أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فيصل المحيمدي - ياسين الحافظ و مطلب الحداثة الجذرية















المزيد.....


ياسين الحافظ و مطلب الحداثة الجذرية


فيصل المحيمدي

الحوار المتمدن-العدد: 2761 - 2009 / 9 / 6 - 00:06
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في أثينا، خلال القرن الخامس قبل الميلاد، كانت هناك فئة من النّاس أطلق عليهم إسم السّفسطائيّين. "و قد كان سقراط يزدريهم لأنّهم يجعلون الحجّة الأضعف تبدو و كأنّها الأقوى." (ياسين الحافظ – الأعمال السّياسيّة الكاملة) لذلك فقد قام تعارض بين نسقين من التّفكير، فأمّا النّسق الأوّل، ففيه المعرفة عصيّة على الحسم. و أمّا النّسق الثّاني، فقد آتّخذ القائلون به العقل آداة لآكتساب المعرفة. و هكذا "رأى سقراط أنّ الممارسة لا تكفي و أنّ الحياة الّتي لا تخضع لفحص عقليّ دقيق لا تستحقّ أن تعاش."(ياسين الحافظ – الأعمال السّياسيّة الكاملة)

و بالتّالي، فقد قام تعارض بين الخطابة و بين الفلسفة !

إنّ هذا المدخل يمكن أن يساعدنا في التّمييز بين نصوص حول الحداثة خطابيّة يحضر فيها الشّعار، و تستعمل فيها المحسّنات الّغويّة دون تفكير عميق في معضلتها، و منهجيّة سليمة في بنائها، حيث تلامس هذه النّصوص السّطح دون أن تنفذ إلى العمق، و بين نصوص فكريّة عميقة تبحث في الإشكاليّة المعروضة بمنهج واضح، فيكون البحث لا خدشا بسيطا على السّطح، بل حرث عميق في المجتمع و الفكر.

لعلّ"ياسين الحافظ" جمع بين جمال العبارة و أناقة اللّفظ، و بين منظومة مفاهيميّة دقيقة و تحليل عميق.

إنّ الإفصاح عن هذا الرّأي يبقى في حاجة إلى برهان سنحاول تبيّنه من خلال نصوص الحافظ حول الحداثة الّتي لا تحضر في نصّ واحد بل تتفرّق على مجمل كتاباته. و حتّى ننال المبتغى من هذا النّص، فنكشف عن فرادة و تميّز ياسين الحافظ لمطلب الحداثة، لا بدّ أن نشير إلى نقاط منهجيّة محدّدة ستساعدنا على تحليل و قراءة "المادّة الحافظيّة":

أوّلا : - يرى ياسين الحافظ الواقع ككلّ و هو في صيرورة، متعدّد المستويات (إقتصادي، سياسي، ثقافي...) هذه المستويات تتفاعل فيما بينها. ثمّ يمَفْهِم الواقع، أي يرمّز الواقع عبر مفاهيم و يقسّمه إلى مستويات، فيدرس الجزئي ضمن صيرورة الكلّي.

إنّ هذا التّمشّي يبعد ياسين الحافظ عن المنطق الصّوري، حيث يعزَل الجزئي عن الكلّي (التّفكّك، اللاّترابط) و يدرَس الواقع في سكونه مع الوقوف عند تحديد الأشكال و تمييزها، أي عند سطح الأشياء دون الولوج إلى عمقها للنّظر في العلاقات.

ثانيا : - إنّ تناول ياسين الحافظ لمعضلة الحداثة في الوطن العربي يتمّ وفقا لهذا المنهج، فالحفر في البنية الثّقافيّة، أي الحفر في الجزئي لا يتمّ بمعزل عن النّظر في المجتمعيّ الكلّي، و إن كانت عناصر الثّقافي و السّياسي و الإيديولوجي تتمتّع بآستقلال نسبيّ. و هو ما يجعل الخطاب الحافظيّ يقرّ بآجتماعيّة و تاريخيّة "الخطاب" مع موضعته إجتماعيّا و تاريخيّا. لعلّ ذلك هو ما يمنح معالجته لمسألة الحداثة التّميّز !



منذ النّهضة الأولى، و إلى حدّ اليوم، كثيرا ما يدور الفكر العربيّ حول حدّين، حيث لا مجال لتجاوزهما، فإمّا التّراث، و إمّا المعاصرة، إمّا التّراث و إمّا الحداثة...إمّا الشّرق و إمّا الغرب...و هكذا تبنى إستراتيجيّات و تكتيكات و تتحدّد "دٌور العقل" و "دٌور القلب" و هلمّ جرّا... ثمّ سرعان ما تنصب "المشانق" و تقوم المعارك شرقا و غربا معبّرة عن منطق أرسطيّ "يصاب بالرّعب حالما يلمس بأنّ حدّا ثالثا يمكن أن يوجد واقعيّا" !(سلامة كيلة – تفكيك العقل الأحادي ما الماركسيّة)

"فنحن العرب شطّار و نريد أن نجمع "المجد"من أطرافه، لذا نحاول أن نكون الماضي و الحاضر، القديم و الحديث، التّقليدي و العصري، متجاهلين أنّ الحديث في تجارب الشّعوب المتقدّمة لم يتكوّن إلاّ على أشلاء القديم، و أنّ المستقبل جٌبِلَ في عمليّة تناقضيّة مع الماضي الوسطوي، و أنّ العصري تبلور مع مطاردة التّقليدي".(ياسين الحافظ – الأعمال السّياسيّة الكاملة)

إذن، فبموازاة الرّؤية الأولى الّتي ترى الزّمن ثابتا في الماضي، مطلقا، يكفي أن نسايره حتّى نتمكّن من "الخلاص" ! لذلك لا بدّ أن نساير التّراث، أن ننفض الغبار عن الماضي حتّى "نمسك بالحقيقة و هكذا يتكرّر الماضي في المستقبل مصبوبا في قوالب جديدة !"(ياسين الحافظ – الأعمال السّياسيّة الكاملة) (بموازاة ذلك) وجدت رؤية أخرى انتقائيّة "تحت ضغط الماضي بصرف النّظر عن البنيان الفكري و التّرابط المنهجي و متطلّبات الواقع، فضلا عن انتقاء متناقضات".(ياسين الحافظ – الأعمال السّياسيّة الكاملة).هذه الرؤية تحاول أن تمسك بالماضي و تمسك بالحاضر في آن فيغدو المستقبل تجميعا كمّيّا للحظتين. إذن فهي رؤية تلفيقيّة، حيث "تراث الماضي يجثم في الأعماق و سطوة أوروبّا تخيّم على الذّهن".(ياسين الحافظ – الأعمال السّياسيّة الكاملة)

ممّا يجعل المعتقد في هذه الرّؤية "تراثيّ تمغرب أو متمغرب تسلّف"...(ياسين الحافظ – الأعمال السّياسيّة الكاملة)، على ثوب غربيّ حاول أن يضع رقعا تراثيّة، ففشل و على ثوب تراثيّ حاول أن يضع رقعا متمغربة، ففشل.

إنّ هذه الرّؤية منبنية على متناقضات، فلا يكفي أن نستوعب الجوانب التّقنيّة و أن نركب الطّائرة بدلا من "الجمل" و أن نشاهد التّلفاز بدلا من سماع الحكواتيّ...حتّى نؤسّس الحداثة و نصبح حداثيّين، بل إنّ هذه الرّؤية تخترق حتّى فرق التقدّميّين العرب، "ففي ثياب القوميّة توجد الطّائفيّة و في قاع الدّيالكتيك يسكن المعقد الإيمانيّ".(ياسين الحافظ – الأعمال السّياسيّة الكاملة).إنّ نهاجيّة سليمة تفرض علينا آستيعاب العصر لا في فروعه و تظاهراته، بل في نهاجيّته و حركة سيره و في بنائه الشّموليّ، لانّ حصر الحداثة في آستيعاب التّقنية هو منهج أزهريّ الأرضيّة، متأمرك البنيان. فالتّقنية لا تدعونا إلى الشّكّ، لا تهزّ عاداتنا، لا تجعلنا نفكّر خارج "البيوسلطوي" و إرهابه !

فالتّكنولوجيا الحديثة هي نتاج لصيرورة طويلة من الإنتكاسات و الإنتصارات، لذلك، حسب ياسين الحافظ، لا بدّ أن نستوعب المقدّمة و الأرضيّة الثّقافيّة الّتي قامت عليها، حتّى لا نسكن الماضي بعقولنا و الحاضر بأجسادنا !

إنّه يطالب "بأن نستوعب الماضي لا أن يستوعبنا، أن نستوعب الغرب لا أن يستوعبنا".(ياسين الحافظ – الأعمال السّياسيّة الكاملة).لذلك فهو يفلت من مقاربة بائسة حول التّراث و المعاصرة، أنتجها بعض من المفكّرين العرب، و هي بدورها تعيد إنتاج المركزيّة الأوروبيّة أو "استشراقا معكوسا" على حدّ عبارة "سمير أمين" (نحو نظريّة عالميّة للثّقافة).



إنّ الفقر الفكريّ الّذي يعانيه العرب، ليس الإستعمار هو المتسبّب فيه فحسب، بل للدّاخليّ أيضا فيه دور ذو وزن و ذو كثافة "فثمّة حقيقة ثابتة في علم النّفس: يعوّض الشّيوخ عن نضوب حاضرهم و عجزهم إزاء المستقبل بالحديث الدّائم المملّ عن الماضي. تلك حقيقة تنطبق على الشّعوب أيضا و خاصّة المتخلّفة و المستعمرة".(ياسين الحافظ – الأعمال السّياسيّة الكاملة).و هكذا يصبح الإرتداد نحو الماضي وسيلة لردّ الإعتبار أمام أنفسنا و أمام الآخرين عل حدّ تعبير"فرانز فانون".

قد يحقّق الماضي وثبة على صعيد التّوازن النّفسيّ للشّعب (فانون) بل قد يصبح سلاحا للمقاومة ، إلاّ أنّ التّعلّق بالماضي قد يقودنا إلى منزلقات شوفينيّة و فاشيّة عندما يأخذ شكلا نرجسيّا، فتغدو "الهويّة جثّة محنّطة تنتزعها من الماضي، لا جماهير و قد شرعت في التّحرّك".(فانون)



إنّ مآزق الرّؤى الماضويّة عديدة لعلّ أحدها يتجلّى في النّظر إلى الغرب ككتلة متجانسة لا تشقّها متناقضات. ثمّة حادثة كان "ياسين الحافظ" أحد شهودها، أثّرت في وعيه السّياسيّ و الإيديولوجيّ كثيرا. فلندعه يتحدّث عنها:

"مع تصفية الإستعمار الفرنسي في سوريا عام 1947 في مدينتي الصّغيرة القائمة على ضفاف الفرات دير الزّور، و بناء على نداء من شاعر المدينة "محمّد الفراتي" تجمّع في السّاحة الرّئيسيّة من المدينة "مثقّفو" المدينة و طلاّبها حاملين معهم ما يملكون من كتب فرنسيّة و قاموا بإحراقها بآعتبارها أثرا من آثار الإستعمار الفرنسيّ، و على ألسنة النّيران و مع جلجلة صوت الشّاعر الّتي كانت تبعث في الحشد "المثقّف" مزيدا من الحماسة، كان المزيد من الكتب يجلب و يرمى في المحرقة. هذه المذبحة الثّقافيّة تكرّرت في مدن سوريّة أخرى".

ما الّذي نستنتجه من ذلك؟

إنّ التّأخّر التّاريخي العربي ليس تأخّرا خاصّا بالجماهير فحسب، بل يشمل ما دعي بالنّخبة. إنّه تأخّر شامل يشمل الإقتصاد و الثّقافة و السّياسة...إلى حدّ يتساوى فيه "سارتر" الّذي خرج عاريا دفاعا عن مقاومة الجزائر و كتب عن فضائح الإستعمار"عارنا في الجزائر" مع الإستعمار الفرنسي، و يتساوى فيه "تشومسكي" مع عصابات الحكم الأمريكي، و تتساوى فيه الحركات الإجتماعيّة المقاومة لطوفان الإمبراطوريّة مع الحكومات البورجوازيّة الهرمة !؟

يضع"ياسين الحافظ" يده على جرح عميق يتمثّل في الدّور الحاسم للمثقّفين في البلدان المتأخّرة "حيث يتمتّعون بسبب الطّابع المهيمن للعامل الإيديولوجيّ بضرب من الإستقلاليّة في التّراتب المجتمعيّ، ناهيك عن دورهم في نقل الوعي الثّوريّ إلى بلدهم و تمهيد الطّريق للتّحديث..."(ياسين الحافظ – الأعمال السّياسيّة الكاملة)

و هكذا يتجاوز"ياسين الحافظ" الثّنائيّات ليصوغ تركيبا جديدا للحداثة، لإنتاج وعي مطابق: تاريخيّ و كونيّ و حديث ضمن مسار من الصّراع ضدّ المحافظة و التّقليد و كلّ المآزق الكولونياليّة...ليصوغ حداثة خارج الصّياغات الإستعماريّة القديمة و الحديثة، حداثة متجاوزة للنّظرة الإختزاليّة (شرّ مطلق/ خير مطلق/ تراث/ معاصرة/ قوميّة/ أمميّة...) لذلك فقد بدا في فكره "قابليّة مذهلة للجمع بين أبعاد مختلفة، تبدو تلك الأبعاد على هيئة ثنائيّات تتفاعل عناصرها لا على هيئة أزواج تتنابذ أو تتقاطب مكوّناتها". (عبد الإلاه بلقزيز)

هذا التّركيب الجديد هو عبارة عن"نمط حضارة مميّز يتناقض مع التّقليد: الحداثة تتمحور على المستقبل، في حين التّقليد يتمحور على الماضي، حداثة نزّاعة دوما إلى المعاصرة".(ياسين الحافظ – الأعمال السّياسيّة الكاملة)



لقد ولدت الحداثة في أوروبّا مع تحوّلات عميقة في كلّ المستويات، بدءا بعصر النّهضة و الإصلاح الدّيني، وصولا إلى عصر الأنوار. و قد قامت(أي الحداثة) على أسس و دعائم فلسفيّة لعلّ أهمّها:



· التّفكير الفردي و العقلاني، حيث للفرد أن يفكّر خارج الوصاية اللاّهوتيّة و المجتمعيّة...

· الدّولة الممركزة الّتي قبرت النّظام الإقطاعي.

رواج التّفسير العلمي للأشياء و للظّواهر.
و لقد كانت طبقة البورجوازيّة الصّاعدة الحامل السّياسي لهذه المقولات فأقامت دولة قوميّة ممركزة و ديمقراطيّة مستندة على الملكيّة الخاصّة. و قد أدّى ذلك إلى تقدّم هائل في العلوم و التّقنية و نموّ منتظم لوسائل الإنتاج...



و لكن لماذا لم يصل الوطن العربي إلى هذا المستوى من الحداثة؟

"ياسين الحافظ" يجيب:"مع هيمنة الرّأسماليّة كنظام عالمي، و بخاصّة مع السّيطرة الكولونياليّة على المجتمعات التّقليديّة...المبادلة دمّرت بدخول النّقد و آقتصاد السّوق، كما تداعت منظومات السّلطة التّقليديّة...و لأنّها لم تشهد تخمّرا ثقافيّا حديثا و لا ثورة سياسيّة أو صناعيّة في الأعماق، بقيت الجوانب الأكثر تقنية و الأكثر قابليّة للتّصدير من الحداثة هي الّتي مسّت هذه المجتمعات: المواد الإنتاجيّة و الإستهلاكيّة...من هنا لم نكن إزاء مثل هذه السّيرورة الطّويلة الّتي شهدتها أوروبّا".



إنّ فشل مشروع الحداثة في الوطن العربي ناتج عن سبب خارجيّ، و هو وصول الرّأسماليّة إلى طور أعلى، ممّا جعلها تتوسّع خارج إطارها القومي، لتٌفشِل كلّ محاولة للنّهوض تكون في المستقبل منافسا لها على الأسواق !

لعلّ"محمّد علي باشا" في مصر و"داوود باشا" في العراق، من أبرز الأمثلة على ذلك...

هذا إضافة إلى عمق التّأخّر التّاريخي "ففي المجتمعات المصابة بآختلالات...المعانية لهيمنات خارجيّة، الإيديولوجي و الثّقافي فيها يصاب في حالات بآنكماش كما في الحالة العربيّة، أو بآنفتاح"(ياسين الحافظ – الأعمال السّياسيّة الكاملة)، كما في الحالة الفيتناميّة مع بداية القرن العشرين !

إنّ السّبب في ذلك حسب "ياسين الحافظ" يعود إلى عدم آنغراس الثّقافة الكونيّة التّقدّميّة في بنيان المجتمع العربيّ...في الطّلاق بين القوميّ و الكونيّ و الثّوريّ...

إنّ الحامل الطّبقي لمقولات التّقدّم و الحداثة، أي البورجوازيّات العربيّة، لم تكن سوى كاريكاتور البورجوازيّة في الغرب (البورجوازيّة الثّوريّة خلال القرن الثّامن عشر)، حيث بقيت محافظة إلى حدّ كبير على بنى المجتمع القديم، ممّا جعلها خاملة سياسيّا، طفيليّة إقطاعيّا، هجينة ثقافيّا، أو على حدّ عبارة "الطّيّب تيزيني" القويّة"طفلا كسيحا لا يقدر مهما طال عمره على تحقيق ما حقّقته البورجوازيّة تاريخيّا".

أمام هذه المآزق، يرى"ياسين الحافظ" أنّ الطّبقات الأقل تراتبيّة في السّلّم الإجتماعيّ (بقيادة الطّبقة العاملة عن طريق حزبها الثّوريّ)، هي القادرة على القيام بمهامّ البورجوازيّة تاريخيّا ثمّ (المعضلة كلّها في هذه "ثمّ" "كترتيحة" pause في العمليّة الثّوريّة) القيام بالمهام الأخرى، أي مهام الطّبقة العاملة الخاصّة بها، أي الثّورة الإشتراكيّة.

إنّ هذه المهام القوميّة و الإشتراكيّة لا تتمّ ضمن قطر واحد، بل على نطاق الوطن العربيّ ككلّ، ضمن سيرورة ذات أفق أمميّ.



إنّ أسئلة ملحّة في الوقت الرّاهن تنهشنا من كلّ جانب، بعد قراءة عميقة"لياسين الحافظ" و غيره من الكتّاب العرب الّذين يشاركونه رؤيته:

فهل من الضّروريّ في هذا العصر أن نحيا أصلا الدّيمقراطيّة البورجوازيّة ؟

هل من الضّروريّ أن نمرّ بالحداثة كما تراءت ضمن نطاق الدّولة الأمّة في أوروبّا ؟

و هل من المحتّم تاريخيّا المرحلة اللّيبيراليّة ضمن أقطار الوعي المفوّت و الإستبداد المطلق و النّهب المستمر ؟

ألا توجد فرضيّات أخرى لحداثة جذريّة ما بعد رأسماليّة، متعدّدة اللّغات، يكتبها جمهور مقاوم لطوفان الرّأسماليّة ضمن سيرورة من الممارسة المشتركة عربيّا و عالميّا ؟

إنّ الممارسة الّتي نعنيها، ليست خزعبلات أحزاب الإحتجاج الرّأسماليّ على الواقع الرّأسماليّ، حماقات أحزاب الإضطهاد المحتجّة على واقع الإضطهاد ! بل الممارسة كما يفهمها"ماركس" و يفرضها الواقع، بما هي إبداع !!!

أليس"من الأجدر و الأصوب و الأعدل كذلك أن تجرّب الإنسانيّة صيرورتها داخل الحدث التّاريخيّ الرّاهن الّذي ينحَت و يهندَس على الكثرة و التّعدّد، خارج كلّ آدّعاء عن جذور أصليّة ؟".(صلاح داودي)

ألا يوحّدنا البؤس و الفقر و قهر البيوسلطوي حمرا و بيضا و سودا و صفرا...للدّفاع عن "فنّ الحياة أو الحياة كفنّ،من أجل إبداع الإنسان لنفسه إبداعا دائما مشتركا ضمن كمون ما أبدعه مع النّاس أجمعين عبر التّاريخ، قد يكون كافيا لتقرير عدم الإرتداد على الحياة الحرّة الكريمة و العادلة و عدم الإنقلاب على الكثرة و التّنوّع ؟".(صلاح داودي)

ألا تصبح بالتّالي المقاومة هي الحداثة الجذريّة ؟ المقاومة "كصيغة آقتدار و حرّيّة مطلقة و ملازمة تامّة و إبداع مادّيّ و روحيّ لا متناهي و آستقلاليّة كاملة مضادّة لرأس المال و ضدّ السّياسات الأمنيّة و البوليسيّة الوقائيّة، لا مجرّد نعت أو بادئة أو غير ذلك"؟(صلاح داودي)

إنّ شرط الحداثة الجذريّة، كبناء حيّ، هو "كسر جمجمة الإمبراطوريّة النيوليبيراليّة، و على أنقاض نهاية السّياسة كفنّ و إيكونوميا و كعلم و كنظريّة..."؟؟؟(صلاح داودي)



بعيدا عن آراء المدافعين عن الحداثة، الذّاهبين نحو تخليصها من سيّئاتها (هابرماس مثلا)، ضانّين أنّها لم تستنفذ قدرتها على العطاء بعد، هذه الحداثة المفلسة بنت الأب البورجوازيّ المهزوم الّتي سجنت العامل ضمن المصنع-الثّكنة و أقامت الدّيمقراطيّة المهزلة، و كانت سببا في الجنون و الإنتحار و دمّرت عوالم حيّة، لتقيم عالما باردا لا حرارة فيه، لا شعر فيه، لا جمال فيه، و لا حبّ و لا تنوّع فيه...بل نسخ تتكرّر و إنسان سلعة يستهلَك يوميّا...

إنّ ذلك كلّه يفرض علينا الإنتصار "للحياة الحيّة الحرّة، الحياة المطلقة الطّليقة..."(صلاح داودي)، يفرض علينا الدّفاع عنها خارج إطار الرّأسماليّة و قيمها المتهالكة طلبا للعيش المشترك، المتجاوز لكلّ نزعة تمركز أو أفضليّة، و النّضال الدّامي و المفرح ضدّ"كلّ أشكال السّلطة بدءا بالسّلطة على الحياة و قتلها و خطفها و تدميرها و إبادتها..." (ياسين الحافظ – الأعمال السّياسيّة الكاملة)

إنّ الحاجة إلى ذلك تدعونا إلى القطع نهائيّا مع صيغ بالية، قاتلة، مدمّرة، بدءا بديمقراطيّة المال و العصابات و المتاجرة بالأرواح و الأجساد...و النّضال من أجل ديمقراطيّة ما بعد رأسماليّة، ما بعد كولونياليّة، ديمقراطيّة مطلقة، تبدعها جماهير متنوّعة، متعدّدة اللّغات، تظافرت و تشاركت في مقاومة طاغوت رأس المال، و آستراتيجيّات قبر الحياة و تدميرها.



القطع مع صيغ الحزب ككنيسة، الحزب القائد، الحزب المنقذ، معلّم البروليتاريا، مخلّص الأمّة...لآنبنائها على تراتبيّة هرميّة و تقسيمها للعمل، يعيدان إنتاج جرائم الرّأسماليّة، لا تفكيك الإستبداد.

إنّ آستحضار ماركس الحيّ، لا ماركس المقبور ضمن الأحزاب الستالينيّة، "ماركس" الفيلسوف، "ماركس" الرّاهن، لا "ماركس" الّذي يعرفه أنصار المفتاح الصّدئ(kee) قد يعيننا على التّفكير في هذه المعضلة، حيث"يتّضح أكثر فأكثر أنّ الثّوريّين يشكّلون مؤسّسة على المرء أن ينفصل عنها كلّيّا، مقتصرا على دور الكاتب المستقلّ الّذي يزدري كلّ الإزدراء الحزب الثّوري المزعوم، و إلاّ فإنّه سيغدو بالتّأكيد مجنونا، حمارا، أو وغدا، سوقيّا".(من رسالة إنجلز إلى ماركس (12-02-1851) )

إنّ هذه الكلمات القويّة، العميقة، الحيّة، الحرّة، و المدافعة عن الحياة، قد تدفعنا إلى التّفكير في تنظيم من طراز جديد. أمّا من يودّ أن يؤرّخ لعلاقة الحزب المدّعي الثّوريّة بالجماهير، نقول دون تردّد إنّه تاريخ آضطهاد !!! فقد تمّ تمثّلها "كعنصر غير تاريخي في التّاريخ، و مادّة تتحرّك نحو الثّورة بروح تعمل خارجها".(ياسين الحافظ – الأعمال السّياسيّة الكاملة) (لنا عودة لهذه الفكرة).

إنّ هذه الأفكار الأوّليّة قد تعفينا من ديمقراطيّة السّنّة و الشّيعة، ديمقراطيّة الطّوائف، الدّيمقراطيّة المخصيّة...و من فضاعات المهدي المنتظر و القائد المنقذ و خرافات العرق الصّافي و آتّباع السّلف الصّالح...و كلّ ما لذّ و طاب من موائد (الأحزاب الحكوميّة) !! و تقلّباتها الشّتويّة و سباتها الصّيفيّ !!



إنّ حداثة جذريّة، خارج الإطار الرّأسماليّ، تجد أساسها في جمهور الإنتفاضة، في الفعل المشترك لأحرار الوطن و العالم، حداثة يصوغ كلماتها شابّ جمهوريّ، جماهيريّ، ثوريّ، لا ستالينيّ هرم، مفكّر بحرارة ضمن عالم الصّقيع، ذو عاطفة حرّة، لا تستعبِد و لا تستعبَد، قال له"درويش":"كن أنت و لا تكن غيرك"...

حداثة يحيك نسيجها رجال و نساء خارج إطار (ديمقراطيّة الرّجال) و (ديمقراطيّة النّساء)، عرب و هنود و صينيّون و أفارقة...متعدّدو اللّغات، موسيقيّون و شعراء، مهندسون و مفكّرون و فلاسفة...يبيعون قوّة عملهم الذّهنيّة، عمّال و كادحون، "ليس لديهم ما يخسرونه سوى قيودهم".(ياسين الحافظ – الأعمال السّياسيّة الكاملة)

كلّ هؤلاء أحرار مسافرون واقعا لا وهما نحو (جمهوريّة الجماهير).





فيصل المحيمدي – طالب من تونس






#فيصل_المحيمدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ياسين الحافظ و الوعي المطابق


المزيد.....




- نهشا المعدن بأنيابهما الحادة.. شاهد ما فعله كلبان طاردا قطة ...
- وسط موجة مقلقة من -كسر العظام-.. بورتوريكو تعلن وباء حمى الض ...
- بعد 62 عاما.. إقلاع آخر طائرة تحمل خطابات بريد محلي بألمانيا ...
- روديغر يدافع عن اتخاذه إجراء قانونيا ضد منتقدي منشوره
- للحد من الشذوذ.. معسكر أمريكي لتنمية -الرجولة- في 3 أيام! ف ...
- قرود البابون تكشف عن بلاد -بونت- المفقودة!
- مصر.. إقامة صلاة المغرب في كنيسة بالصعيد (فيديو)
- مصادر لـRT: الحكومة الفلسطينية ستؤدي اليمين الدستورية الأحد ...
- دراسة: العالم سيخسر -ثانية كبيسة- في غضون 5 سنوات بسبب دوران ...
- صورة مذهلة للثقب الأسود في قلب مجرتنا


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فيصل المحيمدي - ياسين الحافظ و مطلب الحداثة الجذرية