المشفرة ِ على أبواب الحكايات .ينظرُ في ساعتِهِ مستدركا ً الوقت الزاحف كالأفعى على رمال الأيام، يُطلقُ بَصَرَهُ في الفضاء ،فيرْجعُ لاهثا ً إليه كطير ٍ /مبلل ٍ /خائف ٍ ..لا يلفتْ انتباهَهُ غيرَ نُخيلات ٍ عَطشى في البساتين البعيدة ،وطريقا ً طُبعتْ أوصالهُ التَعِبةِ في لوح ذاكرته المرهقة.يَحْرقُ لفافة َ تبغ ٍ يَسْتعينُ بها على وحشة الطريق قاطعا ً بها حبلَ الوحدة المتدلي حولَ رقبتهِ السمراء.و سماءُ المكان مثقلة ٌ بغيوم ٍ خجولة ٍ ،تتوعدُ بالبكاء في أي لحظة ٍ سانحة،.يَستدرج ُ الطريقُ سيارتهُ المتخمة ِ بالركاب إلى مطافها الأخير، فينتهزُ فرصة ً لترتيب ِ أغراضِهِ الشخصية ،مستنفرا ً ما لهُ مِنْ قوة ٍ لمواصلة ِ العطاء ، تتوقف سيارة المعلمينَ المألوفة لدى تلاميذ ِ القرية ،فيغادرُها وشيكا ً زملائه ،فيظل آخر المترجلين ،إذ تنتابه لحظة ُ تأمل ٍ للغيوم الحزينة ،فتسقط ُ أولُ دمعة ٍ من عين ِ غيمة ٍ بعيدة،فوقَ خده ِ فيرمقُها ماشيا ً في طريقه ِ المؤدي إلى باب المدرسة ،و بخطوات ٍ بطيئة ٍ، تنفرجُ الستارة ُ عن وجهِ تلاميذِهِ الواقفين في اصطفافهم المعهود ،فينتابه تمردٌ عنيف ، على روتينية ِ المشهد ِ المألوف فتحركتْ في داخلهِ لذة ُالصراخ/البكاء /الرحيل ...يتجه مستسلما ً نحو تلاميذه البؤساء.أثوابهم الكئيبة /وجوههم الذابلة/أحداقهم الكثيفة بالتساؤلات ..فيبتدرُ الكلام َ أكبرُهم سنا ،ً وكصفتهِ المعهودة ِ بمراقبةِ التلاميذ مخاطبا ً الأستاذ:ـ
-كيفَ حالك أستاذ..؟
فيجيبُه الأستاذ ُ في لهجة ٍ بسيطة ِ الترحيب وبلا مبالاة :ـ
- على مايرام.!
يأمرُ الأستاذ ُ تلاميذه بالوقوف ِ صفا ً والمسير ِ إلى قاعة الدرس المتعبة ،مبتدئا ً أولَ درس ٍ له في ذاك اليوم الغائم.طالبا ً من أحد ِ تلامذته ِ القريبين بمسح ِ السبورة المليئة ببقايا الطباشير ،يأمرهم بإخراج كتابهم ،فيصدع ُ الجميع ُ بلا تردد ٍ لإخراجهِ من حقائبهم الرثة.فيتجه صوب َ الشبابيك ناظرا ً بعينين ِ آلمتهما الكتابة ُ في ليلته ِ البارحة ،وأذا المطر مالبث َ أن باشرَ عزفَ مقطوعته ِ السحرية في صباح ٍ مفعم ٍ بالغموض.وفي حلكة تأملاته نبسَ صوت ٌ خافت ٌ من ورائهِ متمتما ً :ـ
-أستاذ...
ولكنه لم يعر أهمية ً تذكر لذلك الصوت ِ ذي الستة ِ أعوام،فكررَ التلميذ ُ المحاولة مترددا ً:ـ
- أستاذ...أستاذ...أنا...ما.
فالتفت َ إليه الأستاذ ُ في غضب ٍ ،أفسد َ عليه لحظة َ تأمل ٍ شفيفة قائلا
-ماذا تريد
-لقد نسيت كتابي
ماذا....؟
-نسي.....تُ .....كتا...
أقتربَ منه الأستاذ ُ في حنق ٍ مهول،ليس من عادة ِ ذاك/ الأستاذ/ الكاتب / الحنون أن يعاقبَ ..أو يظلم َ ...أو يجرح َ أصغرَ مخلوق ٍ على وجهِ الأرض،تغيرتْ رؤاهُ فانتفضَ يصارع ُ هذيانا ً كالبحر ِ في رأسهِ الناعس ، وتكلسات الانتقام ذابت في مجرى دمه الهادر ِ كالبحر ،ووجه ُ التلميذ يفصح ُ عن شهية ٍ للصفع والتحقير، ثم بحركة ٍ لا يفهمُها الأستاذ ُ صفعَ وجه َ التلميذ وهمَّ بضربه ِ ولعنهِ، والتلميذ ُ ليسَ له منفذا ً إلا البكاء َ بين َ أكف ٍ تهوي عليه كالمطر .يبكي التلميذ ُ...يحلفُ ..يتوسلُ...والأستاذ لا يفهمُ سرَ تواصلهِ في الضرب ِ والتحقير،وكأن إعصار الموقف يباغت الحضور ،فيبكي بعض التلاميذ خشية أن تنزلَ على رؤوسهم لعنة ٌ مشابهة.يتوقف عن ضربه طاردا ً إياه ُ خارج َ الصف ،فيخرج ُ التلميذ ُ سريعا ً /هاربا/يحلم بالخلاص..فتهدأ زوبعة الانتقام في عقل ٍ أضاع َ النورَ في ليلته الأخيرة،يصمت ُ برهة ً ثم يواصل ُ التهديد َ والوعيد لمن يفعل َ فعْل َ ضحيتهِ اللاهثة في المطر ،ماذا فعلت...؟يسأل ُ روحَه في حيرة ٍ وذهول..!ماذا فعلت ُ ..؟لم يفهم ْ في تلك اللحظة سببا ً واحدا ً لشرّه ِ المقيم ،وانفعاله ِ المستتر ِ خلف َ ستار ِ اللاشعور،لم يفسر ما آلتْ أليه لحظات ُ الانفعال،سوى أنه رأى ذلك التلميذ ..من بعيد في ساحة المدرسة ..مشردا ً /وحيدا ً/خائفا ً..يبكي على حظه المنحوس.أضطرب الأستاذ في مكانه ..مرتجفة ً يداهُ النحيلتين ،وفي داخله رغبة ٌ عنيفة في البكاء والعويل. تمتمت شفتاه في خجل من ذاته الضائعة مستغفرا ً ربَّهُ،ثم خرج كالمجنون نحو الساحة الموحلة بمياه الإمطار ، يبحث عن تلميذه المفقود ،فرَمَقهُ التلميذ ُ من بعيد،فظنَّ أن الأستاذ جاء ليكمل َ نصابَ العقوبة ،فعاجله الأستاذ مكفرا ً عن خطيئته الكبرى بعبارة :ـ
تعال ...تعال.
هرولَ التلميذ نحو الشارع خائفا ً/مرعوبا ً/ بلا وجهة ٍ محدده ،سوى الهروب من فك ِ الأستاذ ألاهث ِ وراءه في ذعر ٍ وصراخ :ـ
-تعال ...تعال...
بلا جدوى فالهارب ُ ماض ٍ في طريق ِ الخلود ،تعترضُهُ سيارة ٌ ،تحمله إلى عالم لاهوتي بعيد،تاركا ً خلفه الناسوت،غارقين في عالم متخم ٍ بالأوهام. تعال ...تعال يتصارخ ُ والدموع ُ تفرُّ من عينيه الضائعتين في تخوم الذهول.يجثو على ركبتيه المتعبتين/يبكي /يضج ُ بالصراخ / فيخاطبُ روحَهُ المسكوبة ُفي بودقة الدهشة ِ والصراع متمتما ً:ـ
- ما أتعسني ... قتلت عصفورا ً مرتين.
.
#انمار_رحمة_الله (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟