محمد جاسم اللبان
الحوار المتمدن-العدد: 2819 - 2009 / 11 / 3 - 16:08
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
يصعب على المرء احيانا الكتابة عن شخص أثير لديه ، فقده فجأة ، وترك في داخله ظلالا كثيفة من الحزن والالم . ورغم تقادم الايام والسنين ، تبقى تلك الصعوبة متشبثة بمواقعها ، ساعية للأستقواء بالزخم العاطفي والوجداني ازاء ذلك ألانسان، الذي عادة ما يكون استثنائيأ في سماته الشخصية وفي عطائه ونظرته الانسانية.
واحد من هؤلاء الافذاذ هو الشهيد الدكتور " محمد بشيش " أبوظفر .
تعرفت اليه في بقعة نسيها الله والبشر ، تقع عند حافة الربع الخالي في اليمن الديمقراطية سابقا ، وفي المحافظة الرابعة تحديدا، تسمى " عتق " وهي منطقة صحراوية جرداء تتوسط عمان والسعودية واليمن ، وتأكل فيها الماشية اوراق الصحف لشحة الاوراق الخضراء ! وهذه ليست نكتة على الاطلاق ، بل أوردتها بالمعنى الحرفي للكلمة . كان الموظفون اليمنيون عندما يعينون فيها، اما انهم يرفضون التعيين منذ البداية ، او يعبرون الحدود الى السعودية بعد اسبوع واحد من وجودهم فيها . لكن كوكبة من الشيوعيين العراقيين يربو عددهم على الخمسين استطاعوا تجاوز محنة التخلف ، وحياة القرون الوسطى في هذه المنطقة النائية ، فأشاعوا الدفء والآمل بين اهاليها ، وانسجموا معهم الى الحد الذي دفع قيادة الحزب الآشتراكي اليمني الى الطلب من الحزب الشيوعي أبقاءهم هناك واستثنائهم من الذهاب الى كردستان ، لآن البدو من سكان المنطقة قالوا لهم بصريح العبارة ، اذا كان هؤلاء هم الشيوعيون ، فكلنا سنكون شيوعيين ! وفي طليعة هؤلاء المناضلين كان " ابوظفر " يعمل بنكران ذات ، وبهدوء ما بعده هدوء . يصل الليل بالنهار لخدمة أهالي المنطقة ومعالجتهم ، مهما بعدت المسافات وكانت الطرق غير سالكة . كما لم يغفل معالجة الرفاق والآهتمام بهم ورعايتهم. وكم مرة أنقذ حياة رجال ونساء كانوا على وشك الموت بفطنته وذكائه وخبرته المهنية الكبيرة . ولذلك اصبح مضرب المثل في عموم المنطقة .
لم يقتصر تميزه على الجانب المهني وحده ، وانما كان بارعا أيضا في نسج أفضل العلاقات السياسية والأجتماعية مع اليمانيين ، وشكلت ثقتهم العالية به سابقة غير معهودة في كل اليمن الديمقراطية ، عندما طلبوا منه حضور اجتماعات اللجنة المحلية للحزب الآشتراكي اليمني في المحافظة للاستفادة من أرائه ومقترحاته ونصائحه .
وفي داخل بيته الذي خصص له من قبل ادارة المستشفى التي عمل فيها ، كان يستضيف برحابة صدر رفاقا عديدين بصورة دائمية ، ورفاق اخرين يأتون لقضاء عطلة الاسبوع ، فيصل العدد الى ( 15 ) رفيقا ورفيقة . وفي أحيان أخرى أكثر من هذا العدد .
كانت الأبتسامة لا تفارق ثغره مهما كانت الظروف ، وسعى لتوفير كل مستلزمات الراحة والأنسجام لنا جميعا، فكنا حقا عائلة واحدة ، نقتسم كل ما يخصص له من أدارة المستشفى .حتى الطعام الذي كانت تتبرع في اعداده، زوجته الوفية " أم ظفر" رغم مشاغلها الكثيرة ، فهي كانت مدرسة للغة الأنكليزية ، ولديها طفلان رائعان هما " ظفر ويسار " ومع ذلك كانت تجد الوقت الكافي لأعداد مائدة جماعية يتسابق الرفاق في التهام ما تحتويه .
كان الشهيد يبتكر وسائل وأساليب عديدة لأشاعة المرح والسرور في نفوس عائلته ورفاقه ، فأوجد لنا لقاءأ في كل يوم أربعاء ، على غرار البرنامج المعروف في الأذاعة المصرية أنذاك والمسمى ب " حديث الأربعاء " كان يطلب فيه أن نسأله عن أي شيء ، بدءأ من القضايا الصحية ، وانتهاء بالسياسة . وكان الفقيد " ابوسنية " متميزأ في طرح الأسئلة الطريفة والمهمة في أن واحد .
ويوم كانت الجرأة والشجاعة في الطرح ، مثل كاعب حية ، ما أن تطل برأسها حتى تسحبه على الفور ، كان الشهيد " ابوظفر " نموذجأ رائعأ في التفكير بصوت عال . وطرح كل ما يدور في ذهنه من أراء وافكار ومقترحات ، سواء ما يتعلق منها بالأوضاع السياسية في العراق ، أو لتطوير العمل الحزبي ، دون خشية من أحد . ودخل مرات كثيرة في حوارات ساخنة مع مسؤول المنظمة الطيب والحريص والذي كان يلقب ب ( النينو ) من قبل اليمانيين ، لرقته وقصر خطواته وتسارعها .
ورغم حاجة اليمانيين له ، ووجود قرار حزبي ببقائه في اليمن ، الا انه أصر على الذهاب الى كردستان ، ومشاركة رفاقه الأنصار في نضالهم ضد الدكتاتورية .
وهناك أبدع أيضأ ، فكان شعلة وهاجة لا يهدأ لها أوار ، يتنقل من قاعدة الى أخرى ، لمعالجة من يحتاج الى المعالجة ، وساهم في العديد من المعارك البطولية ، وأخرها ذلك الكمين القاتل يوم (27/09/1984 ) ، عندما عاد مع رفاقه من سوريا وهو يحمل الأدوية وبعض المعدات الطبية ، حيث فاجأهم الجحوش والقوات الخاصة وهم في وسط النهر فتبادلوا اطلاق النار معهم ، وأستشهد عدد من الرفاق وجرح أخرون ، كان من بينهم الرفيق " أبوظفر " الذي تعرض الى تعذيب بشع على أيدي جلاوزة السلطة وأجهزتها القمعية ، فاستشهد بطلاً والتحق بقافلة الخالدين دفاعأ عن مبادئه وطموحات شعبه ، ليكون شمسأ تضيء للسائرين على هذا الدرب النبيل ، ونموذجأ لشهيد شيوعي ، أبى الا أن يترك بصمته في سجل المجد والخلود .
#محمد_جاسم_اللبان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟