أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - جان ويلمس - فهم الأزمة من أجل محاربة التقشف















المزيد.....


فهم الأزمة من أجل محاربة التقشف


جان ويلمس

الحوار المتمدن-العدد: 2788 - 2009 / 10 / 3 - 02:30
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


إن الأزمة التي تعصف بالاقتصاد الرأسمالي العالمي أزمة غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية. فلأول مرة منذ 1945 تراجعت التجارة العالمية. وامتدت الأزمة المالية التي اندلعت في 2008 بسرعة في الاقتصاد الفعلي أي إلى المقاولات. وفي العام 2009 سيشهد النتاج الداخلي الإجمالي العالمي سقوطا شبيها بما جرى عام 1929. ستضرب هذه الأزمة في المقام الأول، كغيرها من أزمات هذا النظام الرأسمالي، العمال والأوساط الشعبية. هذا لأن الأزمة ليست، بالنسبة للأغنياء الرأسماليين، غير طريقة لترشيد استثمارهم والإفادة من شقاء بقية السكان. ُيزاح بعض الرأسماليين في العملية، لكنهم لا يفقدون، إلا استثناء، كامل ثروتهم.




رغم ما كلف إفلاس فورتيس Fortis من ملايير لدافعي الضرائب في بلجيكا، لن يفقد مالكها الرئيسي، عائلة ليـبنس Lippens، عمله . وستظل العائلة مالكة الملايير كما كانت. ولن تفقد عائلة بويل Boël قصورها وغير ذلك من عقارات تقدر بمبلغ 100 مليون يورو. صرح الوكيل البلجيكي لرولس رويس Rolls Royce انه لم يلحظ أي تراجع للمبيعات بعد ظهور الأزمة. إن استهلاك فائقي الثراء في حالة جيدا، شكرا.

أصل الأزمة: الرأسماليون الماليون يفككون رقابة الدول من أجل المضاربة والغش بلا قيد

ومع ذلك، هذه أزمة سببها الرأسماليون بتعطشهم المتنامي إلى الربح. منذ أزمة فيض الإنتاج التي انفجرت في 1973 وما تلا من تباطؤ النمو الرأسمالي، قل على نحو مستمر استثمار الرأسماليين وأصحاب الريع لخلق فرص عمل وقوى إنتاج جديدة مفيدة للمجتمع. كان على الرأسماليين أن يجدوا مجالا لاستثمار كتلة أرباحهم. وبما أن أسواق السلع كانت مشبعة، اتجه قسم متنام من تلك الأرباح إلى الدائرة المالية و إلى المضاربة خلال الثلاثين سنة الأخيرة.

قبل أربعين سنة دفعت البنوك الكبرى وصناديق الاستثمار الخاصة حكوماتها إلى تحرير حركات الرساميل من أجل المضاربة والاستثمار بدون قيد ، لكن أيضا من اجل الإفلات من الضريبة. ودون توسل مديد أتاحت الحكومة الأمريكية منذ منتصف سنوات 1970 دخول الرساميل وخروجها بحرية من الولايات المتحدة، ميسرة بذلك التهرب من الضريبة، وإمكانات المضاربة في العالم برمته. واقتفت أثرها باقي حكومات الاقتصاديات الرأسمالية الأكثر تقدما. لم يسعها إلا أن تمنح برجوازيتها المالية ما استفادت منه منافستها الأمريكية. وعلى هذا النحو تمكنت الرساميل من الحركة بحرية كما قبل الحرب العالمية الأولى، وتكاثرت وتعززت عبر العالم المراكز المالية الحرة off-shores ( تعني حرفيا " خارج السواحل" أي خارج رقابة الدول) التي استقبلت غشاشي الضريبة و بيضت المال الوسخ ( جزر كايمان، جزر فييرج، لوكسمبورغ، ليشتنشتاين...)

من فقاعات مضاربية عالمية وأزمات مالية مدمرة متكررة ...

خلال سنوات 1970، قامت بنوك البلدان الغنية، عوض الاستثمار في قوى إنتاج جديدة، بالإقراض الكثيف لديكتاتوريات عسكرية دموية بالعالم الثالث، مثل البرازيل و الأرجنتين وكوريا الجنوبية و إندونيسيا. كان بإمكانها فعلا أن تضارب بتواطؤ مع حكومات تلك الدول برفع كثيف لديون تلك البلدان. أتاح ذلك تحقيقا سريعا للإرباح حتى مطلع سنوات 1980 حيث عجزت تلك البلدان عن مجابهة ارتفاع أسعار الفائدة، و صارت عاجزة عن سداد ديونها لبنوك البلدان الغنية. كان ذلك بداية أزمة الديون التي ما زالت مستمرة في 2009. وكما الأمر اليوم، وجدت البنوك الأمريكية في حالة إفلاس فرضي بفعل قروضها المحفوفة بمخاطر جمة.

لكن ، وكما الأمر حاليا أيضا، لم تكن البنوك من دفع ثمن الخسائر، بل عمال العالم برمته. فقد تحملت الحكومات الغربية ديون بلدان العالم الثالث و ألغت ما بذمة البنوك الخاصة. و ألقت الحكومات الكلفة على كاهل دافعي الضرائب بالبلدان الغنية أي كادحيها. فقد كانت الشركات متعددة الجنسية، وأغنى العائلات، تودع القسم الأعظم من رساميلها في الفراديس الضريبية. وكانت الدول تمنحها أكثر فأكثر إعفاءات من الضريبة بقصد حفزها المزعوم على خلق فرص عمل. وجرت إضافة مئات ملايير الدولار التي سلفتها البنوك الخاصة لدكتاتوريات العالم الثالث و استحالت استعادتها، إلى الديون العامة بالولايات المتحدة وأوربا. و من أين اقترضت الحكومات الأمريكية والأوربية بأسعار مرتفعة جدا؟ طبعا لدى البنوك الخاصة... التي حصلت على هذا النحو على مئات ملايير الدولار من الفوائد الإضافية المؤداة من قبل العمال دافعي الضريبة.

وفرضت الدول الغنية بمعاونة من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ( مؤسسات مالية تسمى "دولية" تحوز فيها الحكومات الأمريكية والأوربية حق اعتراض – فيتو) خطط تسديد بالغة القسوة على سكان العالم الثالث. أجبرت هذه الخطط المسماة " تقويما هيكليا" حكومات بلدان العالم الثالث على الاقتطاع من التعليم والصحة وباقي الوظيفة العمومية وكذا في باقي السياسات الاجتماعية النادرة. وفرض صندوق النقد الدولي خفضا للأجور بلغ حتى 50 بالمائة. و ترتب عن ذلك في كل مكان كوارث اجتماعية تدوم منذ عشرات السنين و تشكل تربة خصبة للحروب الأهلية الدامية، ولتفكك الدولة و لصعود قوى للمنظمات الإجرامية وأسياد الحرب. وتمثل الكونغو والصومال ورواندا ويوغوسلافيا و المكسيك أمثلة مأساوية ضمن أخرى عديدة من هذا النظام الرأسمالي العالمي العبثي والقاتل.

كما فرض صندوق النقد الدولي انفتاح بلدان العالم الثالث كليا على المستثمرين الرأسماليين الغربيين، و الغي كل ما كان قائما ببلدان العالم الثالث من أشكال الرقابة على حركات الرساميل. وعلى هذا النحو، تمكنت الشركات متعددة الجنسية من الاستثمار بقصد التحكم المباشر في الموارد الطبيعية والخدمات ( بنوك، نقل، اتصالات ) بالبلدان الفقيرة. وتمكنت من الإنتاج بتلك البلدان حيث الأجور أدنى عشر مرات من أجور البلدان المتطورة، وحيث يتعرض النقابيون الحقيقيون للتهديد بالقتل و للاغتيال من قبل الشرطات المحلية أو فيالق الموت التابعة لأرباب العمل كما في كولومبيا أو الفلبين. لكن صندوق النقد الدولي نجح أيضا في فرض حرية دخول الرساميل المضاربة وخروجها من بلدان العالم الثالث.

في مطلع سنوات 1990، كان الرأسماليون نجحوا في فرض تخلي دولهم عن أغلب أشكال الرقابة على حركات الرساميل عبر العالم. وبفضل تقدم الإعلاميات والاتصالات، كانت الأسواق المالية لمختلف البلدان مترابطة مشكلة بذلك نوعا من كازينو عالمي كبير حيث يقوم الرأسماليون بالغش الضريبي والمضاربة وتبييض أموال الرشاوى وتجارة المخدرات والسلاح ... والبشر. ولم يحرموا أنفسهم من ذلك. وتوالت الفقاعات المالية والأزمات المالية واحدة تلو الأخرى خلال سنوات 1990. وضارب الرأسماليون بكل ما يمكن: العقار في بانكوك، وسندات ديون دولة المكسيك أو روسيا ، العملة البرازيلية وكذا المواد الأولية. أدت كل من هذه الأزمات إلى حصتها من البؤس والبطالة وتدمير الخدمات العامة و ضرائب إضافية على كاهل السكان: كان أهمها أزمة تيكلا Tequila بالمكسيك في 1994 ( كلفة مباشرة أداها دافعو الضريبة المكسيكيون والأمريكيون بلغت 50 مليار دولار )، و الأزمة الأرجنتينية في 1995، والأزمة بشرق آسيا في 1997 ( مئات مليارات الدولار)، والأزمة الروسية والأزمة البرازيلية ، ومن جديد الأزمة الأرجنتينية. وكل مرة كان الرأسماليون يضاربون بمنتوج مالي، أو عقار أو عملة أو مواد أولية، صانعين بذلك فقاعة تنفجر وتؤدي إلى أزمة مالية واقتصادية مدمرة. وفي متم سنوات 1990 كانت الأزمات المالية قد زعزعت اقتصاديات العالم الثالث لدرجة أن قسما أكبر من الرساميل المضاربة انتقل من جديد إلى البلدان المتطورة، وبوجه خاص إلى البورصة الأمريكية للتكنولوجيا الجديدة ، NASDAQ. كان ذلك فقاعة "الاقتصاد الجديد" التي أفضت إلى انحسار 2001 وإلى أزمة فيض إنتاج جديدة.

... إلى تناقضات الرأسمالية الأمريكية المؤدية إلى الأزمة المالية الراهنة

بعد انهيار فقاعة المضاربة الخاصة ببورصة نازداك NASDAQ في العام 2000، بقصد منح الرأسماليين الأمريكيين أسواق جديدة ارتمت الحكومة الأمريكية في برنامج إعادة تسلح وفيما يسمى "الحرب على الإرهاب" منفقة مئات ملايير الدولار. لكن بشكل مواز منح بوش وزمرته هدايا ضريبية جديدة للأغنياء، خاصة بإلغاء كل ضريبة على الإرث الأقل من... 5 مليون دولار ! و بدأت الدولة الأمريكية تستدين بشكل كثيف. وقامت بخفض أسعار الفائدة بقصد حفز الاستهلاك والاستثمارات. واستفادت اسر أمريكية من السعر المنخفض لتملك مساكن وشقق. وبدأ سعر العقار يرتفع بسرعة. لكن رأسماليين اقتدوا بتلك الأسر، وأخرجوا رساميلهم من البورصات الأمريكية التي كانت تشهد سقوطا مريعا، و اعتبروا العقار استثمارا أكثر ربحا من أنشطة الإنتاج ومن البورصة أو بلدان العالم الثالث. وأدى الطلب المضاربي إلى تفجير أسعار العقار التي ارتفعت بنسبة 80 بالمائة بين عامي 2000 و 2006 !

أوحل الاقتصاد الأمريكي في تناقضاته. منذ منتصف سنوات 1970، تعرض العمال الأمريكيون لهجمات مستمرة من أرباب العمل والحكومة. و أتاحت حرية حركة الرساميل للرأسماليين ترحيل مناطق أمريكية مصنعة حيث كان للنقابات وجود قوي ( الشمال الشرقي والبحيرات الكبرى) نحو مناطق حيث النقابات اضعف، ونحو اقتصاديات العالم الثالث مثل المكسيك و كوستاريكا وتايوان. وطبعا كانت القيادات النقابية الأمريكية، المقتنعة بوجوب "المشاركة في تسيير" الاقتصاد الرأسمالي مع أرباب العمل ( كما لو أن الأمر ممكن !)، عاجزة عن تنظيم هجوم مضاد من قبل الطبقة العاملة الأمريكية، وحتى عن الدفاع عن بعض المكاسب الأولية. وهجمت الحكومات الأمريكية المتعاقبة بلا هوادة على من حاولوا تنظيم إضرابات واسعة. وهكذا قام الرئيس ريغن بتسخير آلاف الجنود لتعويض مضربي مراقبة الملاحة الجوية في مطلع سنوات 1980.

وهاجمت حكومة كلينتون القائد النقابي الذي قام بتنسيق الإضراب الكبير في UPS ( بريد ونقل) واستبدلته بابن هوفا Hoffa ، قائد نقابي مشهور بعلاقاته بعصابات المافيا. وألغت الدولة جملة كاملة من القوانين الاجتماعية، مسهلة التسريحات و ُمضفية بذلك الهشاشة على وضع العمال. وقلصت أيضا التعويضات الاجتماعية و تعويضات البطالة، ما أجبر ملايين العمال والعاملات، لا سيما الأمهات العازبات، إلى قبول عمل هش بأي شروط كانت. وعلاوة على ذلك أدى إبقاء ملايين العمال السريين من أمريكا اللاتينية في وضع هش، وتسخيرهم بلا رحمة،إلى مزيد من إضعاف الطبقة العاملة الأمريكية بوجه هجمات أرباب العمل.

كانت نتيجة هذه الهجمات انخفاضا للأجور غير مسبوق منذ 1929. فمن حيث القدرة الشرائية انخفض الأجر اليومي الأدنى القانوني بنسبة 40 بالمائة بين سنتي 1960 و2005 ليبلغ زهاء 5 دولار في الساعة، أي بنسبة 30 % أقل مما قد يكسبه مهاجر بلا أوراق ثبوتية مستغل في غسل الأواني في l’Horeca البلجيكية! و بات تعويض انخفاض الأجور هذا يتطلب من الأسر الأمريكية العمل أكثر اليوم بزيادة بنسبة 20 % عما كان في 1970. فيما تواصل إنتاجية العمال الأمريكيين ( أي ما يخلقون من ثروات بعملهم) تقدمها بانتظام، تظل الأجور من جانبها جامدة أو تنخفض: الفرق مزيد من الأرباح... أرباح ليس بوسع الرأسماليين الأمريكيين استثمارها كاملة في الإنتاج، بفعل نقص الطلب... و تغذي من جراء ذلك مختلف أشكال المضاربة.

وفضلا عن خفض الأجور هذا، فرضت الحكومات الأمريكية المتعاقبة منذ جيمي كارتر في متم سنوات 1970 إصلاحات ضريبية تعفي الأكثر ثراء. لم تبق إذن بيد الدولة الوسائل لتمويل الخدمات العامة الأساسية الجيدة مثل المعاشات والصحة والتعليم. و شهدنا خدمات بسرعتين بين القطاعين الخاص والعام. و باتت اسر الأوساط الشعبية الأمريكية مضطرة للاستدانة للتمكن من خدمات صحة أو تعليم جيدة. وارتفعت رسوم التأمين الصحي والتسجيل بالدراسات الجامعية بنسبة 87 % و 40 % بالتوالي بين عامي 2000 و 2008. قد يكلف حصول الأبناء على شهادة جامعية ثمن منزل. ينفق الأمريكيون في المتوسط 15 % من نتاجهم الداخلي الإجمالي في خدمات الصحة( الثلثان في القطاع الخاص) مقابل 7.5 % فقط عند الفرنسيين( أغلبها في القطاع العام)... فيما يفوق متوسط العمر بفرنسا نظيره في أمريكا بعامين !

ولمواجهة انفجار نفقاتها وانخفاض التعويضات الاجتماعية و أجرة ساعة العمل، لجأت الأسر الأمريكية إلى قروض الاستهلاك. واقترضت بالخصوص برهن مساكنها. وبما أن ثمن المنازل ارتفع بفعل فقاعة المضاربة، بات بإمكان الأسر الاستدانة أكثر. وحتى الأسر الميسورة أكثر أخذتها نشوة ارتفاع قيمة بيوتها وانخفاض أسعار الفائدة ، فاستدانت لشراء مستهلكات الترف. في الواقع يستغل الرأسماليون الأمريكيون منذ 30 سنة أكثر فأكثر العمال الأمريكيين، مسببين بذلك تدهور مداخيلهم. لكن هؤلاء العمال يمثلون في الآن ذاته كتلة المستهلكين التي يحتاجها النظام لخلق أسواق للسلع. وعلاوة على ذلك يتهرب الرأسماليون أكثر فأكثر من الضريبة ، وساندوا إعادة التسلح والحروب الامبريالية في العراق وأفغانستان، مفرغين بذلك صناديق الدولة الأمريكية التي فاقت ديونها 5200 مليار دولار في 2008. لكن هنا أيضا يحد الرأسماليون سوقهم الأخرى المتمثلة في طلبيات الدولة. يحقق الرأسماليون الأمريكيون أرباحا قياسية يتعين عليهم إعادة استثمارها مع أسواق ساهموا في تقليصها.

سيقومون إذن، بقصد خلق أسواق جديدة لبيع سلعهم وزيادة أرباحهم في النظام البنكي، بتشجيع استدانة الأسر الأمريكية التي تضاعفت 10 مرات بين عامي 1988 و 2008 لتبلغ نسبة 160 % من النتاج الداخلي الإجمالي ! وبما أن هذا غير كاف لاستثمار كتلة الأرباح الهائلة المراكمة على هذا النحو من قبل الرأسماليين ، تجري المضاربة... حتى انفجار الفقاعة المقبلة.

انفجار الفقاعة العقارية الامريكية وانتشارها عبر العالم

بدءا من العام 2001 واصلت أسعار العقار الارتفاع بفعل المضاربة وكذا بفعل سعي البنوك والسماسرة إلى إبرام عقود الاقتراض الرهني بالاتصال بالأسر الأفقر في بيوتها . ولتحصيل عمولتها والفوائد، منحت البنوك قروضا بأسعار فائدة متغيرة، بالغة الانخفاض في العامين الأولين و بتحملات فوائد قد ترتفع بنسبة 40 % فيما بعد! وفي حال عجز المقترضين عن السداد يكفي البنك أن يعيد بيع العقار الذي تكون قيمته قد ارتفعت منذ شرائه لان الأسعار لا تكف عن الارتفاع... بفعل المضاربة بوجه خاص.

وكما حدث في كل فقاعات المضاربة الأخرى، كان التعطش إلى الربح قد أعمى الرأسماليين. وفي حمى تنافس دائم بوجه توسع هذه السوق الجديدة، سوق للقروض الرهنية، ضاعفت البنوك و كذا السماسرة السلفات متجاوزين ما تقتضي القواعد البنكية الدولية. و وجدوا طريقة لتفادي تلك القواعد بتسنيد titrisation قروضها الرهنية. أي انهم يحولون قروضهم المحفوفة بالمخاطر ، ما يسمى سوبرايم subprimes، بتركيبها مع قروض أخرى اقل مجازفة لجعلها منتوجا ماليا معقدا يباع في البورصة. و أصبحت هذه المنتجات المالية علبا سوداء حقيقية قد يتطلب فهمها قراءة كتب تفسير من عشرات الصفحات المملوءة بالنماذج الرياضية الغامضة. كان يجري إعادة بيع تلك المنتجات لمستثمرين مضاربين آخرين تغريهم المردودات المالية الجيدة. وكانت توجد وكالات تنقيط خاصة هدفها تقدير المجازفة، لكنها كانت أيضا تحصل على عمولة عن كل عملية، وكانت تقلل منهجيا قيمة المخاطرة، جاذبة مضاربي العالم برمته.

وانتشرت القروض بالغة الخطر subprime عبر الأسواق المالية العالمية. لكن عندما أصبحت السوق العقارية مشبعة، بدأت أسعار المساكن تنخفض في 2006. و لم تتمكن أسر فقيرة من مواصلة سداد قروضها الرهنية عندما ارتفعت أسعار الفائدة المتغيرة. وشرعت البنوك تطرد تلك الأسر من منازلها لإعادة بيعها، لكن بخسارة هذه المرة. وعلى هذا النحو فقدت 3 مليون أسرة أمريكية عقارها. وزادت الموجة الكثيفة لإعادة بيع المساكن في انخفاض الأسعار، وفجأة تبين الرأسماليون ان قروض subprime ليست كلها قابلة للاسترجاع. وانهارت فجأة أسعار المنتجات المعقدة المركبة من subprime لأن كل المضاربين كانوا يريدون التخلص منها في نفس الوقت. وبين عشية وضحاها باتت كل المؤسسات المالية التي بالغت في شراء تلك المنتجات مفلسة في العالم برمته. هكذا قامت الأزمة المالية. وواحدة تلو الأخرى أفلست مؤسسات قروض رهنية أمريك، وصناديق استثمار صينية، و بنوك بلجيكية ، و شركات تأمين. وانهارت قيمة أصول مالية كثيرة. وأدت الأزمة المالية في 2008 إلى خسارة مالية إجمالية مبلغها 14000 مليار دولار، أي ما يفوق 20 % من النتاج الداخلي الإجمالي العالمي!

وبسرعة امتدت الأزمة إلى الاقتصاد الحقيقي . إذ شرعت البنوك التي تواجه مصاعب ُتقرض بسهولة أقل، مؤدية إلى افلاسات متتالية لمقاولات كانت بحاجة إلى سيولة. وقلص سقوط قيمة البيوت القروض الرهنية. وباتت الأسر المستدينة أقل قدرة على الاستهلاك. وأوقفت المقاولات التي تواجه انخفاض الطلب استثماراتها وسرحت عمالها. وحتى المقاولات ذات صحة جيدة تستعمل الأزمة لتسريح عمالها بقصد "إزالة الشحم"، كما يقال لدى بعض الأطر المسيرة التي تعتبر عمالها بهائم. وأدت التسريحات الكثيفة إلى تباطؤ الاستهلاك الإجمالي للأسر. عندها أصابت الأزمة المالية الرأسمالية المجتمع برمته.

الدول الرأسمالية تهب لنجدة رأسمالييها المحليين

كما جرى خلال الأزمات السابقة ، تدخلت الحكومات بكثافة لمساندة مجموعاتها الرأسمالية الكبرى. وغالبا ما ُيبرر الرأسماليون الربح بالمجازفة التي يقبلون عليها في استثماراتهم. لكن المجازفة منعدمة تقريبا عند أغلب الرأسماليين. دفعت الدولة الأمريكية أكثر من 100 مليار دولار لإنقاذ AIG أكبر شركات التأمين الأمريكية. ومعلوم جيدا تدخل الدولة البلجيكية لإنجاد فورتيس و محفظتها القضائية -الإعلامية. وقد خرج المضاربون الكبار من السوق قبل سقوط سهم فورتيس. آنذاك وهبت الدولة هدية كبيرة لمالكي أسهم بنك الملياردير ليبنس Lippens. ولما علقت الدولة ذات يوم جمعة سعر أسهم فورتيس في سوق البورصة، كانت القيمة المالية للمجموعة ( شركة قابضة holding تضم تأمينات وبنوكا) مقدرة بزهاء 13 مليار يورو. ويوم الاثنين اللاحق دفعت دول بلجيكا ولوكسمبورغ وهولندا 11 مليار يورو لشراء نصف رأسمال البنك وحده ( وليس مجموع الشركة القابضة ، ومنها شركة التأمين)... إنها هدية رائعة لـ Reynders ولناخبيه من مالكي الأسهم. لكن ذلك لم يكن يكفيهم. إنها أمثلة عن كون مالكي الأسهم ليسوا دوما مع مبدأ السوق لحرة. عندئذ التمست الحكومة البلجيكية من الرئيس ساركوزي منح فورتيس لبنك باريس الوطني . BNP مع اخذ أغلبية الأصول السامة ( تلك السندات التي تملكها فورتيس والتي لا يريدها احد اليوم و انهارت قيمتها) التي تبلغ حسب بعض المحللين الماليين 40 مليار يورو ! سيؤدي دافعو الضريبة البلجيكيون إذن ثمن هدية لمالكي أسهم فورتيس وهدية أخرى لمالكي أسهم BNP، ويمنحون شبكة بنوك جديدة ومخلصة من مخاطرها المالية الرئيسية.

لكن البنوك الرأسمالية الكبرى التي أنقذتها دولها لا تتردد في مواصلة مضاربتها. بفضل القروض الرخيصة للدول ( تمنح البنوك المركزية العمومية قروضا بسعر 1 % في أوربا و 0.25% بالولايات المتحدة الأمريكية).،ستحقق البنوك أرباحا ( تقرض أحيانا للمقاولات الصغيرة والمتوسطة بسعر 10%) سوف تتيح لها شراء أصول مالية جديدة ومراكمة أرباح إضافية. هذا يفسر جزئيا صعود البورصة في الأشهر الأخيرة... وربما يمثل هذا مقدمة أزمة بورصة جديدة ستسارع الدولة إلى سدها بالمال العام.

الأموال التي يتعين على الدولة أن تدفعها لإنقاذ البنوك وبعض المقاولات الكبرى، والإعفاءات الضريبية لأجل "مساعدة" المقاولات (حتى التي تحقق أرباحا)، وكذا تزايد تعويضات البطالة كلها تؤدي الى تدهور المالية العامة.

و يفاقم التباطؤ الاقتصادي الكابح لمحاصيل الضريبة سيرورة الاستدانة هذه. هكذا انتقل الدين العمومي الأمريكي من 5400 إلى 9000 دولار بين بداية الأزمة و خريف 2009. استدانة البلدان الفقيرة أسوأ حالا لأن الأزمة الاقتصادية العالمية أدت إلى سقوط أسعار المواد الأولية ومعها أسعار اغلب صادرات بلدان العالم الثالث .و حتى البلدان المسماة "بازغة" (لاسيما آسيا الشرقية وأوربا الشرقية) التي كانت تقوم بعمليات تجميع المنتجات المصنعة لتصدريها نحو البلدان الغنية تعرضت لسقوط مأساوي لصادراتها، وباتت دولها تستدين بكثافة. ولم تعد بعضها قادرة على السداد مثل باكستان وليتوانيا والمجر وصارت أكثر من أي وقت مضى تحت تحكم صندوق النقد الدولي و"خططه للإنقاذ" القاتلة.

لكن من بوسعه أن يقرض لهذه الدول التي تستدين عبر العالم؟ من لديه الاحتياطات المالية الكافية؟ إنهم ، إلى حد بعيد، أولئك الذين تمكنوا من الخروج من الفقاعة العقارية والمالية في اللحظة المناسبة ، أي المضاربون الأكثر جشعا والأكثر تمرسا على الحرب. فكبار الفاعلين الماليين يتوفرون على معلومات أفضل من صغار أصحاب الريع وصغار مالكي الأسهم. لذا فهم يستبقون على نحو أفضل انفجار فقاعة المضاربة، وغالبا ما يبيعون أصولهم قبل السقوط المدوي لأسعارها. الفاعلون الأصغر هم في الغالب من يفقد ريشه. صغار مالكي أسهم فورتيس مثلا...

في هذه الأزمة سحب الرأسماليون المضاربون في العام 2000 قسما من رساميلهم من سوق NASDAQ لحظة انفجار فقاعة الاقتصاد الجديد. و وظفوا تلك الرساميل في العقار حتى العام 2006، تاريخ انهيار الأسواق العقارية والمالية. و بعد زعزعة نظامهم المالي، وجب على المضاربين إيجاد توظيف جديد لرساميلهم... فإلى أين يتجهون؟ لكن الرأسماليين يدركون أن ثمة قيمة أكيدة على المدى القصير: المواد الأولية والمواد الغذائية. فالناس ملزمون بتغذية أنفسهم. إذن سيضارب الرأسماليون بأسعار البترول، والأرز، والقمح، الخ. سيجري شراء حمولات مواد زراعية ويعاد بيعها أكثر من ثلاثين مرة من قبل مضاربين قبل أن تصل وجهتها. سيفوق ارتفاع سعر برميل البترول الضعف ليتجاوز 100 دولار. وسيبلغ الأمر بمحللين مشتغلين لدى الجرائد البرجوازية مستوى ادعاء أن الخطأ خطأ الصينيين الذين يفرطون في طلب البترول، لكن جلي أن تغيرات الأسعار المباغتة تلك غير قابلة للتفسير سوى بالمضاربة الكثيفة. لكن المضاربين يدركون أن أسعار المواد الأولية ستسقط فور انتشار الأزمة في الاقتصاد الحقيقي. فمع تباطؤ الاقتصاد الفعلي سيقل الطلب على تلك المواد الأولية وستسقط أسعارها... إذن ماذا يفعل هؤلاء الرأسماليون عندما ينهار كل شيء حولهم؟ يبقى ثمة توظيف مأمون، انه الإقراض للدول الغنية. قد تتعرض دول الاقتصاديات الصغيرة بالعالم الثالث للإفلاس، لكن ليس الدول الغنية. لأن تسديد الدولة لا يتطلب سوى جعل السكان الكادحين يؤدون ضرائب ولديها قوة مسلحة للقيام بذلك. جوابا على سؤال صحفيين " لماذا يواصل المستثمرون الإقراض للدولة الأمريكية، و حتى بكثافة اكبر مما للدول الأخرى، فيما استدانتها تتسارع بشكل عنيف؟" رد محلل أمريكي بقول مقتضب:" لأن لديها أكبر جيش". هذا لأن الضمانة التي بوسع دولة إعطاءها للرأسماليين الذين ُيقرضونها هي قدرتها على إجبار العمال على سداد دينها. لقد سبب الرأسماليون إذن هذه الأزمة بتعطشهم الجنوني إلى الربح، خالقين فقاعات مضاربة أضخم فأضخم، و أكثر فأكثر إفلاتا من التحكم حتى انفجار خريف 2008. ولإنقاذهم أنفقت الدول آلاف الملايير، مستدينة لدى نفس المضاربين ! والآن سيعلنون خطط تقشف تدوم أكثر من عشر سنوات لسداد فوائد الدين لمن هم المسؤولون عن هذه الكارثة...

قبل قرن، كان مضاربون رأسماليون قد اقرضوا أيضا لدولة كبيرة لها جيش كبير جرى اعتباره قادرا على إجبار عمالها على سداد الدين. كان ذلك البلد هو روسيا القيصر نيقولا الثاني الذي كان يجذب الرساميل المضاربة من فرنسا وبلجيكا و انجلترا . وعندما طوح العمال الروس بالملكية المطلقة وأقام البلاشفة دولة عمالية بعد ثورة أكتوبر 1917، كانت إحدى أولى تدابيرهم إلغاء الديون التي أبرمها القياصرة. وفقد الرأسماليون ما ضاربوا عليه، بتمرد العمال ضدا لاستغلال. فلا ننسى أن دفع ثمن أزمة الرأسماليين ليس قدرا ُمحتما.

جان ويلمس Jan Willems

9 سبتمبر 2009

المصدر: مجلة الحزب الجديد المعادي للرأسمالية « La Revue Tout est à nous » n° 2, juin-juillet 2009.

تعريب: جريدة المناضل-ة




#جان_ويلمس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- غزة: السابع من أكتوبر في المنظور التاريخي
- بحجة “اللاساميّة” تترافق إبادة شعب فلسطين مع محاولة إبادة قض ...
- الشرطة تعتقل متظاهرين مناهضين للحرب الإسرائيلية على غزة في ج ...
- العدد 555 من جريدة النهج الديمقراطي
- الجيش التركي -يحيد- 17 مسلحا من حزب العمال الكردستاني
- الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع تدعو إلى الاستنف ...
- اتحاد النقابات العالمي (WFTU – FSM)”، يُدين استمرار المحاكما ...
- شاهد ما قاله السيناتور ساندرز لـCNN عن تعليق أمريكا شحنات أس ...
- م.م.ن.ص// يوم 9 ماي عيد النصر على النازية.. يوم الانتصار الع ...
- آلاف المتظاهرين احتجاجا على مشاركة إسرائيل في -يوروفيجن-


المزيد.....

- كراسات شيوعية:(البنوك ) مركز الرأسمالية في الأزمة.. دائرة لي ... / عبدالرؤوف بطيخ
- رؤية يسارية للأقتصاد المخطط . / حازم كويي
- تحديث: كراسات شيوعية(الصين منذ ماو) مواجهة الضغوط الإمبريالي ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كراسات شيوعية (الفوضى الاقتصادية العالمية توسع الحروب لإنعاش ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - جان ويلمس - فهم الأزمة من أجل محاربة التقشف