أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خضر محجز - شجرة الكستناء الفصول الثلاثة الأولى















المزيد.....



شجرة الكستناء الفصول الثلاثة الأولى


خضر محجز

الحوار المتمدن-العدد: 2713 - 2009 / 7 / 20 - 10:28
المحور: الادب والفن
    


الفصل الأول
المدينة
فأثبت في مستنقع الموت رجله وقال لها: من تحت أخمصك الحشرُ
أبو تمام
كانت العربة الحديدية ممدودة ومسطحة, وتستقر فوق أربع عجلات صغيرة، لا يتجاوز قطر إحداها العشرين سنتيمتراً, وقد أكسبتها برودة الليل شيئاً من سفالتها, وأضفت عليها كثيراً من أسى ذكريات يوم مضى. العربة المستطيلة، التي لا تتعدى مساحتها مساحة فرش العجين (الذي يحمله الخباز على رأسه, في غزة, ويدور به فوق البسكليت بمهارة, بين السيارات المسرعة) تستقر الآن على أرضية الدكان الواسعة, في هذا الصباح الباكر, من هذا اليوم الصيفي الطويل.. لم يكفِ هذا اليوم أن يكون طويلاً, إلى جانب حرارته ورطوبته؛ بل كان على حكيمي أن يختصر بعضه، فيأتي قبل صياح الديك, ليدق الباب الحديدي, قبل أن تطأ أي قدم أخرى أرض سوق تل أبيب المركزي, فيصحو الأولاد بكسل شديد, يفركون النوم من عيونهم, ويتثاءبون متسارعين في هبوط السلم الخشبي, الذي يفصل السِدّة الخشبية المرتفعة, التي ينامون عليها في آخر الحانوت, عن الأرضية الواسعة تحت, والممتدة على مساحة لا تقل عن مئتي متر مربع, مكسوة بالبلاط الإسمنتي القاتم, وتستقر فوقه الآن صفوف متكاثرة من صناديق الفواكه والخضروات, موزعة على طول الجدارين المتوازيين الممتدين من الباب الحديدي, المطل على الرمبة(1), حتى الباب المقابل, في الخلف, تحت السدة, والمستخدم كمخرج خلفي, مهمته الأساسية التخلص من أكوام الصناديق المبيعة, وتفريغها في الشاحنات الواقفة على الرصيف المقابل, تمهيداً لنقلها, إلى الأماكن المختلفة في إسرائيل, إضافة إلى مهمات أخرى, لا يمكن اعتبارها أساسية, وإن كان لا يمكن الاستغناء عنها, مثل التخلص من النفايات, أو خروج العرب الذين ينامون فوق في ساعات الليل, للتنزه على شواطئ تل أبيب عموماً, وشارع بن يهودا على وجه الخصوص. ولا جرم, فالعرب يحبون شارع بن يهودا هذا, خصوصاً الأولاد الذين يقضون ساعات الليل، متجولين في الأزقة المجاورة, يعقدون صفقات تفصيلية مع بائعات الهوى, للترويح عن أنفسهم, ونسيان تعب يوم كامل.
لقد كانت هذه الصفقات تفصيلية فعلاً: إذ إن بائعات الهوى اليهوديات يردن إتمام الصفقة والعملية بسرعة, لا تتوافق في أغلب الأحيان ورغبة الولد العربي, الذي لم يمارس الجنس قبل ذلك, ويتخيله شيئاً أكثر حميمية، من مجرد ممارسة سريعة واقفة، في شارع مظلم, حتى لو أدى به الأمر إلى زيادة المبلغ المدفوع. ولكن اليهوديات كن يرفضن في غالب الأحوال, ويتشبثن بمواقفهن، مع كثير من الشتائم المقذعة, الأمر الذي لا يترك أمام الولد من خيار سوى القبول, وتناول الشطيرة دون مقبلات, قبل العودة وانتظار حكيمي, الذي ربما بدأ الآن مسيرته نحو الحانوت.
هبط كل من "حسين" و"وجيه". وظل "عدنان" نائماً. وإذ خشي حسين أن يدخل حكيمي ولا يراه قائماً, فقد صعد بسرعة, وتناول عصا المكنسة, وضرب عدنان على رمانة رجله, فوقف صارخاً يشتم أباه وأهله, ويلعن سنسفيل أجداده (وأشياء أخرى ليس وقت سيرتها الآن) قبل أن ينقض عليه, محاولاً رد كيده إلى نحره.. لكن حسين كان قد قفز وصار الآن تحت.. وما لبث عدنان أن وصل وصمت، كأن شيئاً لم يكن, وبراءة الأطفال في عينيه, خصوصاً بعد أن ذكّره حسين بأنه هو الذي اقترح عليه هذه الطريقة في الإيقاظ. ودخل حكيمي:
ـ بوكرتوڤ, حڤري(2).
ـ بوكرتوڤ, أدون حكيمي(3).
وبدأ الأولاد يحمّلون الصناديق على العربات, وجرها, تمهيداً لتنزيلها على جانبي الباب, فوق الرصيف.
العربة الباردة، لم تكن يوم أمس كذلك؛ فقد أدت مهمات متعددة, كما كانت سبباً في أحداث كبيرة، شهدها رصيف رقم2, بل سوق تل أبيب المركزي كله, والحانوت رقم7 على وجه الخصوص, الذي يشتغل فيه الأولاد في كل المهمات. كان "أمنون بن موشي" قد أكل علقة، لم يحلم بشيء منها، منذ صار يافعاً, ودخل ليعمل في السبّلوت(4)، في حماية إخوانه الأحد عشر: أولاد موشي, الذين كان اسمهم كافياً لإلقاء الرعب في قلوب العاملين في السوق.. ويا عيني عليك إذا كنت عربياً هنا (كأنه لم يكفك أن تكون عربياً بين اليهود, حتى جئت لتعمل هنا, في أقرب أمكنة العالم المشروع، وأدناها، إلى العالم السفلي!) إذن فلسوف ترى أولاد موشي المعربدين, وإلى جانبهم الإخوة العراقيين السبعة, وكبيرهم ذا اليد المقطوعة، الذي ضرب ذات مرة, بيده الأخرى, شخصاً بقطعة الخمسة كيلوجرامات في رأسه, ثم لم تأت شرطة ولا ما يحزنون!. أين ذهبت يده المقطوعة؟. الله وحده يعلم!. لكن الوقائع كلها تشير إلى أن هذا لم يحصل هكذا من الله مرة واحدة.. إذ لا يمكن أن يكون "جاسم" قد نام كاملاً ذات ليلة, ثم صحا ووجد يده مفقودة, فقال: باروخ هشّيم(5), ثم جاء إلى السوق ليبيع الخضار, ويرفع, بيده السليمة بنطلونه بين الفينة والأخرى!.
علقة أمنون بن موشي, التي عملها له حسين بالأمس, مرت بسلام أخيراً, وذهبت أدراج الرياح كل تخوفات حكيمي وأدون مزراحي والشركاء الآخرين. وصار حسين الآن شخصاً يُنظر إليه باحترام بين الجميع.. ولو كان عدنان موجوداً بالأمس، لفزع لصديقه حسين, ولما هرب كما فعل وجيه (لأنه صاحب شهامة, رغم أنه كسول يغط في النوم ولا يقوم إلا بالعصا, إضافة إلى أنه كان قد تلقى المساعدة قبل ذلك, من حسين أيام كان يعمل في شخونات هتكڤا)، لكنه كان متغيباً, وجاء في آخر النهار, بعد أن طابت البلاد، واستتب الأمن؛ فصار ينفخ مثل حنش, ويأكل في صندوق التفاح، كما لو أنه هو المذنب. وأدون مزراحي يراقبه بغيظ، ويقول:
ـ كتسات رحمنوت حبيبي(6).
لا بأس.. فلقد حدث ما حدث. وأكل أمنون بن موشي العلقة, بعد أن تسبب بها لنفسه.. في الحقيقة, فإن حسين لم يكن حريصاً على هذه المعركة, فهو لم يفكر مرة واحدة في تحدي أولاد موشي. لكن أمنون كان هو الذي اعترض طريق وجيه, وهو ذاهب لتحميل الصناديق، التي اشتراها حكيمي من حانوت رقم30, في آخر السوق. أو بالأحرى: فإن أمنون اعترض طريق العربة الفارغة, واختطفها من يد وجيه, ثم ذهب كأن شيئاً لم يكن, وكأن من حقه أن ينتزع من الناس هنا أشياءهم ثم يذهب ولا يكلمه أحد..صحيح أن من انتُزعت من يده العربة كان هو وجيه, لكن حسين كان يرافقها، للمساعدة في التحميل والإسناد, فلماذا لم يحسب أمنون حساب شخصين كاملين, واستهتر بكل منهما, كأن على رأسه ريشة!.. لقد كان مثل هذا الفعل جديداً على حسين, ولما يتعود عليه, رغم أن له الآن في السوق ما يزيد على السنتين.
ورغم أن مثل هذا يحدث في السوق يومياً, إلا أن حسين لم يكن بمستطيع أن يتقبل هذا الحدث، كما هو، ودون تعليق. لذا فلم يجد نفسه إلا وهو ينتزع مقبض العربة من أمنون بالقوة. إلى هنا, وكان من الممكن أن يمر الأمر بسلام؛ فما زال حسين لا يرغب في المعركة, خصوصاً وقد اختفى وجيه، مثل فصّ ملح ذاب.. لقد أخذ حسين العربة ثم مضى, رغم أن أذنيه كانتا محمرتين كاللهب. لكن أمنون بن موشي, الذي لم يتعود مثل هذا الرد من أحد ـ خصوصاً من العرب ـ قام بالهجوم على حسين بسرعة, وكال له ضربة قوية في الوجه, ولولا رحمة، الله لما استطاع حسين أن يتفاداها. لكن رحمة الله (التي يؤمن بها حسين ثم لا يعمل بمقتضاها) تدخلت في اللحظة الأخيرة, فأزاح رأسه. وذهبت الضربة في الهواء، بقدرة قادر. لكن حسين كان قد اشتعل الآن بالجنون, وصار يكيل الضربات لأمنون بن موشي. والسوق كله واقف يتفرج: اليهود يشجعون أمنون, والعرب يراقبون برجاء خائف.. ولكن التشجيع وحده لم يكن كافياً، لكي ينتصر أمنون بن موشي, بل إن هذا التشجيع ربما أحدث مع حسين أثراً معاكساً, إذ أثار نقمته أكثر, وجعل ضرباته أكثر قوة وتسديداً.. ثم ذهب يجر عربته إلى الحانوت, ولم ينس أن يحملها بالصناديق المقررة من حانوت رقم30.
كل هذا حدث, مع حسين, في ساعات الصباح. ثم انتهى الأمر به إلى العودة إلى عمله الروتيني بسلام, مع أن عيون كل من أدون مزراحي وحكيمي والشركاء كانت ترمقه عن كثب. واستمر اليوم هكذا, إلى أن جاءت ساعات العصر, وجاء أولاد موشي.. الآن جاء أكبرهم "نسيم". ونسيم هذا طويل القامة, عريض الكتفين, قوي الذراعين, شديد السفالة وقلة الحياء (باختصار, كان يشبه البغل في كل شيء, باستثناء الشعيرات الناعمة التي تغطي وجهه الأبيض الجميل)، ويضرب الناس بمجرد مروره أمامهم في السوق. ولم يكن يفرق، في توزيع سفالاته، بين العرب واليهود؛ مع ملاحظة أنه كان يستثني أصحاب الحوانيت وكبار التجار, لعلاقة المصلحة المحفوظة بين الطرفين, وربما لأنهم يدفعون الخاوة.
على العموم, جاء نسيم، وجاء معه أربعة من أولاد موشي.. كان يمشي مختالاً بين فرسان لم يخرجوا من صفوف النبلاء, وإذن فلا مانع لديهم من استخدام مختلف أنواع الأسلحة, في سبيل الانتصار على الخصم.. حسين كان يعرف هذا, ليس مما سمعه من الناس, بل من وجوههم وتعابيرها والشر البادي على سحناتهم.. وهو، طبعاً، كان قد استعد نفسياً ومادياً لمواجهة مثل هذا الموقف.. لكن كيف استطاع أن يستعد ويقرر المواجهة, مع كل هذه المعطيات غير المشجعة!. هذا ما لا يعرفه أحد سوى الله؛ لأن حسين نفسه لا يعرف كيف. فقط, هو كان يعرف أنه الآن محاصر باليهود, وكلهم طامع في كرامته, وكلهم يتحرق شوقاً إلى رؤيته ينال علقة، وسط سوق تل أبيب المركزي, تكون عبرة لأمثاله, وتعطي المبرر لأصحاب الحوانيت، لإقناع أنفسهم بأنهم يدفعون الخاوة للعنوان الصحيح.. إضافة إلى أن هذه الجماعة يهودية, من دولة انتصرت على ثلاث عشرة دولة عربية في ستة أيام, وهذا المتحدي مجرد عرڤي ملخلاخ من عزة(7), يعمل في تل أبيب.
أنا الأعمى ما باشوف, وأنا ضرّاب السيوف.. هكذا قرر حسين أن يكون. و"وين ما تيجي, تيجي": فكلهم سيهجم, وكلهم سيضرب. وهو في آخر المطاف لن يخرج حياً. فلماذا لا يموت بشرف!. ولماذا لا يقتل أكبر عدد ممكن من هؤلاء الأشرار؟. حتى حكيمي الآن يظهر العداوة له, وهو الذي طالما لبس جلد الحمل. (لا يجب الظن بأنك في مأمن عند هؤلاء اليهود, والمثل يقول: كل عند اليهودي, ونم عند النصراني).. اثنا عشر أخاً, يحضر الآن منهم أربعة, ومن يدري, فربما يزيدون كل لحظة مع بدء المعركة.. خسرانة.. خسرانة.. فاضرب كيفما اتُفق وحيثما كان, ومت رجلاً يا ولد...
ـ هلو؟.. أتا شي هلختا مكوت عم أحي أمنون(8) ؟. قال نسيم وقد وقف الآن على باب الحانوت.
ـ لو ـ رد حسين بقوة وبصوت مرتجف من شدة الانفعال ـ أني شي هربتستي لُه, ڤهو لو يخال لعسوت كلوم(9) .
ـ أتا هربتستا لأمنون!.. توڤ.. تعزوڤ إت زي..عخشاڤ عليخا لهشليم حميش ليروت, بمكوم هحولتساه شي كرعتا لُه(10).
ـ تستليك من كان, شي لو يكري لخا كمو شي كرا لأحيخا همتمتام(11).
لقد كان حسين يائساً من النجاة فعلاً. وعندما سمع هذا الطلب الغريب, لم يفسره إلا بأن نسيم يطلب منه خاوة، أمام كل هؤلاء, ثم بعد ذلك يضربه.. لذا فقد قرر أن يحسم الأمر الآن، مرة واحدة، وإلى الأبد.. لن يدفع خمس ليرات، مقابل القميص المقطع لأمنون, ولن يدع نسيم يخرج بماء وجهه أمام هؤلاء.. لكن نسيم ـ لشدة اندهاش الحاضرين ـ قرر أن يعطي هذا العربي الغبي فرصة أخرى.
ـ تشماع.. تحشوڤ إت هعنيان توڤ, ڤتعني لي أحار كاخ .. أني أحزور بعود شعاه، أحري شي هعڤوداه ترچاع كتسات(12).
وانسحب نسيم. وهجم اليهود على حسين، يحاولون إقناعه بدفع هذه الليرات الخمس, دون جدوى.. حتى أدون مزراحي الملياردير بذل مساعيه الطيبة في هذا المجال.. وفي الحقيقة فقد كان حسين مقتنعاً بأن أدون مزراحي لم يكن يخشى على رأس عربيه, بل على صناديق الفواكه المنتشرة على أرضية الحانوت.. لكن طبيعته, كيهودي فارسي, لم تسمح له بدفع هذا المبلغ من كيسه, ومن وراء ظهر هذا العربي الوسخ, حتى تنتهي المشكلة. لذا فقد كان على نسيم أن يعود.
أسرع حسين بارتقاء السلم نحو السدة, واستخرج موس الكباس من بين حاجياته, ثم دسه في حزامه، قبل أن يرخي عليه القميص فوق البنطلون, ثم أحضر خشبة الزان الطويلة، التي يضعونها تحت مشطاح الفواكه, وأوقفها في الزاوية تحت عينيه. كان مقرراًً استخدام الموس في طعن كل من سيقترب منه, كائناً من كان: فلا صديق هنا وسط كل هؤلاء المبدين للعداوة. أما خشبة الزان, فلمن لا يطوله الموس.. ثم وقف ينتظر, متشاغلاً بقليل من العمل.
حضر نسيم مرة أخرى، ومعه تظاهرة من فتيان اليهود, الذين لا يعرف حسين أغلبهم. وبعد أن وضع يديه على خاصرتيه باستكبار مصطنع, قال من بين أسنانه:
ـ ها.. أتا مشليم؟(13).
تقنفذ حسين حول نفسه، ثم ألقى نظرة خاطفة على عصا الزان، الواقفة في الانتظار. ولما قدر أنه يستطيع تناولها، بحركة خاطفة إذا لزم الأمر, رد بهدوء تام:
ـ ليخ لعززيل(14).
هكذا.. كلمتان فقط.. ثم أطبق فكيه على أسنانه, وزم شفتيه, وصار ينكش بقدمه بلاط الحانوت, مثل حمار قبرصي تملكته نوبة من العناد. وقد تذكر الآن كيف كانت أمه تأكله بأسنانها، ليعلن توبته عن معاندتها, فلا يفعل.
ـ أتا يوديع ما أني يخول لعسوت لخا؟(15). قال نسيم باستغراب شديد, بعد أن قاس العربي، من رأسه الغبي حتى قدميه, بازدراء مصطنع.
ـ أتا يخول راك لهتكوفيف, شي أني يزيين أتخا بتّاحت(16).
قال حسين مركزاً على نبرات الحروف, وفاصلاً بين كل كلمة والتي تليها, وقد بدأت ترتفع وتيرة لهاثه الداخلي, الذي كان قد نجح حتى الآن في كتمانه.
ـ ما أتا أومير!!. صرخ نسيم بصوت مندهش, وهو يتلفت حوله, ليرى أثر هذا التحدي في عيون المتفرجين ـ أحاد كموخا أومير لي إت زي(17)!!..
ـ إم همتساڤ لو متسي حين بعينيخا, آز تنسّي لعڤور إت هپلاتوت هأربع هئيللي ـ قال حسين ذلك، ورسم بعينيه سهماً يحدد البلاطة الأخيرة, التي قرر أن لا يسمح لنسيم بتخطيها ـ نو!. عسيتي لخا كاڤ أدووم. هإم توخال لعڤور اوتو؟(18).
وكان يمط المقاطع بسخرية يهودية معتادة.
ولو دخل نسيم, تلك اللحظة, لمات.. عرف ذلك حسين, وعرف ذلك نسيم من عيني حسين. ولكن التظاهرة التي حول نسيم لم تعرف. لذا فقد ارتفع صوتها:
ـ تكنيس.. نو..(19)
كانت أصوات ضجة الحركة, في الأرصفة الأخرى, تأتي من بعيد, كأنها قادمة من عوالم أخرى. أما رصيف رقم2 فقد بدا للجميع, في تلك اللحظة, متوقفا عن الحركة تماماً.. كل المارة توقفوا في أماكنهم. ومن استطاع منهم أن يتجمهر هنا لرؤية ما يحدث, فقد فعل. أما أصحاب الحوانيت فقد وقفوا أمام حوانيتهم, وقد توقفت حركة البيع والشراء.. كيف توقف الدلالون المتبقون من آخر النهار, عن المناداة! . وكيف توقف العتالون عن جر العربات!. كيف جرى كل ذلك مرة واحدة؟. الله أعلم!. ولكن ربما كان أولاد موشي قد أشاعوا, على طول الرصيف, أن اليوم هو يومهم, وأنهم بصدد إجراء ملحمة كبرى, وأن من لا يريد أن يشتري فليتفرج.. لم يكن هناك من تفسير آخر.. لكن كل هؤلاء الآن صاروا يتفرجون على نسيم وأولاد موشي, لا على العرڤي الملخلاخ, الذي يقف الآن مثل قط محاصر, في مقدمة حانوت الپارتسي الكمتسان(20).
كان منظر حسين، في تلك اللحظة، يصيب كل من ينظر إليه بالقشعريرة: صبي لا تكاد تعطيه تسعة عشر عاماً, ذو رأس كبيرة، تظهر ندوبها المتكاثرة، من بين الشعيرات القصيرة المحلوقة على نمرة4. صحيح أن قسمات وجهه فيها شيء من التناسق, إلا أن عينيه الصغيرتين المصرورتين الآن ـ وتشيان بعنف مكبوت, يشبه مدفعاً محشواً آن أوان إطلاقه ـ دمرتا هذا التناسق تماما. ورغم أنه متوسط القامة, إلا أن اتساع ما بين منكبيه أعطى انطباعاً بأنه شديد القصر, مثل جذع شجرة متوحدة، تحوطها الرياح من كل النواحي، ثم لا تتزحزح.
"إسرائيل كوهين": اليهودي الحلبي، صاحب الحانوت المجاور, الذي يغني دائما: "يا وابور قل لي رايح على فين", حدق في حسين بحنق شديد, عندما سمع هذا الكلام, لأنه كان يعرف أن المعركة، فيما لو حدثت, فسوف تتسبب بخسائر بالغة في البضاعة, لن تنحصر في حانوت أدون مزراحي, بل ستتعداه إلى الحوانيت المجاورة, دون أمل في أي تعويض. لذا فقد أسرع إلى القبض على معصم عربيه الخاص(21), بكثير من الفزع, وهو يجره من يده إلى دكانه المجاور, ثم يغلق الشبك الحديدي، الذي يقوم مقام الباب, في مثل هذه الحالات, وهو يقول:
ـ تعال يا حبيبي.. سكّر باب الحانوت، وابعد عن وجع الراس.. أربط أصبعك مليح, لا بيدمي ولا بيقيح.. صاحبك حسين هذا جاي هون يعمل عڤريان(22).
وصرخت الأصوات المتكاثرة خلف نسيم:
ـ تهروس أوتو.. ما أتا مِحكي!؟(23).
ـ اش... شيكت(24).
صرخ فيهم نسيم، كأنه يفرغ خوفه غضباً على رؤوسهم. ثم وقف ملياً يفكر.. ووقف حسين ينتظر.. ووقف الشركاء متحيرين.. كان الجميع مدركين أن مدة الانتظار يجب ألا تطول؛ فلو طالت، لوجب على حسين أن يفعل شيئاً, فقد سبق له أن أمر نسيم بالانصراف. ولأن قميص هذا العربي منسدل على بنطلونه، بصورة مريبة, فقد امتعض نسيم واشتبه في الأمر. وبعد تفكير، قرر أن يرجع من حيث أتى. فرجع. ولم يعد بعدها أبداً.. وذهب أمنون بالعلقة.. وذهب حسين بالبطولة.. وانكمد أدون مزراحي الكمتسان وشركاه.. وجاء حكيمي مهنئاً:
ـ ها.. ها..! هيوم يدعتي شي أتا چيبور.. أتا يوديع إت مي إيللي؟!(25).
ـ كين. فأني موخان لهربيتس لكولام, كان(26).
ـ تهيي بري حبيبي.. تهيي بري(27).
أمسك حسين بقبضة العربة, وجرها خارجاً, ليطوف بالرصيف من أوله إلى آخره, وأولاد موشي ينظرون. وصرخ صوت حكيمي مبدداً كل ما جرى:
ـ تعمدو بتور حڤري..ييش لانو تپوح چولان مسپيك لكولام(28).
كان سوق تل أبيب المركزي يقع في شارع هحشمونائيم، المتفرع يساراً من الطريق المتجهة إلى رمات چان، في مواجهة مبنى صحيفة "معاريڤ" العالي المعروف. ولو قُدر لسالك هذه الطريق أن يتجه نحو اليمين, بدلاً من اليسار, فلسوف يجد نفسه وسط منطقة تجارية، تصطف فيها دكاكين الأدوات الزراعية والصناعية والآلات المختلفة, تمهيداً لولوج منطقة العالم السفلي الأشهر في إسرائيل: شخونات هتكڤا. أما شارع هحشمونائيم, فسوف يبدأ بمعاريڤ, ثم السوق المركزي, ليمتد بعد ذلك إلى حي يبدأ في الرقي، شيئاً فشيئاً، حتى يصل إلى رمات أڤيڤ: ضاحية تل أبيب الشمالية، الأجمل، والأرقى، والأجدر بسكنى الأغنياء.
كان الأولاد يسافرون من غزة إلى تل أبيب بانتظام, في بداية الأسبوع اليهودي, قبل انتهاء السبت.. والسبت لا ينتهي إلا مساءً, بعد ظهور نجم في السماء، يقارب موعده صلاة العشاء عند العرب, حيث يتوجب على الأولاد أن يكونوا في أول شارع القدس, الذي يتخلل يافا الجديدة, قبيل الوصول إلى موقف "أبو رجب"، في يافا العربية القديمة, منتظرين وصول الحافلة التي تقلهم إلى التحناه مركزيت(29) بتل أبيب, التي تكون في تلك الساعة قد امتلأت بالضجيج وأصوات الباعة، ونداءات المتسولين (المتصنعين للعمى، ويهزون أيديهم بعلب معدنية فيها القليل من القطع النقدية)، وكاسيتات زوهر(30) وأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ؛ فيما يشعر الأولاد بأنس غريب, قبل أن يميل بعضهم نحو بائع الشاورما، فيحشو لهم شطائر يلتهمونها بسرعة, ثم يتلمظون بشوق مطالب بالمزيد.. ولا جرم؛ فالشاورما, في تلك السنوات المبكرة من بداية السبعينيات, لم تكن قد دخلت غزة بعد.. لقد كانوا هناك يتعاملون مع الكباب. ولكن الكباب شيء, والشاورما شيء آخر.
أول مرة, أكل فيها حسين الكباب, كانت أيام المصريين, إذ كان يسمع بالكباب ولا يراه؛ حتى التقطت يده ذات يوم ثلاثين قرشاً, بعد يوم عمل شاق من حمل أكياس السماد وتفريغها تحت الأشجار.. ثلاثون قرشاً لن تتكرر, تلتها رحلة إلى سينما النصر, ثم خمسة أسياخ كباب ساخن يقطر دهناً.. في الحقيقة, لم يكن حسين يعرف أن هذا هو الكباب شخصياً, لكن شيئاً في داخله كان يخبره بهذا.. كان البائع قد نصب موقده على رصيف الشارع، الصاعد من جانب مبنى البلدية, ممسكاً بيده قطعة كرتون، يهش بها على أسياخ اللحمة المصفوفة, فيتصاعد دخان لا ألذّ ولا أشهى!.. لم يشم حسين طوال حياته مثل هذه الرائحة. ولم يكن حتى تلك اللحظة قد أكل طعاماً على هذا المستوى.. لكنه مع ذلك, خشي أن يسأل البائع المديني عن اسم هذا الطعام الذي يبيعه, فيتصور أنه بصدد التعامل مع فقير من أبناء المخيم.. والمخيم في تلك الأيام شيء يتسبب بالعار. لذا فلم يعرف حسين أن ما أكله هو الكباب, إلا بعد أن سأل بطريقة مواربة ابن الجيران, الذي كان أبوه يشتغل مع الدوليين ويحضر لهم الكباب في أحيان متباعدة, فأفاده بأن هذا هو الكباب بالفعل.
ذلك كان الكباب, وهذه الآن هي الشاورما.. وإن لبين الكباب و الشاورما لأوجه شبه وأوجه اختلاف: أما الشبه، فراجع إلى أن كليهما مصنوع من اللحم المشوي, وأما الخلاف فسببه أن لحمة الكباب هي من العجل, في حين أن لحمة الشاورما هي من الحبش الأبيض الكبير.. وهذا النوع من الحبش, في ذلك الحين, لم يكن قد دخل غزة هو الآخر. وعندما يدخل, فلسوف يكتشف الأولاد أنه حبش عاقل وهادئ, مثل الدجاج تماماً, لا يثور ولا يرغي عندما يقال له:
ـ ديك الحبش, لما انتفش, قال: بربط, بربط, مالطي...
عند التحناه مركزيت, إما أن يركب الأولاد الحافلة المتجهة شرقاً إلى طريق رمات چان, لينزلوا عند مبنى معاريڤ, وإما أن يواصلوا باقي الطريق مشياً على الأقدام, حيث المسافة لا تزيد على ثلاثة كيلومترات, في مدينة بدأت تصحو من جديد, متهيئة لالتهام كل ما يصل إليها من الأطراف.. لكننا لا يمكن أن ننكر كذلك، أن هناك صنفاً آخر منهم، ظل يفضل المبادرة بالاتجاه غرباً، لينحرف بعد بضع عشرات من الأمتار، إلى شيء اسمه "الشيطح"، فيقضي حاجة له هناك لم يعرفها يعقوب، قبل أن يعاود السعي نحو الشرق، حيث العمل الممل في سوق تل أبيب المركزي. والشيطح في العبرية كلمة تعني: المنطقة, أو المكان الذي في الغالب هو فضاء فيه شيء من الاتساع. فلماذا كان الشيطح شيطحاً؟!. ولأي شيء كان هذا الشيطح يفتح فضاءه؟!.
الشبان والشابات عندما يلهون فإنهم يتجهون إلى البحر, أو إلى السينما, أو إلى المراقص المنتشرة. أما الشيطح هذا، فقد كان مكان تجمع عجائز تل أبيب، الممحونين شذوذاً, الذين كانوا يجدون من يركبهم، عندما كانوا شباناً. ثم التهمتهم الوحدة، وأمضهم الشوق، عندما صاروا عجائز؛ لذا فقد صاروا يتوجهون نحو الشيطح, بحثاً عن أولاد العرب.. ويا عيني على أولاد العرب, الذين يلتهمهم عجائز تل أبيب بقليل الليرات!.. وكم من ولد حضر إلى تل أبيب, ثم لم يوفق في العمل, فذهب إلى الشيطح, وأخذه عجوز في سيارته إلى شقة خالية, وامتص سائله المنوي بفمه, ثم أعطاه بضع ليرات، قبل أن يفترقا على موعد جديد.
حسين لم يكن يعرف هذا المكان, قبل أن يحدثه عنه وجيه. وكان حريّاً به أن يذهب معه (خصوصاً وأن ما من شيء سيردعه: لا دين ولا عيب. فالأولاد, كما هو معروف, يؤجلون تدينهم إلى مراحل متأخرة من العمر. أما العيب, فكيف يخشونه, ولا أحد يراهم ممن يعرفهم هنا؟!. ولو رآهم, فإنه لن يكون إلا من أمثالهم)، لكن الذي منع حسين من الذهاب إلى الشيطح، مع وجيه, كان هو ما رآه من اصفرار وجهه المتزايد, وضعف بنيته, ولهاثه المتقطع عندما يسحب العربة, الأمر الذي أرجعه إلى الاستنفاد المتزايد, الذي يمارسه شيوخ تل أبيب على رحيقه.. وحسين، المعجب بالبطولة والقوة، لم يكن يحب أن يمتص رحيقه أحد؛ خصوصاً وأن طريقة سحب الرحيق ـ كما وصفها وجيه ـ هي طريقة شديدة القوة, فيما يشبه مضخة شفاط تسحب الرحيق من أساس الظهر, حتى يكاد الولد أن يقع من قوة السحب.. فكيف بعد ذلك سوف يستطيع أن يسحب العربة, أو أن يضرب المعتدين عليه، على طريقة فريد شوقي؟!.
وإذا كان الشيطح مكاناً يشتد منه الخوف, فإن هناك أمكنة أخرى على عكسه تماماً, ويشتد إليها الشوق.. و"بن يهودا", كان أحد هذه الأمكنة: حي مطل على البحر مباشرة, مما يلي الشيطح، رغم أن مهمته كانت أحب إلى الأولاد، حيث بإمكانهم أن يحوموا على الشاطئ, مثل حيوانات ضالة, تراقب هذه الأجساد المتلألئة العارية, بعيون جاحظة، وألسنة جافة يشتد بها الحريق.. أيام السبت, التي كان بعض الأولاد يفضلون قضاءها في تل أبيب, كانت أياماً مشهودة؛ حيث تستلقي اليهوديات، على الشاطئ، تحت الشمس، بلباس البحر ذي القطعة الواحدة (بل إن بعضهن يتخففن منه أحياناً) فيُجن الأولاد. وإذ تفضحهم انتفاخات ما بين أرجلهم, فلقد لا يجدون لأنفسهم طريقة أفضل من الاستلقاء على الوجوه فوق الرمل, لإخفاء ما يمكن إخفاؤه (بل ربما اضطر بعضهم إلى تلاوة بعض آيات القرءان، بهدف طرد الشيطان مؤقتاً. لكن أغلبهم سوف يظل متردداً، في ممارسة تلاوة كهذه، من الممكن لها القضاء على كل أمل باحتمال إنشاء علاقة؛ والاكتفاء بفعل ما هو مسموح.. ومن كان يستطيع هنا، على هذا الشاطئ، في مقابل هذه الأجساد الشهية، أن يبذل كل هذه التضحية، ويتنازل عن كل هذه الأحلام!)، ريثما يعاودون المشي والبحلقة والتنهدات, إلى أن يحل الليل, فيتجهون إلى الشوارع المجاورة، لمفاصلة بنات الهوى, وقضاء لحظة من المتعة, قبل أن يعودوا إلى شقاء أسبوع جديد.
لحظة من المتعة دون رأس (فقد ظل الرأس والصدر والأفخاذ هنالك على الشاطئ. ولم يعد هنا, في هذه المسالك الليلية في حي بن يهودا الآن, إلا مؤخرات لوجوه تخفيها ظلمة الشارع).. تتحرك المؤخرات بسرعة في سبيل استنفاد اللحظة, بينما الرؤوس هناك في الظلام تشتم .. نسوةٌ تتسارع الشتائم على ألسنتهن, وفق قاموسٍ لا يتقنُ مثلَه غيرُهنّ. وأولادٌ ينفثون غيظهم وبؤسهم دماً, متمنين لو أنهم لم يُخلقوا من الأصل, أو لو أنهم لم يعرفوا هذا العالم, الذي تتحول فيه أجمل العلاقات, إلى تجارةٍ وشتائمَ وروائحِ منيٍّ يختلط بعضه ببعض, قبل أن تبوله يهوديةٌ مغربيةٌ, بعدد من زجاجات البيرة, وهي تقول:
ـ لاما أتا مزيين كمو كيلڤ؟!. كول كاخ لوكيح لخا لچمور؟!(31).

الفصل الثاني
وجيه
مشيناها خطىً كُتبتْ علينا ومنْ كُتبتْ عليه خطىً مشاها
عندما غادر وجيه السوق, مع بداية المعركة, لم يعرف إلى أين هو متجه تماماً.. الذي كان يعرفه فقط, هو أن عليه أن يغادر.. شيء في داخله كان يطالبه بالبقاء والمواجهة، وعدم ترك حسين وحيداً؛ خصوصاً وأن تدخله كان إنقاذاً لكرامته هو. لكن جزءاً آخر داخله، كان هو الذي يحرك قدميه, ويقوده خارج السوق المركزي.
اتجه إلى البوابة, ثم عبر الشارع نحو الرصيف المقابل, حيث محطة الحافلات.. صعد إلى الحافلة المتجهة إلى يافا, واشترى تذكرة من السائق, ثم توجه نحو المقعد الخالي القريب, وجلس إلى جانب سيدة شقراء، تفوح من إبطها العاري رائحة العرق.. لملمت السيدة أعضاءها (رغم أنها مجرد غروزينية(1) متخلفة ـ كما يظهر من وجهها الناصح وعينيها البلهاوين ـ لكن من يستطيع من الغروزينيين الظهور بمظهر من هو واقع في غرام عربي!. ولو لم تكن الحافلة مملوءة باليهود الحقيقيين، فلربما كان لها معه شأن آخر) والتصقت بالجانب الآخر من المقعد. ثم عند أول محطة نزلت. فتأكد وجيه الآن أنها غروزينية، وفكر جدياً في النزول وراءها ـ فهو يعرف أن هؤلاء الغروزينيات، يخفين في أنفسهن عشقاً غير محدود، لفحولة أولاد العرب ـ لكنه تذكر، في اللحظة الأخيرة، المشادة التي حصلت في حافلة مشابهة، قبل أكثر من شهر، بين عراقي وغروزينية (فشتمها، وقال لها بأن تذهب إلى عربي ليضاجعها، بدلاً من الادعاء بأنها يهودية. فصارت تبكي، وتشتد في شتمه، والتبرؤ من العار الذي نسبه العراقي، من أتباع عبد الكريم قاسم(2)، إلى بنات جلدتها الشريفات. ثم قالت له العبارة التالية بالضبط: أني يزيينتي عرڤي ملخلاخ كموخا(3)؟!.)، فخشي مغبة الأمر, وواصل الجلوس. وعند أول شارع القدس, مما يلي تل أبيب, نزل, وتوجه إلى دار السينما, التي تعرض صورة فتاة عارية الصدر, مستغرقة في قبلة ساخنة مع فتى ينسدل شعره على وجهه.. استنتج أنهما خارجان لتوهما من البحر.
حمله البحر إلى أجواء حميمة, لابد أن يكون الفيلم مليئاً بها: حدث نفسه بمرارة تائقة. وصار يتصور المشاهد التي سوف يراها في الداخل, بل ذهب به الأمر إلى تصور نفسه جالساً، إلى جانب واحدة من هاته البنات الجميلات, اللاتي يعج بهن باب السينما, ويعبث معها في الظلام, وتعبث معه.. حك إليته مرة أو مرتين، متحيراً في كيفية تحقيق ذلك.. كيف يمكن البدء!..هذه هي المسألة فقط.. دار حول نفسه عدة مرات, وهو يتأمل البنات.. كلهن بيضاوات كالجبن.. بحث بعينيه عن واحدة محددة يجعلها هدفه, دون أن يقرر كيف يتفاعل معها.. ازداد شعوره بالرغبة في احتضان واحدة, من بينهن, دون تحديد. لكنه لم يفعل شيئاً سوى الانتظار, ولم يلتفت إليه أحد, باستثناء جندي الهاجا(4) الواقف قرب الباب الزجاجي.. خشي أنه إذا اشترى تذكرة ودخل، فسوف يُقبض عليه؛ فهو العربي الوحيد هنا.. شكله يقول ذلك.. لو كانت معه فتاة، لشعر بشيء من الأمان.. رأى كوشية(5) ترتدي بنطلوناً متسخاً, وتضع يديها في جيوبه, وتتلفت في كل اتجاه, فقدر أنها تبحث لها عن رفيق, ثم قدر أن باستطاعته أن يكون ذاك الرفيق, على اعتبار أنه من عنصر قلما يتوفر للكوشيات. وقبل أن يفكر فيتردد, مضى باتجاهها مستجمعاً شجاعته.. تقدم منها. لكنه رأى كوشياً آخر يتوجه نحوها, فتتلقاه متهللة, ثم يدخلان السينما.. التفت جهة جندي الهاجا, وإذ رأى عينيه تضحكان, فقد شعر بعار كونه عربياً هنا, مدركاً في ذات الوقت أنه في مأزق.. لكنه صمد, ولم يكن يملك سوى ذلك: فكل البنات كن يتكئن على صدور عشاقهن ويهمسن, وهو واقف هكذا يتلفت وحيداً، مثل حرذون على الجدار.. تلفت طويلاً بحثاً عن شيء لا يعرفه, وفجأة رأى "أبو خربوش":
ـ أبو خربوش؟!.
هتف مرتاعاً, كأنه واقع في بئر، ثم رأى الحبل يتدلى من فوق. لكن الشاب نظر إليه بازدراء, دون أن يكلف نفسه عناء الرد. ولم ير وجيه ما حل به من صغار, لأنه لم يصدق ما سمع, فهذا هو أبو خربوش, بلحمه ودمه!. صحيح أنه يرتدي بنطلوناً مزركشاً. وصحيح أن شعره الأجعد مسرح بطريقة مختلفة، تشبه تسريحة الشبان اليهود؛ لكنه أبو خربوش، ولا يمكن أن يخفى عليه.. أراد أن يتقدم نحوه, لكن أبو خربوش ضم إليه الفتاة اليهودية, التي تشبه قطعة المهلبية, من خصرها, بثقة متناهية, ثم قبلها, فساحت. وهنا سقط قلب وجيه في قدميه, وصار يشعر بالخزي أكثر من أي وقت مضى, خصوصاً بعد أن غمز له أبو خربوش بعينه من طرف خفي, وهو يخاطب فتاته, مثل يهودي أصيل:
ـ آت مكيراه إت هعرڤي هزي(6)؟!.
ـ ما پيتوم(7)!!!. لوت شفتيها بازدراء واضح.
ازداد به الإحباط, وصار الآن يقارن هيئته الزريّة بهيئة أبو خربوش: وكأن لم يكفه أن يكون أبو خربوش أبيض البشرة، أزرق العينين مثل الأشكيناز، ويتكلم العبرية بطلاقة, إلى جانب طوله الفارع، وذراعيه المفتولين، اللذين تكشف عنهما البلوزة البودي الضيقة التي يرتديها.. لم يكفه كل ذلك, حتى صار على وجيه أن يتذكر بشرته السمراء، ووجهه المصفرََّ، وملابسه المتسخة!.. وأين؟!. وسط شارع القدس, أمام السينما, في أرقى أحياء يافا الجديدة!!.
لملم بقايا نفسه, متوجهاً نحو بائع الفلافل. ووقف في الطابور. وبمجرد أن تناول الشطيرة الساخنة، المحشوة بالفلافل وقطعة الشيبس الحمراء ـ التي حاولت أمه أن تعمل له مثلها، ففشلت ـ بدأ في التهامها.. ومع أنه شعر بأن طعمها يشبه الخراء الجاف؛ إلا أنه واصل الأكل.. صار يأكل، ويبتلع مخاطه، ويمشي, متوجهاً نحو أول الشارع, من حيث نزل من الحافلة، قبل قليل.
تخطى الشارع, نحو الجهة المقابلة, ووقف في الوسط, حيث ملتقى الشارعين القادمين من أول يافا ـ شارع القدس الذي جاء منه الآن, والشارع القادم من جهة الساعة ـ قبل أن يفترقا مرة أخرى: واحد إلى اليمين باتجاه "بيت رومانو"، ثم التحناه مركزيت؛ والآخر إلى اليسار، جهة الغرب، بمحاذاة البحر تماماً، جهة يافا المنشية, حيث يواجه المار، بعد خطوات قليلة، دار سينما متخصصة في عرض الأفلام العربية.
تخطى المفترق باتجاه السينما.. كانت واجهة "قريباً" الزجاجية تعرض صوراً لعبد الحليم حافظ ،وهو يدور حول زبيدة ثروت, في الحديقة, ويغني لها: "ضحك ولعب وجد وحب", وفي المقابل وقفت بعض الفتيات العربيات، اللاتي يبحثن لهن عن عشاق.. دار عدة دورات، محاولاً أن يشبك مع إحداهن, لكن زرايته أحبطت مسعاه.. رأى واحدة تحتضن واحداً، كأنها تخاف أن يتفلت منها, وهي تتأمل عبد الحليم بنظرات شهوانية, ثم سمعها تقول بحسرة:
ـ إيزي حتيخ(8)!!.
ومع ذلك فقد كانت عربية.. كان يعلم بأن يافا القديمة مليئة بمثل هذا النوع من الفتيات, اللاتي يتحدثن العبرية, مع أن لهفتهن تقول غير ذلك.. لو لم يكن معها هذا الفتى، فلربما أمكنه أن يصطادها.. توجه نحو واجهة: "يُعرض حالياً" فوق الشباك, وإذ لم يكن ثمة جندي هاجا, فقد أحس بالأمان.. اشترى تذكرة, ثم دخل, واندمج مع فريد الأطرش وفاتن حمامة في "لحن الخلود", ونسي السوق المركزي, ونسي حكيمي, وحسين, وأمنون بن موشي, والغروزينية الشقراء التي تبحث عن فحل, والكوشية التي خوزقته, والفتيات اللاتي يتكئن على صدور عشاقهن.. . لكن عندما قبَل فريد الأطرش فاتن حمامة، وارتمت على صدره, تذكر وجيه قطعة المهلبية التي كان يحتضنها أبو خربوش, على باب سينما اليهود, عند بياع الفلافل في شارع القدس, فبكى. وصار يجفف دموعه ومخاطه بكم القميص, الأمر الذي أساء إلى مناظر الفيلم, وجعل عينيه تغبشان. فنزل وهو يلعن أبا فريد الأطرش، وفاتن حمامة، وزوجها عمر الشريف, الذي تركها هكذا على حل شعرها, وصاع في هوليوود. ولعن السينما, ومديحة يسري، الغبية التي تركت زوجها هكذا لعشيقته، يقبلها وترتمي على صدره. ولعن اليهود الذين احتلوا فلسطين، وصاروا يعرضون فيها مثل هذه الأفلام.. وتمنى في هذه اللحظة لو يفجر نفسه في كل هؤلاء اليهود الملاعين, وفي كل هؤلاء العرب الذين يشبهونهم.
سار بمحاذاة الشارع الساحلي، المتجه إلى تل أبيب. كان البحر خالياً تماماً ـ رغم أن الفصل صيف ـ والشارع شبه مهجور. والبيوت, التي كانت في السابق منتجعات, صارت الآن خرابات، تطوف بها عصابات الحشاشين والقوادين ومدمني المخدرات, إلى جانب بنات الهوى اللاتي يصطدن أبناء العرب, من أمام السينما, لعمل اللازم..
قال للفتاة التي تمضغ قطعة اللبان وتطرقع بفمها:
ـ إيفو(9)؟.
فأشارت بيدها نحو الخرابات التي تحيط بمسجد حسن بك:
ـ كان(10).
كانت المسافة الفاصلة بينهما وبين المكان المشار إليه تتقاصر, وهي تسبقه مثل دليل الصحراء, وقد أتاحت له الأضواء الخافتة, المنبعثة من مصابيح الشارع, تأمل الفتاة التي اصطحبها من أمام سينما العرب: بيضاء البشرة, مستديرة الوجه, رقيقة الشفتين, فوقهما أنف ذو أرنبة بارزة محمرَة، انتفخت خياشيمه أمام البحر. تلبس تنورة واسعة تصل إلى منتصف ساقيها.. هذه التنورة هي ما شدَه إليها: فهي على العكس من تنورات بنات بن يهودا الجلدية القصيرة الضيقة، المعروفة مثل علامة مسجلة.. كانت التنورة هنا تهفهف بفعل نسيم البحر. وكان يتخيل نفسه يرفعها، فلا يجد تحتها ملابس داخلية.. اهتاج، وبدأت أدواته تتحرك.. تمنى لو كان باستطاعته أن يقترح عليها أن يفعلا ذلك على شاطئ البحر, كما فعله البطل مع البطلة، في الفيلم الذي رآه في السينما التي عند التحناه مركزيت.. لكنه كان قد وصل المكان الذي أشارت إليه الفتاة. وبدأت بتمهيد الأرض بيديها, ثم استلقت هناك بين الخرائب, تحت المصابيح الخافتة, ورفعت تنورتها..
هو وهي والخرائب وصوت البحر.. لا شيء آخر هنا.. كان قلبه الآن يدق في حلقه, موشكاً على الوقوع من فمه.. التفت جهة البحر، واستنشق هبة نسيم قادمة. ثم انحنى قليلاً ليتأمل, كأنه لم يكن مصدقاً ما يحدث, نظراً لأن بنات بن يهودا لا يفعلن ذلك.. نظر إلى الشيء الذي طالما تمنى امتلاكه، غير مصدق.. كان كل شيء عارياً كما خلقه الله, والأرنب يحدق فيه بانتظار, والفتاة كمثل الطبيعة تناديه:
ـ نو(11).
عالج بنطلونه قليلاً, لكن اصطدام يده بالحقيقة أفزعه, وأشعره بمزيد من البرودة، التي بدأت الآن تتغشاه.. امتلأ قلبه بالخوف، خصوصأ وهو يتذكر أن أباه ينوي أن يزوجه، في الصيف القادم.. حاول بيده قليلاً، ولكنه يئس وشعر بالعار، والفتاة تقول متأففة:
ـ ما كرى لخا!؟(12).
والحق أنه كان قد جرى لوجيه الآن، ما لم يجرِ لأحد من أولاد العرب.. ولو أن واحداً منهم الآن موجود مكانه، لقفز مثل أسد.. لكنه الآن لا يستطيع أن يقفز مثل فأر.. كانت أطرافه مرتخية تماماً, وقد غطى العرق وجهه, وتسارعت أنفاسه، أكثر من أي وقت مضى, وشعر برأسه يدور.. أخرج من جيبه عشرين ليرة، ناولها للفتاة, التي وقفت تحدق في وجهه بدهشة.. ثم مضى.. وبعد خطوات سمع ضحكتها تجلجل في أذنيه، وهي تقول لقوّادها:
ـ لو هيا له كلوم(13).
ارتجفت ساقاه بفعل العبارة , لكنه واصل المسير..اقترب من المسجد.. كان الباب الكبير لا يزال واقفاً مكانه, وقد تساقط طلاؤه, وظهر خشب البلوط الأحمر عارياً. أما الشبابيك فقد كانت مخلعة، وليس ثمة إلا الفتحات.. قفز إلى الداخل, وبدأ يتجول في الباحة التي تخلَّع بلاطها، وظهرت هنا وهناك مكانها مواقد للنيران. والزجاجات الفارغة ـ البكبوك(14) ـ التي تم تحويلها إلى أدوات لتحضير المخدرات، تتناثر في أماكن متعددة.. أدرك أن المكان تحول إلى ملجأ للحشاشين، ومدمني المخدرات.. اتجه نحو المنبر، فوجده عارياً من الرخام, فقدر أنه تساقط بفعل الزمن ورطوبة البحر.. وهناك في المحراب، كان فراش إسفنجي لشخص واحد, تحوطه أقماع السجائر، وبعضٌ من قطع الملابس الداخلية النسائية القذرة.. أصابته القشعريرة, وبدأ يفكر في المغادرة, عندما أحس بأن شخصاً يقف وراءه:
ـ من وين انت؟.
ارتاع بشدة وهو يلتفت، ليرى المتحدث شخصاً يرتدي زيَ الهاجا, وقد غطت القبعة العسكرية جزءاً كبيراً من وجهه، في هذا الليل. وإذ لم يكن محتاجاً إلى التأمل طويلاً، ليدرك أنه يحمل في يده مسدساً، فقد استجمع ما تبقى من شجاعته، ثم قال:
ـ أنا من يافا.
ـ طيب. وين هويتك؟.
ـ أنا صغير.. لا أحمل هوية.
ـ شو أسمك؟,
ـ محمود أحمد سليم.
قدر أنه، باختياره هذا الاسم المحايد، يستطيع تمويه شخصيته الحقيقية؛ فلربما كان هذا الرجل من يافا، ويعرف عائلاتها. لكن قدوم الشخص الآخر فاجأه.. لقد رآه وعرفه بعد هذه السنوات.
ـ تعرف هذا الشخص؟.
ـ هذا من عندنا.
أدرك وجيه أنه قد انكشف تماماً, وأن "كمال أبو الدبس", الذي غاب عن الحارة فجأة، ولم يعرف له أحد طريقاً, هو عميل لليهود, مثله مثل هذا الرجل الهاجا, الذي يجره بقبضته الحديدية خارج المسجد:
ـ اسمع.. وين هويتك وتصريحك؟.
ـ أنا من يافا, وصغير.
لم يكن أمام وجيه إلا أن يقول هذا, فقد بات يعرف ما هو مطلوب منه.
ـ طيب.. قدامي يا ابن الكلب على الشرطة.
ـ ومين انت حتى تسلمني للشرطة؟ ـ رد بصوت مضطرب, وقد أدرك الآن ضعف موقفه، أمام هذين الرجلين القويين. لكن الصفعة القاسية، التي وقعت على وجهه، أقنعته بأن يسلك طريقاً أخرى ـ إيش بدك مني؟!.
ـ امش قدامي..
وصار الآن يجره من يده, عائداً من نفس الطريق التي سلكها قبل قليل.. وبعد أن مرَا بدار السينما، ووصلا إلى المفترق, مال به جهة اليمين, في الطريق المؤدية إلى الساعة. فأدرك الآن أنه مقود إلى مركز الشرطة القريب.. لكن سجانه جلس به فجأة على مقعد موقف الحافلة, ثم بدأ يتأمل وجهه تحت الأضواء:
ـ يظهر أنك ولد صغير بالفعل ـ قال الرجل الهاجا, ثم أشاح بوجهه نحو كمال الواقف كالمراقب ـ ما رأيك يا كمال؟.
كان وجيه يسمع أن يافا قد أصبحت ملجأ للجواسيس، الهاربين من غزة, بعد موجة القتل الذريع التي اجتاحت عدداً كبيراً منهم, على يد كل من "قوات التحرير الشعبية" و"الجبهة الشعبية". لكنه لم يسمع أبداً بأن أبو الدبس هذا كان جاسوساً؛ بل على العكس من ذلك؛ كان على علاقة صداقة مع المطاردين، من كلا التنظيمين, حتى ظُن أنه واحد منهم.. طويل أشقر, بشعر ناعم يسرحه إلى الخلف, فيكشف عن جبهة ناصعة، وعينين خضراوين كعيني القطط, تحتهما أنف دقيق, يعلو شاربين أشقرين شعيراتهما تشبه الزغب, وفكاً قوياً, وذراعين مفتولين يكادان أن يمزقا كمي القميص القصيرين. وعندما يكشف عن صدره في الساحة, في بعض ساعات العصر الحافلة, يظهر صدره العريض وثدياه الضخمان متناسقين كثديي ستيڤ ريڤز.. باختصار: لقد كان بطلاً إلى جانب محمد البيك, فلماذا تحول إلى جاسوس, وترك محمد البيك يقبع في السجن؟!. وهل هو الذي سلمه؟:
ـ هذا ولد مسكين، ومستعد يتفاهم.
الآن بدأت المسرحية.. والآن يدرك وجيه أن وقت المساومة قد حان.. لكنه استحمق قائلاً:
ـ حاضر.
ـ طيب. تعال معنا تسجل اسمك، عند الضابط. لا تخاف. لن تبلغ عن فدائيين ولا مخربين.. وين بتشتغل؟.
صمم وجيه على التحامق التام, وقرر أن لا يعترف بمكان عمله, وقد بدأ في إعداد خطته.. لذا فقد قال:
ـ كل يوم الصبح باقف عند موقف أبو رجب, وباشتغل مع أي واحد.
ـ يا ابن الكلب! ـ صرخ فيه الرجل الهاجا بغيظ ـ بتكذب عليَ؟!.. طيب وين بتنام؟.
ـ مستأجر عند ست عجوز في يافا, تعال آخذك عليها.
كان يخطط لإقناعهما بمرافقته إلى يافا القديمة.. وهناك سوف يحلها ألف حلال. لكن الرجل الهاجا تنبه إلى خطورة هذا العرض الملغوم، وصمم على ضرورة أن يرافقهما إلى الضابط "ابن الحلال"، مما دعا وجيه إلى الحلف بشرفه، أن يأتيهما في الغد، ويضع نفسه تحت إمرتهما، فيما لو سمحا له بالمغادرة الآن، خصوصاً بعد كل هذا التأخير المقلق لأصحابه المنتظرين.
لكن الرجل الهاجا صفعه مرة أخرى وهو يصرخ بغضب فادح:
ـ اخرس. أو تمشي معي الآن, أو باسلمك للشرطة ـ ثم التفت جهة كمال كأنه يستنجد به ـ يللا تعال ناخذه على أبو كبير(15).
ـ اصبر ـ قال أبو الدبس بعقلانية واضحة. ثم توجه بالخطاب نحو وجيه، وقد بدت عليه علامات الإشفاق ـ يا ولد، شايف حالنا؟.. بنات وفلوس مثل ما انت عايز. عليك فقط التبيلغ عن تجار المخدرات والحشيش والأفيون في غزة.. انت إيش بتفكرنا؟.. جواسيس!.
ـ طبعاً لا. قال وجيه بلهفة رسمها على وجهه.
ـ طيب. بدكش تكون مواطن صالح, وتنفتح لك كل الأبواب؟! ـ عاد الرجل الهاجا إلى التدخل، قبل أن يقوده نحو زقاق جانبي, بين العمارات الواقعة بين شارعي الساعة والقدس ـ اهدأ، وتعال نتحاور.
ودخلا في الزقاق. ووقف أبو الدبس غير بعيد. وكان وجيه يعرف أن هذا الزقاق ينتهي, بعد بعض التواءات, إلى شارع القدس, في الجهة المقابلة لسينما اليهود, عند محمص المكسرات.. رسم الخطة في رأسه بسرعة, مقدراً أن رواد السينما الآن في طريقهم للخروج.. على العموم, حتى لو لم يكونوا كذلك, فهذه هي ساعة الذروة في شارع القدس, حيث يمتلئ بالمارين، الذين يمكن له أن يتوارى بينهم. لذا فقد قال بلهجة شديدة الاستكانة:
ـ لا تأخذوني إلى السجن.. أنا ماشي معكم.
كان يقول ذلك، ويلاحظ أن قبضة الرجل الهاجا على يده تتراخى، قليلاً قليلاً, بحيث بدأ يطمع في التفلت، عندما تحين اللحظة. لكنه فجأة رأى سوادات متعددة تخرج من زقاق مجاور. فأدرك فوراً ما عليه أن يفعل.. وعندما اقتربت السوادات, ورأى زجاجات "البكبوك" التي في أيديهم, تأكد ظنه, فبدأ يولول ويبكي، مثل امرأة مات زوجها الساعة:
ـ يا ابن الكلب.. بدي أروح على الدار..
الآن اختلطت الأوراق. وبدأ الرجل الهاجا يحاول استرضاءه, لكي يصمت. وصار كمال أبو الدبس يتلفت حوله, باحثاً عن مخرج. لكن الزقاق كان قد امتلأ بالوافدين الجدد, الذين بدأوا يتقدمون, ويفركون أعقاب سجائرهم بالأرض, ويبصقون. وإذ أدرك وجيه حجم الرعب المسيطر على كل من بطل كمال الأجسام والرجل الهاجا, فقد قرر أن يستثمر المستجدات بالطريقة المثلى. فقال موجهاً كلامه لجماعة العالم السفلي, التي وقفت تراقب بشيء من الفضول:
ـ حڤري تعزرولي.. همنيكيم هإيللى روتسيم لكاحت أوتي لمشتراه(16).
ولقد كانت كلمة "مشتراه" هي مفتاح السر، الذي تسبب بعد ذلك في كل ما جرى, إذ بدأت الضربات تتوالى على رأسي الواشيين الملخلاخَين, بالأيدي وبالزجاجات الفارغة, وهما يصرخان:
ـ أل تأمينو لو. زي عرڤي, ڤإينلو ريشيون؟(17).
لكن ذلك لم يكن ليساعد في شيء. ووجيه واقف يراقب بذهول. حتى إذا انتهى الموضوع على خير, مدّ الطويل ـ الذي يبدو أنه زعيمهم ـ يديه إلى رأسه, وبدأت أصابعه تتخلل شعره الناعم, وترفعه من الأمام إلى الخلف, مثل مشط كبير. ثم وضع يديه على خاصرتيه متأملاً في وجيه. وبعد لحظة من الملل، دار حول نفسه, وشوّح بذراعيه في كل الاتجاهات, كأنه يتساءل عما فعل في التو واللحظة. ثم مدّ يده إلى جيب بنطلونه الخلفي, واستخرج علبة سجائر خنتريش, تناول منها سيجارة بدت منتفخة. وبعد أن أشعلها، وسحب منها نفساً طويلاً, زفر زفرة صعداء, وتقدم من وجيه, وأمسك بيده، برفق واضح، وهو يقول:
ـ وين مكان الخدمة ديالك(18)؟.
ـ في سوق الحشمونائيم.
ـ تحب نوصلك, والا بتعرف الطريق؟.
ـ لا, شكراً. باعرف الطريق كويس ـ ثم موجهاً كلامه للباقين ـ أني روتسي لچيد لخيم ماشي هو: أني مودي لخيم حڤري.. هإم أني يخول لعسوت لخيم ماشي هو(19)؟.
ـ ليخ عخشاڤ, لفني شي تڤو همشتراه هپعم بريتسينوت(20).
ـ توڤ حڤري.. أني بشوك هحشمونائيم, برمبة2, بحانوت7.. فبإيزي زمان شي ترتسو لڤو، أني يهيي تسميح لعزور.. راك تحپسو إت وجيه(21).
ـ لهيتراؤوت وجيه(22).
وبعد لحظات كان يتوارى في زحام الشارع, ثم يركب الحافلة المتجهة إلى التحناه مركزيت. ومن هناك توجه نحو الشيطح.

الفصل الثالث
إليزا
أيها الرب: إلهُ الخواتم والعقود والتنهداتْ,
يلتمسون منك لديارهمْ.. وما من ديارٍ غير حبيبتي...
يذهبُ الناس إلى أعمالهم.. ومن حبها أَذهبُ إليك.
أنسي الحاج
*****
لم يكن عدنان مغتاظاً من حسين, عندما صرخ عليه وشتمه؛ بل إن كل هذا الصراخ وهذه الشتائم كانت في الحقيقة, موجهة إلى نفسه, بعد أن نام ليلة سوداء, لا يعرف كيف مرت عليه؛ إضافة إلى أنه الآن لا يعرف كيف يبدأ هذا اليوم مع حسين, وماذا سيقول له إن سأله: أين كان بالأمس طوال اليوم؟!. فهو لا يستطيع بالطبع أن يقول له: ذهبت أزوِّج سارة من بدو السبع, ثم جئتك كأن شيئاً لم يكن.
أما حسين, فقد كان متحيراً في هذا العدنان الصامت، على غير العادة. لم يقل له أين ذهب. ولم يقل له لماذا لم يكن هنا، ليشارك في المعركة مع أبناء موشي. ثم لم يقل له لم هو حزين هكذا ومُقْعٍ, مثل كلب يوشك على البكاء, رغم كل هذا التفاح الذي يأكله. كما لم يقل له لماذا... (يابن الكاااالب!... هل تزوجت سارة, ثم جئتني تتمطوح مثل جرو فقأوا عينيه؟!) .. وعند هذا الحد, قال قلبه: دي. فجلس على أول السلم, وقد أحس بأنه داخ.
ـ مالك يا حسين!.. في شيء؟!.
هرول عدنان بعد أن أنزل الصندوق على الأرض, وبدا مذهولاً مثل صبي كشفوا له عن عورته أمام زملاء الفصل.
ـ لا.. ما فيش شيء.. بس, وين كنت امبارح؟.
سأل حسين وكانت شفته السفلى ترتجف, مثل ابن عرس بعد أكله السم الذي دسه حكيمي, في حبة الفليفلة, تحت الشوكولاتة, قبل أيام.
ـ والله يا صاحبي ما أنا عارف إيش بدي أقول لك!.
رد عدنان وهو يتجنب النظر في عيني صديقه, متشاغلاً بإشعال سيجارة التايم (التي أخذها من محاسب الحانوت الليبي الجلدة, أجرة موافقته على إحضار كأس القهوة له ـ وكان بمقدوره أن يرفض, لكنه أراد التمتع برؤية وجه الكلب، وهو يتخلى عن عظمته ـ من كشك الروماني الذي لا يحسن العبرية, في أول الرصيف.. ابن الكلب الروماني هذا كانت زوجته جميلة, وصابغة شعرها ميش. وكان عدنان يحاول اصطيادها. لكن الروماني المعفّن كان متنبهاً مثل ثعلب, بدليل أنه صار يكشر في وجهه، كلما ذهب لشراء شطيرة البيض, الذي توشك صيصانُه على الصوصوة في بطنه).. لكنه عندما لمح الدموع في عيني صديقه, شعر بأنه خائن، وقليل الأصل، ولا يستحق مثل هذا الصديق. فرمى سيجارة التايم, وهجم عليه, وضربه في كتفه, فلم يرد. ثم ضربه مرة أخرى في صدره, فلم يرد. ثم أخذ يضربه ويضربه وهو يصرخ دون وعي منه: "راحت سارة.. أخذوها البدو"، وهو صامت مثل حجر. ثم هجم عليه، وتعانقا وهما يشهقان، وقد امتزجت دموعهما. وحكيمي واقف يضرب كفاً بأخرى، متعجباً من العرڤيم المشوچاعيم(1).
سارة كانت أجمل فتاة في الحارة. وحسين كان أكثر ولد غلبان في الحارة. وعدنان كان أكثر ولد شيطان في الحارة.
سارة كانت أجمل فتاة في الحارة, لأنها بيضاء مثل الشمع, وممدودة القوام مثل نخلة بين شجيرات النتش, وناعمة مثل أقحوانة نبتت على مسيل الماء, وأسيلة الخدين مثل حقل قمح في منتصف الربيع.. في عينيها نعاس، وفي صوتها نوم, عندما يراهما حسين، تتفكك مفاصله, ويغدو مثل تلميذ غبي، أخرجه المعلم على اللوح، ليحل أصعب المسائل. ولأن أباها كان أكثر واحد هامل, في الحارة، ويلعب القمار؛ فقد تزوج من أمها، التي كانت أجمل امرأة في الحارة, قبل أن تشتعل فيها النار، ويصبح اسمها "المحروقة" (وهكذا هي العادة في المخيم, حيث يتزوج الهمل في الغالب أجمل الجميلات ـ لا تعرف كيف ـ ثم يعاملونهن معاملة سيئة, ويصبرن، ويأكلن الحصرم، ويجعن, ثم يتفانين في خدمتهم, ويظلون متأففين: قسمة الله بين العباد, لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه!. حتى إن أفضل الرجال وأكملهم لا يتزوج إلا قبيحة, أو قليلة الجمال ـ كما لو أنهم عصبوا عينيه, ثم قالوا له: توكل على الله, فتوكل ـ أو بذيئة حمقاء, لا تحمده ولا تشكر ربها, مع أن مثله خسارة أن ينام في طولها), إضافة إلى كونه قليل الدين: لا يُحلِّل ولا يُحرِّم, وقليل الأصل دون، أهمل رعاية أمه في شيخوختها, وكان ينتهرها كثيراً، ويقول لها أمام الناس: يا خرفانة. ولولا المحروقة، لطلع الدود من بدنها. وقبل أن تموت، دعت عليه أن يرى من أولاده ما رأته منه.
وحسين كان أكثر ولد غلبان في الحارة, لأن أباه كان عديم المنفعة، ميئوساً من صلاحه, إضافة إلى كونه يجمع النقيضين: الهمالة والصعلكة (رغم أنه تطوع فدائياً مع مصطفى حافظ, وصار يسرق البيارات، ويتسافل على الغلابا, بالرشاش الذي أعطوه إياه ليقتل به اليهود, فصار يحضر برتقالاً وفواكه، أكثر من الآذان والأصابع, التي يطلبونها منه. ثم ذهب إلى مصر, وتزوج مصرية. وهجر "سعدة". ونسي الحب الذي كان بينهما. ونسي أنها من أجله تحدّت عمها ـ الذي ربّاها بعد موت أبيها في أول الهجرة, عندما ذهب إلى البلد ليسرق القمح من خوابيه, فطخّه اليهود ـ وقالت له بأنها لن تتزوج ابنه المنيك, وأن عليه أن يكف عن طرد الخاطبين. فهرش إليته هرشاً عظيماً, وبعد أن ضحك حتى ضرط, قال: والله أنت أرجل من ابني، وخسارة فيه، يا عم. وزوّجها لسعيد، بعد أن عرف أن عينه عليها، وعينها عليه) ولم يفعل شيئاً باستثناء إنجابه, ثم الغياب عن البيت, وتركه لأمه التي كان يأتيها كل حين ومين. وإذ أدركت سعدة خطيئتها بهذا الزواج متأخراً, فقد ركزت اهتمامها على ابنها, منشغلة به عن زوج موته خير من حياته, فأرضعته ست سنوات كاملة, حتى صار رأسه مثل الحديد, وذهب إلى المدرسة. ولما وصلتها ورقة الطلاق، رفضت أن تتزوج وترميه في معهد الأيتام, مع أن جوعها كان أكثر من شبعها. وصارت تعيّره بأبيه, وتشبع فيه ضرباً. ثم عندما تهدأ، تأخذه في حضنها وتبكي, وتلعن حظها، وتعاتب ربها بكلام صعب. ثم ترجع إلى عقلها، وتستغفر وتصلي على النبي المختار، وتقول: إن شاء الله يا ابني بتكبر وبتصير دكتور. ولما كبر قليلاً, عاقبها بالرسوب المتكرر, إلى أن طردوه من المدرسة. فأكلته بأسنانها، وفرّجت عليه الحارة. ثم نسيت كل شيء, وصارت تنظر إلى سارة وتمصمص بشفتيها وتقول: الله يجعلك من حظنا ونصيبنا.
وعدنان كان أكثر ولد شيطان في الحارة, لأن أمه المحروقة كانت تكثر من تدليله, وتتصدى لأبيه عندما يريد أن يؤدبه في آخر الليل، بعد عودته من لعب القمار، بسبب المشاكل التي يفتعلها في المدرسة مع المعلمين (لدرجة أنه هرب من الدراسة, واشتغل في الأستاذ, وصنع شُدّيدة، وصار ينقفه بها في صلعته كل يوم, في طريق الذهاب والإياب, لأنه عمل له فلقة على المنصة، أمام كل التلاميذ, وأعطاه علامة صفر في كل المواد, رغم أنه كان متأكداً من أن إجاباته صحيحة, لأن من غشّشه إياها كان أشطر ولد في الفصل) وتحضنه وتقول: بكرة بتشوف ابني كيف بيطلع, والله غير يصير أحسن من كل الناجحين اللي بتعرفهم. الأمر الذي يزيد أباه اشتعالاً, فيحوّل غضبه ناحيتها, حتى قيل إنها احترقت لهذا السبب.
أما الحارة، فكانت تحوي كل هذه التناقضات, واقفة على طرف المخيم، مما يلي الكروم والبيارات والغابة والبحر؛ حيث تفتح المحروقة شباك الصفيح, كل عصر, لتبترد غرفة القرميد. ثم تضع سارة في حضنها, وتفك ضفائرها, وتبدأ في تمشيط شعر كأنه أسلاك الذهب. وحسين جالس مقابل الشباك, في الشارع, مع عدنان. وعبد الحليم يغني: باحلم بيك. و"صفية" بنت مصلح بوابير الكاز تروح وتجيء, محاولة لفت انتباه عدنان. وعدنان ابن المحروقة لا يلتفت. وحسين سايح في ملكوت سارة, التي تسارقه النظر. والأولاد يبصبصون من بعيد, ولكن لا أحد منهم يقترب, لأنهم يعرفون أن من يفعل فسوف يأكل علقة تكفيه, ويفرّق من ورائها على الجيران.
ظل الأمر هكذا حتى جاءت حرب حزيران1967, وجاء اليهود, وجاء معهم بدو السبع، المتطوعون في الجيش الإسرائيلي, يركبون سيارات "البيك أب"، ويبرمون شواربهم, ويقتصون أثر الفدائيين, ويحملون بنادق العوزي, معتقدين أنهم يشتغلون شغلة شريفة, تتيح لهم الزواج من الجميلات: الواحدة بألف ليرة. ولما انخفضت قيمة الليرة, بعد ذلك, رفعوا السعر. وكبرت سارة, وكبر حسين (وعمل هوية, وصار يخرج في الطوق، عندما ينادي مكبر الصوت، يدعو الرجال إلى الخروج إلى الساحة, وأمه تولول لليهودي: صغير يا خواجا. فيقول لها روخ بيتك يا خمار). وكبر عدنان. وازداد أبوه همالة. وعرف بدو السبع أخيراً بيته. وخطبوا سارة, ودفعوا فيها عشرة آلاف ليرة. وخطب أبوها امرأة من أمثاله (سوداء مسلسعة كأنها المفتاح. أبوها ميت وأمها تشتغل في إسرائيل، وتنام هناك. والواسطة "درويش" زوج أختها, وصاحبه في طاولة القمار). وصار على سارة أن تنتظر موعد الزفاف. وصار على عدنان أن يبحث لأمه عن مأوى, فقد بدأت النهاية تتضح منذ الآن. ولم يبق أمام حسين إلا أن يشرب البحر, أو يرحل. فاختار الرحيل. وذهب إلى تل أبيب, وأخذ معه عدنان. وصارت أمه تدعو على زوج المحروقة وتقول عنه: جاسوس. وسمع الله دعاءها, فجاء الفدائيون من الجبهة الشعبية, وهددوه بالقتل، إذا زوج سارة لعملاء الاحتلال. لكنه طردهم, وقال إنه يعرف أن من أرسلهم هو حسين, وأنه لن يزوج ابنته من واحد مقطوع من شجرة، وتربية امرأة.
في الشهور الأولى, اشتغل عدنان في منجرة لصناعة صناديق الخضروات, بشخونات هتكڤا, يملكها الأخوة السبعة, قبل أن يأخذه جاسم ذو اليد المقطوعة إلى سوق الحشمونائيم, ليعمل معه في الحانوت رقم23. وهناك في الشخوناة, تعلم اللهجة العراقية, وضرب الخصم بقطعة الخمسة كيلوغرامات, وشرب الشاي الأسود المركز. وتعرف على تجار الكوك والحشيش والقوّادين وعصابات المرتزقة (فإذا أردت قتل أحد أو تأديبه, فما عليك إلا أن تدفع لهم المبلغ الملائم, ثم تنسى الأمر), وصاروا يحبونه, مثل واحد منهم. ورغم أنه عربي ولا يعمل أعمالهم, إلا أن هيئته صارت تشبههم, وصار يلبس القمصان المشجرة نصف الكم, وينزل بنطلونه إلى أسفل حوضه, ويتخنصر ويشخر ويبصق من بين أسنانه, فتخرج البصقة مثل سهم نحو الهدف. وصار رجال الشرطة يظنونه عراقياً مقطّعاً وموصّلاً ولا يعرف ربه, فأكنّوا له احتراماً عميقاً, وسموه عزرا... ثم أحبته إليزا, الفتاة الشيوعية المعجبة بعبد الكريم قاسم, وتقص شعرها مثل الأولاد. فلما علمت أنه من غزة، ويحب جمال عبد الناصر, بصقت في وجهه، وسبت دينه؛ فسب دينها، وقبلها غصباً عن إرادتها. ثم تخاصما وافترقا خمسة أيام. ثم تدخل الأصحاب وصالحوهما, على أن يحترم كل منهما دين الآخر. وظل الأمر هكذا, إلى أن جاء أولاد الطيرة الشيوعيون, وعلموا أنه عدنان لا عزرا, وأنه من غزة ويحب جمال عبد الناصر, فاتفقوا عليه, وقرروا أن يعملوا له علقة نصفها موت.
ـ عبد الناصر عميل أمريكا...
هكذا قال الولد الطيراوي الطويل, وهو يحدق في عدنان, الذي رد على التحدي بأقوى منه:
ـ أنت العميل، وأبوك العميل... يا ملحد يا كلب. وأسيادك، اللي قاعدين في الكنيست الصهيوني، هم اللي علموك تسب زعيم الأمة العربية.
ولم يكن الولد الطيراوي محتاجاً لهذا الرد, لأنه كان قد هجم على عدنان قبل أن يفتح فمه. ولم يكن عدنان بدوره محتاجاً لهذا الهجوم, لأنه كان قد بادر من جهته بضرب رأس الولد الطيراوي، بالصندوق الذي في يده. لكن رأس الطيراوي كان مثل الحديد, فلم يبدُ عليه أيّ تأثر.. واشتعلت المعركة. وتكاثر الطراونة على عدنان, وأصابوه بكدمات متعددة. لكن حضور حسين، بعد أقل من ساعة, قلب المعادلة, وأعاد المعركة إلى بدايتها، مرة أخرى.
حسين كان في سوق الحشمونائيم, عندما اتصلت إليزا بتليفون الحانوت, وأخبرته بما جرى. فذهب يجري على طول الطريق إلى الشخوناة, مثل المجنون عندما يقولون له: هوس. ولم يعرف لماذا لم يستأجر سيارة تاكسي, فالمسافة لم تكن قريبة. ما يعرفه فقط, هو أنه في أقل من نصف ساعة كان هناك. وعندما دخل ورأى الكدمات في وجه عدنان, وإليزا واقفة إلى جانبه صامتة, كان الهجوم الثاني قد بدأ, بصراخ الطيراوي الطويل:
ـ وين هو؟.
ثم هجم على حسين بمقص الحديد, وهو يسب دين الغزازوة المتشردين. لكن الأمر اختلف الآن, إذ أن حسين جاء من السوق مستعداً. وعلى الفور, أخرج من جيبه موس الكبّاس(2), وضربه في بطنه, فوقع على الأرض, وصار يعوي مثل ابن آوى. وتناول عدنان قطعة الخمسة كيلوغرامات (وكانت قد دبّت فيه الروح من جديد) وضرب بها رأس واحد آخر, فوقع إلى جانب الطيراوي الطويل. وعادت المعركة جذعة مثل نار أُلقمت حطباً جديداً.. وتناولت إليزا الشاكوش وضربت واحداً من رفاق العقيدة في رأسه, فسخسخ... وهكذا... إلى أن طابت البلاد, وهرب المتبقون. وحضر جاسم على الفور, ونقل المصابين إلى المستشفى, ثم أخذ معه عدنان إلى السوق. ورشا الشرطة, فأغلقت الملف (فقد كان المتعاركون مجرد عرب). وبعد أن خفّ الشغل عند جاسم, انتقل عدنان إلى حانوت رقم7, ليعمل مع حسين. وصارت إليزا تحضر إليه في السوق يومياً. وصار يذهب إليها, في الشخوناة, في بعض الأيام, بعد انتهاء العمل, وينامان سوياً في الأزقة المظلمة.
عدنان كان أطول من حسين قليلاً, وأنحف منه كثيراً (لكنه كان يأكل أكثر من ثلاثة أشخاص كحسين, خصوصاً عندما يكون الأكل دجاجاً أو لحماً أو سمكاً. أما إذا كان الأكل مجرد حمص أو بيض أو ما شابه, فقد كان يشبع بسرعة). ورغم أن أمه كانت بيضاء, قبل أن تصبح محروقة, إلا أنه جاء مثل أبيه: صغير العينين, أسمر ممصوصاً, يمشي مائل الرأس (كما لو كان جسمه ينوء بحمل رأسه، الذي لم يكن كبيراً). ويحب أمه المحروقة، بقدر ما يكره أباه. ويحب أخته سارة، كما لم يحب شيئاً من قبل. ويحب صديقه حسين، ويحب حبهما, ويراه شيئاً طبيعياً, لأنه لم يكن ليتصور حدوث شيء يمنع زواجهما, خصوصاً مع هذه الصداقة، التي تربط بين أم حسين والمحروقة. لذا فقد كان هو الذي ذهب إلى أصدقائه في الجبهة الشعبية, وطلب منهم أن يهددوا أباه ـ وحسين لم يكن يعرف بالأمر ـ ولولا ذلك لما احتمل الفدائيون هذا الأسلوب، الذي واجههم به زوج المحروقة. وبالأمس, عندما جاء بدو السبع, ليأخذوا سارة, أوشكوا على الاشتباك معهم؛ لكنهم, عندما رأوا الناس يملأون البيت والشوارع المجاورة, خافوا أن يتحول الأمر إلى مذبحة شاملة. فانصرفوا متأففين.
لحظة خروج العروس كانت أصعب اللحظات (إذ تمنى عدنان أن لو حدثت المذبحة فعلاً, ولا يجري هذا الذي جرى. وتذكر دعاء جدته على أبيه، فأوشك على تلبيته, ولكنه خشي أن يقول عنه الناس: ابن حرام) فقبل صعود سارة إلى السيارة, هاهت أم حسين فجأة: "غريبة غرّبوها رجالها.. ما غربوها إلا كثر الدراهم". ثم زغردت زغرودة طويلة تقطعها الحشرجات. فارتفعت أصوات نساء الحارة بالنشيج. ودبت المحروقة الدنيا بالصوت, فلطمها أبو عدنان على وجهها، أمام الحاضرين, ولعن أباها وأصلها الواطي. وارتمت سارة في حضن أخيها، وهي تشهق بالبكاء. وبكت أم حسين. ورآها الحاضرون تشق ثوبها وتصرخ في وجه عدنان:
ـ ليش صاحبك ابن الكلب ما أجاش, علشان يشوف له صرفة في هالجواسيس!.
ووقعت على الأرض. فهجمت النسوة عليها ينضحن وجهها بالماء البارد, ويواسينها. ثم أخذتها صفية بنت مصلح بوابير الكاز, إلى دارها, وعملت لها كوب سكر وليمون, وتحايلت عليها حتى شربته, ثم أعطتها حبة أسبرين. وظلت إلى جانبها حتى أغمضت عينيها. فرمت عليها اللحاف, وهي تسمي باسم الله. وخرجت على أطراف أصابعها. وركب عدنان السيارة إلى تل أبيب. ونامت الحارة تلك الليلة كأنها في عزاء. ولكن ظل صوت أم حسين ينوح, حتى طرق مسمعها صوت الشيخ عثمان المؤذن يلعلع: "سبحان من أصبح الصباحْ. سبحان الملك الفتّاحْ. سبحان مطيّر الجناحْ. سبحان من أذهب الليل وأتانا بالصباح... سبحان الواحد الأحدْ. سبحان الفرد الصمدْ. سبحان من قسم الأرزاق ولم ينس من فضله أحدْ". فأيقنت أن رزقها على الله, وأن الذي خلق سارة خلق غيرها. فاستسلمت ونامت. وتوكلت على الذي لا يغفل ولا ينام. ورأت في منامها أن حسين واقع في ضيق شديد, لكنه سرعان ما أفرج عنه. فقامت مستبشرة, وهي تصلي على النبي المختار, وترضى على ابنها الغائب الذي طلعت به من الدنيا. وتقول: الله يسهل عليها ويسعدها.
ـ الله يسهل عليها ـ قال حسين وهو يفتح عينيه، بعد ليلة مثل الخراء السائل، نام فيها على وجهه، وعانى طوالها من الكوابيس ـ الزواج قسمة ونصيب. مين عارف. مش يمكن ربنا يسعدها؟.
فرك عدنان عينيه من بقايا النوم، وهو يلحظ حسين باستغراب وألم, غير مصدق مما قال حرفاً واحداً, ثم قال بعد تردد شديد:
ـ الدنيا الصبح, واليوم السبت.. يعني خلاص خش السبت في طيز اليهودي. وما فيش فايدة من كل هالكلام.. صدقني صرت خايف عليك، أكثر ما أنا خايف عليها.. تعال نطلع نشوف وجه ربنا. يللا يا شيخ... يللا..
وبعد أن شطف الاثنان وجهيهما بالقليل من الماء ـ ودون أن يتنبها إلى غياب وجيه ـ أخذ عدنان بيد صديقه, الذي صار يمشي معه بالتصوير البطيء. وذهبا إلى إليزا.
في أول حوش الخردة، الذي تقطن إليزا جزءاً منه, استقبلهما الكلب الوولف الضخم، مزمجراً بالترحيب على طريقته. ثم اقترب من عدنان وصار يتمسح به, قبل أن يجري باتجاه غرفة الصفيح مبشراً. فخرجت إليزا على الفور، وقد عرفت هوية القادمين. وبعد الترحيب والقبلات مع عدنان, أمرت الكلب بالتقاط بطة من القن لطعام الغداء. فأخبرها الصديقان أن هذا اليوم هو يوم السمك. فتهللت فرحة وهي تصرخ: يافا؟. فأجابا: نعم. فركضت عائدة إلى غرفة الصفيح, ونزعت ملابسها, وارتدت مايوه البحر, دون أن تكلف نفسها عناء إغلاق الباب وراءها. ولما صرخ فيها عدنان, ضربت الباب بقدمها, فاهتزت ألواح الصفيح, ثم ارتدت بنطلون الكاوبوي، الذي اشتراه لها عدنان من غزة، ووضعت موس الكباس في الجيب الخلفي, ثم غطته بقميص التي شيرت الواسع, ثم ألقت على وجهها نظرة في المرآة المعلقة وراء الباب, ونكشت شعرها بأصابعها قليلاً. وبعد أن شعرت ببعض الرضا عن مظهرها الخارجي, خرجت تنكش الأرض بقدميها مثل حمار محرن. لكنها عندما رأت طبقة الحزن الكثيفة على وجه حسين, أحست بتأنيب الضمير, وعاتبت نفسها قائلة: إيش هالهبل!.. واكتفت بالتحديق الغاضب في وجه عدنان. ثم افتعلت ابتسامة لترضيه, قبل أن تغمغم: بدكش تبطل هالغيرة؟. فقرصها عدنان من خدها, فنسيت كل شيء, وخرجوا سوياً إلى يافا.
الزقاق الذي كان يخترق حي العجمي, من أول الشارع العام إلى البيوت الملاصقة للبحر, كان مزدحما بالمتسوقين اليهود، القادمين من أحياء تل أبيب. وعلى الجانبين كانت البضائع, التي جاء بها الغزازوة, تملأ الزقاق الترابي والأزقة المتفرعة: كل أنواع البضائع الرخيصة الثمن (فيوم السبت, الذي تغلق فيه محلات اليهود, هو اليوم المناسب لمثل هذا السوق الأسبوعي. حيث تحضر اليهوديات لشراء السمك المغشوش, الذي اشتراه بالأمس جباليّة يافا من الثلاجات, ووضعوه في بحر غزة, ورشوا عليه رمل الساحل, ليتمكنوا من القسم بأنه خارج من بحر غزة, ويبيعوه بسعر السمك الطازج). وكان يحلو لبعض اليهوديات النَصَف انتهاز هذا اليوم للمتعة؛ فيرتدين السراويل القصيرة الضيقة, ويتسكعن في السوق، ليعبث بمؤخراتهن الأولاد الغزازوة الجوعى, وربما انتهى ببعضهن اليوم بصحبة ولد من هؤلاء, تأخذه إلى بيتها، وتتسلى بفعالياته البكر, طوال الليل, بدلاً من الكلب البولدوچ، الذي ملت أفعاله في الأيام الأخيرة.
اشترى عدنان السمك، من بائع موثوق تعود على الشراء منه. ورغم ذلك فلم ينس أن يهدده بالذبح, إذا ما اكتشف بأن سمكه مثل هذا الموجود هنا. وبعد أن أكد له الرجل بأنه غير مستغنٍ عن عمره؛ انطلق الثلاثة إلى البحر, مخترقين تجمعات المصطافين حول الميناء القديمة, حتى غابوا عن أعين الناس, عند الصخرات اللاتي تعودوا على اللجوء إليهن كلما جاؤوا. وخلع كل من عدنان وإليزا ملابسهما, ثم قفزا إلى البحر مثل سمكتين, وسبحا نحو الأزرق البعيد في الأعالي, ليمارسا شبابهما هناك تحت خط الأفق. وتناوم حسين على الرمل، محاولاً تصور سارة في بيوت الشعر... من كان يصدق أنه سيعيش ساعة بعد زواجها من غيره!. لكنه عاش, وهاهو الآن هنا، ويخرج في نزهة بحرية, وعما قليل يأكل السمك, ثم ينقضي النهار ويذهب إلى النوم, و... (يا إله السماوات والثعابين وكلاب البر والبحر والجواسيس والشياطين والقبح والمومسات وقوادي الأرصفة ـ تصور في هذه اللحظة سارة بين ذراعي البدوي، الذي يقتص الأثر ليدل على الفدائيين ـ كيف يمكن أن يحدث هذا!.) وقام يجري بكل قوته على طول الشاطئ جيئة وذهاباً، مثل مجنون, حتى أصابه الإعياء. فضرب رأسه في الصخرة بعنف، حتى غرق في الدماء... وعندما تهاوى على الأرض, شعر بأنه الآن محتاج إلى صدر أمه لينام عليه. فنام. وعندما عاد عدنان وإليزا، كان كل شيء في مكانه, كأن شيئاً لم يكن. وقد صحا حسين من غيبوبته، وغسل وجهه في البحر، واضطجع ساهماً.
ـ إيش يا حسين؟.. بدكش تشتغل اليوم سمكة!.
هتفت إليزا مصطنعة الاستغراب، وهي تقطر بالماء. فغمزها عدنان، فصمتت, وقد أحست أن الأمر أخطر مما تتصور. فلما رفع حسين بصره عن الرمل, ورأت الدموع في عينيه، والكدمات في وجهه, انقبض قلبها، وقد أحست بأن مصيبة قد حلت بالمكان. لكنها لم تكن تعرف قصة سارة, بل لم يخطر ببالها أن هذا الخشن المتوحد, مثل حجر في فلاة, يمكن له أن يحب فتاة, أو أن تحبه فتاة مثل القمر, ثم تفضل الموت على فراقه.
لقد كان زواج سارة من البدوي, الذي يقتص الأثر, أسوأ من الموت, في اعتقاد الجميع. يعرف ذلك عدنان، فيزداد ألماً وندماً (ولكن ماذا كان يمكن له أن يفعل, باستثناء ضرب أبيه، ومنعه الزيجة بالقوة!. وربما كان هذا ما يتمناه حسين, ويجد نفسه عاتباً على صديقه، لأنه لم يفعله. ولو فعله، لما رضي حسين آخر الأمر.. حيرة شديدة, وظلم لا يرضي الله, ولا يرضي أحداً)، ويعرف ذلك حسين, فيزداد يأساً. فلما رأى أخيراً أنه موشك على إفساد الرحلة على الحبيبين, قفز إلى البحر بكامل ملابسه، سابحاً نحو الصخرة البعيدة, وشيء في داخله يتمنى أن تحمله دوامة حاقدة, إلى أعماق بحر لا يراه فيه أحد. لكن مخططه فشل، وعاد بعد ساعة وقد أُفرخ روعه بعض الشيء, وارتمى على الرمل, ينظر إلى إليزا وهي تؤدي التمارين العنيفة, التي تعودت عليها منذ سكنت شخونات هتكڤا, وعاشت بين الصعاليك.
كانت مثل ولد في كل شيء, إلا في جمالها المخبوء تحت هذا التجهم السياسي, الذي لا مبرر له. وفي هذه اللحظات، التي بدت فيها عارية من هذا التجهم, ظهرت على حقيقتها: أمازونة سمراء قليلاً بملابس البحر, فيها أنوثة مسلحة، تجعل الإقبال على الموت أمراً لا فرار منه, وجمال هادئ يبعث على الاطمئنان. وقد بدت سمرتها الآن مثل سمرة مياه الأنهار, تخفي تحت سطحها الساكن كثيراً من الكنوز. (ولطالما قاد هذا النوع من الجمال الرجال, من أنوفهم, إلى القفص الذهبي, وقد تملكتهم رغبة الأجداد النازلين تواً عن الأشجار). لقد أحسن عدنان صنعاً عندما اختارها: فلم تعد إليزا, بعد وقوعها في حبه, تائهة كما كانت من قبل. وصار هو خروف الرب العائد إلى الحظيرة: لقد وجد أخيراً في حضنها حظيرته, كما وجدت في عينيه أهلها الغائبين.
جلست إليزا على الرمل غير بعيد. وتمدد إلى جانبها عدنان على ظهره, وقد أغمض عينيه. وبدأ يهمس لها بالقصة. وعندما ذكر لها ما فعلته أم حسين, أحست بانقباض يوشك أن يقذف قلبها من بين أضلاعها, وبكت, وقد أحست بحنين إلى صدر أمها التي لم تعرفها. فأدرك عدنان أنها تذكرت طفولتها في الكيبوتس، فكف عن الكلام، وكفت عن البكاء. وقاما ليواسيا المنكوب الجديد.
ـ ياللا... تعال نشوي السمك...
ـ بلا سمك بلا زفت.. أنا بدي أروح على سارة.
ـــــــــــــــــــ
هوامش الفصل الأول:
1ـ الرصيف المرتفع لمسافة تقابل مستوى صندوق الشاحنة, لتسهيل عمليات الشحن والتفريغ. وهو بهذا يقوم بعمل يشبه عمل الرصيف في الميناء البحري.
2ـ صباح الخير أيها الأصدقاء.
3ـ صباح الخير يا سيد حكيمي.
4 ـ العتالة.
5ـ الحمد لله.
6ـ قليلا من الرحمة يا حبيبي.
7ـ عربي قذر من غزة.
8ـ أأنت الذي تبادل الضربات مع أخي؟.
9ـ لا.. أنا الذي ضربته, وهو لم يستطع أن يفعل شيئاً.
10ـ أأنت ضربت أمنون!.. حسناً.. دعك من هذا.. الآن عليك دفع مبلغ خمس ليرات بدلاً من قميصه الذي مزقته له.
11ـ انصرف من هنا, حتى لا يحدث لك مثل ما حدث لأخيك الأحمق.
12ـ اسمع.. فكر في الموضوع جيداً. ثم أجبني بعد ذلك.. سوف أعود بعد ساعة عندما حركة العمل قليلاً.
13ـ ها .. هل ستدفع؟.
14ـ فلتذهب إلى الشيطان.
15ـ هل تعرف ما الذي أستطيع فعله بك؟.
16ـ تستطيع فقط الانحناء لأضاجعك في المؤخرة.
17ـ ماذا تقول!!.. واحد مثلك يقول لي هذا!!..
18ـ إذا كان الأمر لا يعجبك, فلتجرب تخطّي هذه البلاطات الأربع.. هيا.. رسمت لك خطاً أحمر.. فهل تستطيع تجاوزه؟.
19ـ أدخل.. هيا.
20ـ الإيراني البخيل.
21ـ كثير من هؤلاء يتعاملون مع العربي الذي يعمل لديهم باعتباره مجرد شيء يمكن امتلاكه, فيقول الواحد منهم : (هعرڤي شلي) أي عربيي الخاص.
22ـ فتوة أو أزعر.
23ـ اطحنه.. ماذا تنتظر؟.
24ـ صمتاً.
25ـ ها.. ها.. اليوم عرفت بأنك بطل.. هل تعرف من هم هؤلاء؟!.
26ـ نعم.. وأنا مستعد لضربهم جميعاً هنا.
27ـ فلتتمتع بالصحة يا حبيبي..فلتتمتع بالصحة.
28ـ اصطفوا بالطابور أيها الأصدقاء..لدينا تفاح من الجولان يكفي الجميع.
29ـ محطة الباصات المركزية.
30ـ مطرب يهودي شعبي من أصل مغربي. كان يغني الأغاني العبرية بألحان عربية. تمتع بشعبية واسعة لدى الطبقات الدنيا. مدمن مخدرات. سجن بتهمة الاتجار بها, ومات في السجن منتحراً. نظرت النخبة إلى أغانيه في حينه باحتقار. وقد تم في الآونة الأخيرة إعادة الاعتبار إليه.
31ـ لماذا تضاجع مثل كلب؟!.. أتستغرق كل هذا الوقت للإنزال؟!.
هوامش الفصل الثاني:
1ـ نسبة إلى غروزينيا: أي جورجيا. وهي إحدى جمهوريات الاتحاد السوڤيتي الآسيوية.
2ـ أغلب اليهود العراقيين كانوا من المصوتين للحزب الشيوعي الإسرائيلي. لهذا كانوا يوصفون بأنهم أتباع قاسم.
3ـ أنا يضاجعني عربي قذر مثلك؟!.
4ـ الحرس المدني, ومهمته القبض على أي مشتبه به.
5ـ زنجية.
6ـ هل تعرفين هذا العربي؟!.
7ـ كيف ذلك. وهي صيغة عبرية تفيد الاستنكار النافي.
8ـ يا لجماله!!.
9ـ أين؟.
10ـ هنا.
11ـ هيا.
12ـ ما الذي جرى لك!؟
13ـ لا شيء لديه.
14ـ رغم أن كلمة بكبوك تعني مطلق زجاجة، إلا أنها في العالم السفلي لا تعني إلا استخدماتها كنارجيلة لاستنشاق المخدرات.
15ـ سجن مدني في ضواحي يافا منذ عهد الانتداب.
16ـ ساعدوني أيها الأصدقاء.. هذان الشاذان يريدان أخذي إلى الشرطة.
17ـ لا تصدقوه. هذا عربي, وليس لديه تصريح.
18ـ لهجة مغربية, حيث أن أغلب أهل العالم السفلي هم من اليهود المغاربة, وتعني: أين مكان عملك؟.
19ـ أريد أن أقول لكم شيئاً: أنا مدين لكم أيها الأصدقاء. هل أستطيع أن أقدم لكم معروفاً, أو أي شيء بالمقابل؟.
20ـ اذهب الآن قبل أن تأتي الشرطة هذه المرة حقاً.
21ـ حسناً أيها الأصدقاء.. أنا موجود في سوق الحشمونائيم, في الرصيف2, في الحانوت7. وفي أي وقت تودون الحضور, فسوف أكون مسروراً بتقديم المساعدة.. فقط,ابحثوا عن وجيه.
22ـ إلى اللقاء يا وجيه.
هوامش الفصل الثالث:
1ـ العرب المجانين.
2ـ سكين قرن الغزال.



#خضر_محجز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المثقفون العرب: ثقافة مطمئنة
- في العلاقة بين الأيديولوجيا والديموقراطية
- حول الدين والسياسة والغاز و-لا ينفعك ذلك-
- حين تتفكك العوالم: قراءة نقدية في مجموعة زكي العيلة -بحر رما ...
- يحدث في غزة: في العلاقة بين الركاب والسائقين
- محمود درويش في -أَبدُ الصُبَّار*: لن يموت البيت
- المحتوى الأيديولوجي في قصة أحمد حسين -الوجه والعجيزة-*
- المتعة الفلسطينية
- العلاقة بين الحداثة والنصية: وعي الحاضر، وحضور النص
- هل باتت القدس مسرى نبي الفلسطينيين وحدهم؟.
- نسغ الحرية: لذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينية
- البول أيها الأخوة البول:هذا بعض ما نسمع يوم الجمعة
- تغييب الوعي وتسريد التاريخ
- في الوعي والميتافيزيقا
- على أُوْنَهْ.. على دُوِّيْهْ
- الأطفال لا يموتون
- الدولة الديمقراطية العلمانية في فلسطين
- سلطة الديماغوجيا.. ديماغوجيا السلطة
- الشوط الرابع* لأحمد حسين: (دراسة في علاقات القوة)
- الوقائع الحقيقية هي التي تجعل النصوص أمراً ممكناً


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خضر محجز - شجرة الكستناء الفصول الثلاثة الأولى