أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالسلام الملا ياسين - من الإلغاء الى الإحتواء، هل نحن أمام إطار جديد للعلاقات التركية الكردية؟















المزيد.....



من الإلغاء الى الإحتواء، هل نحن أمام إطار جديد للعلاقات التركية الكردية؟


عبدالسلام الملا ياسين

الحوار المتمدن-العدد: 2687 - 2009 / 6 / 24 - 08:09
المحور: القضية الكردية
    


مع بداية حزيران الجاري حدث في إقليم كردستان العراق تطوران مهمان، كان أحدهما على الأقل حدثاً في "غاية الأهمية"، نظراً للدلالات التي حملها عن الوجهة الأكثر إحتمالاً لمسيرة العلاقات التركية ـ الكردية في المستقبل القريب.. الحدث الأول والأهم تمثل في دخول مصطلح "النفط الكردي" الى قاموس الإقتصاد السياسي رسميا يوم 1/ حزيران الجاري، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ المنطقة. الحدث كان مهماً في ذاته، ولكن ما جعله في "غاية الأهمية" هو أن "النفط الكردي" إتخذ في طريقه الى الأسواق العالمية وجهة لم تكن تخطر على بال أحد، حينما راح يتدفق على ميناء جيهان قاطعاً الأراضي التركية "الوعرة" دون أية عوائق! هذا ما لم يكن في مقدور احد تصديقه حتى قبل بضعة أشهر. أما الحدث الثاني فقد فجره فرج ميرزا لطيف الحيدري رئيس المفوضية العليا المستقلة للإنتخابات في العراق، عندما أعلن يوم 7 حزيران قرار المفوضية بمنع قائمة هيوا (الأمل) ذو الوشائج التنظيمية مع حزب العمال الكردستاني pkk (التركي) من المشاركة في إنتخابات برلمان ورئاسة إقليم كردستان العراق المؤمل إجرائها يوم 25 تموز القادم.. رغم أن الموقف كان مختلفاً في إنتخابات عام 2005 فقد سمح لذات القائمة خوض تلك الإنتخابات بوجود نفس الإعتراضات التي أخذتها إدارة كردستان بنظر الإعتبار هذه المرة، إذن مالذي إستجد في الموضوع؟

الموقف التركي أزاء تصدير "النفط الكردي" الذي وصفناه بغاية الأهمية، لا ينتمي الى الموقف التقليدي الذي عرفت به تركيا خلال عقود طويلة حيال المسألة الكردية بصورة عامة، وموقفها من إدارة المنطقة الكردية ذات الحكم الذاتي الواسع في شمالي العراق منذ عام 2003 بصورة خاصة.. والموقف الجديد الذي إتخذته الإدارة الكردية من حزب العمال الكردستاني لا يشبه المواقف التي ظهرت بها وبقوة ملفتة للنظر بعد عام 2003، فرئيس الإقليم مسعود البرزاني رفض ولمرات عديدة أن يصف العمال الكردستاني بالتنظيم "الإرهابي"، أما زعيم الإتحاد الكردستاني جلال الطالباني فقد كان رده على طلب تركيا تسليمها قياديين في العمال الكردستاني، رداً مختصراً وساخراً عندما قال: "لن نسلم تركيا حتى قطة كردية".. في حين جاء تصريح رئيس المفوضية العليا المستقلة للإنتخابات (وهو عضو في التحالف الكردستاني) في عقر دار البرزاني (أربيل) بأن "حزب هيوا لن يشارك في إنتخابات إقليم كردستان العراق، لأنه الوجه الآخر لحزب العمال الكردستاني".. ما يعني ضمناً وصف العمال الكردستاني وكل من له علاقة به بـ "الإرهاب"، وإلا فليس هناك أي سند قانوني آخر لهذا المنع.. وقد أيدت محكمة التمييز في إقليم كردستان قرار المفوضية العليا للإنتخابات لاحقاً..

إذن مالذي يمكننا إستخلاصه من هذين الحدثين في هذه المرحلة المهمة من تاريخ المنطقة (؟) وهي مقبلة في ظل الإدارة السمراء للبيت الأبيض على تغييرات كبيرة في لائحة مشاكلها المزمنة، بدءاً بالصراع العرب الإسرائيلي، والتطورات الداخلية في إيران، وملفها النووي الذي يبدو أنه سلك طريقاً وعراً بإعادة إنتخاب نجاد، وجاء أول تصريح بهذا الشأن عقب الإنتخابات الإيرانية من محمد البراذعي يوم 17 حزيران حين صرح لبي بي سي البريطانية بأن: " شعوري الداخلي هو ان ايران ترغب بالحصول على التقنية النووية التي تتيح لها خيار التسلح النووي إن أرادت ذلك".. أضف الى ذلك نشاطات إيران في المنطقة وما يرافقها من تشنجات في الموقف العربي الفاعل (مصر والسعودية) ازاء ما تعتبره الدولتين تدخلاً في الشؤون العربية.. وأيضاً مستقبل العملية السياسية في العراق والتي لإيران حضور واضح فيها.. وأخيراً وليس آخراً المشكلة الكردية في جنوب تركيا، والسعي التركي الحثيث نحو إيجاد حل دائم لها بعد أن أصبحت تنغص عليها فرصتها التاريخية الغير مسبوقة في بناء إقتصاد راسخ، وتعرقل خطواتها الثابتة نحو تدشين مرحلة جديدة من العلاقات مع بيئتها التاريخية (الشرق الأوسط) لتحتل فيه هذه المرة موقع اللاعب الأكثر فاعلية.

لم تعاني علاقات أكراد العراق مع تركيا مثل ما عانته من نتوءات حادة بعد سقوط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين في عام 2003، حتى وصل الأمر الى أن يطرح الأتراك على طاولة الحلول وبجدية، ورقة الإجتياح العسكري للمناطق التي يتحصن فيها عناصر حزب العمال الكردستاني في إقليم كردستان العراق أو حتى المناطق التي تسيطر عليها المليشيا الكردية (البيشمركة) منذ عام 1991 إذا ما لزم الأمر. ولكن ذلك لم يكن ليثني أكراد العراق حينها عن إحتضانهم ودعمهم الغير مباشر للعمال الكردستاني، مرتكزين كلياً على المعادلة الجديدة التي أفرزتها عملية الإجتياح العسكري الامريكي للعراق، والتي كان للأكراد فيها ولأول مرة في تاريخهم الحديث موقع الفاعل والشريك.. إضافة الى ما يمكن تفسيره بالضوء الأخضر من إدارة الرئيس الامريكي السابق جورج دبليو بوش لهم بتبني اليات عملية للضغط على حليفتها المتمردة تركيا، إمعانا لها في العقوبة لقرارها برفض السماح للجيش الأمريكي بإستخدام أراضيها لأجتياح العراق من الشمال، القرار الذي ألقى عليه وزير الدفاع الامريكي السابق رامسفيلد تبعات كل الخسائر التي تكبدتها أمريكا في العراق لاحقاً.

الوضع العراقي الجديد أفرز تعقيدات أخرى كثيرة في حينها، كان أغلبها (على عكس الأكراد) لا يصب في صالح تركيا التي وجدت نفسها في وضع المهمش أمام مشروع أمريكي مبيت (غير واضح الملامح) لإعادة رسم الخارطة السياسية للمنطقة عبر مشرط الفوضى الخلاقة، التي أرادت بها أمريكا وربيبتها إسرائيل الوصول الى واقع جديد للمنطقة يتماشى مع مصالحهما دون الأخذ بنظر الإعتبار مصالح حتى الدول المحسوبة ضمن دائرة حلفائها التقليدين في المنطقة (السعودية ومصر)، ومصالح حليفتها في حلف الناتو (تركيا).. هذا الواقع الإفتراضي للمنطقة بعد غزو العراق كان مرسوماً للأكراد العراقيين فيه موقع يمكننا وصفه بالخيالي الذي لا يمكن تحقيقه، إلا بالقوة المتغطرسة، وهذه التغطرس كان متوفراً في سلوكية الإدارة الأمريكية السابقة.. ونذكّر هنا بخارطة الشرق الأوسط الكبير الذي سربته الإستخبارات الأمريكية الى الإعلام حينها.. صعود التيار الشيعي (الأصولي) المتحالف مع الأكراد على المسرح السياسي في العراق لأول مرة في التاريخ، كان هو الآخر واحداً من أهم تلك الإفرازات، والذي سيكون هو نفسه عامل تعقيد وعرقلة للمشروع الأمريكي في العراق والمنطقة، ومنغص لخطوات تنفيذ مشروع الدولة الكردية في السنوت اللاحقة.. سقوط بحيرة النفط (كركوك) في حلبة التنازع دستورياً (بفضل توافق الرؤية الشيعية الضحلة حينها مع إستراتيجية كردية ـ أمريكية واضحة) كان إفرازاً آخر عقد المشهد أمام الأتراك.. سقوط العراق تحت النفوذ الإيراني المباشر بشكل غير مسبوق في التاريخ الحديث، كان الإفراز الأكثر تعقيداً أمام المشروع الأمريكي ولكنه كان أحد العوامل القليلة التي أعادت لتركيا تدريجيا موقعها في المعادلة العراقية والشرقوسطية، لما أفرزته من تخندق عربي (سني) تمثل في دول مهمة في المنطقة وعلى رأسها السعودية ومصر والأردن في مواجهة ما إعتبره العرب مخطط (شيعي ـ فارسي) يهدف الى تقويض أركان الواقع التاريخي (السني ـ العربي) للمنطقة، هذا الموقف العربي الصارم كبح من جماح إدارة الرئيس بوش كي لا تذهب بعيداً في تقديراتها للعجز العربي أمام المشروعين الأمريكي والإيراني الهادفين لرسم معالم المنطقة كل حسب رغباته وبعيداً عن مصالح العرب.. إنقلاب حلفاء أمريكا من العرب على المشروع الأمريكي وتقاربهم مع الإيقاع الشرقي للدبلوماسية التركية الجديدة في ظل حزب العدالة والتنمية كان أيضاً السبب الرئيس في تباطئ أسرائيل (على مضض) عن المضي قدماً في المشروع الأمريكي.. بعد أن حاولت إعطاء المشروع حقنة مقوية من خلال العملية العسكرية الواسعة التي قادتها في تموز 2006 ضد حزب الله (حليف إيران الغير مرغوب به عربيا بإستثناء سوريا)، كورقة تطمين لمحور (السعودية ـ مصر) حيال مخاوفهما من تنامي النفوذ الإيراني في المنطقة الى حدود اللاسيطرة، ولكنها منيت بهزيمة نكراء عجلت من سقوط المشروع الأمريكي، أو على الأقل الجانب القاتم منه.

أكراد العراق الذين عانوا من حزب العمال الكردستاني في سنوات إدارتهم (المنعزلة) لشمالي العراق خلال فترة الحصار (1991 ـ 2003)، ودخل الحزبان الرئيسيان (الديمقراطي الكردستاني والإتحاد الكردستاني) معه، كلٌّ على حدة، في معارك طاحنة، لم يجدوا حينها أي بأس في التعاون مع الأتراك لتقليم أظافر العمال الكردستاني أو حتى القضاء عليه تماما، حين بدء الأخير وفي ظل الأوضاع المأساوية التي كان يعيشها الأقليم يزاحم نفوذ الحزبين التقليديين بالأخص لدى شريحة الشباب وعموم التيارات اليسارية التي تضج بها كردستان.. حتى وصل الأمر الى أن أصبح العمال الكردستاني في بداية عام 2001 قريباً من إلحاق هزيمة عسكرية بالإتحاد الكردستاني.
بعد الغزو الامريكي وجد أكراد العراق أن ضرورات المرحلة الجديدة تفرض عليهم إعادة النظر في موقفهم من هذا التنظيم.. والعوامل التي ساعدت على ذلك كانت متوافرة في حينها. فبالإضافة الى الدعم الأمريكي، فإن إيران التي كانت منذ بداية التسعينيات تصارع تركيا على النفوذ في اسيا الوسطى (الدول الناطقة بالتركية)، ولم تكن ترى في تركيا ما قبل أردوغان سوى أداة طيعة بيد أعدائها التقليديين (أمريكا وإسرائيل)، كانت تستخدم العمال الكردستاني للضغط على غريمتها التاريخية، عبر فتح سبل الدعم اللوجستي للكردستاني طيلة تسعينيات القرن الماضي، حتى أن جرحى الحزب كانوا يعالجون في مشافي الجمهورية الإسلامية، ولكن وبمجرد أن عقدت مع تركيا بعد 2001 إتفاقيات تعاون أمني وإقتصادي تخلت عنه، ثم تطورت العلاقات بين الغريمين في ظل العدالة والتنمية بشكل فاقَ كل التوقعات.. وكانت سوريا (الحاضنة الأولى للعمال الكردستاني) قد سبقت حليفتها إيران في هذا المضمار، بعد التهديد العسكري التركي المباشر لها في العام 1998 والذي أجبرها على قطع علاقاتها مع العمال الكردستاني وطرد مؤسسها وزعيمها (عبدالله اوجلان) من أراضيها.. فجاءت عملية القاء القبض على أوجلان في 15 فبراير 1999 بمثابة ضربة قاصمة للحزب، فَقَد على اثرها الكثير من القدرات التي كان يتمتع بها على مستوى القرار السياسي، ولم يبقى له مكان غير المثلث العراقي الايراني التركي من جهة العراق، فتوجه الحزب بكل قوته نحو الأعمال العسكرية.. وبغياب عبدالله أوجلان أصبح الطريق مفتوحاً أمام أكراد العراق لاحقاً للتأثير المباشر والغير مباشر على وجهة الحزب إستراتيجياً ومرحلياً، الأمر الذي كان مستحيلاً بوجود أوجلان على رأس الحزب.. ومن المهم أن نثبت هنا حقيقة قد يعرفها الكثيرون، وهو أنه وبدون غياب عبدالله أوجلان عن قيادة العمال الكردستاني في أثناء غزو العراق لكانت المعادلة السياسية في كردستان العراق لا تشابه الوضع الذي تقوم عليه اليوم.. وهذا يطرح جملة من التساؤلات عن مصلحة كل من إسرائيل وأمريكا في التعاون اللامحدود مع تركيا من أجل إلقاء القبض عليه!.. فهو نفسه يذكر في الجزء الأول من مؤلفه "مانيفستو المجتمع الديمقراطي" عن الجهة التي أخرجته من سوريا لتسهيل عملية إلقاء القبض عليه مايلي: "إسرائيل هي القوةُ الأساسية التي أَخرَجَتني من سوريا. ولا ريب في أنّ التهديداتِ السياسيةَ الأمريكيةَ والضغوطاتِ العسكريةَ التركيةَ لَعبَت دورها في ذلك أيضاً"... عموماً فالأتراك لم يحسنوا إستخدام ورقة الجوكر (عبدالله أوجلان) بالمرة، وبدلاً من التوصل معه (وهو تحت سيطرتهم الكاملة) الى حل شامل للقضية الكردية في تركيا، أعدم الرجل حياً برميه في سجن إنفرادي معزول عن العالم.. وأي مطّلع على رسائل أوجلان الأخيرة الى أنصاره يلمس في أفكار الرجل أبعاداً جديدة حول الحلول الممكنة للمسألة الكردية في تركيا وعموم المنطقة، وبالأخص تبنيه لمبدء الحل ضمن إطار الدولة التركية، وتخليه كلياً عن فكرة الدولة القومية.. كل هذه الطروحات تقربه برأينا من دائرة الإعتدال أكثر حتى من النواب الأكراد الذين يتمتعون بعضوية البرلمان التركي في حين أن عبدالله اوجلان يتقاسم أفكاره الجديدة مع حيطان سجنه في جزيرة امرالي..

1 حزيران.. المعنى في قلب الأكراد
رغم كل العبارات البراقة التي تضمنتها كلمات القياديين الأكراد في حفل ضخ النفط من حقلي (طق طق وطاوكي) يوم 1 حزيران 2009، بدءاً من زعيم الإتحاد جلال الطالباني، وزعيم الديمقراطي مسعود البرزاني، ورئيس برلمان الإقليم عدنان المفتي، وإنتهاءاً بكلمة رئيس حكومة الإقليم نيجيرفان، التي حاولوا فيها إيصال رسالة تطمين الى الأطراف المهتمة بهذا الحدث، بأن كردستان النفطية لن تشكل أية خطورة على جيرانها، وأن النفط الكردي سيعزز الإقتصاد العراقي المنهار وهو ملك لكل العراقيين.. فإن إصرار القيادات الكردية على جعل يوم واحد حزيران تاريخاً رسمياً للإحتفال بضخ النفط من كردستان (بالرغم من أن الضخ الفعلي للنفط بدء يوم 27 ايار 2009) قد كشف المعنى الكامن في قلب الأكراد..
فقبل 37 عاماً من هذا التاريخ وبالتحديد يوم 1 حزيران 1972 قررت قيادة حزب البعث العربي الإشتراكي (بقيادة أحمد حسن البكر وصدام حسين) تأميم شركة النفط العراقية، وطردت الشركات الأجنبية التي كانت تستحوذ على مجمل صناعة النفط في العراق.. فهل كانت رسالة الأكراد الى الحكومة العراقية عبر الإصرار على تأجيل الإحتفال بضخ النفط أكثر من شهر ليصادف يوم 1 حزيران بمثابة رسالة ذات دلالة (تأميمية) وإشارة ضمنية الى عودة الحقوق المسلوبة الى أصحابها الشرعيين كما وصف البعثيون حينها قرارهم بتـأميم النفط؟ ليس هناك ما يجعلنا نعتقد بغير ذلك، ورغم إختلاف الظروف المحيطة بالتاريخين، إلا أن هناك ايضاً أوجهاً للتشابه قائمة ولا يمكن المرور عليها مر الكرام.. فالأكراد يعتقدون بأن مناطقهم في شمال العراق عانت من القمع والإضطهاد ولم تشمل بأية مشاريع تنموية، وهذا يمكن لمسه بسهولة على أرض الواقع، لذا فهم لم يستفيدوا من النفط سواء كان في ظل إدارة الشركات العالمية له قبل التأميم أو في ظل إدارة الحكومة العراقية بعد التأميم.. ويرى الأكراد بأن الوقت قد حان للإستفادة من موارد مناطقهم الطبيعية وفي مقدمتها النفط والغاز، من أجل تعزيز إقتصادهم في المرتبة الثانية، أما في المرتبة الأولى فهم يريدون تعزيز أمنهم عبر ربطه بأمن مصادر الطاقة الغربية..
ورغم أن الأعمال الكردية التخريبية المسلحة في شمال العراق كانت واحدة من أهم اسباب تعطيل المشاريع التنموية في المناطق الكردية منذ تأسيس الدولة العراقية، إلا أن عدم القول بالتعطيل المتعمد للتنمية في المناطق الكردية خاصة في ظل حكم البعث يعتبر مجانبة للحقيقة.. عموما فإن الأكراد أحرار في إختيار التاريخ الذي يحتفلون به بإنجازهم النفطي، وأن يحمّلوا ذلك التاريخ ما يريدون من دلالات ومعاني، ولكننا نتمنى أن لا يجر عليهم 1 حزيران الكردي ما جره 1 حزيران العربي على العراق والمنطقة من ويلات.

الأكراد والأتراك، تجاذب المصالح وتنافر الأهداف
تاريخ توافق المصالح بين الأتراك والأكراد قديمة تعود الى القرن الثاني عشر في عهد الملك العادل نورالدين محمود الزنكي (تركماني) وعامله على مصر صلاح الدين الأيوبي (كردي)، أو يمكن أن تكون أقدم من ذلك التاريخ.. وكان لتحالف القبائل الكردية مع الدولة العثمانية لاحقاً وفي مختلف المراحل الدور الحاسم في توسع تلك الدولة شرقاً وجنوباً.. ولكن الأكراد أيضاً تمكنوا بفضل العثمانيين من الإنتشار في المناطق الشاسعة التي يتواجدون فيها اليوم على حساب السكان الأصليين من الأرمن والأشوريين والكلدان.. بل وحتى على حساب التركمان (الشيعة).. ومن خلال دراستنا للحروب التي خاضتها الدولتين العثمانية (تركية سنية) والصفوية (تركية شيعية) في القرنين السادس عشر والسابع عشر، نجد أن تحالف العثمانيين مع القبائل والإمارات الكردية على اساس المذهب كان دائماً على حساب الوجود التركماني في شمالي العراق، ولو إفترضنا جدلاً أن العراق بقي بيد الصفويين وليس العثمانيين لكان واقع الوجود التركماني في العراق يختلف جذرياً عما هو عليه اليوم...

المصالح التي جمعت الأتراك والأكراد يوماً ما عبر التاريخ لم تصطدم كثيراً بالأهداف، لأن الأكراد الذين عاشوا حينها في مجتمعات قبلية وإمارات متفرقة كانت أقصى أهدافهم تكمن مثل غيرهم في الغزو وسلب الأراضي والأموال، وهذا ما وفره لهم العثمانيون شريطة الولاء ودفع الضريبة.. ولكن اليوم ليس كالأمس، فالأتراك الذين بنوا جمهوريتهم على أساس قومي حديث لم يعودوا بحاجة الى الفتوحات والولاءات، إنهم يريدون من الأكراد وغيرهم الإندماج في إطار دولتهم القومية الحديثة، الأمر الذي ترفضه التيارات السياسية الكردية في تركيا، وتطرح بدلاً عنه بدائل لا يبدو في المنظور القريب أنها تستطيع أن تزاحم حلمهم الأول، ألا وهو الإستقلال بجنوب شرق الأناضول وبناء دولة كردية فيها... هذا هو إذن الإطار الذي تدور في داخله العلاقات بين الأتراك والأكراد في تركيا، لا تطابق في المصالح ولا تطابق في الأهداف..

ولكن الأمر قد يكون أهون بكثير حينما يتعلق بإطار العلاقات بين تركيا وأكراد العراق. ورغم أن الأهداف تبقى متنافرة بين الطرفين، إلا أن المصالح تتجاذب أكثر فأكثر يوما بعد يوم.. وكان حدث تصدير "النفط الكردي"، والذي سيعقبه مد أنابيب "الغاز الكردي" لتضخ الغاز الطبيعي عبر خط نابكو الى أوربا عبر الأراضي التركية، أشارة واضحة الى أن الطرفين صارا قريبين من منطقة تجاذب المصالح حتى وإن إختلفت الأهداف.. يعلق جميل باييك (عضو بارز في العمال الكردستاني) على قرار محكمة التمييز في إقليم كردستان العراق المؤيد لقرار المفوضية العليا للإنتخابات التي الغت مشاركة قائمة هيوا في إنتخابات الإقليم بهذا الشكل: "إن حكومة إقليم جنوبي كردستان هي التي أصدرت قرار منع قائمة هيوا من المشاركة في الإنتخابات البرلمانية، وذلك في صفقة مقايضة واضحة، وعلى هامش موافقة الدولة التركية على تصدير النفط عبر خطوطها الى ميناء الإسكندرون".. وجاءت تصريحات باييك هذه خلال حديث ادلى به لوكالة فرات للأنباء التابعة للعمال الكردستاني..

إذن مالذي تريده تركيا من أكراد العراق؟ وماالذي يريده أكراد العراق من تركيا؟ قد يكون جواب السؤال الأول سهلآً إذا ما عرفنا مالذي يملكه أكراد العراق ويستطيعون تقديمه لتركيا! وكذلك سيكون جواب السؤال الثاني إذا ما عرفنا مالذي تملكه تركيا وتستطيع أن تقدمه لأكراد العراق!

مرت تركيا (الإمبراطورية) في تاريخها الطويل بتحديات خارجية كثيرة وخطيرة، وكانت دائما قوية تتغلب حتى على هزائمها في أزمنة قياسية، ولكنها كانت على الدوام ضعيفة أمام التحديات الداخلية، فبأس الأتراك أكثر وضوحاً في الخارج منه في الداخل، لذا فإننا نرى في تاريخ الدولة العثمانية، أن والي مصر محمد علي باشا كان على بعد خطوات من إسقاط الدولة الدولة العثمانية في حين عجز عن ذلك الأعداء الخارجيين لقرون عديدة.. ويبدو أن تركيا (الجمهورية) ورثت نفس الضعف تجاه أزماتها الداخلية، رغم أنها كانت ولا تزال قوية أمام التحديات الخارجية..وحتى مصطفى كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة لم يكن بإمكانه قيادة حرب الإستقلال في نهاية الحرب العالمية الأولى دون أن يزيل من أمامه كل التحديات الداخلية.. قد يكون مرد ذلك الى أن الأتراك ليسوا بارعين في تصدير مشاكلهم الداخلية كما يفعل الاخرون، إعتماداً على مبدء اتاتورك "سلام في الداخل سلام في الخارج"، عموما فتركيا واعية الى مكامن ضعفها، وتعمل بكل جهدها لإيقاف ذلك بكل الوسائل..

أكراد العراق الذين وجدوا أن تركيا هي العقبة الوحيدة أمام تحقيق هدفين ملحين من أهدافهم بعد 2003 (الإستحواذ على كركوك ومن ثم إعلان دولتهم المستقلة)، إنتبهوا أو نُبّهوا الى ذلك الضعف التركي. وبوجود الأمريكان الى جانبهم صارت لديهم القدرة على إستغلال ذلك الضعف، ونتيجة للظروف التي أحاطت بحزب العمال الكردستاني صارت الفرصة سانحة لأكراد العراق للعب الدور الذي كانت تقوم به سوريا وإيران لفترة طويلة كما ذكرنا سابقاً.. كان للأكراد هدفين من ذلك، الأول هو الضغط على تركيا من أجل القبول بالواقع الكردي الجديد، ومن ثم إمتلاك شيء تريده تركيا بإلحاح ليستطيعوا المساومة عليه في المستقبل، ويبدو أنهم نجحوا في ذلك الى حد بعيد. ورغم تجاهل الأتراك للعامل الكردي العراقي في موضوع الصراع مع الحزب العمال الكردستاني طيلة خمسة سنوات بدءا من 2003، إلا أنهم في النهاية أدركوا أن هذا التجاهل لم يعد مجدياً أبداً، فكان الإعتراف باهمية الدور الكردي العراقي في حل مسألة العمال الكردستاني في نهاية 2008 تدشيناً لمرحلة جديدة من العلاقات بين الطرفين..
قد يوحي ماذكرناه الى أن الأتراك لم يكن لديهم أي سلاح سوى العجز أمام القدرات الكردية الجديدة، ولكن الأمر لم يكن بالطبع على تلك الشاكلة.. فالأتراك تعاملوا مع مجمل القضايا التي اثارها الإحتلال الأمريكي للعراق بنَفَس التاجر الماهر، أما أكراد العراق فقد تعاملوا معها بنَفَس التاجر المقامر.. صحيح إن الأمر تطلب عدة سنوات حتى تستطيع تركيا إيجاد موطئ قدم لها في بغداد، وموطئ القدم الذي حصلت عليه ليس بالطبع بقوة ومكانة ما حصلت عليه إيران على سبيل المثال، إلا أنه أكثر ثباتاً وأقل عرضة للرفض من المحيط العربي. أما في كركوك فقد ساهمت تركيا في تنظيم التركمان (الجبهة التركمانية العراقية) سياسياً من أجل عرقلة الكردية هناك الى حين ينقشع غبار الحرب الطائفية في بغداد وتتأهل الحكومة العراقية لتحمّل مسؤوليتها تجاه سلة خبزها كركوك.. وهذا مانجحت فيه تركيا الى حد بعيد.. ولكن فاعلية الجبهة التركمانية (تنظيم سياسي) لا يمكن أن تقارن بفاعلية حزب العمال الكردستاني (تنظيم عسكري)، لأن معطيات القضية التركمانية تختلف عن معطيات القضية الكردية في تركيا.. على سبيل المثال فإن العامل النفسي الذي يحرك الطرفين غير متطابق، فتركمان العراق الذين فقدوا أغلب إمتيازاتهم السياسية بعد دخول العثمانيين الى العراق، عوضوا بدل ذلك بإمتيازات إقتصادية، وأستمر الحال معهم كذلك حتى نهاية العهد الملكي في العراق، وهذا ما غرز في مجتمعهم طبيعة الإنسجام مع المحيط مادامت إمتيازاتهم غير مهددة، بعد العهد الملكي بدأ التركمان في العراق يفقدون ما بقي لديهم من إمتيازات إقتصادية، فبدء التململ، وسرت بين طبقاتهم الواعية نوع من الإنجذاب نحو التمرد السياسي والإجتماعي، ولكن ذلك جاء متأخراً، وبدون أرضية يستند عليها، فليس في تاريخ تركمان العراق أي أعمال تمرد ضد الأنظمة الحاكمة.. الصحوة التركمانية المتأخرة مع نهاية العهد الملكي تكسرت على صخرة العامل الجغرافي الذي كان دائماً المفصل الضعيف الذي شل حركة التركمان وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى (حيث كان الفراغ التاريخي فرصة للشعوب العثمانية من أجل بناء كياناتها السياسية المستقلة)، بينما كان (العامل الجغرافي) هو نفس العامل الذي ساعد الأكراد على الإستمرار في المواجهة والتمرد في مختلف الحقب، بالإضافة الى أن الأكراد لم يكونوا يوما من الأيام حاكمين فعليين لغيرهم من الشعوب، ولم تكن لهم إمتيازات سياسية ثابتة مثلما كان للتركمان لفترات طويلة في عهد الدويلات التركمانية في شمال العراق، أو إمتيازات إقتصادية ثابتة كما كان للتركمان طيلة العهد العثماني، فسلوكية التمرد والمواجهة موجودة في النفسية الكردية كخصلة إجتماعية..

عموماً فهذه الفروق لم تكن تعني لتركيا شيئاً يوم وجدت نفسها مهمشة من معادلة المنطقة بعد إحتلال العراق كما وضحنا في البداية.. فتركيا هي الأخرى كانت تريد إمتلاك ورقة لتضغط بها على الأكراد العراقيين، وتساومهم عليها في حالة ما فقدت الأمل بعودة بغداد الى بسط نفوذها على أراضيها في الشمال المتاخم لتركيا.. وبعد أن أيقنت أن الطريق لا يزال طويلاً أمام بغداد لكي تحقق ذلك، أو أنه بات قريباً من المستحيل بعد دخول كرستان العراق الى الحقبة النفطية، راحت تركيا تبحث في البدائل، والإطار الجديد الذي دخلت فيه علاقاتها مع الأكراد اليوم هي النتيجة التي فضلتها من بين نتائج ذلك البحث..

الإطار الجديد الذي تدور فيه العلاقات بين تركيا وأكراد العراق
إذن في النتيجة هناك كردستان العراق الضعيف أمام تركيا القوية، ولكن كردستان الضعيفة تمتلك ورقة قوية وفاعلة (أكراد تركيا) بما يكفي لمواجهة تركيا القوية.. وهناك تركيا ضعيفة أمام ورقة كردستان القوية (أكراد تركيا)، ولكن تركيا تمتلك هي أيضاً ورقة حتى وإن كانت ضعيفة (تركمان العراق) ولكنها كافية في المنظور القريب لمواجهة كردستان الضعيفة..
أكراد العراق الذين يمتلكون ورقة (أكراد تركيا) يريدون من تركيا القبول بالواقع الكردي الجديد في المنطقة، ولديهم الإستعداد للمساومة بتلك الورقة في حالة ما إذا قبلت تركيا بوضع سياسي أكثر تطوراً من قبيل قيام دولة كردية في شمال العراق..
أما تركيا التي تمتلك ورقة (تركمان العراق) فهي تريد أن تربط إقليم كردستان بها إقتصادياً، ما يعني أن يكون أمن تركيا من أولويات الأكراد العراقيين، وهي مستعدة للمساومة على الورقة التي بيدها في حالة قبول الأكراد العراقيين كبح جماح مشاريعهم التوسعية وتحويلها وضمان بقائها في إطار إقتصادي.. وتعاونهم معها في كبح جماح أكراد تركيا الإنفصالية وتحويلها الى إندماج ومشاركة في العملية السياسية داخل إطار الدولة التركية، كل هذا طبعاً بعد القضاء على حزب العمال الكردستاني، أو تخليه نهائياً عن الأعمال المسلحة..




#عبدالسلام_الملا_ياسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نديم غورسل ومحاكم التفتيش الإسلامية في تركيا
- عن نشأة التاريخ و آلية حركته
- تأملات في تأملات ديكارت


المزيد.....




- منظمات إغاثة: عملية إسرائيل في رفح تعطل الخدمات الطبية
- منظمات إغاثة دولية: تعطل الخدمات الطبية بعد بدء إسرائيل عملي ...
- الأمم المتحدة تنتقد قرار إخلاء مدينة رفح وتعتبره -غير إنساني ...
- الجيش الأمريكي يعلق على اعتقال جندي أمريكي في روسيا
- صحيفة إسرائيلية: السجون لم تعد تتسع للمعتقلين الفلسطينيين
- NBC: اعتقال عسكري أمريكي في روسيا
- إعدام دفعة جديد من المدانين بـ-جرائم إرهابية- في العراق
- عاجل | مكتب نتنياهو: مجلس الحرب قرر بالإجماع استمرار العملية ...
- اليونيسيف تحذر : الهجوم البري على رفح الفلسطينية سيهدد 600 أ ...
- نائب رئيس حماس: تبادل الأسرى والمحتجزين سيتم على 3 مراحل


المزيد.....

- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم
- المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية / بير رستم
- الكرد في المعادلات السياسية / بير رستم


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالسلام الملا ياسين - من الإلغاء الى الإحتواء، هل نحن أمام إطار جديد للعلاقات التركية الكردية؟