"النهار"
الاحد 16 حزيران 2002
بعد عشر سنين على غياب لويس عوض، كيف نقرأه الآن؟
ان نتذكر لويس عوض، او اي كاتب مفكر وخلاّق آخر، هذا يعني ان نجعله لنا، مجددا. اي: ان لا نستحضره، بل نكشف ما هو معرفي، ونكتشف ما هو راهن ومستقبلي، خصوصا، في فكره وادبه ونشاطه.
* * *
اتذكر ايام كنا نقرأ لويس عوض، خلال الستينات، في دراساته الطويلة، في "الاهرام"، وفي الاخص فصول كتابه الممتع، "البحث عن شكسبير"، التي كان ينشرها اسبوعيا، وفصول كتابه الاشكالي، "على هامش الغفران"، الذي تسبب له بمعارك فكرية متعددة، وتلك الفصول في المسرح والعروض المسرحية، ودراساته المتأنية في النقد الادبي.
كنا نكتسب ثقافتنا من هذه الفصول.
ذلك ان لويس عوض لم يكن يعرض في فصوله هذه عضلاته التنظيرية، بل كانت نظريته، او وجهة نظره، تسري في شرايين المقالة عبر المعلومة الثقافية.
بحوث توحّد بين الدقة التاريخية، والمعرفة الواسعة، والموقف الواضح، والنظر النقدي، والانتقادي معا.
وما كان يجذبني الى هذه الدراسات والفصول، طابعها السردي المشهدي، اذا سُمح لي بهذا الوصف للعمل النقدي، فقد كنا ندخل معه الى قلب العمل الفني او الفكري او النقدي. نجول في انحائه، نستكشفه معه ويستكشفه، هو، معنا، وكان رأيه في هذا العمل يتكشّف امامنا عبر السياق، نتعرف اليه، تدريجا، وفي الصورة التي ارادها ان تتكون له، عند تمام القراءة.
كان لويس عوض يلخّص العمل الفني، ولا يلخصه، فهي تلخيصات تتجلى اذا صح الوصف، من وجهة نظر معرفية، فيها العلم، والبحث التاريخي، والتحليل والتعليل والتفسير، وفيها
التذوق الفني والرأي
النقدي. وفيها في الاخص الاخص الرؤية التاريخية الى العمل الخلاق او الفكري بحيث يضعه لويس عوض في حركة زمانه، يشير الى اضافته الى ما سبقه، واضافته الى النوع الفني او الفكري، والى الآفاق التي فتحها امام ذاته وامام اللاحقين.
في العام 1947 اصدر لويس عوض عملا "شعريا" طويلا سمّاه "بلوتولاند"، صاغه في شكل قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر. ووضع لهذا العمل مقدمة طويلة جعلها بهذا العنوان اللافت: "حطموا عمود الشعر". هذه المقدمة هي الاهم في هذا الكتاب، فالشعر نفسه ركيك، ليس فيه من الشعر سوى جرأة التجريب والاقتحام. اما المقدمة التي تدعو الى الدخول، دائما، في افق الابتكار والتجديد وابتداع الاشكال والاساليب الجديدة، فقد كانت من العوامل الحداثية الممهدة لحركة الشعر الحديث التي تبلور مسارها منذ اواخر الاربعينات وأوائل الخمسينات في المجال العربي الاوسع.
لم يتابع عوض تجاربه في ميدان الشعر (وحسنا فعل)، ولكنه وضع البذرة وهو يشير الى اتجاه المستقبل.
اما على صعيد النقد الادبي، فلعله لم يذهب في المغامرة الحداثية الى ذروتها المعاصرة. فهو من جهة ظل مع كل جديد في الادب والفن: رحبا منفتحا على مختلف الأشكال الجديدة مهما توسلت الغرابة، ولكنه في تحليله هذه الرؤى والاشكال الجديدة ظل محافظا على انطلاقاته الاساسية، والتي اخذ عناصرها الاولى، كما كتب هو، عن بعض اساتذته الجامعيين الاجانب، الآخذين بالاشتراكية والماركسية، من حيث رؤيته الى العمل الادبي او الفني في علاقته مع مهاده الاجتماعي الثقافي، وحتى ربط شكل هذا العمل بمهاده هذا، واعتماده ما يشبه الرؤية الطبقية في التحليل والتعليل والتفسير. وهو، في ممارسته النقد الادبي، لم ينبهر بالطرائق "الاكثر حداثية" في النقد والتحليل، من بنيوية وتفكيكية وتوليدية وألسنية وغيرها، وظلّ بهذا محافظاً على نزعته في "البحث (بحسب قول جابر عصفور) عن السببية المنطقية، التاريخية والطبقية، في فهم تشكّل معنى العمل الادبي وعن البيئة الاجتماعية في تفسير تولده".
* * *
لويس عوض، هذا التنويري الرومنسي، كان يتطلع الى النهضة، يقترح أسساً لها، ويستعجل الوصول. وفي بعض الفترات كان يخيّل اليه ان النهضة ليست بأبعد من مدّ الذراع. واحياناً، عندما يصطدم بالواقع والوقائع كان يذهب الى اليأس، وكان يقاوم هذا اليأس. ولكنه غالباً كان يشير الى صورة المجتمع الذي يريد: مجتمعاً ديموقراطياً وفق ما يسميّه هو: مجتمع "الاشتراكية الديموقراطية".
وقد تكوّن عنده هذا الافق منذ اواسط الاربعينات، ايام التصاعد والاحتدام في الحركة الشعبية والثورية والتظاهرات الكفاحية العارمة ضد الانكليز وحكم الاستبداد. وعبّر عن هذا الافق الثوري الاجتماعي في مقدمته الطويلة، والمهمة، لروايته الوحيدة، "العنقاء او تاريخ حسن مفتاح" التي كتبها في تلك الفترة نفسها، وكشف عن هذا التطلّع عنده: "كنت بحكم شعوري الوطني والاجتماعي، وبحكم معتقداتي السياسية، أؤمن ايماناً عميقاً بأن من واجبي كمواطن ان اعمل ما يمليه عليّ ضميري للمشاركة في تحرير البلاد واشاعة الوعي الاشتراكي الديموقراطي، وفي هذه الفترة فكّرت جدياً في ان أنهج النهج الذي انتهجه الكاتب الناقد محمد مندور، فأترك الجامعة وأتفرّع للعمل السياسي".
ولعلي أرى، ان لويس عوض في تصوّره للمجتمع الآتي (او الذي علينا ان نعمل ليأتي) كان ينتمي الى الكبار الآخرين: طه حسين ونجيب محفوظ وسلامة موسى، الذي تطلعوا، كل على طريقته، الى الاشتراكية في أفق ديموقراطي. وكأن التاريخ أكد لهم تصوراتهم هذه، ان الضمان الاساسي لأي نظام اشتراكي، ضد الانهيار، هو الديموقراطية تحديداً، الديموقراطية السياسية والتعدّد وسيادة الحرية والقانون، معاً.
* * *
على ان لويس عوض لم يوفر العقاد ولا طه حسين، من انتقاده. فهو لم يكن يتقبّل هذا التنقل غير المبرّر فكرياً بين الاحزاب السياسية، ولا ذلك التشاتم المقذع بين كتّاب الاحزاب المتخالفة، فهو قد هاجم العقاد وطه حسين من حيث انهما كانا يكتبان في جرائد حزبية ويهاجمان الخصوم بأفظع الشتائم لمجرد انهم من الحزب الآخر. ومن رأيه ان النقد شيء والشتم السياسي شيء آخر، معيب، وهو مع نقد الفكر بالفكر مهما قسا القول.
وفي هذا السياق من نقد تقلبات الكتّاب وسلوكياتهم السياسية الانفعالية، ينتقد عوض ما صار اليه العقاد من مواقف وكتابات رجعية، بعدما كان (عوض) معجباً به وبكتاباته ومواقفه ايام كان العقاد من اعلام مفكري حزب الوفد والمعادين للاستبداد والملكية. وعبر هذا الانتقاد الاستنكاري نلمس اشارات الى مواقف عوض من التيارات نفسها التي يهاجمها العقاد. يقول عوض: ان العقاد بعدما ترك حزب الوفد وراح يهاجمه بإقذاع، "تنكّر لكل ما كان يمثله في اذهان الشباب في جيلي فتحول الى كتابة (العبقريات) الدينية، وأجّر قلمه للسعديين، بل واكثر من ذلك نظم القصائد في مدح الملك فاروق، واصبح لا شاغل له الا هجاء الشيوعية والشيوعيين وكأنما كان يرى الروس قادمين، واشتغل فـي جريدة "اخبار اليوم" السراياتية واعـلـن الحرب على الشعر الجديد" (لويس عوض، "اوراق العمر"، ص 477).
* * *
في كتابه الاخير، "اوراق العمر" (1989)، وصف لويس عوض نفسه بأنه "تقدّمي في الفكر، تقدمي في السياسة والاقتصاد، تقدمي في القيم الاجتماعية، تقدمي في المفاهيم الدينية - هذا انا منذ اكثر من نصف قرن حتى كتابة هذه المذكرات" (ص381).
هذا الافق التقدمي، الشاسع والمتعدّد، المرتكز على رؤية تاريخية وتطورية، هو الذي وجّه مسارات مشروع لويس عوض الثقافي النهضوي، في المجالات العديدة التي رادها، وكتب بها.
متعدّد هو لويس عوض، ومتعدّدة مجالات الكتابة عنده، ومتعدّدة ايضاً التناقضات في مسارات مغامرته الفكرية والخلاّقة، لكنه في مختلف القضايا التي درسها وأعلن رأياً فيها، لم يكن قط باحثاً تقنياً محايداً بارداً، بل مجابهاً، حاراً، ومعاركاً، ومحرّضاً الآخرين على الـمـجابهة وخوض معارك الحرية والتقدم.