أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - حزب العمال التونسي - اليسار النقابي : واقع التشتت ورهانات المستقبل















المزيد.....



اليسار النقابي : واقع التشتت ورهانات المستقبل


حزب العمال التونسي

الحوار المتمدن-العدد: 802 - 2004 / 4 / 12 - 10:41
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
    


بقلم: سليم ع.
I - اليسار بين الأمس واليوم:

منذ أن انخرطت الأفواج الأولى لليسار النقابي في الاتحاد العام التونسي للشغل في بداية السبعينات وجدت نفسها في تعارض تام مع البيروقراطية النقابية. ولكن لا ضير في ذلك فلقد بات هذا الموقف معروفا ومتوقعا، ولكن الذي لم يكن مقبولا هو أن تجد هذه المجموعات اليسارية نفسها مشتتة الصفوف ومنقسمة على نفسها منذ البداية؛ إذ ولئن أجمعت كلها على تبني مطالب الحركة العمالية وتثوير العمل النقابي ورسم آفاق التحرر الوطني والانعتاق الاجتماعي فلقد ارتطمت هذه الآمال والطموحات النبيلة بالعقلية الحلقية الضيقة التي كانت تحكم هذه الأطراف اليسارية وأضحت التكتيكات النقابية متباينة ومتناقضة فمتنافرة أحيانا. وكانت أزمة 26 جانفي قد عمقت الخلافات حول الحل النقابي (الافتكاك ضد المقاطعة) ثم رفع الاستثناء والموقف من القيادة العاشورية فالموقف من الجبهة النقابية في البرلمان ثم انتفاضة الخبز 84 فأزمة الاتحاد من جديد في 85.

ونتيجة للعلاقات التناحرية التي سادت أثناء هذه المحطات لم تقدر الأطراف اليسارية النقابية على الالتقاء والعمل المشترك إلا نادرا وفي مناسبات محدودة تفرضها أوضاع موضوعية تتعرض فيها جميعها لقمع البيروقراطية (موجة التجريد 84) أو تطولها المحاكمات السياسية أو تستشعر الخطر من صعود الفاشية الظلامية. أما ما عدا ذلك وعلى الواجهة النقابية بالتحديد فبقدر ما كان الصراع يدور حول مضامين وتوجهات وبرامج نقابية متباينة افتقدناها هذه السنوات بقدر ما كان الصراع ضاريا وخطيا بصورة فجة يمارس فيه الإقصاء والسكتارية بنفس الطرق التي تمارسها البيروقراطية ضد اليسار نفسه.

وما لم يكن مقبولا ولا منطقيا أيضا هو أن يتواصل هذا التآكل الداخلي طيلة عقدين أو ثلاثة تتمترس خلالها بعض المجموعات اليسارية في القطاعية والنقابوية لتترك الساحة مرتعا لليبيرالية والحزب الحاكم… ثم تستفيق بعض هذه المكونات وتعي ضرورة العمل الجمعياتي وتقتنع بالعفو التشريعي العام!! أما العمل السياسي الصرف فليس من اهتمام عديد المكونات اليسارية بعدُ، وحتى وإن اقتنع بعضها متأخرا بهذا التعديل في الموقف فهو عند البعض الآخر يتم عبر البوابة النقابية!

لقد ظل التخلف السياسي و"الاقتتال" والتناحر العدائي أحيانا من أجل نقابة مهنية قطاعية أو محلية، أوضاعها غير مستقرة وغير محصنة يُسهّل على البيروقراطية محاصرة اليسار النقابي وضربه. كيف لا وقد راكمت البيروقراطية تجربة كبيرة في مواجهة أعدائها وخصومها توصلت خلالها إلى إتقان فنون المناورة وضرب طرف بطرف وكسب فصيل وتحييد آخر عن حلبة الصراع وحصنت بالتالي نفسها من كل امكانية عمل نقابي يساري موحد محتمل. بل أكثر من ذلك استدرجت بعض رموزه واستمالت بعض مكوناته القابلة بالوفاق النقابي وسرقت شعاراته الراديكالية مزايدة في خطابها وساحبة البساط من تحت أقدامه، في حين وجد اليسار النقابي نفسه منهكا بالصراعات الداخلية ومنقسما على نفسه يعاني من مناورات البيروقراطية علاوة على الضربات الموجعة التي تلقتها فصائله المناضلة من قبل الحزب الحاكم. وبالتالي فحين اشتدت سطوة البيروقراطية في فترة التسعينات وأحكمت الطوق على العمل النقابي مثلما أحكم الحزب الحاكم الطوق على الحياة العامة، وجدت المنظمة النقابية نفسها منطقة "منزوعة السلاح"، وفاقدة لأدنى مقاومة.

فقد تعرضت لعملية تهجير نقابي وتدمير منهجي وحرمان من الطاقات النضالية التي ظلت لفترات السبعينات والثمانينات شوكة في حلق النظام أفسدت عليه سياسات السلم الاجتماعية كما أفسدت على البيروقراطية سياسات الوفاق والجبهات الانتخابية والمساومات والاتفاقات المشبوهة.

إن اليسار النقابي ظل دوما يدفع فاتورة الأزمات (78/85/2000: التصحيح) التي تنتهي دوما بمصالحات تستفيد منها السلطة والبيروقراطية النقابية وذلك راجع بالأساس لضعفه وتشتته وفقدانه لبرنامج نقابي موحد وعدم قدرته على تجاوز خلافاته حتى النقابية منها. وبالرغم من حجم الكتلة النقابية التي أضحى يمثلها في الاتحاد العام التونسي للشغل (⅓ في مؤتمر سوسة 89) إذ باتت قطاعات الثانوي والأساسي والبريد وجزءا هاما من المالية والتجهيز والصحة من المواقع التقليدية المحصنة وشبه المحصنة لليسار. وبالرغم من ثراء تجربته خلال ثلاثة عقود من الصراعات والمواجهات مع السلطة والبيروقراطية وبالرغم من تبني جل مكوناته للبديل الاشتراكي فإن ذلك لم يترجم إلى نقلة نوعية في مفهوم العمل النقابي الموحد وفي تعامل الأطراف اليسارية مع بعضها البعض وتكريس الجبهة النقابية أو حتى قطع الخطوات الأولى في اتجاهها. فهل كتب التشتت والتشرذم على اليسار النقابي؟ وهل هي أمراض الطفولية التي ظلت تنخره لعقود طويلة في حين أن اليسار النقابي في تركيا وأمريكا اللاتينية مثلا قد تجاوز عوائقه بسرعة وبات يشكل خطرا فعليا على السلطة؟ وهل يدفعنا الواقع الأليم لليسار النقابي واليسار عموما لمراجعة بعض المسلمات القديمة أم هو مجرد تخلف سياسي وقصور نظري وعملي لليسار سوف يتجاوزه؟ وحتى إن تجاوزه فبأي ثمن؟

أسئلة معقدة ومستعصية نثيرها للمعنيين بواقع اليسار النقابي في الاتحاد العام التونسي للشغل.

صحيح أن الهجوم الأيديولوجي المكثف على قوى اليسار حقق نجاحات ملموسة في النيل من معنويات مناضليه خصوصا في منظمة مهنية كالاتحاد العام، هذه المنظمة التي تربت قياداتها القديمة على مناوأة بل معاداة الفكر اليساري عموما والشيوعي على وجه التحديد ووجدت في سقوط المعسكر "الاشتراكي" الفرصة الذهبية للانقضاض على اليسار وتشويهه وتصفية أطرافه الراديكالية حتى في المواقع التقليدية (بريد/ثانوي) ففقدت معظم قوى اليسار النقابي تماسكها في عشرية التسعينات السوداء وانفرط عقدها وتراجع حتى فصيلها المنظم بالموازاة مع تصدع حركة الطبقة العاملة وتراجع دورها. وصحيح أيضا أن الخذلان قد أصاب العديد من الرموز اليسارية التي تنكرت لفكرها وانتقلت إلى مواقع التكيف والوفاق الطبقي مع واقع الهيمنة الإمبريالية ومداراة هجوم النيوليبرالية المتوحشة خارج الاتحاد العام التونسي للشغل وخاصة داخله. ولكن يحق التساؤل حول بعض المواقع النقابية التي تمكنت منها بعض فرق اليسار النقابي ولم تحولها وتستغلها إلى سلاح مقاومة في وجه السلطة والبيروقراطية بل بالعكس ظلت ملحقا من ملاحق الأجهزة البيروقراطية وهياكل ضغط انتخابي في المؤتمرات فقط.

إن أزمة اليسار النقابي لا تنحصر في تشتته وتشرذمه فقط بل في انعزاليته وعدم انغراسه في عمق الطبقة العاملة والشعب مما سهّل شن الهجوم عليه وعزله. خصوصا أن الهجوم الإيديولوجي الليبرالي كان شرسا وذا فعالية.

من جهة أخرى، وإن كنا نتفهم جيدا أسباب التراجع العام لليسار –ذي النشأة البرجوازية الصغيرة - واليسار النقابي على وجه التحديد، ونثمن صمود بعض فصائله الراديكالية ومحافظتها على الحد الأدنى فإننا لا نغفر له أسلوب التراجع غير المنظم وشكله، إذ أن الحروب الطبقية كر وفر ومن لا يتقن إدارة الدفاع لا يتقن إدارة الهجوم أيضا. ويأتي هنا دور هيئة أركان الطبقة العاملة التي توكل إليها مهمة تنظيم التراجع عندما يستحيل الثبات في نفس المواقع وفي هذا إشارة عرضية إلى أن حزب العمال الشيوعي التونسي لم يتحول بعدُ إلى قائد فعلي للطبقة العاملة وإن ظل يسعى إلى ذلك. ولم يفلح بالتالي في تنظيم التراجع الذي فرضته عليه الفاشية الدستورية والبيروقراطية النقابية في التسعينات وترك مناضلي اليسار النقابي الديمقراطي يتهاوون الواحد تلو الآخر بصورة عفوية، إذ كثير منهم ظل يتعامل مع أوضاع الردة آنذاك بأساليب الأوضاع السلمية العادية متناسيا أن لكل فترة من فترات الصراع الطبقي وسائلها في النضال. علاوة على أن رد هجوم الخوصصة أو إيقاف مفعولها لا يستطيع درءه قطاع بعينه كالبريد مهما أوتي من صلابة التنظيم وجرأة المقاومة بل وحتى عدة قطاعات مقاومة ومناضلة.

إن تصفية قطاع البريد وضرب قيادته ورموزه الراديكالية –على مرأى ومسمع من بعض القوى المنتسبة لليسار- قد أثّر بصورة عميقة على معنويات كل مناضلي اليسار النقابي وعلى فصائله التقدمية بالتحديد. ولا يفوتنا في هذا المجال تحميل المسؤولية سلبا لكل مكونات اليسار والفوضويين و"الكتلة" الانتهازية منهم بالخصوص حيث نظروا "للركشة" وساهموا بقسط وافر في عدم تنظيم المقاومة بل وزكى البعض منهم البيروقراطية النقابية في مؤتمر الكرم مروجين لمفاهيم التحالفات الملغومة ومتخلين عن اليافطة المعلنة في الانتماء إلى الاشتراكية.

إن إعادة الاعتبار لليسار النقابي تمر حتما بالتقييم الموضوعي والجيد لتكتيكاته وسلوكاته بهدف رصد الإيجابيات ودعمها وتجاوز سلبيات الماضي التي عرقلت مساراته.

إن النقد والنقد الذاتي العميق دون تجريح أو جلد للذات هما الكفيلان بمحو الصدأ الذي اعترى هذا المعدن ما دام الجوهر أصيلا. ومن أجل إعادة الأمور إلى نصابها نعتقد أنه لا يجب على اليسار النقابي أن يستظل بنقابة أو قطاع أو حتى جهة بأكملها تظل –على أهميتها- مثل الشجرة التي تحجب عنه الغابة. فالهدف المرحلي لليسار النقابي هو افتكاك النقابات وتحويلها إلى أداة مناضلة بيد الشيوعيين تساعدهم على إحداث نقلة نوعية في موازين القوى من أجل افتكاك السلطة وبلوغ هدفهم الاستراتيجي المتمثل في الاشتراكية.

هذا إذا كانت هذه النقابات جماهيرية، أما إذا فقدت هذه النقابات الصفراء جماهيريتها وتخلت على طول الخط عن الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة وأصبحت عائقا أمام تطور الوعي وطموح الشغالين للتغيير فإن التمسك وقتها بهياكل صورية مهجورة تابعة يظل معرقلا للصراع الطبقي وضد التاريخ ولا يساعد الشغالين على التحرر إذ أن وحدة الطبقة العاملة لا تتم على قاعدة الوفاق الطبقي بل فقط على قاعدة الصراع الطبقي كما يقول لوزفسكي.

إن قوة الطبقة العاملة في وحدتها ووحدة أطرها الجماهيرية المناضلة، وشعار "يا عمال العالم اتحدوا" لا يزال يحتفظ براهنيته. وعلى اليساريين والشيوعيين بالخصوص التواجد أينما توجد الجماهير لفضح وتعرية الأكاذيب المظللة للدعاية البرجوازية. يقول لوزفسكي في هذا المجال: "ينبغي أن نغزو النقابات بغاية رفع وعي الجماهير وتدريب العمال على الصراع وبناء وحدة الطبقة العاملة على هذه الأسس بالذات. إذن أين تكمن قوة البرجوازية في نهاية المطاف؟ إنها تكمن في وحدتها: في وحدة منظماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ظلت تتحرك دوما في جبهة واحدة ضد العمال، وفي المقابل ظلت الطبقة العاملة دوما مشتتة وأعمالها في غير تناسق يذكر مما ألحق بها هزيمة لا جدال فيها من قبل البرجوازية..." (برنامج عمل الأممية النقابية الحمراء-المؤتمر الثالث 1921).

نأتي الآن إلى مسألة تقديرية في تحليل الأوضاع النقابية واختلف حولها اليساريون وهي: هل تحول الاتحاد العام التونسي للشغل إلى منظمة مهجورة لا يرجى منها خير على طول الخط أم لا؟ أم أن المنظمة واقعة بدورها تحت تأثير الأزمة العمالية العالمية التي من مظاهرها تراجع نسب التنقب حتى في البلدان الرأسمالية الكبرى؟ ثم هل تعود ظاهرة تراجع العمل النقابي إلى طبيعة القيادات البيروقراطية المتوالية على الجهاز أم إلى الهجوم السافر للرأسمالية المتوحشة وزحف الخوصصة على الأخضر واليابس؟ أم لكلا السببين معا؟ ثم لماذا يعفي اليسار النقابي نفسه من المسؤولية بكل سهولة؟ ألم يتراجع هو بدوره كما ذكرنا سابقا وتقلص الزخم النضالي الذي كان يتمتع به في السبعينات ومطلع الثمانينات حتى يأتي اليوم ليحمل البيروقراطية النقابية وحدها كل مسؤولية التردي والتدهور النقابي؟ إننا لا ندافع عن البيروقراطية ولا ننفي عنها المسؤولية في ما حدث ولكننا لسنا من هواة النظرة السطحية التبسيطية التي تبحث دائما عن مشجب تعلق عليه الأخطاء. إن سلاح النقد لا يغني عن نقد السلاح: فنحن معشر اليساريين والشيوعيين بالخصوص في حاجة دائمة إلى غوص عميق في أغوار الظواهر والأشياء، والأوضاع النقابية كما ترون اليوم بالغة التعقيد.

II – هل نلتحق اليوم بالكنفدرالية وندفع إلى الانشقاق؟

هل يكفي تخلي النقابات الإصلاحية عن دورها وخيانة البيروقراطية لمطالب العمال ومطامحهم حتى نؤسس أو نبني نقابات ثورية بديلة؟ هل الحالة المعنوية العامة والمزاج العام للأغلبية الساحقة للمنخرطين بالاتحاد العام –مهما تراجع عددهم- مهيأ وقابل وناضج للانضمام للنقابة البديلة المنشودة سواء كانت الكنفدرالية الديمقراطية للشغل أو نقابات مستقلة جديدة أو غيرها؟

إن الطبقة العاملة اليوم واقعة تحت ضغط مادي ومعنوي كبير وهي تعيش يوميا حالات الانكسار المتعددة: أزمة التجارب الاشتراكية، هجمة الإمبريالية العالمية والصهيونية في فلسطين، احتلال العراق وضرب طموحاته القومية، عدم تزحزح الدكتاتوريات العربية العميلة عن الحكم، ضعف المعارضة الديمقراطية والثورية، هجوم الخوصصة والعولمة والبطالة والتهميش والغلاء الجنوني للأسعار. كل ذلك يؤثر سلبا في معنويات العمال وطلائعهم النقابية. انظروا إلى الاجتماعات النقابية حتى ذات المشاغل المطلبية البحتة وحتى تلك التي تحظى بمساندة البيروقراطية ثم حتى ذات البعد القومي والمعادي للإمبريالية. كم عدد الوافدين عليها؟ ما هي نوعية الحضور واهتماماته ثم ما هو المزاج العام الذي يشقها وما هي معنويات روّادها؟

إن هجوم الخوصصة وغلق ما يقارب من 300 مؤسسة عمومية أو التفويت فيها قد دفع بآلاف العمال إلى البطالة والفقر والتهميش وأثّر بعمق في تفكيك أواصر الطبقة العاملة وضرب تركيبتها الاجتماعية وخلخلة نسيجها الضعيف. فغابت الإضرابات التضامنية وحملات التبرع للمطرودين وانزاحت أعداد كبيرة من المسرحين عن الطبقة العاملة وفقدت صلاتها بها معززة بذلك شريحة المهمشين الذين يزدادون اليوم اتساعا، فيما ظلت فئات أخرى من الطبقة العاملة المشتتة والمفتتة تلهث وراء سراب المشاريع الصغرى بما تيسر من منح الطرد الهزيلة، فلا هي نجحت في ملكية رأس المال ولا حافظت على مواقعها الطبقية القديمة.

إن عدم الاستقرار في التركيبة الاجتماعية للطبقة العاملة يواكبه عدم استقرار في البنية الفكرية والذهنية التي تنحو نحو ثقافة اللامبالاة والفردانية وعدم الإيمان بقيم النضال والاهتمام بالسياسة والنقابة رغم التدهور المطرد للأوضاع الاجتماعية لمجمل الشغالين.

فكيف لنا أن نبني أو نؤسس نقابة ثورية بديلة والمزاج العام للنقابيين على هذا النحو من التراجع واللامبالاة؟

طبعا، نحن لا ننظّر للاستقالة. لقد ذكرنا سابقا أن الوحدة النقابية هي الأصل والانشقاق في الحركة النقابية يظل واردا عندما تهجر الجماهير الأطر النقابية الرجعية وتعبّر عن رغبة جامحة في تشكيل نقابات ثورية بديلة. نحن الشيوعيين نعرف جيدا أن الاتحاد العام التونسي للشغل –قيادة وتنظيما ومحتوى- أصبح معرقلا للصراع الطبقي ولا تمثل الأغلبية الساحقة لهياكله مطامح الشغالين لصوريتها ولا ديمقراطيتها وتبعيتها لسلطة الحزب الحاكم ودفاعها عن الوفاق الطبقي.

ولكن هل هذه قناعة أغلبية جمهور المنتسبين إلى النقابات مهما تراجع عددهم؟ لا نعتقد ذلك طبعا! ثم هل تحولت كما قلنا سابقا هذه المنظمة إلى منظمة صورية على طول الخط ومهجورة وجب نفض أيدينا من غسيلها؟ لا نعتقد ذلك أيضا رغم التخريب البيروقراطي وانسلاخ أعداد هامة غاضبة ومحتجة عن الدور المفقود للاتحاد في الساحة الديمقراطية ورغم التخريب المنهجي للدكتاتورية: شراء ضمائر، امتيازات وإغراءات وحبك المناورات بغاية التدجين.

إن الاتحاد العام التونسي للشغل قد تحول أو يكاد إلى منظمة من منظمات الديكور الديمقراطي التابعة لسلطة الفاشية وإدارة من إدارات البيروقراطية للدولة الدكتاتورية. ومع ذلك يظل العمال ينظرون إلى ثقله التاريخي القديم ويثمّنون إرثه ومحطاته النضالية التي شرفت الحركة النقابية التونسية في فترة فرحات حشاد في النصف الثاني من السبعينات حتى بداية الثمانينات. كما يأملون أن تسترجع هذه المنظمة العريقة إشعاعها وموقعها الجدير بها في النضال ولا نعتقد نحن أن أيًّا من الأطراف النقابية الأخرى –بخلاف اليسار النقابي- قادر على لعب هذا الدور لأن البيروقراطية التقليدية قد ولى عهدها واستوفت أوراقها وما على اليسار النقابي الراديكالي إلا أن يلعب هذا الدور ويتحمل مسؤولية إنقاذ هذه المنظمة فهو صمام الأمان وعلى عاتقه تلقى مهام الدفاع ورسم الخطط والبرامج البديلة ولأنه صاحب مشروع مجتمعي بديل ثوري ومتكامل ليست النقابة إلا واجهة من واجهاته المكتوية بنار الصراع الطبقي.

إن هذا اليسار النقابي الديمقراطي ونواته الشيوعية يؤمن ويدافع عن التعددية النقابية التي تظل خيارا قائم الذات عند الاقتضاء لتكون منطلقا لوحدة جديدة على أسس نضالية. والكنفدرالية الديمقراطية للشغل قد كرست فعلا هذا الخيار التعددي ومارسته. ثم هي دغدغت أمل الراغبين في تصحيح فعلي للمسار النقابي وانخرطت عمليا في النضال الديمقراطي والقومي وتمثلت عموما مطالب الشغالين المهنية وخطت خطوات في ضرب فكرة الحياد النقابي الزائف وانتصرت عموما لليسار ضد البيروقراطية وسلطة الدكتاتورية العميلة.

ولكنها في الواقع الملموس، في القطاعات والجهات ظلت مهزوزة ونكرة ومعزولة ولم تكن أكثر من كتلة ضغط نقابي، فلم تستطع أن تتحول إلى نقابة بديلة تضع فيها الطبقة العاملة ثقتها وتعوض بها فراغا نقابيا تركه انسحاب الاتحاد من الساحة الديمقراطية، لم تستطع التحول لأنها لم تهتد ثم لم تقدر على الالتحام بالطبقة العاملة للحصار المفروض على الساحة السياسية والاجتماعية وشدة القمع البوليسي وانعدام إمكانيات ربط الصلة بالعمال في معاملهم ومؤسساتهم من جهة ولانعدام التجاوب التلقائي والانخراط فيها من قبل العمال أنفسهم بقطع النظر عن القمع والحصار من جهة أخرى. علاوة على ذلك شهدت الكنفدرالية مرحلتين مختلفتين: المرحلة الأولى وهي مرحلة الانبهار والتطلع وهي غير موضوعية في الحكم لها أو عليها. والمرحلة الثانية التي جسدت ردّات الفعل السلبية تجاهها زادتها سلوكات بعض رموزها وعناصرها غير الجديرة بالمهمة استخفافا ونفورا من قبل النقابيين.

إن العمال لم يتجاوبوا مع فكرة الكنفدرالية ولم ينخرطوا بها لأن الأوضاع الموضوعية على الأرض غير ناضجة للانشقاق وخصوصا عن منظمة عريقة ضاربة في التاريخ لأكثر من نصف قرن فذلك يتطلب حدثا تاريخيا من الوزن الثقيل وأزمة أكثر عمقا من التي نعيشها اليوم ومنظمة بديلة أكثر فاعلية وامتدادا من الكنفدرالية التي ضرب الحصار حولها حتى من بعض مكونات المجتمع المدني وبعض مكونات اليسار!

إن مهمة بهذا الحجم يجب أن تحرز على أوسع ثقة من القطاعات النقابية والجهات العمالية والأطراف اليسارية المناضلة ناهيك عن التقبل الطوعي والواعي للفكرة من قبل جزء من العمال على الأقل وليس تمثل الفكرة وحسن رواجها في أذهان الشيوعيين فقط. يقول ديمتروف في هذا المجال: "يجب أن نأخذ بعين الاعتبار الأوضاع الحقيقية للطبقة العاملة وفي النضال يجب دوما العمل طبقا لموازين القوى الحقيقية". وفي معرض حديثه عن دور الشيوعيين القيادي يقول في برنامج العمل للأممية النقابية الحمراء: "ولا سبيل إلى ذلكإلا إذا حسبنا في سياستنا، نحن الشيوعيين حسابا جديا للمستوى الفعلي لوعي الجماهير الطبقي ولدرجة ثوريتها وتقييمنا للوضع الملموس بروية وإمعان لا على أساس أهوائنا بل على أساس ما هو حاصل فعلا، وعلينا أن نسير خطوة فخطوة وبأناة عملية انتقال الجماهير الواسعة إلى مواقف الشيوعية ولا ينبغي لنا إطلاقا أن ننسى كلمات لينين الذي حذرنا بأقصى الحزم قائلا:"وخلاصة القول هو ألا نتوهم أن الذي نحسه هو ما تحسه الطبقة العاملة وتحسه الجماهير بالذات".

إن العمال لا يؤمنون بالأفكار المجردة وبحسن النوايا بل بالأشياء المادية والمحسوسة وخير مثال على ذلك أن تجربة الانشقاق في تونس عن CGT لم تنجح إلا عندما اقتنع العمال التونسيون مع فرحات حشاد وليس مع غيره من قبل بالضرورة التي لا تقبل التأجيل وبالوزن الذي أضحت تمثله النقابات التونسية المنشقة عن النقابة الفرنسية الأم.

ومن جهة أخرى لا يكفي أن تصوغ الكنفدرالية قانونا أساسيا بديلا لقانون الاتحاد وبيانات تطرح وتعالج سياسة الأسعار والمطالب المهنية فذلك بداية العمل فقط وليس العمل النقابي الفعلي. فالعمل النقابي الميداني هو العمل التنظيمي والخطط التي قلما وقع الحديث عنها في الاجتماعات الدورية أو حتى تدوينها وتوثيقها.

أما تركيبة الكنفدرالية ونوعية هيئتها القيادية فهي لا تستجيب لغرض الالتحام والانتشار. وفيما عدا قلة قليلة من العناصر الراديكالية لم تجمع الكنفدرالية غير عناصر جمع بينها قاسم الرفض للرداءة البيروقراطية والرغبة "الرومنسية" في التغيير، وهذا بدوره غير كاف بالمرة ثم هو لا يقنع العمال ولا يضمن ثقتهم شأنه في ذلك شأن مساهمة الكنفدرالية وحضورها في المحطات الديمقراطية التي بقدر ما كانت ضرورية وإيجابية في التعريف بها إلا أنها لم تجلب لها العمال بل فقط تعاطف بعض الديمقراطيين معها: ولكن هؤلاء الديمقراطيين المشكورين لا يعوضون العمال في المصانع. إن العفوية التي طبعت السلوك العام لمسيرة اليسار النقابي هي نفس العفوية التي طغت على دعاة الكنفدرالية الديمقراطية للشغل وهي نفس العفوية التي لازالت –مع الأسف- تطبع أحيانا حتى سلوك حزب العمال الشيوعي التونسي في الساحة النقابية والتي ستترك تدخله في المجال النقابي ضعيفا بالرغم من القراءة الصحيحة للأوضاع الاجتماعية والسياسية. فطالما يسود الاضطراب في الرؤية و تنعدم المبادرة الجريئة عند اليسار النقابي ونواته الشيوعية بالخصوص تظل البيروقراطية تتحكم في أوراق اللعبة وتخرج سالمة من كل معركة نقابية وفي المقابل كلما خطا اليسار النقابي خطوات فعلية ملموسة في تنظيم شتاته والتغلب على سلبياته أصبح يشكل خطرا على البيروقراطية النقابية وازداد اقترابا من انتصاره على أعدائه.

إن الشيوعيين مبدئيين في قضايا السياسة والنقابة ولكن المبدئية الجامدة تقود أحيانا إلى الانعزالية كما قال ستالين: "من الضروري أن يتقن الحزب في عملية التوفيق بين المبدئية – دون أن يصل بها حد الانعزالية - وأقصى الارتباط والاتصال بالجماهير –دون أن يصل به حد الذيلية- الأمر الذي لا يمكن للحزب بدونه أن يعلم الجماهير ولا أن يتعلم منها". وتنطبق هذه المقولة على العمل النقابي ودور اليساريين في المنظمات النقابية أيما انطباق.

إن إطلاق شعار الالتحاق بالكنفدرالية في مثل هذه الظروف سوف يحكم على أصحابه بالانعزالية والفشل والتعويل اليوم على انسحاب الجماهير من الاتحاد العام التونسي للشغل غير واقعي بالمرة، فلا يجب المبالغة في سرعة انسحاب الجماهير من المواقع الإصلاحية كما لا يجب حرق المراحل الشاقة والمهام المعقدة للحركة.

إن الروابط التقليدية بين عموم الشغالين وقياداتها البيروقراطية أو البيروقراطية الجديدة لاتزال قوية نسبيا ولا سيما في أوساط الشرائح الواسعة المتدنية الوعي. صحيح أنه لا يجب الانتظار سنوات وعقودا حتى يحصل الوعي لدى آخر عامل في مؤسسة صغيرة ومنعزلة لممارسة الانشقاق ولكن كذلك لا يجب التعسف على وعي النقابيين واقتيادهم قسرا أو إغراء إلى القطع الفوري لتلك الروابط المتعددة الأوجه. إن دور العنصر الواعي هو تقريب ساعة خلاص الطبقة العاملة ولكن شريطة إنضاج الظروف واختيار اللحظة الحاسمة التي هي كفيلة بالنجاح في مثل هذه المهام وبالتالي فالشيوعيون مع الوحدة النقابية ولكنهم لا يفوّتون على أنفسهم فرصة الانشقاق متى أصبحت ضرورة ملحة لا تقبل التأجيل واكتملت شروط نجاحها خدمة لمصالح العمال.

III – اليسار النقابي وآفاق المستقبل:

تبعا لتراجع دور الاتحاد العام التونسي للشغل ونتيجة لاستفحال أزمة الحركة النقابية ونظرا للهجوم الشرس على قوى اليسار على أكثر من واجهة بدأت عديد الأطراف اليسارية في السنوات الأخيرة تشعر أكثر فأكثر بالحاجة الماسة إلى معالجة أزمة الاتحاد التي هي من أزمة اليسار والوقوف على أسباب التراجع الذاتية منها والموضوعية فخاضت نقاشات ومشاورات ودوّنت بعض التقييمات المحتشمة ثم قامت ببعض المبادرات العملية المشتركة (أرضية في شكل عريضة بمناسبة غرة ماي 2001، بعض الأعمال المشتركة في ساحة محمد علي في علاقة بالتصدي للبيروقراطية وأخرى أثناء المسيرات المناهضة للعدوان على العراق وربما الأهم من ذلك القائمة اليسارية الموحدة في مؤتمر جربة 2002).

وما يلفت الانتباه هو أن هذا الشعور بضرورة التجاوز –وإن ظهر مؤخرا- هو شعور عام يشق أغلبية الأطراف اليسارية ولو بتفاوت ثم إن صدقيته حاصلة هي أيضا عند أغلب المكونات التي وقفت على حقيقة أوضاعها الضعيفة بمفردها، ثم إن هذه الرغبة عندما تتحول إلى أعمال ملموسة –وقد تحولت فعلا في مناسبات على قلتها- قادرة على صنع الحدث لما يتمتع به أصحابها من مخزون نضالي وجرأة في الصراع وقد أربكت السلطة كما أربكت البيروقراطية التي استوفت خطابها. ولكن ما نسجله أيضا أن جزءا من اليسار النقابي غير قادر على قطع حبل السرة مع البيروقراطية النقابية، فهو لايزال يصم آذانه عند الحديث عن العمل اليساري المشترك ويحدد مواقفه وممارساته لا من زاوية اليسار ومصلحته العليا بل انطلاقا من بعض المواقع كمواقع أحرز عليها في فترة السحباني المظلمة ومن النصائح التي تقدمها له البيروقراطية النقابية، وبالتالي فإن هذا الطرف تهادني ورموزه الكبيرة انتهازية صرفة وهو بصدد التحول إلى احتياطي مستقبلي للبيروقراطية التي تعي دائما كيف تروض شقا من اليسار وتغريه بالمواقع والحوافز المادية. وبقدر ما تقترب الرموز والقيادات القطاعية لهذا الطرف من البيروقراطية وترفض الانخراط في العمل السياسي والديمقراطي تزداد التباينات والاختلافات وتتعمق الشروخ مع حلفاء الأمس وتتعزز الالتقاءات مع بقية المكونات اليسارية الأخرى. وإن دل ذلك على شيء فهو يدل على أن قانون الصراع الطبقي يفعل فعله داخل اليسار نفسه وعملية الفرز الطبقي سارية فيه أيضا لا محالة.

إن الاختلاف بين مكونات اليسار النقابي الراغبة في العمل الجدي المناضل أمر طبيعي ومصدر ثراء لا ينضب ولا يجب أن نقيم الدنيا ونقعدها وندير ظهورنا لبعضنا البعض عند حصول اختلاف تقديري أو ممارسة خاطئة لهذا الطرف أو ذاك كما لا يجب التذييت في مثل هذه الأمور الموضوعية أو نعود القهقرى إلى درجة الصفر في النقاشات والاتفاقات فوحدها الممارسة العملية اليومية الكفيلة بتقريب وجهات النظر ووحده التراكم للأعمال المشتركة كفيل ببناء الوحدة النقابية المنشودة.

وعندما نطرح مشروع اليسار النقابي الموحد –الذي سوف نجد لا محالة صعوبات جمة في إنجازه- لا ننتظر تطابقا تاما في كل رؤانا النقابية التي تستند إلى إحالات ومرجعيات سياسية مختلفة داخل الفكر الاشتراكي ولكننا نعني بذلك الحد الأدنى النقابي الديمقراطي الذي يمثل قاسما مشتركا بين كل النقابيين اليساريين كالتصدي الحازم للبيروقراطية ورفض سياستها النقابية والنضال الفعلي ضد "الإصلاح الهيكلي" والعمل على إفراز النقابة المناضلة عوضا عن النقابة المساهمة والرجوع إلى شكل الإضراب والإضرابات التضامنية والانخراط الطوعي في النقابات عوض الخصم المباشر وإدارة المفاوضات الاجتماعية السنوية عوضا عن المفاوضات الحالية المائعة والتسوّلية علاوة على معارضة عقلية صراع المواقع المنتشرة في صفوف اليسار والتي عمقت الصراعات بين مكوناته واستبدالها بصراع المواقف التي من شأنها أن تطور الوعي لدى النقابيين وتفرز هياكل مناضلة ناهيك عن تنزيل هذا الصراع النزيه والموضوعي إلى القواعد وإدارته ديمقراطيا والتنبيه في كل الحالات إلى التصرف المنضبط الموحد والمستقل والظهور كقوة متماسكة أمام أعداء اليسار والانتهازيين.

إن الحد الأدنى النقابي لليسار هو وجوبا النضال الواعي والملتزم من أجل فرض الحريات الديمقراطية على السلطة من داخل الاتحاد وخارجه ولا سبيل لفرض الحق النقابي والحريات النقابية دون النضال الدؤوب من أجل حرية التفكير والتعبير والتنظيم والمعتقد والانتصار لقضايانا القومية وقضايانا الأممية. كما أن الحد الأدنى لليسار النقابي هو العمل جنبا إلى جنب مع مكونات المجتمع المدني الديمقراطي والأحزاب السياسية الديمقراطية والتقدمية من أجل فرض سيادة الشعب، وهي مجالات وواجهات مازالت بعض الأطراف اليسارية مترددة في الاقتناع بها أو تجانبها وتغض الطرف عنها خشية بطش السلطة القمعية أو بتعلة أنها من مشمولات الأحزاب السياسية.

إن معركة حقيقية تضرب المفهوم البيروقراطي للتنظيم النقابي هي في قلب الحد الأدنى لليسار النقابي وهي مهمة لا يقدر على رسمها وفرضها إلا يسار نقابي ديمقراطي موحد متشبع بالديمقراطية الداخلية المتمثلة في شعار "اتحاد مستقل والقواعد هي الكل" والتي تهدف إلى تقويض المركزية المشطة لسلطات القرار في الاتحاد (مكتب تنفيذي، اتحادات جهوية) ولهرميته التنظيمية التي جسدها القانون الأساسي والنظام الداخلي.

لقد بعثت تجربة اليسار النقابي الديمقراطي في أواسط الثمانينات وكانت إيجابية جدا حققت مكاسب مادية ومعنوية ذات بال وكانت لها إضافات نوعية في التصور والسلوك النقابي الذي ينبغي أن يتحلى به الشيوعيون في الاتحادات ولكن تلك التجربة لم تتواصل ثم هي تجربة فصيل منظم وليست تجربة فصائل أي أن نجاحها أو فشلها يتحمله ذاك الفصيل المؤهل لتقييمها سلبا وإيجابا.

أما ما نرمي إليه اليوم مع بقية الأطراف فهو أوسع، وهو عمل جماعي مشترك يهدف لبلوغ نفس الغرض اليساري الذي يبقى قائم الذات لكنه يختلف عنه في السلوك وطرق العمل والأداء. لقد كانت تجربة اليسار النقابي الديمقراطي في الثمانينات محكومة بنظرة المجتمع والأطراف والحركة الديمقراطية لحزب العمال الشيوعي: نظرة ريبة ونفور عند البعض وتناحر يصل حد العداء عند الآخرين فعداء مكشوف متواصل حتى الآن عند الأعداء الحقيقيين للشيوعية. وبحكم التطور الطبيعي للمجتمع ومكوناته وفعل الصراع الطبقي فيها جميعا بما فيها حزب العمال نفسه تغيرت زوايا النظر للأشياء وتليّنت علاقة الأطراف والأحزاب ببعضها وتطورت نظرة وسلوك الحزب وتغيرت إيجابيا تجاه مكونات المجتمع المدني الديمقراطي. ودون الدخول في تفاصيل التجربة القديمة التي يضيق المجال بها فإننا اليوم أمام واقع مغاير على جميع المستويات نمارس فيه الأعمال المشتركة بعقلية أنجع وبقناعة أرسخ ونسعى فيه إلى بناء الجبهة والأطر النقابية الملائمة.

إن التحرك المنفرد لكل مكونة من مكونات اليسار النقابي لن يساهم إلا في مزيد التشتيت والإضعاف ولن يحقق المكاسب المرجوة لا لأصحابها ولا لعموم النقابيين. ومن أجل إرساء وتعميق الأعمال المشتركة ثم تكريس الوحدة النقابية المناضلة يتعين على كل طرف من أطراف اليسار المعني بهذا الهدف أن يعمل على إحداث نقلة نوعية داخلية في التصور والسلوك تستوعب الواقع والرهانات لتنسجم مع بقية المكونات الأخرى الحريصة مثله على تثبيت وإنجاح هذا المسار الجديد.

ومن أجل أن يصبح هذا اليسار النقابي قوة جماهيرية يحسب لها ألف حساب ويعاد الاعتبار لدوره النشيط في الساحة النقابية وتُقرّب ساعة خلاص الطبقة العاملة من البيروقراطية النقابية ويُفرض حقها في نقابة مستقلة ديمقراطية ومناضلة ينبغي على هذا التيار أن يصوغ جماعيا برنامجه النقابي البديل ويحدد جماعيا أهدافه الاستراتيجية والمرحلية بدقة وسبل الوصول إليها ويحدد كذلك الأطراف اليسارية النقابية القابلة بإنجاز ذلك البرنامج والعمل من فوق ومن تحت على تأسيس وبناء الهيكل الوطني لليسار النقابي الموحد بعد سلسلة من المشاورات واللقاءات قد تستغرق وقتا طويلا ولكن يجب أن تحدد بسقف زمني معقول.

ومن أجل أن تنجح هذه المهمة الصعبة والتي لا تحتمل التأجيل تحت ذرائع الصعوبة نعتقد أن الشرط الأول والأساسي لانطلاقها هو الرفض الحازم والمبدئي لتكتيك التعاون الطبقي مع البيروقراطية وقطع الصلة بأي طرف يتعاون معها.

إن أولئك الذين ليس من مصلحتهم إرساء هذا البناء سوف يعرقلون هذا التمشي تحت هذه الذرائع أو تلك وسوف يشوهون هذا الطرف الساعي إلى وحدة اليسار أو ذاك بأسماء وتوصيفات غريبة: باسم الجملة الثورية أحيانا وباسم التقزيم والاستخفاف أحيانا أخرى وبالرجوع القهقرى والنبش في ماضي الخلافات والصراعات القديمة.

إن البيروقراطية النقابية تعيش اليوم أوضاعا غير مريحة سواء في علاقة بالسلطة التي تسعى لابتزازها من أجل استحقاقاتها المستقبلية أو في علاقة بجمهور النقابيين الذي يشقه الغضب الاجتماعي والاحتجاج على غلاء المعيشة وتدهور الأوضاع المادية والمعنوية أو في علاقة بالحركة الديمقراطية التي لا تنظر بعين الرضى لتراجع الدور الديمقراطي والاجتماعي للاتحاد وتزدري اصطفاف المنظمة وراء السلطة الدكتاتورية العميلة.

كما أن الأوضاع الداخلية للبيروقراطية تشكو من عدم الانسجام بل الصراع الخفي للكتل الجهوية والولائية في ظروف تجديد نقابي غير مأمون العواقب.

إن سطوة البيروقراطية في العشرية السوداء الأخيرة قد ولت مخلفة وراءها آثارا وسلبيات وجروحا غير قادرة على تجاوزها ولملمتها وباتت مصداقيتها لدى القواعد ضعيفة جدا بل ومحل تندر واحتقار؛ وبالتالي فالظروف الموضوعية والذاتية سانحة لليسار كي يتقدم أشواطا نوعية في اتجاه أعمال مشتركة تفضي إلى الجبهة اليسارية النقابية الموحدة وتعكس الهجوم لصالح الطبقة العاملة والحركة الديمقراطية والشعب وبالتالي فاليسار النقابي مطالب اليوم بتكريس الوحدة على نطاق المؤسسة والجهة والقطاع وعلى النطاق الوطني ككل إذ الوحدة النقابية هي السلاح الفعلي القادر لا على الدفاع عن المكاسب فحسب بل على شن الهجوم المعاكس وتحقيق النجاحات الطبقية الجديدة على أعدائه، ولكن تلك الوحدة المنشودة تظل مرهونة بقدرة فائقة على النضج ودرجة عالية من الشعور بالمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتق النواة الشيوعية الصلبة داخله. ثم إن حوارا عميقا ثريا وواسعا خارج الأطر الحزبية يجب أن ينطلق كما أسلفنا في أسرع وقت ممكن توازيه أعمال مشتركة على الأرض وتتخلله أخلاق عالية وثقة ثورية متبادلة سوف تنعكس بالضرورة على مكوناته وعلى مجمل النقابيين.

كما أن منبرا إعلاميا موحدا بات لا مناص منه ليجمع شمل اليساريين في الاتحاد ويذوّب خلافاتهم ويصهر ممارساتهم ومواقفهم في كيان تنظيمي ملموس يعيد إلى اليسار النقابي إشعاعه ووهجه.

إن الفترات التاريخية الحرجة لا تقبل التردد والانتظارية والحسابات الضيقة التي يجب أن تقبر إلى الأبد وتحل محلها الجرأة والنضال المبدئي الميداني والشعور الجماعي بالمسؤولية. إذن لن نكون أهلا لنشر الفكر الاشتراكي والدفاع عن الماركسية وعن تعاليم قادتها التاريخيين ودور الشيوعيين في النقابات ما لم نعمل على بناء وحدة اليسار واليسار النقابي التي هي من وحدة الطبقة العاملةّ.

س.ع. - ديسمبر 2003



#حزب_العمال_التونسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأنظمة العربية : الدكتاتورية والعمالة
- الشيوعيون والعائلة
- ضد الرأسمالية، دفاعا عن الاشتراكية
- حول الوضع الدولي الراهن - من أجل جبهة عالمية معادية للامبريا ...
- حول الوضع العام بالبلاد - لنكسر العزلة عن الحركة الاجتماعية ...
- المقرر السياسي للندوة الأممية للأحزاب والمنظمات الماركسية ال ...
- على هامش القمة العربية المزمع عقدها يومي 29 و 30 مارس 2004 ب ...
- القانون الأساسي لحزب العمال الشيوعي التونسي
- بلاغ
- الأدنى الدّيمقراطي لتحالفنا اليوم وغدا- الجزء الثالث - -حركة ...
- الأدنى الدّيمقراطي لتحالفنا اليوم وغدا - الجزء الثاني- في عل ...
- الأدنى الدّيمقراطي لتحالفنا اليوم وغدا - الحزء الاول- النّقـ ...


المزيد.....




- الصحة في غزة ترفع عدد القتلى بالقطاع منذ 7 أكتوبر.. إليكم كم ...
- آخر تحديث بالصور.. وضع دبي وإمارات مجاورة بعد الفيضانات
- قطر تعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار في غزة ...
- بوريل من اجتماع مجموعة السبع: نحن على حافة حرب إقليمية في ال ...
- الجيش السوداني يرد على أنباء عن احتجاز مصر سفينة متجهة إلى ا ...
- زاخاروفا تتهم الدول الغربية بممارسة الابتزاز النووي
- برلين ترفض مشاركة السفارة الروسية في إحياء ذكرى تحرير سجناء ...
- الخارجية الروسية تعلق على -السيادة الفرنسية- بعد نقل باريس ح ...
- فيديو لمصرفي مصري ينقذ عائلة إماراتية من الغرق والبنك يكرمه ...
- راجمات Uragan الروسية المعدّلة تظهر خلال العملية العسكرية ال ...


المزيد.....

- عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية / مصطفى بن صالح
- بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها / وديع السرغيني
- غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب / المناضل-ة
- دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية / احمد المغربي
- الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا ... / كاظم حبيب
- ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1) / حمه الهمامي
- برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب / النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
- المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة / سعاد الولي
- حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب / عبدالله الحريف
- قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس / حمة الهمامي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - حزب العمال التونسي - اليسار النقابي : واقع التشتت ورهانات المستقبل