|
وثني الأمس ومسلم اليوم
هشام محمد
الحوار المتمدن-العدد: 2669 - 2009 / 6 / 6 - 07:33
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
المسافة بين مسلم اليوم ووثني الأمس بمقاييس الزمن تبعد عشرات القرون، أما المسافة بينهما بمقاييس العقل والفكر فلا تبعد غير سنتميترات معدودة! وثني الأمس بتجاربه الغضة وبسذاجة معارفه، وقف عاجزاً عن فك شفرات الطبيعة، وعن لجم ثوراتها، وعن ترويض عنادها، لهذا ابتكرت مخيلته الطفولية كوكبة من الآلهة، ثم وزع عليهم مفاتيح الأرض والسماء. هذا إله الأمطار، وهذا إله القمر، وهذا إله الشمس، وهذا إله الموت، وهذا إله العالم السفلي، وهذا إله العاصفة، وهذه إلهة الحب والجمال والجنس. وثني الأمس وقف مرتعباً، وهو يرقب القمر الفضي قد بدأ يتآكل في النصف الأخير من الشهر يوم وراء يوم، فظن أن قوى الظلام الشيطانية قد اختطفته. وثني الأمس كان يفسر جفاف الأرض وانقطاع القطر بأنّ الإله الراعي الوسيم تموز قد اعتقلته قوى الشر في عوالمها السفلية. وثني الأمس كان يفسر اتشاح الأرض بحلة خضراء زاهية بأنّ تموز قد عاد من منفاه الأرضي ليمنح الغيوم ماءها، ويمنح الأشجار خضرتها، ويمنح الماشية حليبها وزبدتها، ويمنح الأجساد خمرتها وشهوتها. وثني الأمس كان يفتش عن الآلهة كلما مسه العذاب، وحلت به الهزائم، وجرفته الفيضانات، وفتكت به الطواعين.
مسلم اليوم عصر دماء كل الآلهة القديمة في عروق إله واحد، ومن ثم منحه مفاتيح السماء والأرض. صار "الله" هو إله الشمس والقمر، وهو إله الحياة والموت، وهو إله الأمطار والجفاف، وهو إله الجن والأنس، وهو إله الجنة والنار، وهو إله البدايات والنهايات. يجلس الله على عرشه الوثير، حاملاً جهاز تحكم من بعد، ليدير به شؤون العباد والبلاد. الله حاضر في كبائر الأمور، والله حاضر في صغائر الأمور. لا غرابة في ذلك مادام أن الله قادر حتى على سماع دبيب النمل وهو في عليائه. لو سألتهم: من بعث بإعصار كاترينا الذي دمر مدينة نيو أورليانز الأمريكية؟ لقالوا: إنه الله الغاضب على أمريكا وعلى رئيسها المأفون جورج بوش. ولو سألتهم: من أرسل تسوماني المدمر ليغرق أجزاء من أندونيسيا وتايلاند؟ لقالوا: إنه الله الغاضب على انحلال الكفار وتعري السياح. ولو سألتهم: من أرسل الفيضانات إلى بنجلاديش والزلازل إلى باكستان: لقالوا: إنه الله ليمتحن عباده وصبرهم على بلاءه. يد الله الخفية التي تحرك الأمواج العاتية، وتفجر البراكين الحارقة، وتطلق الأوبئة القاتلة، وتسلط أبدان على أبدان، هي أيضاً من تتدخل في كتابة صفحات حياتنا اليومية، وتوجيهنا حسب مشيئته التي لا يطلع عليها أحد سواه. يخرج اللاعب من أرض الملعب يجر أذيال الهزيمة، فلا يملك من تفسير سوى إنها إرادة الله. يسقط التلميذ في امتحانه، فلا يجد من أفضل من شماعة الغيب والميتافيزيقيا. يفقد مغامر أمواله في عالم المضاربات، فلا يجد من مفر سوى الاعتصام بإرادة الله.
عندما كنت صغيراً، سألتُ مرة: لماذا نحن من نملك أكبر مخزون نفطي دون باقي دول العالم، فقيل لي: إنها مكافأة الله لأهل هذه الأرض الطيبة الذين أقاموا شرعه وحفظوا سنة نبيه. وسألتُ مرة: لماذا لا تحدث لدينا زلازل ولا براكين كبعض دول العالم، فقيل لي: إنها نعمة الله علينا ورفقه بعباده المسلمين. وسألتُ مرة: لماذا شمسنا أشد لهيباً، ولماذا أرضنا أكثر تصحراً، فقيل لي: إنها نارنا في هذه الدنيا، وبلادهم (يقصدون الكفار) جنتهم في هذه الدنيا. إجابات خاملة وتفسيرات بليدة تنطوي على تناقضات حادة وعلى جهل مطبق بأبسط المعلومات الجغرافية. فإذا كان الله سيدخر لنا ما هو أجمل في جنته الموعودة، فهل سيحرم إذناً أهل منطقة عسير المسكونة دوماً بالغيم والمطر والخضرة من كل هذا الجمال في العالم الأخروي؟ ماذا عن ماليزيا وأندونيسيا وتركيا؟ في أي فسطاط يجب أن نضعهم؟
ما من مانع على المرء أن يستحضر المرء الله في أقواله وافعاله، وفي حركاته وسكناته، فالخواطر القلقة لا تهدأ مخاوفها، والقلوب الوجلة لا يضيئها أحياناً سوى زيت الله. مع الله تحل الطمأنينة والسكينة بشأن ما وراء خط الحياة، ومع الله يكتمل حلم الخلود، ذاك الحنين المنشود منذ أن وطئت قدم الإنسان على الأرض. لكن ما يزعج من يراقب عن بعد، وربما يزعج الله نفسه، أن نستنزفه بهذا القدر المفرط من الجنون، وأن نحشر هامته السامقة في توافهنا اليومية، وأن نرهقه في أصغر تفاصيلنا الحياتية على نحو مسف. في ظل غياب الفلسفة وشح المعرفة وتواضعها، لجأ وثني الأمس إلى صنع الآلهة لكي يسد فجوات الروح، ويجيب على اسئلة العقل الحائرة. اليوم، مع كل تلك التراكمات المعرفية والفتوحات العلمية التي أسهم بها (الآخر)، فإن مسلم اليوم مازال مصراً على البحث عن الله. إنه يشبه من يشعل عود ثقاب في شارع مضاء بالأنوار بحثاً عن قرش سقط منه سهواً. الفارق بين وثني الأمس ومسلم اليوم أن الأول استعان بالآلهة في بحثه عن إجابات عن اسئلته القلقة، أما مسلم اليوم فهو يستعين بتلك الإجابات في بحثه عن الله.
#هشام_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل أسلموا حقاً؟ أم تراهم يحلمون؟
-
خير القرون...حقيقة أم خرافة؟
-
استراليا تعلمنا كيف نتوظأ!
-
خصوصيتنا ولو كره الكافرون
-
كفانا مساجد!
-
شروط صناعة المأساة: غزة والعراق ودارفور نموذجاً
-
مواصفات البطل العروبي...وأشياء أخرى!
-
يبكون على دماء غزة...ويرقصون على دماء العراق ودارفور!
-
ملاحظات على الهامش
-
ماذا لو لم يبعث محمد؟
-
احجار الدومينو وأبو هريرة وابن عباس
-
الكلام المحظور عن ختان الذكور (2/2)
-
الكلام المحظور عن ختان الذكور (1/2)
-
الشيخ غازي... وزوبعتان في فنجان
-
مدينة الشيطان ترحب بكم
-
ولا عزاء للقطط والكلاب
-
وداعاً.....أيها العقل
-
كيف سيكون الاسلام بلا معجزات؟
-
الذباب ينهش لحم شاهين
-
ملتحون ولكن لصوص
المزيد.....
-
عراقجي: ندعم سوريا بحزم وهناك تنسيق كامل بين تل أبيب وواشنطن
...
-
” علموا اولادكم العادات الدينية ” تردد قناة طيور الجنة الجدي
...
-
-مبعوث يسوع-.. هل سيُدخل ترامب أميركا عصر الهيمنة المسيحية؟
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تنفذ ردا تحذيريا اوليا للاحتلال
...
-
العثور على موريتاني متهم بإطلاق النار على يهودي بشيكاغو ميتا
...
-
عودة الإسلام السياسي.. بين مخاوف التمدد وفرص الاحتواء
-
علماء الشام يوجهون نداء للمؤسسات الدينية العربية والإسلامية
...
-
عراقجي: عودة نشاط المجموعات التكفيرية في شمال سورية لهي امر
...
-
مستوطنون محتلون يقتحمون المسجد الأقصى
-
إجراءات أمنية مشددة في باريس لضمان سلامة افتتاح كاتدرائية نو
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|