أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مشير سمير - معايير النضج النفسي (3) الحدود السليمة والصحية في العلاقات – الجزء الأول















المزيد.....


معايير النضج النفسي (3) الحدود السليمة والصحية في العلاقات – الجزء الأول


مشير سمير

الحوار المتمدن-العدد: 2779 - 2009 / 9 / 24 - 20:06
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


* أود أن ابدأ هذا الموضوع بالتمرين التالي:
تمرين: اقرأ قصة "سلوى" التالية والمأخوذة بتصرف من كتاب الحدود لهنري كلاود، وجون تاونسيند، ثم أجب عن السؤال بنهاية القصة.

"يوم في حياة بلا حدود سليمة/ صحية"

السادسة والنصف صباحاً
أفاقت سلوى بصعوبة على أخر دقات المنبه المزعج وهي تشعر بالإرهاق الشديد من قلة النوم. وبعيون شبه مغلقة تطلعت بنظرة فارغة إلى الفراش لدقائق طويلة بدت كالدهر في محاولة للنهوض. قالت لنفسها لماذا أشعر بكل هذا الهم، ألم تعد يا رب بحياة مملوءة بالفرح؟
تذكرت سلوى الآن لماذا تشعر بهذا الهم، فقد كانت تشعر بالثقل الشديد من موعد الرابعة والنصف عصر اليوم مع مدرسة ماجد ابنها الذي بالصف الثالث الابتدائي. وقد عاد إلى ذاكرتها الآن صوت المعلمة على التليفون وهي تقول لها: "أهلا مدام سلوى، أنا أماني مدرسة ماجد. يا ترى ممكن نتقابل بعض الوقت بخصوص سلوك ماجد وأداءه في الفصل؟"
لم يكن ماجد يستطيع الجلوس للحظات أو الاستماع إلى مدرسيه. إنه لم يكن حتى يستمع لسلوى أو لمدحت والده، إنه ولد ذو شخصية ولم تكن سلوى تريد أن تحطم هذه الشخصية، ألم يكن ذلك أكثر أهمية؟
سحبت سلوى جسدها ذو الخمس والثلاثون عاماً من الفراش ونهضت متجهة إلى الحمام قائلة لنفسها "الآن لديّ ما يكفي من المشاكل لملئ هذا اليوم."
بدأت تفيق تدريجياً وهي تغتسل آخذة في الاستعداد لليوم في ذهنها. أولاً إعداد الساندوتشات، ثم محاولة الحصول على معجزة لإصلاح زي سارة (ابنتها الثانية) الخاص بحفلة الحضانة اليوم قبل موعد مرور سيارة الحضانة.
تذكرت سلوى الليلة الماضية بشيء من الندم حيث كانت تنوي أن تعمل على إصلاح ملابس سارة بعد العشاء وعقب عودتها من الكنيسة حين سألتها أمها والتي تسكن تحتها أن تصاحبها للذهاب إلى محل الأحذية لاستبدال الحذاء التي كانت قد اشترته الليلة السابقة، وبالطبع قد أملى عليها الذوق أن لا تعتذر لأمها، وهكذا ضاعت ليلة أخرى. فأمها منذ أن ترملت من اثنتي عشر عاماً وهي تنظر إلى نفسها كضحية تـُركت وحيدة في تلك الحياة. فحين حاولت سلوى أن تخبر أمها بأنه كان لديها شيئاً تفعله بعد العشاء، سارعت الأم بإخبارها بأنها لا تستطيع أن تكون السبب في تأخيرها عن شغل بيتها، قائلة: "لا بأس أصعدي يا بنيتي لشقتك، ودعيني فسوف أتصرف بمفردي. لقد اعتدت طوال حياتي أن أكون بمفردي، لا شئ جديد إذاً!"
وعلى الفور سارعت سلوى بالتجاوب مع هذه اللحظة العاطفية مؤكدة على أمها مكانتها لديها وأنه يسعدها من كل قلبها أن تصطحبها إلى حيث تريد، قائلة أنه يمكنها تأجيل إصلاح ملابس سارة إلى وقت آخر، وهي في داخلها تطلب الصفح والغفران على هذه الكذبة البسيطة.
وبالطبع عادت سلوى متأخرة إلى المنزل حيث كانت منهكة وفي غاية الضيق حين أوت إلى الفراش مبررة لنفسها بأنها على الأقل فعلت ما ساعد أمها على أن تكون أقل إحساساً بالوحدة. إلا أن ذلك الصوت المزعج داخلها بزغ قائلاً: إن كنت قد ساعدتيها فعلاً فلماذا كانت لا تزال تتكلم عن إحساسها بالوحدة في طريق العودة إلى المنزل؟

السابعة صباحاً
عادت سلوى إلى حاضرها قائلة أنه ليس فائدة من البكاء على اللبن المسكوب، بينما كانت تكافح في ارتداء بذلتها المفضلة والتي قد ضاقت عليها مثل باقي ملابسها. "إنه منتصف العمر" هكذا قالت لنفسها، "لابد أن أبدأ الريجيم هذا الأسبوع."
النصف ساعة التالية كانت كالعادة كارثة، في محاولتها إيقاظ الأطفال وهم يبكون ويتذمرون، ومدحت زوجها يلومها متضجراً بجملته المعهودة "ألا تستطيعي أبداً إيقاظ الأولاد في موعدهم؟!"

الثامنة إلا ربع صباحاً
بمعجزة لحق الأولاد بسيارتي المدرسة والحضانة، وأنصرف مدحت إلى عمله، وكذلك سلوى متمتمة في داخلها وهي تغلق باب الشقة خلفها "يوم غير جميل على الإطلاق، يا رب بعض التشجيع من عندك."
في طريقها إلى العمل، أنهت تصفيف شعرها الذي لم تكن قد أكملته بعد.

الثامنة والثلث صباحاً
هرعت إلى مكتبها وهي تنظر في ساعتها، ربع ساعة تأخير. ربما الآن قد اعتاد زملائها على تأخيرها كجزء طبيعي من نمط حياتها.
ولكنها كانت مخطئة فقد بدء الاجتماع الأسبوعي في موعده ولم ينتظرها أحد. حاولت أن تتسلل إلى حجرة الاجتماعات في خفة دون أن يلحظ دخولها أحد من الزملاء، إلا أن كل الأعين اتجهت إليها عند دخولها وهي تتعثر في الوصول إلى المقعد الخالي. ابتسمت في حرج وهي تنظر إلى الجميع قائلة شيئاً عن زحمة الطرق اللعينة في هذه الساعة من الصباح.

الواحدة ظهراً
مضت ساعات الصباح طبيعية في العمل حتى جاءت العرقلة الوحيدة قبل راحة الغذاء بثوان، حين رن تليفون مكتبها. وللحال تعرفت على صوت فاتن صديقتها منذ الطفولة، والتي لم تخلو حياتها من الأزمات يوماً، وهي تقول: "سلوى، الحمد لله إني وجدتك، لا أدري ماذا كنت أفعل لو لم أجدك." ولطالما سعت سلوى أن تساعد فاتن وتقف بجوارها في أزماتها التي لا تنتهي، بينما في مشاكل سلوى كانت فاتن دائماً مشغولة أو مضطرة لفعل شئ آخر.
لقد كانت سلوى تحب فاتن من قلبها، إلا أنها كانت تغتاظ من عدم الاتزان الظاهر في صداقتهما. لقد كانت فاتن تلجأ لها فقط عندما تكون في احتياج. وكالعادة شعرت سلوى على الفور بالذنب حين تفكرت في غضبها من فاتن، فكانت تقول لنفسها أن هذا ليس أسلوب مسيحي، فهي لا بد أن تحب وتخدم الآخرين دائماً، لا يجب أن تكون أنانية وتفكر في نفسها. وهكذا أنهت حوارها الداخلي وهي تدعو بداخلها قائلة: "ساعدني يا رب أن أعطي فاتن مجاناً وبلا حدود وأن لا أنحصر في نفسي."
وهكذا سألت فاتن على التليفون: "خير يا فاتن، ماذا حدث؟"
وبلا تردد أخذت فاتن تسرد على التليفون تفاصيل مشاجرتها المعتادة مع زوجها، وكيف أن أبنها تم إعادته من المدرسة إلى البيت مرة ثانية بسبب سوء سلوكه، وكيف تعطلت سيارتهما حتى إنهما اضطرا إلى إلغاء رحلة عطلة نهاية الأسبوع التي تتعطل دائماً لأسباب مختلفة. استمرت مكالمة فاتن طوال فترة راحة الغذاء في سرد تلك الأشياء التي لا تختلف كثيراً عن مشاكل سلوى اليومية أيضاً، حتى عادت سلوى إلى عملها وهي تشعر بالغضب من جديد، قائلة لنفسها: "ربما لو أن استماعي لفاتن ومؤازرتي لها عبر هذه السنوات كان ذو أي نفع لها لكان الأمر يستحق، ولكن فاتن لازالت تقوم بنفس الأخطاء التي كانت تقوم بها منذ عشرون عاماً بلا أي تغير! لا أعرف لماذا أفعل هذا بنفسي؟"

الرابعة والنصف عصراً
همت سلوى بمغادرة مكتبها مهرولة لكي تلحق بموعد أماني معلمة ماجد، حين نادي الأستاذ محسن مديرها عليها ملوحاً لها، قائلاًك "الحمد لله أني لحقت بك!"
استشعرت سلوى الجملة المعتادة التي سيقولها لها مديرها الذي طالما اشتهر بنجاحه في استغلال الجميع لإنجاز العمل، حين قال: "أنا مضغوط جداً في الوقت" وهو يضع بين يديها رزمة من الأوراق مستأنفاً حديثه: "انظري غداً اجتماع مجلس الإدارة، ولقد انتهيت لتوي من إعداد المشروع الذي سوف أقدمه في الغد. إنه فقط يحتاج إلى بعض التصحيحات البسيطة قبل أن يـُطبع. أنا عارف أنه لن يأخذ معك وقت على الإطلاق." قال جملته الأخيرة وهو يبتسم ابتسامة من يدرك أنه يفوز بحظوة موظفته المتفانية سلوى.
ذُعرت سلوى حين سمعت عبارة "تصحيحات بسيطة" والتي تعلم أنها تعني تلال من الأخطاء، وحين نظرت إلى الأوراق أدركت أنها أمام خمس ساعات عمل على الأقل. قالت لنفسها محاولة أن تخفي غضبها: "لقد أعطيته بيانات هذا المشروع منذ ثلاثة أسابيع! متى يتوقف هذا الإنسان عن استغلالي لإنقاذه من أزمات المواقيت التي يضع نفسه بها؟!"
ثم استجمعت سلوى نفسها سريعاً وهي تقول: "بكل تأكيد يا أستاذ محسن. لا يوجد مشكلة. يسعدني أن أعاون في هذا المشروع. في أي ساعة تريد هذه الأوراق مطبوعة غداً؟"
أجاب قائلا: "التاسعة صباحاً موعد ممتاز. شكراً يا سلوى، أنا دائماً أفكر فيك أولاً حين أكون في أزمة من جهة الوقت. أنا أعرف دائماً أنك شخصية يـُعتمد عليها."
قالت سلوى لنفسها: "لماذا أسمع دائماً هذه الصفات، .. يـُعتمد عليها، محل ثقة، مخلصة، .. حين يحتاج الآخرين مني شيئاً، كما لو أنهم يوصفون بغلاً دؤوباً. وفجأة شعرت بالذنب من جديد، فقالت لنفسها: "ها أنا أتذمر ثانية. يا رب ساعدني أن أكون مثمرة وشاهدة لك مكان ما أنت تضعني." ولكن في أعماقها تمنت أن يضعها الرب في مكان آخر في هذه الحياة.

الخامسة عصراً
أماني واحدة من أكفأ المدرسات، واحدة من هؤلاء الذين يستطيعوا أن ينفذوا إلى العوامل المعقدة التي تقع خلف سلوك الطفل المشكلة. قابلت سلوى أماني كعادة هذه المقابلات، متأخرة ووحدها بدون مدحت.
بادرت أماني بطمأنة سلوى قائلة: " إن ماجد ولد ذكي ومملوء بالنشاط، فهو حينما يهتم يكون من أظرف الأطفال بالفصل."
ترقبت سلوى الجملة الصعبة التالية، والتي لا مهرب منها، أنا عندي طفل مشكلة، أليس كذلك؟! ما الجديد إذن؟! إن حياتي كلها مشكلة، وليس فقط طفلي.
أدركت أماني انزعاج سلوى، فاستأنفت قائلة: "المشكلة هي أنه لا يتجاوب مع الضوابط والحدود جيداً. فمثلاً في حصة الكمبيوتر بينما يعمل جميع الأطفال على أجهزتهم لا يكاد ماجد يلتزم بجهازه بل يقوم من مكانه دائماً ويأخذ في مضايقة زملائه، ولا يكف عن الكلام. وحين ألفت نظره إلى عدم لياقة تصرفاته هذه، يأخذ في السخط والعناد.
في محاولة منها للدفاع عن ابنها، قالت سلوى: "ربما ماجد لديه بعض المشاكل في التركيز ، أو أنه فقط يعاني من النشاط الزائد."
هزت أماني رأسها بالنفي قائلة: "حين شك أستاذ ممدوح مدرس الصف الثاني في ذلك العام الماضي، وخضع ماجد لاختبارات الأخصائي النفسي، أثبتت النتائج أنه لا يعاني من أي مشاكل في التركيز أو النشاط الزائد. إن ماجد يلتزم ويركز جيداً حين يعجبه ويروقه المشروع الذي يعمل به. أنا لست أخصائية نفسية، ولكن يبدو لي أن ماجد لم يتعلم الالتزام بالضوابط وبالقواعد على الإطلاق."
وهنا تحول دفاع سلوى من ابنها إلى نفسها، قائلة: "هل تريدي أن تقولي أن المشكلة في البيت؟!"
ردت أماني بشئ من الضيق: "كما قلت لك أنا لست مشيرة أو أخصائية نفسية. أنا أعلم أن كل الأطفال في هذا السن يقاوموا الانضباط بطبعهم، إلا أن ماجد شئ آخر تماماً. في أي مرة أطلب منه القيام بشيء لا يروق له تقوم الحرب العالمية الثالثة في الفصل ولا تقف! وحيث أن نتائج جميع الاختبارات العقلية والادراكية لديه طبيعية، كان لا بد أن أتساءل كيف تسير الأمور معه بالمنزل؟"
لم تستطع سلوى أن تحبس دموعها أكثر من هذا، فدفنت رأسها بين راحتيها وأخذت تبكي بحرقة لبضعة دقائق وهي تشعر بالعجز حيال جميع أمور حياتها.
توقفت أخيراً عن البكاء وهي تعتذر لأماني قائلة: "آسفة، لقد كان يوم شاق علىّ." ثم سحبت منديل ورقي من حقيبة يدها، واستأنفت قائلة: "لا بد أن أكون صادقة معك، الأمر ليس مجرد يوم صعب على الإطلاق. إن ما تعانيه مع ماجد هو عين ما أعاني منه معه بالمنزل. أنا ومدحت زوجي نكافح معه لكي يعبأ بكلامنا. حين نلعب معه أو نتكلم معه يكون أروع طفل على الإطلاق. ولكن أي مرة أحاول فيها أن أدربه أو أعلمه الانضباط في أمر ما تكون ثورته أكبر من قدرتي على التعامل معه. لا أعرف ماذا أفعل معه."
أومأت أماني برأسها قائلة: "أشكرك على الاعتراف بذلك، على الأقل نستطيع الآن أن نفكر سوياً في حل لهذه المشكلة."

السادسة إلا ربع مساءاً
لأول مرة تشعر سلوى بالامتنان لإشارة المرور التي تعطلت كثيراً في طريقها للمنزل. "لن يجرني أحد من رقبتي إلى طاحونة جديدة وأنا جالسة هنا وحدي بمفردي." هكذا قالت لنفسها، وهي تستفيد بالوقت لإعداد نفسها لأزمتها التالية: الأولاد، الغذاء، مشروع أ. محسن، الكنيسة، .. ومدحت.

السادسة والنصف مساءاً
صرخت سلوى قائلة: "لرابع وأخر مرة أقول الغذاء جهز!" لم تكن سلوى تحب أن تصرخ، ولكن ماذا يجدي سوى الصراخ؟! وحين اجتمع مدحت والأولاد إلى المائدة كان الطعام قد برد كالعادة.
لم تفهم سلوى أبداً لماذا يحدث هذا. بالتأكيد ليس الطعام هو السبب فهي تجيد الطهي، بالإضافة إلى أن الجميع كانوا يلتهموا الطعام التهاماً متى أتوا إلى المائدة.
الجميع، عدا سارة. أخذت سلوى تنظر إلى ابنتها الصغيرة وهي تجلس صامتة كعادتها، تقلب الطعام في صحنها ببطئ وهي تنظر إليه وذهنها مشتت في مكان آخر. شعرت سلوى بالضيق من جديد. إن سارة طفلة لطيفة وحساسة، لماذا هي دائماً منطوية ومنغلقة على نفسها هكذا؟! لم تكن أبداً منطلقة كسائر الأطفال، بل كانت دائماً تفضل قضاء وقتها بمفردها في تصفح قصصها أو في التلوين، أو حتى في مجرد الجلوس على الفراش تفكر في "حاجات".
حين كانت سلوى تسألها مستفهمة: "حاجات إيه يا حبيبتي؟"، كانت تأتي الإجابة دائماً "حاجات". شعرت سلوى بأنها مستبعدة من حياة ابنتها. كانت دائما ما تحلم بحوار دافئ مع ابنتها، وقضاء الوقت في أحاديث أو رحلات للتسوق خاصة بالفتيات، إلا أنه كان لسارة عالمها الداخلي الذي لم تدعو إليه أحداً على الإطلاق، والذي طالما رنت سلوى إلى الوصول إليه.

السابعة مساءاً
دق جرس التليفون في منتصف الغذاء (أو بالأحرى العشاء الآن)، "لا، لن أرد على هذا التليفون. تلك هي الدقائق القليلة الوحيدة التي نقضيها معاً كأسرة." هكذا قالت سلوى لنفسها، وعلى الفور قفز ذلك الصوت المألوف إلى داخلها: "ربما شخص يحتاجني."
وكالعادة أصغت سلوى إلى ذلك الصوت الثاني بداخلها، ومن ثم قفزت من على المائدة والتقطت سماعة التليفون. طب قلبها وهي تستمع إلى صوت صفاء زوجة عادل، قادة اجتماع الأسرة بالكنيسة، وهي تقول لها: "أهلاً سلوى، هل أعطلك عن شئ؟"، كذبت سلوى من جديد وهي تجيب صفاء قائلة: "أبداً، على الإطلاق، لا شئ يشغلني. أنا سعيدة أن أسمع صوتك."
قالت صفاء: "سلوى، أنا في مأزق شديد. هناء اعتذرت عن المؤتمر (المخيم) بعد الغد، يبدو أنه لديها ظروف عائلية. وهي كانت مسئولة عن مدارس الأحد (فصل الأطفال) بالمؤتمر كما تعلمين. ولا أدري الآن ماذا أفعل؟. هل تعتقدي أنه يمكن لك أن تحلي محلها في هذه المهمة؟!"
لقد كادت سلوى أن تنسى تماماً أن المؤتمر بعد الغد، رغم أنها كانت تنتظر متلهفة تلك الفرصة حيث تستطيع أخيراً أن تختلي بنفسها وتهتم بحياتها الروحية في هدوء وجمال الطبيعة على شاطئ البحر. بالطبع كانت تحتاج هذه الفرصة من الهدوء والعزلة بشدة أكثر من فصل مدارس الأحد العاجل هذا في ذلك الوقت الضيق والمضغوط. لا، لا يمكنها أن تقوم بذلك الآن. هذا ما كانت سلوى مقدمة على قوله.
إلا أنه، بطريقة أوتوماتيكية، اعترضت تفكيرها الفكرة النمطية التالية. "إنه امتياز لك يا سلوى أن تخدمي الله، وهؤلاء الأسر المنهكة والتي تحتاج إلى مثل هذه الخلوة مع الله. إن تخليت عن ذاتك وأنانيتك بعض الشئ فسوف تقدمين شيئاً يبقى في حياة هؤلاء الناس. فكري في هذا."
لم تكن سلوى تحتاج إلى التفكير، فقد تعلمت أن تنصاع إلى ذلك الصوت المألوف داخلها، كما اعتادت أن تنصاع لصوت أمها، وقائدتها، ومديرها، وربما الله نفسه بذات الطريقة. وانتصر الاعتياد.
أجابت سلوى: "بكل تأكيد، إن ذلك يسعدني. فقط أرسلي لي كل ما قد أعدته هناء للمؤتمر وأنا سوف أتولى الأمر."
تنفست صفاء الصعداء عبر الهاتف، قائلة: "أنا عارفة يا سلوى أن ذلك تضحية كبيرة منك. وهو ما نقوم به كل يوم. فهذه هي الخدمة التطوعية، وهي أيضاً البركة التي تغني حياتنا. لا يوجد بركة أعظم من أن نضحي بحياتنا كل يوم، أليس كذلك يا سلوى؟!"
قالت سلوى لنفسها "أكيد"، إلا أن ذلك لم يعينها على السؤال الدائم المحير بداخلها "ولكن، أين هي هذه البركة الغنية؟"


السابعة والنصف مساءاً
انتهى العشاء، وراقبت سلوى مدحت يفترش موقعه المعتاد على الأريكة الوثيرة أمام التليفزيون بحجرة المعيشة لمتابعة مباراة كرة القدم، وماجد يمسك بسماعة التليفون وهو يسألها، أو بالأحرى يخبرها، أن أصدقاءه سوف يأتوا بعد قليل ليلعبوا معه. بينما تسللت سارة إلى حجرتها في هدوء.
كانت الأطباق والأواني كما هي على مائدة الطعام في انتظار سلوى لتقوم برفعهم وتنظيفهم كالمعتاد. ربما لازال الأطفال صغار على أن تخبرهم أن يرفعوا أطباقهم بعد انتهاءهم من الأكل، هكذا قالت لنفسها.

الثانية عشر ونصف بعد منصف الليل
منذ سنوات قليلة كان باستطاعة سلوى أن تنهي المواعين ومتطلبات المنزل وتضع الأطفال في الفراش في موعدهم وبالاستعانة بكوب نسكافيه تنهي مشروع أ. محسن بكل همة وكفاءة، إلا أنه بات من الواضح أنه لم يعد يمكنها أن تحصل الآن على نفس الحيوية والنشاط كسابق عهدها، فهي قد أصبحت الآن قليلة التركيز كثيرة النسيان منهكة الطاقة.
على أي حال قد أكملت الآن جميع واجباتها، ربما ليس بالدقة المطلوبة وبالأخص في مشروع أ. محسن، إلا أنه كان لديها من الغيظ والغضب ما يكفي ليمنعها من أن تشعر بالذنب لأجل ذلك. "ولكنني أنا التي وافقت أن آخذ هذا الشغل منه، إنه ليس خطأه هو بل خطأي أنا. لماذا فقط لم أستطع أن أقول له لا، لا أستطيع القيام بكل هذا العمل الليلة. إن هذا ليس عدلاً" هكذا قالت لنفسها. لا وقت لذلك الآن، فعليها أن تستعد للمعركة الحقيقية الآن؛ الحديث مع مدحت.
إن سنوات الخطوبة والزواج الأولى مع مدحت كانت مسرة. فحيث كانت هي متحيرة كان مدحت ذو قرار واضح، وحيث كانت تشعر بعدم الأمان كان هو قوياً. وأما من جهتها فقد لاحظت افتقار مدحت إلى الاتصال العاطفي فأخذت على عاتقها مهمة إمداد العلاقة بالحب والدفء الناقصين. كانت تقول لنفسها أن الله قد صنع منهما فريق متكامل، مدحت لديه القيادة وأنا لدى الحب. وهذا الاعتقاد كان يعينها في الأوقات التي فيها لم يتفهم مدحت مشاعرها المتألمة.
إلا أنه مع مضي السنوات لاحظت سلوى التحول الذي حدث في العلاقة والذي بدأ خفياً ثم ازداد وضوحاً مع الوقت. فقد صارت ترى هذا التغير في نبرته الساخرة من شكواها وفي نظرة الازدراء حين تفصح عن احتياجها للمساندة، علاوة على مطالبته اللحوحة المتزايدة لها بأن تنفذ ما يقوله لها دون ما نقاش. أضف إلى ذلك الغضب الذي صار سمة طبيعية لمعاملته لها بالمنزل. ربما إرهاق العمل والأولاد جزء من الضغوط التي يشعر بها مدحت، إلا أن سلوى لم تكن تتخيل يوماً أن تتعرض لمثل هذا العنف والصياح من الرجل الذي تزوجت منه أمام أبسط الأشياء، كأن تنسى مثلاً تغيير زجاجات الكولا الفارغة.
كل هذه الأشياء أدت إلى وصول سلوى إلى الخلاصة بأن هذا الزواج لم يعد فريق واحد بعد، هذا إن كان كذلك يوماً ما. إنه أشبه بعلاقة الوالد والطفل، وبالطبع كانت سلوى هي الطفل.
في أول الأمر كانت تقنع نفسها بأنها تختلق الأسباب للاكتئاب وأنها متذمرة وغير شاكرة للزواج الجيد الذي أعطاه الرب لها. وكانت هذه الفكرة تساعدها بصفة مؤقتة حتى تأتي ثورة غضب أشد من مدحت، وهنا يخبرها اكتئابها بالحقيقة التي يرفض عقلها أن يقبلها.
وحين أدركت أخيراً شخصية مدحت المسيطرة والمتسلطة ألقت على نفسها باللوم قائلة بأنها لكانت تفعل نفس الشئ لو أنها متزوجة من جوال فارغ مثلها، "أنا السبب في غضبه وإحباطه."
بطريقة تلقائية قادت تلك الخلاصات سلوى إلى إنشاء أسلوب للحياة مع مدحت أسمته "محبة مدحت برغم غضبه"، وأخذت في ممارسة هذا الأسلوب عبر السنين. هذا الأسلوب احتوى على ثلاثة مراحل.
في المرحلة الأولى تعلمت سلوى أن تقرأ انفعالات مدحت التي تظهر في حركاته ونبراته، وترقب حالته المزاجية بحرص شديد، وبالتحديد أن تستشعر بسرعة أي شئ ممكن أن يثير غضبه مثل أن تتأخر في إعداد الطعام، أو أن تتركه مع الأولاد بالمنزل، أو تخالفه الرأي في شئ ما، و بالتأكيد أن تشعر هي بالغضب. فطالما كانت هادئة ومتفقة معه في الرأي سارت الأمور على ما يرام. ولكن ما أن ترفع آرائها أو تحفظاتها رأسها على السطح كانت تقطع على الفور.
فإذا حدث أن تخطت سلوى خطوط الغضب هذه لدى مدحت وظهرت عليه البوادر التي تعودت أن تقرأها سريعا، أسرعت سلوى بالانتقال إلى المرحلة التالية من "محبة مدحت برغم غضبه"، أي التراجع السريع من سلوى عن موقفها وتعديلها لرأيها والتزامها الهدوء والإمساك عن الكلام أو حتى الاعتذار عن كونها صعبة المعشر.
أما المرحلة الثالثة من "محبة مدحت برغم غضبه" فكانت تتمثل في القيام ببعض الأشياء التي تظهر بها خضوعها ومحبتها لمدحت كأن تعمل له الكعكة المفضلة لديه، أو أن تلغي بعض اجتماعاتها المسائية بالكنيسة لتمكث بالمنزل. أولم يقل الكتاب أن هذه هي الزوجة الصالحة؟
إن أسلوب "محبة مدحت برغم غضبه" الذي انتهجته سلوى ساعدها بعض الشئ، إنما لم يأتي بالسلام أبداً إلى المنزل. كانت المشكلة في هذا المنهج أن سلوى استنزفت في محاولة تلطيف ثورات غضب مدحت التي لم تهدأ بل ازدادت وما أدت إلا إلى مزيد من شعور سلوى بالانعزال عنه.
كان حب سلوى لمدحت يتآكل مع الزمن ولكنها كانت تقول لنفسها أنه مهما إن ساءت الأمور فلابد أن حبهما الذي وضعه الله في داخلهما سوف ينتصر. ولكن في السنوات القليلة الماضية كانت تشعر أنه مجرد الالتزام وليس الحب الذي يربطها بمدحت. لقد اعترفت لنفسها في بعض لحظات الصدق بأنها لا تشعر تجاه مدحت سوى بالحنق والخوف.
وهذا ما كان يشغل بالها في تلك اللحظات الحاسمة والذي أرادت الحديث بشأنه. فلابد وأن تتغير الأمور بينهما. لابد وأن تستيقظ المحبة القديمة بينهما من جديد. لابد أن تستقيم الأمور وتعود الأسرة إلى سابق عهدها.
دخلت سلوى إلى حجرة المعيشة وهي ترى فيلم السهرة لازال يـُعرض على التليفزيون. قالت بطريقة مبدئية: "مدحت، هناك أمراً أود أن أتحدث معك بشأنه". ولكن مدحت لم يجيب. فاقتربت منه وللحال أدركت السبب، لقد كان مدحت مستغرقاً في النوم على الأريكة. فكرت للحظة في أن توقظه، ولكنها تذكرت سيل الكلمات اللاسع الذي انهال عليها المرة السابقة حين تصرفت بمثل هذه الفظاظة وأيقظته. فأطفأت الأنوار والتليفزيون ورجعت إلى حجرة النوم بمفردها.

الواحدة إلا ربع صباحاً
وهي تلقي بنفسها على الفراش لم تكن سلوى تدري أيهما أضخم، شعورها بالوحدة أم بالإنهاك؟ وحين استقرت على أن شعورها بالوحدة هو الشعور الأكبر تناولت كتابها المقدس من جوار الفراش وفتحته وهي تدعو في صمت "أرجوك يا رب أعطني كلمة أمل واحدة." وقعت عيناها على كلمات السيد المسيح في إنجيل متى 5: 3-5، والقائلة:
"طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السموات. طوبى للحزانى، لأنهم يتعزون. طوبى للودعاء، لأنهم يرثون الأرض."
فاحتجت سلوى قائلة في داخلها: "ولكني بالفعل أشعر بالسحق في روحي، وبالحزن يملئ دواخلي على حياتي وزواجي وأطفالي، وأنا أحاول جاهدة أن أكون وديعة مع الجميع حتى إني صرت مسوقة كالنعجة من الجميع. أين هو وعدك هذا إذاً؟ أين الأمل؟ بل أين أنت؟
وانتظرت سلوى في ظلام الحجرة للإجابة التي لم تأتي أبداً، بل كان الصوت الوحيد الذي سمعته هو صوت دموعها وهي تنساب من على وجهها على صفحات الكتاب المقدس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مأخوذة بتصرف من كتاب: "الحدود “Boundaries لهنري كلاود، وجون تاونسيند
Dr. Henry & Townsend, John & Cloud,. “Boundaries”. Zondervan Publishing House 1992.

• ترى ما هي المشاكل الأساسية في حياة سلوى، وما هي الأدلة من سياق القصة؟




#مشير_سمير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- معايير النضج النفسي (3) الحدود السليمة والصحية في العلاقات – ...
- معايير النضج النفسي (3) الحدود السليمة والصحية في العلاقات – ...
- معايير النضج النفسي (2) القدرة على التفرد Individuation ومقا ...
- معايير النضج النفسي (1) - العلاقة الصحية/السليمة مع الذات
- ليه لازم؟


المزيد.....




- قائد الجيش الأمريكي في أوروبا: مناورات -الناتو- موجهة عمليا ...
- أوكرانيا منطقة منزوعة السلاح.. مستشار سابق في البنتاغون يتوق ...
- الولايات المتحدة تنفي إصابة أي سفن جراء هجوم الحوثيين في خلي ...
- موقع عبري: سجن عسكري إسرائيلي أرسل صورا للقبة الحديدية ومواق ...
- الرئاسة الفلسطينية تحمل الإدارة الأمريكية مسؤولية أي اقتحام ...
- السفير الروسي لدى واشنطن: وعود كييف بعدم استخدام صواريخ ATAC ...
- بعد جولة على الكورنيش.. ملك مصر السابق فؤاد الثاني يزور مقهى ...
- كوريا الشمالية: العقوبات الأمريكية تحولت إلى حبل المشنقة حول ...
- واشنطن تطالب إسرائيل بـ-إجابات- بشأن -المقابر الجماعية- في غ ...
- البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مشير سمير - معايير النضج النفسي (3) الحدود السليمة والصحية في العلاقات – الجزء الأول