أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غازي صابر - قصة قصيره الخشبه والمسمار















المزيد.....

قصة قصيره الخشبه والمسمار


غازي صابر

الحوار المتمدن-العدد: 2785 - 2009 / 9 / 30 - 20:59
المحور: الادب والفن
    


الخش
بدأت الشمس تنحني صوب الغروب ، وكأنها تميل على التلال الغربية فتحرقها بغضبها الآحمر .ولاحت لي كفحيح ساخن وهي تدفع هذه التلال للقنوط والاستسلام . أتعبتها سنن الارض الهمجية والرعنا، فأصابها الحزن والشحوب،وأطرهذا السواد القاتم وهجها الملتهب غيضآ . كنت أتطلع لهذا الغروب الواهن للشمس من خلال زجاج الحافلة ،. فمنذ فجر هذا اليوم وهذه الحافلة هي الثالثة التي أنتقل اليها قادمآ لزيارة عائلتي من الجبهة الخلفية للحرب . سنوات وأنا على هذه الحالة ، حتى أصبحت الجبهة هيبيتي والعائلة مجرد أصدقاء لي أزورهم أسبوعآ في الشهر ،. هذا في أحسن الاحوال ، أما مع العقوبة أو الآنذار بالتحسب لهجوم معادي فقد تكون هذه الزيارة مرّة كل شهرين، ودائمآ يأخذ الطريق يومين منها .
الشمس هناك في بيتي في جبهة الحرب لاتعيش معنا طوال النهار ، فبلاضافة لقوى الطبيعة الحاجبة لها ، هناك القصف المدفعي المتواصل والذي يجبرنا على الآختباء في الملآجئ . والملجأ هو القبر المفتوح على الخندق . والخندق شق طويل
في الارض ، وبعمق قامة المقاتل . وله مخارج محصنة عن رؤية العدو . وملجأي لايتسع لغير فراشي والمكوّن من خشبة بطولي ، ومصنوعة من نفس الخشب الذي تصنع منه توابيت الموتى . وهناك عدة أكياس من الرمل ترفع هذه الخشبة عن الآرض . وتشاركني في هذا السكن حاجياتي ومستلزمات الحرب ، وهي متناثرة حول سريري . وفي أرضيةالملجأ هناك( جلكان الماء ) ، وحذاء الخدمة الثقيل والذي لا يتخلى عن رائحته العطنة .
أغلب أوقات النهار والليل أقضيها في هذا المكان ، والذي هو مثل القبر ، الا أن الدخول اليه والخروج منه يفضي الى الخندق. سنوات وأنا والاخرين على هذه الحالة ، ملآجئنا لاتختلف عن القبور الفرعونية ،ففيها طعامنا وشرابنا وكل ما نعتز به .
وخلال هذه السنوات العجاف تعرفت على أصدقاء كثر، وهم يشاركوني قبري هذا . الكثير منهم فارقوني أما أخذهم الموت ،أو هم فضّلوا الرحيل ، وهم في كل الاحوال أحسن مني لآنهم يمتلكون حريتهم في الذهاب أو العوده .وأعزهم صديقي الكبير والذي أسميته أسماعيل أفندي، وقد تعرفت عليه في ليلة شتائية باردة ،حين عدت بعد منتصف الليل من إداء الخفارة في حراسة مدفعنا المقاوم للطائرات والقابع قرب الملجأ .
وما أن خلعت حذائي وتمددت على الفراش حتى شعرت بحركة تحت وسادتي . فنهضت فزعآ ،ورفعت من ضؤ الفانوس وما أن رفعت الوساده حتى وجدته وقد كور نفسه وأستسلم لكل شئ ، متمسكآ بالدفء الذي عثر عليه تحت وسادتي وقبل أن أطرده أو أقتله خجل مني وذهب على مهل بعيدآبين أكياس الرمل .كان جرذآ كبير الحجم ويبدو من مظهره
ونظرته ومشيته أنه كبيرآ في السن . ومن يومها وهو يدور حولي ويشاركني الملجأ . لا أعرف من أين يحصل على طعامه ؟ولا أعرف كيف يقضي يومه ؟ الا أنه يشبه أسماعيل أفندي ، ذلك الرجل القزم والذي يملك محلآ الى جانب دائرتي قبل الحرب والذي كنت كثيرآ ما أراه كثير الحركة داخل وخارج محله . وصديقي الجرذ هذا يشبه أسماعيل في كل شئ ، حتى في نظرته الهادئه وهو يتطلع للآشياء من حوله .
أما صديقتي الآخرى والتي تعرفت عليها في الصيف الماضي ، فهي الآفعى صبريه ، ومصادفة كان لقاؤنا ، ففي ليلة ساخنة من أيام شهر أب قررت أن أنام فوق الملجأ غير مكترث لقذائف الحرب ، لآني لم أحتمل البقاء داخل الملجأ لشدة الحرارة والعفونة . ومع خيوط الفجر الآولى إستيقظت، وجمعت فراشي متوجهآ للداخل ، وأنا في طريقي كان لقاؤنا المفاجئ .
طويلة كانت وربما أطول مني ، وغليظة ربما أغلظ من ساعدي ، ولجلدها لونين أصفر وأخضر ، وكانت تتبختر في زحفها ، ولم تقم لرؤيتي أي أعتبار ، ويبدو أنها أيضآ حاصرتها سخونة الآرض فقررت الخروج مجازفة بحياتها ، أحترمت ُتحديها هذا ، وأحترمت تكاسلها وهي تزحف وكأنها في نزهة ، حتى أني قلت مع نفسي ربما هي عائدة من ليلة حمراء ، ولا تريد أن تفارق لحظات نشوتها المنعشة . لم أتعرض لها ، وتوقفتُ حتى دخلت ملجأي وكأنها عروستي الغاليه. وقبل أن تختفي بين الآكياس التقت نظراتنا وهي تتوقف وتستدير قليلآ بأتجاهي ، ولم أفهم منها غير لسانها الذي لم يبطل الخروج والدخول في فمها . وقد أسميتها صبريه لآنها ذكرتني بجارتنا الطيبه ، هذه المرأة الطويله والجميله والتي كثيرأ ما كان زوجها يتشاجر معها ويضربها ، وتأتي الى بيتنا لتحتمي بوالدتي . وبعد أن تهدأ أعصاب زوجها تعيدها أمي الى بيتها وتصالحهما معآ . وكنت كثيرأ ما أراها وهي تحمل أغراضها فوق رأسها ، وكأنها تمشي بتكاسل وخجل .
ومنذ الصيف وأنا وصبريتي كثيرأ ما نلتقي وفي أوقات متفاوته . ولي معارف كثر من الزواحف والتي تعيش معي في الملجأ أو حوله.
وكثيرأ ما كنت أتسائل : هل نحن الجنود من أحتلّ مكانهم وعايشهم قسرآ ؟
أم أنهم سمعوا بنا وجاؤا ليشاركونا الحياة في حلوها ومرّها ؟
فحلوها حين يعثرون على طعامنا ويلتهمونه وهم سعداء . و مرّها حين نعثر عليهم متلبسين بالسرقة والجرم المشهود فنقتلهم عقابآ. وعوائلهم يحيطون بنا وينتظرون موتنا ليقتاتوا على لحمنا ولينتقموا منا لضحاياهم !.
الآجازة هي الفرصة الوحيدة التي أحسبها من أيام الحياة ، وتمنيت لها أن تكون هذه المرة ، إجازة مميزة ،أقضيها مع عائلتي الصغيرة ، ونحن نتجول في كل المناطق الجميلة في بغداد . فمن يعرف ماذاسيحصل غدآ ؟
وكالعادة لقاء الآطفال كثيرأ ما يكون مخيبآ للآمال ، لآنهم لم يتعودا على اللقاء اليومي مع الآب ، فهم يعرفون إسمي فقط ، وأنا مثل زائرآ، سريعآ ما أعود الى بيتي في الجبهة .
و إستغربت هذه المرة للفتور في إستقبال الزوجة . وتساءلت مع نفسي ، ثم معها عن سر هذا اللقاء البارد والخجول والذي كان واضحآ في تصرفاتها ؟.وبعد ترددمنها والحاح مني أخبرتني :
ــ والدك مريض منذ أسابيع . ولا يعرفون سببآ لمرضه ـ ـ ـ !
إرتبكت.... . فقد نزل هذا الخبر كالصاعقة على راسي . فأبي هو كل ما تبقى لي بعد موت والدتي ،ولم يمر في خاطري أن أفقده هو الآخر . وهويشكل في أعماقي رمزآ مهمآ. . لم أستطع البقاء كثيرآ في البيت ، رغم التعب من طول السفر.
فذهبت لزيارته .هو يعيش مع زوجة أخرى كان قد تزوجها بعد وفاة والدتي . كان طيبآ معي وحنينآ ولا أتذكر أنه غضب مني أو عاقبني يومآ ما . دمعت عيناه حين رئاني ، ولم أستطع الآمساك بدموعي ، فقد أنسابت دون أرادتي ،وتوقف لساني عن الدوران في فمي فقال :
ــ تصلب . فلا زلت حيآ . ولا حزن لي على شئ ، فقد ناغيت زماني بما فيه الكفاية . أما هذه الدموع التي تراها ، فليست للحسره أو الندم ،بل هي اللهيب لنار الآلام التي تستعر في رأسي وظهري ، وقد أستعبد تني حد البكاء .ـ ـ ـ ـ !
حدثني عن مراجعاته للآطباء ، وقد أحالوه الى مستشفى الجملة العصبية ، ولآن عدد المرضى والمصابين في جبهات القتال كثيرأ ، فقد حصل على أقرب موعد بعد ثلاثة أشهر . وقد ضعفت طاقته للتحمل . وأضاف أن عمي عبد الساده يلح عليه بالذهاب الى أحد السادة ، من أصحاب الكرامات في الكوت ويريدني أن أذهب معهما .
كنت أعتقد أن الحرب تعني دمار المدن ، وتعني قتلى وجرحى قد يعجز عدّهم ، ولكني لم أعرف إنها تنتج شيئآإسمه اليأس .
واليأس يعني عندنا نحن الجنود الآستسلام . فعندما ينتهي عتادنا ، والذي هو قوتنا وسر بقاءنا في ساحة المعركة فهذا يعني
إما الموت بسلاح العدو وإما الآستسلام . عندها تتحول اسلحتنا الى حديد بارد ، وعدونا هو الذي يقرر مصيرنا ، ويصبح هو
النار ونحن الحطب ، وهو الماء ونحن الظمآ ، وهو المرض الخبيث الذي يستقر في أجسادنا الضعيفة ،وهو من يقرر لحظة النهاية .
لم أستطع رد طلبه ، وفي اليوم الثاني ركبنا سيارة عمي الصغيرة وتوجهنا صوب الكوت . وطوال الطريق وهو يتقلب من شدة الآلم ، وحين يشتد الآلم عليه تنهمر دموعه عنوة ، وكنت أشح بوجهي عنه ،لآني كنت أقرأ فيه دعوته لطلب المساعده ،
أقرأ شكواه وأنا أبنه الكبير عاجز آ عن نجدته .
وبين لحظة وأخرى تأخذني الذكريات الى طفولتي ، وأنا العب في حضنه وهو الرجل القوي والآب العطوف والمتسامح ،
وأستعيد مدى سعادته وأنا العب قريبآ منه ، وكم يجاهد حتى أضحك له . وشعرت بتعاسة مرّة لآني لا أملك القدرة على أن أفتح له ولو فتحة صغيرة في جدار الآلم الذي يكاد يطبق عليه ، ويحرمه حتى من التنفس .

ولا تتوقف سلسة الذكريات والمناجاة هذه الا حين يتأوه من الآلم أو عندما يتحدث عمي عن كرامات الساده ـ ـ ـ !
عمي هذا رجل بسيط ، ولا أعرف لماذا سألته إن كان يعرف معنى لِآسمه فقلت له :
ــ يقولون أن السادة مأخوذه من التسيد وتعني صاحب الآمر ، والمفرده من بنات المجتمع العبودي ، حين ميز بين السيد القوي
والعبد الضعيف ، ويقال للراهب سيدآ أيضآ . وقريش هي سيدة القبائل ، وبني هاشم سادة الكعبة ، وبني أمية سادة التجارة
والمال ، فلآي سادة من هؤلاء أنت عبدآ ؟
فأجأته بسؤالي ورد بخجل وهو يبتسم :
ــ أنا عبدآ للسادة الذين لهم شفاعة ، والذين يقفون الى جانبي يوم القيامة .
ضحكنا ، لكني سألته من جديد :
ـــ إن كان يعرف هؤلاء السادة ، أو هم يعرفونه ويتصلون به . وهل يعرف متى تبدأ القيامة ، وهل يظن إنهم سيتذكرونه عندما تقف كل البشرية منذ الخليقة وحتى القيامة في ساعة الحساب ، وهم لايعرفونه أ صلآ ؟
وكلما شاهدنا قبرآ موشحآ بألاخضر على الطريق ، أو اسم لآحد السادة حدثنا عن كراماته . وعندما أجتزنا محافظة واسط ،
حدثني همسآ :
ــ مرض أبوك من أختصاص السيد عبد الجبار الياسري والذي سنصل اليه قريبآ .
وسرحت مع أفكاري من جديد الى عمق التأريخ ، وعدت الى الجبهة بذكرياتي ، وتذكرت أحد الجنود معي في الحضيره في الجبهة وهو أيضآ سيدآ من أهل الكوت .أنه سيد مهدي . وكثيرآ ما نلتف حوله في الليل وهو يغني الآبوذيات الحزينة ،أما في النهار فأنه أيضآ كثيرآ ما يجلب الآنتباه لما يقوم به من مما رسات، فهو كثيرآ ما يأتي بصندوق عتاد فارغ ويجمع فيه عدد من
العقارب ،بعد أن يستخرجها من حفرها بواسطة الماء ويساعده بعض الجنود في هذه المهمة ، وغالبآ ما تكون هذه العقارب سوداء أو صفراء .
ونلتف حول الصندوق ونحن نراقب إقتتال الاخوة العقارب ، ويستمر القتال بين كر وفر ، وفي النهاية دائمآ تبقى واحدة تدور
داخل الصندوق ، وكأنها تنطق هل من مبارز ؟
ولكن سيد مهدي دائمآ مستعد لهذا النداء ، ويقدم لها أحد الزواحف ، والذي يشبه التمساح ، لكنه صغيرالحجم،وغالبآ ما
يكون بحجم العقرب المنتصره ، ويدور العراك بينهما ، ودائمآ ينتصر هذا الاخير في النهاية .
ــ ها قد وصلنا .
ثم إنعطف العم بسيارته الى الجهة الاخرى من الطريق ،وواصل السير في طريق ترابي ، بعدها توقف أمام ديوان كبيرآمشيدآ من القصب .

وقد بني على ضفاف ساقية ماء طويلة . لم أر بداية لها ولا نهاية . وكانت هناك شجرة كبيرة تضلل هذا الديوان ،والذي
يبدو من الخارج وكأنه منقسم الى قسمين .
دخلنا الديوان ، والذي يتسع الى قرابة مئتي زائر . كانت أرضية الديوان مفروشة بالسجاد ، وكان هناك عدد قليل من الرجال ،. لكني أبصرت رزمآ من النقود الورقية نصفها تحت السجاد ونصفها الآخر ظاهرآ .
سأل عمي أحد الجالسين عن السيد ، فرد الرجل بسؤال عن مرض والدي فأخبره عمي :
ــ أنه يشكو من الآلم في رأسه وظهره .
ــ هذا بسيط جدآ عند كرامات السيد . قريبآ سيحضر ، وسيشفى إنشاء الله ـ ـ ـ!
شكره عمي . بعدها نهض الرجل وإختفى .
جاء السيد ، وكان شابآ في الثلاثينات من العمر ، رشيق القامة ، وسيم الوجه ، الترافة والنظافة واضحتان على وجهه وملابسه . كان يرتدي دشداشة بيضاء وسترة سوداء ، ويعتمر عقال فوق كوفية بالاسود والابيض . وقد أستغربت، لآن
السادة في العادة يرتدون الكوفية الزرقاء أو يعتمروا العمامة .
سأل السيد عمي إن كنا نملك خشبة أو مسامير ؟
فرد عمي معتذرآ :
ــ لم يخبرنا أحد بهذا يا مولانا !
نادى على أحد الرجال ، فجلب له خشبة مصقولة بطول نصف ذراع ، وصندوق صغير مملؤ بالمسامير ، مع مطرقة صغيرة .
جلس قبالة والدي وكنت أسند الوالد ، لآنه لايستطيع الجلوس دون مساعدة . تحدث مع والدي ونظر باتجاهي :
ـــ لاتفكر بشئ ، وركّز نظرك وتفكيرك على ما أفعل .
وضع الخشبة أمامه وبدأ يكتب عليها من البداية الى النهاية ، لكني لم أستطع رؤية ما كتبه . ثم بدأ بدق المسمار الآول وبشكل إيقاعي في الخشبة ، بعدها أنتقل الى المسمار الثاني وعلى مسافة من الآول ، وهو يسأل والدي بين الفينة والآخرى :
ــ بماذا تشعر ؟ هل خف الالم ؟ كيف هو الآلم ؟
وكلما كثر عدد المسامير ، يجيب والدي . بأن الآلم بدا يخف . فتذكرت وقتها إ يقاعات الخليل وأوزان الشعر .
دق أثنى عشر مسمارآ . وعندما إنتهى خاطب عمي أمرآ :
ــ تأخذ هذه الخشبة وتدفنها بعيدآ بالتراب . ثم نظر باتجاهي مضيفآ ، ولا تحاولوا قراءة ما مكتوب عليها .
وفعلآ أخفى عمي الخشبة تحت سترته ، ثم قبّل يد السيد ، والذي يصغره بعشرين سنة . وبعد إنصراف السيد ، سأل عمي
عن الاتعاب فرد الرجل الذي حمل عدة المسامير والمطرقه .
ــ نقودك هي رد لكرامات السيد . وتأكد إن أخيك قد شفي إنشاء الله !
وضع عمي رزمة من الاوراق النقديه تحت السجادة، مثل بقية الرزم ، وأخذ مكانه في كرسي القيادة ووضع الخشبة الى جانبه ، وجلست أنا الى جانب الوالد في المقعد الخلفي ، وبدون قصد وقع نظري على ما كتبه السيدعلى الخشبة .
كانت أرقام الاعداد الانكليزيه من الواحد وحتى الاثنى عشر !
وبلا وعي وبعجاله أدرت راسي وكأ نني في قرارت نفسي قد إرتكبت خطيئة بحق والدي ، لآني خالفت وصية السيد .
وبعد مسافة من الديوان، أوقف عمي العجلة ، وأخذالخشبة ليخفيها في التراب . فرأيت من خلال النافذة و على مد البصر
هناك العديد من الخشب مدفونآ . الا أن الرياح عرت التربة الرملية فكشفت أعداد الخشب و الذي دفنه الناس بعيدآ في الآرض .
وفي طريق عودتنا ، كان التعب والآلم قد أضعف ما تبقى من قوة لدى الوالد ، كان يحاول الهرب بالنوم لكن هيهات ! بينما
راح عمي يحاول أن يحدثه ساخرآ من أدوية المستشفيات ، مستغربآ من الناس وهم يشربون الماء الملون ، ويلتهمون الحبوب الحجريه وكأنهم لا يعرفون أن المرض لا يختفي الا بشفاعة ، وطلب المغفرة ، والسادة وحدهم القادرون عليها .
أما أنا فقد سرحت ُمع هذا السيد الشاب ،
وتذكرت الآساطير البابلية وكيف كانوا يثبتون المسامير في الجدران للوقاية من الجن والخوف من الآلهة . ثم تطورت هذه الاساطير حتى وصلت الى مسمار جحى . وقد طورها سيدنا الشاب هذا فاضاف لها الارقام الآنكليزية .
وهذا ذكرني بأحدى المحاضرات في الجامعة والتي قال فيها المحاضرحينذاك : هناك شعوب تقدس أساطيرها والمبنية على الكذب ، وتبقى مثل ثيران السواقي تدور حولها ، ومسموح لكل جيل يأتي أن يطور الكذب الذي بنيت عليه هذه الاساطير . وملعون من يحاول الانتقاص من هذه الاساطير أو الكذب الذي بنيت عليه ـ ـ ـ ـ !. وحتى يبعد النوم عن عينيه وهو يقود عجلته حاول أن يتحدث عمي معي :
ــ يضع الله سره في أضعف خلقه ، هناك شجرة مباركة تبكي كل عام بدموع من دم ....! يقولون إن علوية إتهمت بالزنا ظلمآ وقتلت تحت هذه الشجرة ، وبنفس موعد القتل تنهمر قطرات من الدم على الآرض . ولهذه الشجرة شفاعات وكرامات
لا حصر لها .
بعدها عدت الى الجبهة ، عدت الى بيتي مرغمآ ،فالتأخر عن إداء الواجب جريمة عقوبتها الموت.
وفي ليلة ممطرة وباردة ، ليلة سوداء ، لاشئ يلوح في سماءها غير قنابل التنوير ، وأنا متمددآ على فراشي و تحت ضؤ
الفانوس، والذي بدا لي وكأنه ينازع أخر اللحظات للبقاء في هذا العالم . النوم يجافيني ، لايريد حتى الآقتراب مني ، وقتها
مرّ من أمامي أسماعيل أفندي ، ولآول مرة يتوقف عن السير ويطيل النظر في وجهي . في البداية حسبته يرتجف من شدة البرد وهو يحرك رأسه بترهل ، وكأن حيرة كبيرة تحاصره ، وتسد عليه أنفاسه ، شئ ما، يغلي في جسده الواهن . تقدم قليلآ فدخل بكامل جسده في إناء الماء المجاور للجلكان ، وكأنه يحاول أن يغتسل لا أن يشرب !.
كنت أنظر في عينيه وأتسائل مع نفسي : ترى هل يواسيني في هذه النظرات ، أم أن الحياة أتعبته وهو يشكو من عدو يحفر في رأسه بقضيب من نار وهويحاول أن يطفئ أوارها ، أم أنه يريد وداعي قبل رحيله ؟
هل يطلب مني ضربة الرحمة وقد كفرّه المرض والكبر بالحياة ؟
وكأننا ، أنا وهو نتحدث بالنظرات وبين الصحو والنعاس ، وتحت جحيم البرق والرعد والرياح المجنونة والمكللة بانوار المدافع ورائحة الموت التي كانت الرياح تقذفها من الخندق الى فتحة الملجأ ، وبصعوبة بالغة أدار ظهره لي ، وبدلآ من ذهابه لمضجعه تحت فراشي ، توجه صوب فتحة الملجأ ، وهو يتعثر في مشيته البطيئة ، خطواته فيها الحزن والآلم واليأس وفيها الوداع المنكسر ، هكذا خرج من فتحة الملجأ غير مكترث للآمطارولا للرياح ولا للقذائف التي كانت تتساقط في الخارج .

غازي صابر



#غازي_صابر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كوارث الفكر القومي والطائفي
- قصة قصيرة المقابلة


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غازي صابر - قصة قصيره الخشبه والمسمار