أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلم علي - كارل ماركس والحركة العمالية في بريطانيا















المزيد.....


كارل ماركس والحركة العمالية في بريطانيا


سلم علي

الحوار المتمدن-العدد: 2795 - 2009 / 10 / 10 - 21:46
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


ترجمة: سلم علي

مقتطفات ضافية من محاضرة القاها المؤرخ البريطاني الماركسي إريك هوبسباوم في 15 آذار 1968 في الذكرى الـ85 لوفاة كارل ماركس. وتزامنت تلك المناسبة مع أزمة تعرض لها نظام التجارة والمدفوعات في العالم الرأسمالي آنذاك وهددت بانهيار الدولار.ليس مستحيلاً ان يدخل كتب التاريخ يوم مثل الرابع والعشرين من تشرين الاول (اكتوبر) 1929 الذي آذن بانتهاء فترة الاستقرار الرأسمالي في عشرينات القرن العشرين. ومن المؤكد ان أحداث الاسبوع الماضي تبرهن، بوضوح يفوق أية محاججة، على غياب الاستقرار المتأصل للرأسمالية، وفشلها، حتى الآن، في التغلب على التناقضات الداخلية لهذا النظام على نطاق عالمي. ان الرجل الذي كرّس حياته لكشف التناقضات الداخلية للرأسمالية (أي كارل ماركس) كان سيدرك المفارقة التي تنطوي عليها صدفة أن هذه الأزمة بلغت ذروتها بالضبط في ذكرى وفاته.

موضوع هذه المحاضرة، الذي تحدد منذ وقت طويل قبل هذا اليوم، هو ماركس والحركة العمالية البريطانية. أو، بمعنى آخر، رأي ماركس بالحركة العمالية البريطانية وما تدين به هذه الحركة من فضل لماركس. وفي السنوات الأخيرة من حياته على الأقل لم يكن ماركس يعوّل كثيراً على الحركة العمالية البريطانية، وكان تأثيره عليها، رغم كونه كبيراً، أقل مما كان يطمح اليه هو، او الماركسيون في فترة لاحقة. لذا فانه موضوع لا يستجيب الى البلاغة الخطابية المعتادة.. بل انها مناسبة لتحليل واقعي، وسأحاول ان أكون واقعياً.

ماذا كان رأي ماركس بالطبقة العاملة البريطانية وحركتها العمالية؟

بين الوقت الذي اصبح فيه ماركس شيوعياً وبين وفاته (في 1883)، مرت الحركة العمالية البريطانية عبر طورين: الطور الثوري للمرحلة التشارتية (1)، وطور الحركة الاصلاحية المتواضعة التي تلتها في خمسينات وستينات وسبعينات القرن التاسع عشر. في الطور الأول، كانت الحركة العمالية البريطانية رائدة عالمياً في التنظيم الجماهيري، وفي الوعي الطبقي السياسي، وفي تطوير ايديولوجيات مناهضة للرأسمالية، مثل الأشكال المبكرة للاشتراكية، وفي روحها الثورية. في الطور الثاني، كانت الحركة ايضاً رائدة عالمياً في تطوير شكل خاص للتنظيم، يتمثل تحديداً بالحركة النقابية، وربما ايضاً في الشكل الأضيق للوعي الطبقي الذي يتجسد بادراك الطبقة العاملة كطبقة منفصلة يملك أفرادها مصالح مختلفة عن (ولكنها ليست بالضروروة متعارضة مع) مصالح الطبقات الاخرى. لكن هذه الحركة تخلّت في هذا الطور عن العمل من اجل الاطاحة بالرأسمالية، وربما حتى عن الأمل في تحقيق ذلك، ولم تقبل ببقاء هذا النظام فحسب، والاكتفاء بالسعي الى تحسين أوضاع منتسبيها في اطاره، بل انها قبلت، أيضاً، وعلى نحو متزايد، (مع استثناءات محددة معينة) بالنظريات البرجوازية الليبرالية بشأن مستوى ما يمكن تحقيقه من تحسين في أوضاع منتسبيها.

ومما لا شك فيه ان حدوث هذا التراجع استغرق وقتاً أطول مما نعتقده أحياناً: فالحركة التشارتية لم تمت في 1848 بل بقيت نشطة ومهمة لسنوات عديدة بعد ذلك. كما يمكن ان نلاحظ، عند النظر الى عقود فترة منتصف العهد الفيكتوري، ان هذا التراجع كان يخفي عناصر تقدم جديد للحركة. فالخبرة المستمدة من تلك العقود مكّنت الحركة العمالية التي نهضت مجدداً في تسعينات القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين من امتلاك تنظيم أكثر رسوخاً وديمومة، حيث تحولت الى "حركة" حقيقية وليس موجات متتالية من الروح الكفاحية. وبالرغم من ذلك، فانها كانت من دون شك فترة تراجع. وفي كل الاحوال، لم يعش ماركس ليرى الانتعاش اللاحق للحركة. كان ماركس وانجلز يعلقان آمالاً كبيرة على الحركة العمالية البريطانية في أربعينات القرن التاسع عشر. وفضلاً عن ذلك، كانت آمالهما بشأن الثورة الاوروبية تعتمد الى حد كبير على التحولات في البلد الرأسمالي الأكثر تطوراً، والبلد الوحيد الذي يملك حركة واعية للبروليتاريا على مستوى جماهيري. لكن هذا لم يحدث. فقد بقيت بريطانيا نسبياً غير متأثرة بثورة 1848. ولكن، ولبعض الوقت بعد ذلك، بقي ماركس وانجلز يأملان في نهوض الحركة العمالية في بريطانيا وفي اوروبا على السواء. وبحلول مطلع خمسينات القرن التاسع عشر، اصبح واضحاً ان عصراً جديداً للتوسع الرأسمالي قد بدأ، مما جعل إمكان حدوث مثل هذا النهوض أقل بكثير. وعندما تبيّن انه حتى فترة الركود العالمي الكبيرة التي حلّت بعد ذلك، في 1857، لم تؤد في الواقع الى إحياء الحركة التشارتية، اصبح واضحاً انهما لم يعودا يتوقعان الكثير من الحركة العمالية البريطانية. فخلال الفترة المتبقية من حياة ماركس، كانت إشاراتهما الى هذه الحركة تعبر عن خيبة أمل متزايدة. ولم يكن ماركس وانجلز، بالطبع، الوحيدين اللذين عبرا عن هذه الخيبة. فقد شاطرهما الرأي بشأن "افتقار (الحركة) الى بسالة التشارتيين القدامى" آخرون غير ماركسيين ممن بقوا من تلك الفترة الثورية، مثل توماس كوبر.

هنا ربما تجدر الاشارة الى ملاحظتين. الأولى هي ان هذه "العدوى البرجوازية التي أصابت كما يبدو العمال البريطانيين" (2)، وهذه "البرجزة للبروليتاريا الانكليزية" (3)، ستذكّر الكثيرين منا بما جرى للحركة العمالية البريطانية في فترة لاحقة اكثر عنفواناً من التوسع والرخاء الرأسمالي التي لا نزال نعيشها. وكان ماركس وانجلز حريصين، بالطبع، على تجنب السطحية التي يتصف بها علماء الاجتماع الاكاديميون في وقتنا الحاضر، الذين يعتقدون ان "البرجزة" تعني ان العمال يتحولون الى نسخ متدنية المستوى من الطبقة الوسطى، او نوع من البرجوازية الصغيرة. فانهم لم يكونوا كذلك، وكان ماركس يدرك ذلك فعلاً. كما انه لم يعتقد ولو للحظة بأن التوسع والرخاء، الذي انتفع منه، بلا شك، عمال كثيرون، خلق "مجتمعاً مرفهاً" اختفى منه الفقر او كان من المحتمل ان يختفي منه.

وبالفعل، تتناول بعض الفقرات الاكثر بلاغة في المجلد الأول من مؤلف رأس المال الفقر خلال تلك السنوات من انتصار الرأسمالية في بريطانيا، كما بيّنت ذلك نتائج لجان التحقيق البرلمانية آنذاك. ومع ذلك أدرك ماركس حقيقة تكيف الحركة العمالية مع النظام البرجوازي، لكنه اعتبر ذلك طوراً تأريخياً، وهو كان بالفعل، كما نعلم، طوراً مؤقتاً. فقد اختفت حركة عمالية اشتراكية في بريطانيا، لكنها ستعاود الظهور.

الملاحظة الثانية، وهي أيضاً ذات صلة بالنسبة الى الوقت الحاضر، هي ان تلك العقود في منتصف العهد الفيكتوري لم تدفع ماركس الى ان يتحول الى فابي او من اتباع برنشتاين (وهو أشبه بأن يكون المرء فابياً في زي ماركسي). فهي قادته الى ان يغير منظوره الاستراتيجي والتكتيكي. وقد تكون جعلته يصبح متشائماً بشأن الآفاق على المدى القريب بالنسبة الى حركة الطبقة العاملة في اوروبا الغربية، خصوصاً بعد 1871. لكنها في الوقت نفسه لم تدفعه الى التخلي عن الاعتقاد بأن إنعتاق البشر أمر ممكن او أنه سيكون مستنداً على حركة البروليتاريا. فقد كان، وبقي، اشتراكياً ثورياً. ولم يكن ذلك لأنه أغفل النزعات المضادة او قلل من شأن قوتها. فلم تكن لديه أية أوهام بشأن الحركة العمالية البريطانية في ستينات وسبعينات القرن التاسع عشر، ولكن لأنه لم يعتبر تلك النزعات حاسمة تأريخياً.

كيف فسّر ماركس هذا التغير في طبيعة الحركة العمالية البريطانية؟ لقد فسّره، بشكل عام، بكونه نتاجاً للدفقة الجديدة من الحياة التي منحها الرأسمالية التوسع الاقتصادي بعد 1851، أي بمعنى آخر التطور الشامل للسوق العالمية الرأسالية في تلك العقود. ولكنه عزا هذا التغير، على نحو اكثر تحديداً، الى هيمنة الرأسمالية البريطانية على العالم او احتكارها له. تظهر هذه الموضوعة للمرة الأولى في المراسلات بين ماركس وانجلز في حوالي 1858 (بعد تبدد الآمال التي كانا قد علّقاها على الحركة في فترة الركود الاقتصادي في 1857)، وتتكرر لاحقاً، في الغالب، كما تجدر الاشارة، في رسائل انجلز. بالتالي، توقع انجلز ايضاً ان يؤدي انتهاء هذا الاحتكار للعالم من قبل الرأسمالية البريطانية الى تطور نزعة ثورية لدى الحركة العمالية البريطانية. وفي ثمانينات القرن التاسع عشر، لاحظ انجلز بالفعل مراراً ان كلا هذين الأمرين كان يحدث او يمكن توقع حدوثه.

وقد تكون الاشارة الأفضل تعبيراً عن ذلك هو ما جاء في المقدمة التي كتبها انجلز لأول ترجمة انكليزية للمجلد الأول من مؤلف رأس المال (كتبت في 1886). لكن مراسلاته في تلك السنوات تعود الى هذه المحاججة مرة تلو اخرى، واحياناً كي يفسّر لماذا تخفق الحركة الاشتراكية التي انتعشت في بريطانيا في تحقيق تقدم كافٍ. وكان يفعل ذلك في الأغلب بروح من التفاؤل، فربما كان انجلز اكثر حماسة في توقعاته السياسية من ماركس، وربما كان اكثر ميلاً بعض الشيء من رفيقه ماركس الى رؤية ان التحولات الاقتصادية ستؤدي حتماً الى نتائج سياسية. وقد كان، بالطبع، على صواب من حيث المبدأ. فما يسمى بـ"الركود الكبير" في الفترة 1873-1896 آذن بالفعل بإنتهاء احتكار العالم من قبل بريطانيا، وآذن ايضاً بولادة جديدة لحركة عمالية اشتراكية. لكن من الواضح انه، من جانب آخر، قلّل من شأن قدرة الرأسمالية ككل على مواصلة توسعها، وايضاً من شأن قدرة الرأسمالية البريطانية على ان تحمي نفسها من التداعيات الاجتماعية والسياسية لتراجعها النسبي عبر الامبريالية في الخارج وإتباع نوع جديد من السياسة الداخلية.

وقد كرّس ماركس نفسه وقتاً أقل (بعد خمسينات القرن التاسع عشر على الأقل) في مناقشة هذه المناظير الاقتصادية الأوسع ووقتاً اكثر في النظر بالتداعيات السياسية للضعف المتزايد للحركة العمالية البريطانية. وكانت وجهة نظره الأساسية، كما عّبر عنها في المقطع التالي من رسالته الى مايير وفوغت في 9 اكتوبر 1870):

"إن انكلترا، باعتبارها متروبول الرأسمال العالمي، وكبلد يحكم حتى الآن السوق العالمية، هي في الوقت الحاضر البلد الأهم لثورة الطبقة العاملة. كما انها البلد الوحيد الذي تطورت فيه الشروط المادية لهذه الثورة الى درجة معينة من النضج. ولذا فان المهمة الأكثر اهمية للأممية هي التسريع بالثورة الاجتماعية في انكلترا."

لكن اذا كانت تتوفر لدى الطبقة العاملة البريطانية المتطلبات المادية للثورة، فانها كانت تفتقر الى الاستعداد للقيام بثورة، أي أن تستخدم نفوذها السياسي للاستيلاء على السلطة، كما كان يمكنها ان تفعل في أي وقت بعد الاصلاح البرلماني في 1867 وربما ينبغي ان نضيف هنا ان هذا الطريق السلمي الى الاشتراكية، الذي كان ماركس وانجلز أصرا على امكانيته في اوقات مختلفة بعد 1870 (4)، لم يكن بديلاً للثورة، بل وسيلة "لالغاء، بصورة شرعية، تلك القوانين والمؤسسات التي تعترض طريق تطور الطبقة العاملة" في البلدان البرجوازية الديمقراطية. وهي امكانية لم تكن قائمة طبعاً في البلدان غير الديمقراطية. كما انها لن تزيل العقبات التي تقف بوجه الطبقة العاملة والتي لا تأخذ شكل قوانين ومؤسسات، على سبيل المثال السلطة الاقتصادية للبرجوازية. ويمكن بالتالي ان تتحول بسهولة الى ثورة عنفية كنتيجة لتمرد اولئك الذين توجد لديهم مصلحة راسخة في إدامة الواقع القائم القديم. والمسألة هنا هي انه في حال حدوث ذلك، فان البرجوازيين سيكونون متمردين على حكومة شرعية، مثلما كان الحال (اذا استعرنا من امثلة ماركس ذاتها) عندما تمرد الجنوب على الشمال في الحرب الاهلية الامريكية، ومثلما كانت عناصر الثورة المضادة في الثورة الفرنسية. ويمكن ان نضيف الى هذه الأمثلة ما جرى في الحرب الاهلية الاسبانية (1936-1939). لم تكن محاججة ماركس معنية بأي اختيار مثالي بين العنف واللاعنف، او بين التطور التدريجي والثورة، بل بالاستخدام الواقعي لمثل هذه الامكانات التي كانت متاحة أمام الحركة العمالية في أي وضع معين. ومن بين هذه الامكانات، في ظل ديمقراطية برجوازية، كان واضحاً ان البرلمان يحتل موقعاً محورياً.

ومع ذلك كان واضحاً ان الطبقة العاملة البريطانية لم تكن مستعدة لاستخدام أي من هذه الامكانات، حتى تشكيل حزب عمالي مستقل او إتباع نهج سياسي مستقل من قبل الافراد من العمال الذين صادف انهم اُنتخبوا الى البرلمان. فمن دون الانتظار لحين أن تؤدي الاتجاهات البعيدة المدى للتطور التأريخي الى تغيير الوضع، كانت هناك أشياء عدة يمكن القيام بها. واحدى المزايا الكبرى لكتابات ماركس هي انها تبيّن بأن الشيوعيين يمكن ويجب أن يتجنبوا الخطأ المتمثل بانتظار أن يحدث التأريخ، وايضاً خطأ اللجوء الى أساليب لا تأريخية مثل فوضوية باكونين واعمال الارهاب العبثية.

وفي المقام الأول، كان ضرورياً ان يجري تثقيف الطبقة العاملة ورفع مستوى وعيها السياسي "عبر تحريض متواصل ضد الموقف العدائي الذي تظهره الطبقات الحاكمة ازاء العمال في الحياة السياسية" (5)، أي عبر إنتاج اوضاع تكشف هذا العداء. قد يعني هذا، بالطبع، تنظيم مواجهات مع الطبقة الحاكمة، ما سيدفعها الى التخلي عن التعاطف الذي تتظاهر به. لذا رحب ماركس بوحشية الشرطة خلال تظاهرات "الاصلاح" في 1866: ان عنف الطبقة الحاكمة يمكن ان يقدم "تعليماً ثورياً" طالما أسهم ذلك، بالطبع، بعزل الشرطة وليس اولئك الذين اشتبكوا معهم. وانتقد ماركس وانجلز بعبارات لاذعة الاعمال الارهابية التي نفذها تنظيم "فينيان" الايرلندي في ضاحية كلاركنويل في لندن وكان لها تأثير معاكس.

وفي المقام الثاني، كان من الضروري التحالف مع كل اقسام العمال غير المؤيدين للاصلاح. ولهذا السبب سعى ماركس ايضاً الى العمل مع أتباع برونتير اوبرايان، من بقايا الاشتراكية القديمة أيام الحركة التشارتية، في مجلس الأممية. فقد اعتبر انه "على رغم افكارهم المخبولة، فانهم يشكلون ثقلاً مضاداً للنقابيين. انهم أكثر ثورية... وأقل قومانية ولديهم حصانة تامة تجاه أي شكل من الفساد البرجوازي. ولولا ذلك، كان ينبغي ان نطردهم منذ وقت طويل."

ايرلندا

لكن وصفة ماركس الرئيسية لتثوير الوضع في بريطانيا كانت تمر عبر ايرلندا، أي عبر الوسائل غير المباشرة بدعم الثورة في المستعمرات، والسعي عبر القيام بذلك الى تدمير الآصرة التي تربط العمال البريطانيين بالبرجوازية البريطانية. في البداية توقع ماركس، كما اعترف هو بذلك، ان يجري تحرير ايرلندا عبر انتصار البروليتاريا البريطانية. (6) ومنذ اواخر ستينات القرن التاسع عشر، تبنى وجهة النظر المعاكسة، وهي أن الثورات في البلدان المتخلفة والمستعمرة ستكون خطوة تمهيدية وستؤدي بذاتها الى تثوير بلدان المتروبول. (ومن المثير للاهتمام انه في الفترة ذاتها تقريباً بدأ ماركس يعبّر عن هذه الآمال في حدوث ثورة في روسيا، وبقي متمسكاً بها في السنوات اللاحقة.) (7) وكانت ايرلندا تلعب دوراً مقيّداً بطريقتين: عبر شق الطبقة العاملة الانكليزية وفق أسس قومية، وتبعاً لذلك عبر اعطاء العامل البريطاني مصلحة مشتركة ظاهرياً مع حكّامه في استغلال آخرين. وكان هذا هو فحوى مقولة ماركس الشهيرة بأن "الأمة التي تضطهد أمة أخرى لا يمكن ان تكون هي حرة". لذا كانت ايرلندا في لحظة ما هي المفتاح الى انكلترا، اكثر مما كانت تمثله انكلترا لدفع حركة التقدم في العالم بشكل عام. وهو ما عبّر عنه ماركس في ما يلي:

"اذا كان علينا ان نسرّع التطور الاجتماعي في اوروبا، يجب ان نسرّع بفشل انكلترا الرسمية (أي الطبقة الحاكمة). وهذا يتطلب توجيه ضربة في ايرلندا، التي هي النقطة الاضعف لبريطانيا. اذا جرت خسارة ايرلندا، فان "الامبراطورية" البريطانية ستضعف وسيتخذ الصراع الطبقي في انكلترا، الذي كان حتى الآن متثاقلاً وبطيئاً، اشكالاً أكثر حدة. لكن انكلترا هي متروبول الرأسمالية والاقطاع في العالم كله."

لقد امضيت بعض الوقت في دراسة تفاصيل موقف كارل ماركس من الحركة العمالية البريطانية، وبصورة أساسية في ستينات ومطلع سبعينات القرن التاسع عشر عندما كان مهتماً بها عن قرب من خلال الأممية. وقد كتب حولها في تلك الأيام ليس كمحلل تأريخي عام بل بالأحرى كمخطط للاستراتيج والتاكتيك السياسي، ينظر في اوضاع سياسية ملموسة. لقد انتهى الوضع الذي كان قائماً في ستينات القرن التاسع عشر الى غير رجعة، ولا أحد سيزعم، وأبعدهم عن ذلك ماركس نفسه، أن ما قاله حول ذلك الوضع بتفصيل ينطبق على أية فترة أخرى. من جانب آخر، من المفيد دائماً ان يرى المرء أحد كبار مخططي الاستراتيج والتاكتيك الماركسيين وهو يعمل. ويجب أن نتذكر، كما إعتاد انجلز ان يتذكر، ان ماركس كان أحد عباقرة التاكتيك في الفترات النادرة عندما اُتيحت له فرصة أن يكون كذلك.

لقد أخفق ماركس في "إعادة تحفيز الحركة العمالية البريطانية"، وأدى هذا الاخفاق، كما أدرك هو، الى جعل الحركة العالمية تنتظر وقتاً أطول بكثير. وعندما عاودت هذه الحركة النهوض، لم تعد بريطانيا والطبقة العاملة البريطانية تلعبان الدور المحوري فيها الذي كان يمكن ان تنهضا به عندما كانت بريطانيا "متروبول الرأسمالية والاقطاع في كل مكان". وحالما أدرك أن استراتيجية ستينات القرن التاسع عشر فشلت، توقف ماركس عن إشغال نفسه كثيراً بالحركة العمالية البريطانية.

عند هذه النقطة يمكن لنا منطقياً أن ننتقل الى النصف الآخر من السؤال حول ماركس والحركة العمالية البريطانية، وهي تحديداً التأثير الذي تركه ماركس وتعاليمه على الحركة العمالية في بريطانيا.

لنكن على وضوح أولاً بشأن حدود هذا التأثير التي لا مفر منها تأريخياً. فلم يكن من المحتمل أن يجري إنتاج حركة عمالية ثورية في بلد كان يفتقر الى تجربة وتقاليد الثورة، والى أية أوضاع (آنذاك او لاحقاً) يمكن أن توصف بأنها ثورية او ما قبل الثورة. ولم يكن من المحتمل إنتاج حركة عمالية جماهيرية بإلهام وتنظيم من الماركسية، لأنه عندما ظهرت الماركسية على مسرح الأحداث، كانت هناك حركة عمالية قوية وحسنة التنظيم ومؤثرة سياسياً قائمة بالفعل في بريطانيا على مستوى وطني، بصيغة حركة نقابية وحركة تعاونية للمستهلكين وزعماء ليبراليين – عماليين. فالماركسية لم تسبق الحركة العمالية البريطانية، بل حتى لم تكن معاصرة لها.

الهوامش:

1- التشارتية: أول حركة ثورية جماهيرية للعمال البريطانيين في ثلاثينات وأربعينات القرن التاسع عشر. قدم التشارتيون عريضتهم الى البرلمان تحت اسم "عقد الشعب" وكافحوا من أجل المطالب الواردة في العقد: الاقتراع العام، إلغاء أهلية الملكية بالنسبة للمترشحين للبرلمان.. الخ. وقد عقدت اجتماعات ونظّمت مظاهرات جماهيرية ضمت الملايين من العمال والحرفيين في كامل انحاء البلاد امتدت لسنوات.

2- رسالة ماركس الى انجلز، 16 نيسان 1863.

3- رسالة انجلز الى ماركس، 7 اكتوبر 1858.

4- ماركس، كلمة بعد مؤتمر لاهاي 1872، انجلز، في مقدمة الترجمة الانكليزية للمجلد الأول لمؤلف رأس المال.

5- رسالة ماركس الى بولته، 23 نوفمبر 1871.

6- رسالة ماركس الى انجلز، 10 ديسمبر 1869.

7- ماركس الى لورا وبول لافارغ، 5 آذار 1870.

+



#سلم_علي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مآل الاتفاقية الامنية بين العراق وامريكا .. والبديل!
- تحت ستار الفوضى الامنية والعنف الطائفي وفي ظل تفشي الفساد... ...


المزيد.....




- الهجمة الإسرائيلية المؤجلة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...
- أصولها عربية.. من هي رئيسة جامعة كولومبيا بنيويورك التي وشت ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- الشرطة الفرنسية تستدعي نائبة يسارية على خلفية تحقيق بشأن -تم ...
- السيناتور ساندرز يحاول حجب مليارات عن إسرائيل بعد لقائه بايد ...
- إعادة افتتاح متحف كانط في الذكرى الـ300 لميلاد الفيلسوف في ك ...
- محكمة بجاية (الجزائر): النيابة العامة تطالب بخمسة عشر شهرا ح ...
- تركيا تعلن تحييد 19 عنصرا من حزب العمال الكردستاني ووحدات حم ...
- طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلم علي - كارل ماركس والحركة العمالية في بريطانيا