أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد اللطيف عدنان - الرحلة إلى مكة: فيلم عن إبن بطوطة بين الغرب المهتم و الغرب المتهم















المزيد.....


الرحلة إلى مكة: فيلم عن إبن بطوطة بين الغرب المهتم و الغرب المتهم


عبد اللطيف عدنان

الحوار المتمدن-العدد: 2830 - 2009 / 11 / 15 - 23:03
المحور: الادب والفن
    


الرحلة إلى مكة
فيلم عن إبن بطوطة بين الغرب المهتم و الغرب المتهم

عبد اللطيف عدنان

الرحلة إلى مكة هو عنوان هذا الفيلم عن موسم الحج والرحالة إبن بطوطة. و هو عنوان نابض و متحرك في تضاريس دلالية متعددة. عنوان في دلالته المباشرة يصارح المشاهد الغربي بمضمون آخر عن الإسلام. وفي إحالته الأدبية يذكر المشاهد العربي بهذا اللون الأدبي الأخاذ و الشيق‘ الذي يجمع بين المعرفة والمتعة: أدب الرحلة و الذي للأسف قلت الأقلام التي تتناوله‘ أو على الأقل تتناوله بدون براغماتية الخطاب الجيوسياسي. و لولا بعض عيناته التي لازال من خلالها ينبض بحياة صعبة وسط الكم الهائل من الصور الجغرافية المتحركة‘ لانقرض هذ الفن الأدبي مثلما انقرضت قبله الملحمة و ألوان أدبية أخرى. و أقصد هنا هذه الأعمال الرائعة في سياق أدب الرحلة لكاتب سيناريو الفيلم نفسه‘ الكاتب الأنجليزي الأفغاني طاهر شاه في حيز الأدب الغربي‘ و كذلك كتاب أمجد ناصر المعنون تحت أكثر من سماء‘ في سياق أدبنا العربي. عنوان الفيلم الأنجليزي أصلا يحيلنا قبل كل شيء لحقيقة أدب الرحلة في الأرشيف الأدبي العربي: يذكرنا أن أدب الرحلة كان في الأساس هو أدب الرحلة إلى مكة.

الرحلة إلى مكة فيلم يتناول شخصية تاريخية عربية واسلامية من طراز ابن بطوطة‘ كتسجيل يخترق فضاء الحرم المحرم‘ و كحبكة تنهل من كتاب أم في الثقافة العربية ككتاب الرحلة‘ فيلم كهذا لابد و أن يكون محط لبس و ملابسات‘ نقد و تناقضات.

المشاهدة المبتورة

مقابل أصوات الاستحسان الذي لقيه في الغرب هذا الفيلم التسجيلي الحكائي‘ أو الدوكودراما‘ من إخراج "بروس نيبور"‘نجد في حيزنا الثقافي العربي و المغربي خصوصا صدى الانتقادات التي عابت عليه في أكثر ما عابت‘ سطحية تناوله للشخصية التاريخية إبن بطوطة. انتقادات مشرعنة شيئما لأن انطباع الاحباط و الاستياء هو أول ما يشعره المتفرج العربي المسلم بعد مشاهدة سينمائية ليس دافعها التعرف على مكة أو البعد الانساني لمناسك الحج‘ و إنما معالجة سينمائية هوليودية لمغامرات إبن بطوطة. و هذا عكس ما قد يحصل للمتلقي الغربي الذي يجد في الفيلم أخيرا ما يروي عطش فضوله المعرفي تجاه الاماكن الاسلامية المقدسة. لأول مرة سيتخطى المتلقي الغربي عتبة هذه الأماكن المحضورة عليه واقعيا بالبنذ القانوني الوضعي‘ و ثقافيا بالحجاب التعتيمي للصور المنمطة الرائجة عليها. ربما‘ و بكل شرعية‘ ما يبغي المتلقي العربي المسلم هو إشباع شره تحقيق الذات بصريا عبر الاحتفال السينمائي بأيقونة تاريخية محلية كابن بطوطة. المشاهد العربي المسلم له حق في الصورة عن تراثه: حق إبن بطوطة في البطولة الضوئية‘ وحق كتاب الرحلة في الملحمة السينمائية.

لن يختلف الأمر بالنسبة لمشاهد عربي مسلم من نوع خاص. لنقل هذا المثقف الذي تمحص جيدا في شخصية ابن بطوطة كرحالة و شخصية إشكالية لها طريقة تعاملها مع الدين و أمور الدولة. مثقف خبر إبن بطوطة كرحالة إتنولوجي بدافع ميتافيزيقي‘ يدون لسير الأولياء والصالحين في كل مكان داخل الحيز الجغرافي لدار الاسلام‘ والتاريخي لعصر بني مرين في الدولة المغربية.

قد يستنكر هذا المثقف عبثية منتجي الفيلم باقتضاب خمسة وعشرين سنة من التجوال بكل أخطارها ومفاجآتها في رحلة دامت ثمانية عشرة أشهر. و قد يستغرب لهذه الجرأة الوقحة في تقليص أربعة و أربعين دولة حديثة و ما يناهز سبعة وسبعين ألف ميل من المسافة في خط شمال إفريقيا‘ و بعض مدن الشرق الأوسط. مثقف من هذه العينة إن كان ينتمي لثقافة متمركزة حول اللفظ و المخطوط‘ و لا يملك أي حساسية للوسائط التعبيرية الجديدة‘ و قد يكون لا زال يقارب فن الصورة بعقلية المؤامرة الغربية الاستعمارية‘ حتما لن يجد في نسخ مضمون كتاب الرحلة سينمائيا سوى مجرد مسخ لهذا الأخير. في نظر هذه الشاكلة من المثقفين‘ و المتحجرة في فكرة عن الثقافة وفكرة عن الإبداع‘ فيلم بروس نيبور‘ و أي فيلم عن ابن بطوطة مصدره غربي‘ سيكون مجرد تحريف و تقزيم لعلم مسلم قصد الإساءة إليه. و بالفعل‘ لم و لن يغيب عن الساحة الثقافية العربية من سيردد أن فيلم الرحلة إلى مكة مس من الاستشراق و" حق" ثقافي غربي أريد منه باطل.

فيلم عن إبن بطوطة كما ذكرنا في عتبة هذه المقاربة المحدودة في افق اجتهادنا‘ هو لا محالة مجال لالتباسات عديدة. و لكن ليست بالضرورة سلبية. فيلم يجمع بين المتعة والدرس‘ التسجيل و الحكاية يظل بالضرورة المقابل الصوري لكتاب الرحلة‘ و الذي هو الآخر بمقاييس العصر كان يجمع المتعة الأدبية بالدرس الأنتروبولوجي.

الفيلم و الكتاب يلتقيان إذا في نقطة التجاذب الاسلوبي بين المخيال و الأكاديمية‘ بين التاريخ و الرواية‘ بين التوثيق والحكاية‘ و بين نصية المتن و التناص الذي تدشنه حوارية هذا النص مع الذاكرة الأدبية و الظرفية الآنية الواقعية.

أقل ما يقدمه هذا الفيلم هو مناسبة أخرى للوقوف على شبكة الإلتباسات التي تعترينا في عملية القراءة‘ خصوصا بشكلها الجديد الذي هو المشاهدة. أي التباس يخلقه الفيلم هو عنصر مفاجأة للمتلقي القارئ و المشاهد على السواء: الالتباس هو عنصر متعة إذا. متعة تتأتى من هذه الحوارية بين نص الرحلة المكتوب و المطول و نص الرحلة المصور والمقتضب: إنها متعة توليد الجديد من خلال المفارقات التي تتضمنها بالضرورة كل جدلية تداخل متن في آخر. فيلم الرحلة إلى مكة اخرج كتاب الرحلة بالمعنى السينمائي في أهم ما يتضمنه ككتاب: أبان عن طاقته الهائلة في قدرته و إمكانياته اللامحدودة على التولد و التوليد. إمكانية لا يتميز بها إلا النص الأدبي الذي يمتنع عن القراءة الوظيفية و المغرضة.

هذه الحوارية النصية بين السينما والأدب‘ بين الدوكودراما و التاريخ‘ و بين جديد المشهد والذاكرة الثقافية أعادت تشكيل العلم إبن بطوطة بمقصودية جديدة. أقل ما سيترتب عن هذا التشكيل الجديد هو هذه اللغة الجديدة و هذه الدلالة المستجدة.

حتمية الرحلة بين الصورة و النسخة

في كتابه لسان آدم خصص عبد الفتاح كيليطو فصلا عن إبن بطوطة كتب فيه:

" بعد أن أملى إبن بطوطة حكاية أسفاره‘ اختفى أثره و لم يعد يسمع عنه أي شيء. بعد إتمام كتاب الرحلة‘ لم يبق لابن بطوطة أي دور مهم للقيام به. فقط الكتاب وحده سيترجم للغات عديدة و يتجول العالم‘ و ربما قد يصل لأقطار لم يصلها المؤلف نفسه" (عبد الفتاح كيليطو‘ لسان آدم‘ 1995).

على ضوء هذه الملاحظة يمكن مقاربة كتاب ابن بطوطة كمؤلف يحمل عنوانا متضمنا لحتميته في مجال الشغل الثقافي. كما اشترطت رحلة الرحلة الكتابية غياب المؤلف إبن بطوطة‘ اشترطت رحلة الرحلة السينمائية غياب هذا المؤلف في مقابله التشخيصي داخل اللغة الجديدة‘ أي اللغة السينمائية. و إنها فعلا لمفارقة غريبة‘ أن يكون من سيخلد إبن بطوطة في الشاشة هو شخص يحمل أحد أسمائه: شمس الدين. شمس الدين زينون‘ هو الممثل المغربي الذي تطابق مواصفاته البدنية مواصفات إبن بطوطة‘ على الأقل كما جردها طلال حرب في تحقيقه للكتاب. هذا الممثل الذي ظل محتشما في حضوره الضوئي‘ قدم أداء فيه من التماهي و الصدق ما سيجعل شمس الدين الاسطورة يخلد حقيقة في وجه شمس الدين الشاشة. لكن حتمية التحقق في الغياب ستلاحق ابن بطوطة النسخة مثلما لاحقت ابن بطوطة الأصل. فأسبوعين بعد الاشتغال على الشريط الصوتي في كندا‘ سيترك الممثل صوتا لابن بطوطة يتكلم لغة عالمية‘ كلغته العربية بمقاييس زمن رحلته. و يعود لبلده المغرب حيث يتلقفه الموت في حادثة سير في الدارالبيضاء. شهورا بعد ذلك تم العرض الأول للفيلم فقط بحضور شمس الدين الشخصية و الدور و بغياب الانسان في كليهما. و كما شمس الدين إبن بطوطة‘ سيرحل كذلك شمس الدين زينون قبل الوقوف على عظمة عمله.

التحقق في الغياب كذلك هو التحقق من خلال التغيير. إبن بطوطة نفسه لم يتحقق إلا كغريب. تشكلت شخصيته في حيز الاغتراب. مؤلفه تحفة النظار في عجائب الأسفار..‘ الرحلة‘ هو الآخر يستجيب لهذه المفارقة و يصير مضمونا يتشكل في رحلاته المتعددة بين اللغات و التحقيقات و التأويلات لا ينقصها ضرب من العجائبي و الغرائبي حسب تنوع الأساليب و الأقلام التي تناولته. بعد ستة قرون من الرحلة يرصو المؤلف في محطة لغوية و أسلوبية أخرى. هذه المرة يغير المؤلف جلده من اللغة اللسنية إلى اللغة السينمائية التي تعتمد الصورة المتحركة. ربما في هذه المرحلة من مراحل التحولات يستجيب هذا المؤلف أخيرا لرغبة صرح عنها من عنوانه‘ و هي خلق انطباع الحضور و المشاهدة في القارئ تجاه محتويات مضمونه. بعنوان ك تحفة النظار هناك هذا الطموح في خلق ما يسمى في لغة الحرفة السينمائية بانطباع الواقع.

هي مفارقة كون اللغة الأخيرة التي رصى عليه نص الرحلة بطموحه في خلق صورة عن الكون‘ هي اللغة الأكثر كونية. فالسينما لغة عالمية ربما لو توفرت في زمن إبن بطوطة لاستغنى عن رحلته. أو قام بها‘ كمخرج وثائقي و تسجيلي‘ أي وهو يحمل كاميرا رقمية في متاعه. فمقاصد السينما كلغة عالمية و لغة حقيقة و استكشاف تنسجم و طموح المؤلف الرحالة. مثل سينما تسجيلية مباشرة كان ابن بطوطة يلتقط مشاهد المواقف و الوقائع التي اعترته و اعترضته أثناء رحلته. هاجس مصداقية التسجيل كان يراود ابن بطوطة‘ في خلقه لمواصفات تعتمد مقاييس تقرب ما شاهده إلى مستمعيه. إبن بطوطة كان يدون في شاشة ذاكرته بالطبع والانطباع. كان يقوم بعملية يصطلح عليها اليوم بالتسجيل الدوكودرامي.

رغبة التصوير الحاضرة كأنا علوي في عملية التدوين و الإخبار داخل مؤلف الرحلة تجد انعكاسيتها في بعض المواد المضامينية التي يحتويها مؤلف تحفة النظار. ليس من الغريب أن تكون الصورة أغرب فن و وسيلة تواصل تشد انتباه إبن بطوطة في رحلته للصين. هذه النقطة البعيدة في كون إبن بطوطة حيث تتقاطع دواعي الرحلة من حب في المغامرة‘ و طلب للعلم في أبعد معاقله‘ كامتثال حرفي لنصيحة الحديث النبوي. هناك في آخر معقل للعلم و بعيدا عن دار الإسلام‘ ستشد الصورة ابن بطوطة و سيشغل دهنه فن التصاوير.

تحدث ابن بطوطة عن فن التصاوير عند الصينيين بلغة الرحالة الوصفية‘ و بلغة الأديب الرشيقة‘ و الأهم من هذا و ذاك بلغة الناقد المقارن التي تنبني على ثنائية الدرس كمضمون و الدرس كمنهجية. كان إبن بطوطة يقرب الأشياء الموصوفة في مؤلفه للمتلقي عبر مقارنات معاييرها مستلهمة من البيئة المستأنسة من طرف هذا الأخير‘ مثل الحديث عن الديك الصيني من خلال مقارنته بالديك المغربي وغيرها من النماذج. لكن على العكس من هذا‘ قارن إبن بطوطة فن التصوير عند الصينيين به عند الروم. وصف إبن بطوطة ظاهرة التصوير‘ كما لاحظ عبد الفتاح كيليطو‘ في إطار محور اختلاف جوهري لا يسمح بأية مقارنة. (عبد الفتاح كيليطو‘ لن تتكلم لغتي‘ 2002). في سبيل تقريب فن الصورة للمتلقي العربي المسلم احتاج إبن بطوطة إلى معايير وصفية خارجة عن الحيز الثقافي لهذا الأخير.

و كأن بابن بطوطة بقرون قد وضع عتبة يقترح من خلالها‘ على متلقيه من العرب والمسلمين من جيل الصورة السينمائية‘ منهجية لمقاربة عمله في نسخته السينمائية. اقترح وصفة استقرائية لمؤلفه حين يأخذ هذه الأخير تشكلا تعبيريا غريبا عن بيئة اللغة التي نشأ فيها. كان ابن بطوطة في وصفه و إخباره يراعي شروط الموضوع وشروط التلقي. نبهنا بقرون لهذه الحقيقة المقترنة بفن القراءة قبل ظهور النظريات الحديثة حول النص و التناص و قبل كل خطاب وصفي في هذا المجال يميل بثقله لجانب المتلقي. في سبيل تواصل أفضل‘ راعى إبن بطوطة شروط التلقي لذى من يستمع له من العرب‘ فكانت مقاربته للظاهرة الأيقونية مقاربة الناقد المقارن المتمرس في دراسة الوسائط التعبيرية. اسنبت مقارنته في بيئة يتحقق فيها القياس عوض بيئته التي ليس فيها إلا الفارق. و هو شيء لم يفعله‘ عن وعي و لا وعي‘ من تحامل من بني جلدته على فيلم الرحلة إلى مكة.

الرحلة إلى مكة في إشكال الصياغة و الاستساغة

فيلم الرحلة إلى مكة هو نتاج صياغة جديدة لمؤلف الرحلة. كتابة يتجدد فيها بشكل تمليه آلية تعبيرية مختلفة. وسيط الكتابة السينمائية يختلف شكلا و جوهرا عن وسيط الكتابة الادبية. و عملية التلقي في المشاهدة تتأسس على أنماط و نماذج سردية ليست بالضرورة معادلة أو مقابلة للأنماط السردية الأدبية التي تتأسس عليها عملية القراءة. عملية الصياغة السينمائية مركبة في أصلها. انطلاقا من عنصر المؤلف‘ أو هذه الهوية المتعددة الأوجه في المنتج والمخرج و كاتب السيناريو و المؤلف الموسيقي إلخ- و انتهاء باللغة السينمائية المركبة و التي تعتمد خمسة عناصر عضوية هي الصورة المتحركة‘ و النص المكتوب‘ والحوار‘ والموسيقى‘ ثم المؤثرات الصوتية الأخرى. أمام خصوصية النص السينمائي و ما يقابلها من خصوصية النص الأدبي لا يمكن الحديث في حالة التحويل السينمائي إلا عن تناص يفرض شروطا أخرى على الكتاب في إعادة صياغته وتلقيه لن تكون بالضرورة هي نفس الشروط التي أنتجته أصلا كمؤلف أدبي.

كفيلم‘ و كفيلم غربي بالخصوص‘ أثار الرحلة إلى مكة ملابسات عدة أسست لجبهة ثقافية أخرى لصراع الحضارات. كان سياقا مناسبا لتفعيل الخطاب العربي المنمط و المتعسكر ( حسب أدونيس) تجاه هذا الغرب الثقافي‘ و المهتم بالثقافة العربية و الاسلامية و الذي أصبح يدخل كله تعسفا في خانة الاستشراق. هذا المصطلح الذي أصبح لا يعني رؤية لعلاقة الذات بالآخر في جدلية التاريخ كما اقترح عبدالله العروي‘ و لا المنهجية الاستقرائية والنقدية للمتن الأدبي المنبني على الناموس الغربي‘ و التي أرصى دعائمها الراحل إدوارد سعيد‘ و إنما أصبح مرادفا لخطاب ينضح بأعراض العصبية للشرق و الشوفينية المحلية. طبعا لن يصعب الحصول على وصفة استشراقية بهذه الحمولة إذا شاهدنا فيلم الرحلة إلى مكة على ضوء كتاب لينا حداد عن وسيط الاستشراق الجديد‘ أي السينما الأمريكية: صحراء دفيد لين‘ متسكعي صحراء‘ و المتوحش الطيب‘ على شاكلة العاشق الإنجليزي‘ تيمات استشراقية موجودة في متن الفيلم. و كما هو واقع كون الرحلة إلى مكة فعلا شرق آخر من تأليف الغرب‘ لا يقل واقعية كون المقاربة الاستشراقية اصبحت وجهة نظر و مجموعة من الأحكام الجاهزة للإسقاط‘ و لا يهم إن كان مصدرها الغرب أم الشرق نفسه.

لكن ما غاب عن المدعين درس ابن بطوطة‘ و الذين لم يتأخروا في شن حملة على الفيلم باسم هذا الدرس‘ هي ثلاث نقاط مهمة: أولها هو أن كتاب الرحلة بعد مخطوط إبن جوزي لم يخرج للوجود كنسخته نهائية و مطبوعة بالعربية إلا على يد المستشرقين الأروبيين دفريمي وسانجونيتي و اللذين بالاظافة إلى هذه النسخة باللغة الاصلية ألفا كذلك نسخة باللغة الفرنسية. و نعود لنقطة أخرى أشار إليها عبد الفتاح كيليطو و هي كون أروبا‘ القارة التي لم يهتم بها إبن بطوطة في رحلته‘ هي من سيهتم به بشكل واسع يليق بما أنجزه كرحالة.

في نفس اتجاه النقطة الاولى‘ تكمن النقطة الثانية في كون هذا الفيلم الغربي هو من أشعل فجأة شرارة الاهتمام بابن بطوطة. لكن نار هذه الشرارة أول ما ستضيء هو واقع عدم وجود أي دليل على كون مؤلف الرحلة استعمل كمصدر أو مرجع أو حتى إحالة في الكتب الجغرافية العربية التي ظهرت بعد تاريخ تأليفه (1355). كانت منسوخات هذه الكتاب في أغلبها قصرا على المغرب وشمال إفريقيا‘ وفقط بعد نصف ألفية على تأليفه يلقى أخيرا كتاب الرحلة الاهتمام الذي يليق بها و لكن ليس على يد العرب بل على يد الدارسيين الاروبيين (روس دون: إبن بطوطة 1993). في الغرب كان كتاب الرحلة‘ تقريرا ومرجعا و مصدرا مهما لا يمكن الاستغناء عنه في سياق الدرس التاريخي للشرق و إفريقيا في القرن الرابع عشر.

و أخيرا‘ و في ما يهمنا أكثر في سياق المقارنة بين الفيلم ومصدره الأدبي و التاريخي تكمن النقطة الثالثة. و هي غياب الاهتمام أو عدم المبالات بالجانب المنهجي للكتاب. و أعني منهجية المقاربة التي كان يستعملها إبن بطوطة. ففي وصفه للظواهر والأشياء‘ كان ابن بطوطة يأخذ بعين الاعتبار مدى درجة قربها و بعدها عن عوالم المتلقي السوسيوثقافية. كانت المقارنات التي يعقدها كما أشرنا أعلاه متجانسة الأطراف. مقاربته لفن التصوير عند الصينيين على سبيل المثال لا الحصر‘ تبقى مرجعية منهجية تستدعي التوقف و التريث قبل إصدار الأحكام. مثل ابن بطوطة تجاه الصورة المرسومة‘ يمكن مقاربة الفيلم كصورة متحركة داخل خصوصيته التعبيرية والجمالية و ما تشترطه كإنتاج و كتلقي. و يمكن كنتاج لذلك الوقوف على بعد تعبيري و جمالي آخر سيكتسبه مؤلف الرحلة حتما مع هذه الصياغة الجديدة.

لكن قبل هذا وذاك ربما أجدر بنا أن نستفيذ من ابن بطوطة في طريقة حفظه للمسافة بين الذات والموضوع. الطريقة الوحيدة والواحدة التي تمكن في و تمكَن من تجاوز مركبات النقص حين الحديث عن الثقافة العربية في سياق الغرب الثقافي. هذا الغرب المهتم و المتهم.

هل في مقارنته لفن التصاوير عند الصينيين معه عند الروم كان إبن بطوطة مستشرقا؟ ففي هذه المقارنة لم يكن هناك ميل للثقافة البيزنطية و انما تاكيد لحقيقة غياب هذا الفن عند العرب. غياب حينها و غياب اليوم.

عوض التحامل على الفيلم‘ الأجدر بنا السؤال: لماذا لم تهتم الدوائر التربوية والثقافية في العالم العربي والاسلامي بابن بطوطة على ضوء الحساسيات الجديدة للأجيال الجديدة التي لا تعرف تاريخها ورجالاته إلا بالعناوين و الجدادة المدرسية الهشة؟ لماذ لم نقارب إبن بطوطة خارج إطار الاخبار والمعلومة عن جغرافيات دار الاسلام في عهده؟ هل ننتظر من الغرب إطلاعنا على الابعاد السردية و المنهجية لكتاب الرحلة كما فعل مع ألف ليلة وليلة؟ و السؤال الأكثر ارتباطا بسياق هذه الورقة هو لم يهتم لحد الساعة أي مخرج عربي أو مسلم بإنتاج عمل سينمائي يليق بشخصية إبن بطوطة؟

انتظار الجواب سيكون عملية دون جدوى. ابن بطوطة‘ شأنه شأن الاهرام و موسيقى بتهوفن‘ و الصخرة الموجودة على سطح القمر التي تحمل إسمه‘ صار علما إنسانيا. الاجدر بنا الاحتفاء به و تفعيل أثره في اتجاهات ومقصوديات جديدة. و الوظيفة التوضيحية والتعريفية بالاسلام في معقله التي قام بها فيلم الرحلة إلى مكة نموذجا لكيفية التعامل مع ابن بطوطة كطاقة وامكانيات ابداعية لامحدودة.

و لكن‘ لحد الساعة و تجاه هذه الطاقة من الإرث الثقافي العربي‘ فقط الغرب المتهم هو من اهتم.


عبد اللطيف عدنان
هيوستن‘ تكساس
12- 11- 2009








#عبد_اللطيف_عدنان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد اللطيف عدنان - الرحلة إلى مكة: فيلم عن إبن بطوطة بين الغرب المهتم و الغرب المتهم