أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل الامين - اليقين والقدر















المزيد.....

اليقين والقدر


عادل الامين


الحوار المتمدن-العدد: 2613 - 2009 / 4 / 11 - 00:45
المحور: الادب والفن
    



كنت د ائما اجلس عند الغروب على صخرة عند ساحل البحر في مدينة الحديدة،ارتب المسودات للقصص القصيرة التي اكتبها دفعا للملل.. كان يأتي ويجلس عن كثب ، رجل في العقد الرابع من عمره ،رث الثياب ومشوش الهيئة،يلقي علي تحية في ود ثم يجلس في استغراقه العميق،يحدق في الأفق إلى الشمس الغاربة التي جعلت مياه البحر تبر ذائب في لجين..
سألني مرة
_ ماذا تفعل عند الساحل يا سوداني؟!!
- اجلس ...لأكتب القصص
لوحت له بالدفتر والقلم ،بانت الدهشة العميقة علي وجهه الطيب
- هذا عمل جيد...أفضل من إضاعة والوقت في مضغ القات...
- وماذا تفعل أنت؟!!
- أنا....
ارتبك قليلا ثم أردف
- إن لي قصة غريبة مع البحر ،تبدأ من قريتي البعيدة...كنا ثلاث أشقاء،لسنا من هذه المحافظة..اخبرنا والدنا قبل أن يموت بان أخي الأكبر ستكون ثروته من الإبل وأخي الأوسط ستكون ثروته من النوب/النحل..وأنا من البحر...مات أبي الله يرحمه منذ أمد بعيد
سافر أخي الأكبر إلي السعودية وقاده حظه للعمل في مزرعة أمير عسير زمن الاعتناء بالجمال النبيلة،جمع ثروة طائلة وأقام هناك في كنف الأمير..أخي الأوسط بقي في القرية..استيقظ ذات يوم علي طنين نحل في مزرعته الصغيرة..ووجد هناك خلية ضخمة وبدا معها مشوار إنتاج العسل الفاخر وهو ألان ثري وأضحى يصدر العسل إلى خارج اليمن.. وبقيت أنا انتظر البحر منذ عشرات السنين ..في هذه المدينة !!
- شيء مدهش فعلا...وهل سيصدق البحر يا ترى ؟!!
التفت نحوي ولمع الإصرار في عينيه
- أبي لا يكذب أبدا والبحر ايضا ....جلب لنا رجلا صالحا يوما في صندوق تفوح منه العطور وحعلناه مزار في بلدتنا البعيدة
ثم نهض مبتعدا وجلس في مكانه المعهود ليمارس طقوسه المعتادة، كان ينهض عن التاسعة ليلا ،ثم يتعرى عن ملابسه الرثة ويلقي نفسه في البحر.. ينضو عن جسده المنهك حر المدينة القائظ وطموحاته المجهضة...ثم يخرج من الماء ويرتدي ملابسه وينصرف ملوحا لي بيده من بعيد وتطويه العتمة
**********
اليوم كنت اجلس كالمعتاد لأضع اللمسات الأخيرة لقصة(رسول الأحزان) لاحظت أن صديقي تأخر قليلا عن موعده المعتاد جاء بعد الغروب وحياني وجلس عن كثب، أظلمت الدنيا واد لج الليل ...ثم بزغ القمر وأخذت أشعته تجلو مرآة البحر السحرية الساكنة بالأضواء الساحرة المتراقصة ...فجأة هب كالملسوع وأطلق صيحة خافتة وشاهدته ينضو أسماله البالية علي عجل ويندفع سابحا إلي داخل البحر..حدقت في الأفق وشاهدت شيء اسود أشبه بحقيبة يتراقص مع الأمواج...كان الرجل ماهر في السباحة ويبدو انه تعلمها لمثل هذا اليوم..امسك بالحقيبة وقفل عائدا نحو الساحل وخرج من الماء وجسده يختلج وأنفاسه متلاحقة واندفع نحوي ملوحا بالحقيبة ومتهلل الوجه...ونسي أن يرتدي ملابسه
- يا سوداني.... الم اقل لك إن البحر لا يكذب!!
صعقتني الدهشة أيضا... وكأني أصبحت جزء من عالم ألف ا ليلة وليلة ...تنبه الرجل لعريه فانزوي خجلا مستترا بالحقيبة والتي يبدوا أنها ستستر عورة فقره المزمن أيضا...احمر خجلا ،ثم قفل متقهقرا وارتدي ملابسه علي عجل مرددا
- آسف...آسف....لقد فقدت صوابي من الفرح
صعد علي الصخور في طريقه نحو الإسفلت الذي يمتد بحذاء الساحل في المدينة التي كانت تتثاءب للنوم..وكأنما تذكر شيئا التفت لي
- هل ستكتب قصتي ؟!!
- ربما...ربما
- إذا في أمان الله...قد لا تراني ثانيتا
- سلام يا صاحبي
أطلقت زفرة حارة وملأت رائتي العليلتين بالهواء النقي ورددت في نفسي ( لقد راهن الرجل علي البحر وتمسك بهذا اليقين...وفاز....علي ماذا راهنت أنا ؟!!
هذه الدروس الصغيرة التي يقدمها لنا بسطاء الناس في اليمن السعيد وكل يوم عندما نلتقي بهم في كل مكان يحدثونا عن أحلامهم الصغيرة والكل هنا يبحث عن كنز ويراهنون علي المجهول ويكسبون...لان لهم يقين لا يتزعزع أو تبليه السنين...إنها كائنات الشوق الأخر المدهشة...والسحر الذي يغلف الأحياء والأشياء في اليمن ..ويجعلك كأنك تعيش في حلم اخضر تتمنى أن لا تستيقظ منه أبد
**********
ا نهضت على عجل تذكرت موعدي مع المستشرقة البريطانية جين اليت التقيتها في صنعاء في العطلة الماضية واخبرتني انها ستحضر لتحتفل معي براس السنة في الحديدة...في مطعم فندق الامبسدر الهاديء والمعزول في اطراف المدينة..ركبت سيارة اقلتني الب الفندق وصعدت الدرج عدوا ومع ذلك وجدتها تنتظر وقد بلغ بيها الضيق مداه
- هلو اديل...لا زلتم انتم الشرقيين لا تهتمون بالمواعيد
مدت لي بدها المجعدة فهي امراة في السبعين وبها مسحة من جمال حزين وقديم
- اسف امي جين
كان يسعدها ان اقول لها ذلك.. صلحتها بحرارة وجلست جوارها
- لعلك تبحث عن سبب اهتمامي بالشرق
وطفقت تحكي(انه اليوم سعيد..يجلس في غرفته وحيدا علي سطح اليخت يكتب..لقد وصل إلى المياه الدافئة بعد رحلة طويلة..تحق حلمه الذي ظل يراوده منذ طفولته البعيدة..أن يعيش السحر والغموض الذي كان يكتنف أحاديث والده الثري الراحل عن هذه المناطق...كان ولده يعمل في المستعمرات ...ميناء عدن...ظل يحدق بعينيه الزرقاوتين الصافيتين إلى الأفق البعيد...عينان لا تنمان أبدا عن الداء العضال الذي يكابده ويقربه لحظة بعد لحظة من ساعته المحتومة...كان مبتهجا رغم أن تقارير الأطباء عن حالته وصراعه مع السرطان لن يمهله ليعيش طويلا ..انه سعيد لأنه محاط بأناس يحبهم وقد ارتضوا أن يأتوا معه في رحلته الأخيرة..طباخ العائلة السيد باتريك ومدبرة المنزل الزنجية السيدة قووم وابنه البستاني جيمس صديقه..وخطيبته الوفية جين التي تقف ألان على الممر متكئة على السياج أمام كبينة القيادة ترتدي ملابس القبطان وتحدق في الأفق الشرقي..واليخت يمخر عباب البحر الأحمر في طريقه إلي عدن عبر مضيق باب المندب
أحب السيد رون ابن الخمس وعشرين ربيعا ذابلا سحر الشرق من وحي أقاصيص والده الذي جمع ثروة طائلة...آلت إلي ابنه رون د دون أن تكون طوق نجاة لدحر المرض اللعين عنه

******
كان باتريك يعد المائدة للعشاء الأخير ومسز قووم تضيء الشموع في غرفة النعش المصنوع من خشب الصندل المستورد خصيصا من الهند وتزينه بالزهور في غرفة أسفل اليخت..بينما رون يكتب وصيته الأخيرة وجواره حقيبة والد الأثرية السوداء القديمة...كان يسعل بين الفينة والفينة...مالت السفينة فجأة بفعل التيارات...انزلقت الحقيبة من المنضدة وأفلتت من أصابعه وتدحرجت من الباب إلي السطح ثم سقطت في المياه مثيرة رزاز كثيف وطوتها زرقة البحر...لم يحزن لفقدانه الحقيبة بهذه الطريقة...الكل يواجه قدره ليصنع أقدار للآخرين..كان بها فرنكات فضية ماري تريزا من ممتلكات والده القديمة وقد أوصاه بإلقائها قبالة سواحل عدن...مزق الوصية التي كان يكتبها لجين لتنفيذ رغبة والده الغريبة ..لقد فعلت الحقيبة بنفسها ذلك واختارت الرحيل هنا وهو لا يزال على قيد الحياة..
******
رن جرس العشاء في الأسفل..نهض رون في تثاقل وخرج إلى الممر وتأبط ذراع جين ودخلا غرفة القيادة وابطلا المحرك..سكن الهد ير الناجم عنه وعم الهدوء المكان إلا من صيحات نوارس عابرة جنوبا
جلس الجميع على مائدة العشاء..تلى السيد باتريك الصلوات..ثم تناولوا الطعام والشراب وتبادلوا الأنخاب والرقص على أنغام البيانو الذي كانت تعزف عليه مسز قووم ببراعة
************
جلس الجميع علي الأرائك لشرب الشاي والقهوة في صمت..بدا وجه رون يزرق وأنفاسه تتلاحق...نهض في تثاقل وانتقل إلي غرفة النعش واستلقى داخل التابوت وأغمض عينيه...سكت الجميع في الخارج وأطفئت الأنوار..وفي الساعات الأولى من الفجر فاضت روحه..
حمل نعشه باتريك وبمساعدة جيمس الذي احكم غطاؤه..بينما السيدتان تزرفان الدمع في البهو..انزلا التابوت برفق على السلم ووضعاه برفق على سطح الماء..فانزلق مبتعدا نحو الشرق...صوب السواحل اليمنية....ران الصمت علي الجميع هنيهات ونهضت جين تكفف دموعها وصعدت الدرج إلي غرفة القيادة وأدارت المحركات واستدار اليخت دورة كاملة للعودة إلي الوطن...إلى انجلترا..
رحل رون كما كان يريد في يخت يجوب البحار الدافئة..البحار التي تحيط بلاد السحر والغموض ويسمونها في الغرب بالعربية السعيدة)....
**********
احتفلنا معا براس السنة في هذا المكان الغربي الطابع...ونزلت معي رغم كبر سنها لتودعني..وفي الشارع..صافحتني بحرارة مودعة
- لعلنا لا نلتقي ثانيتا...لدي جولة في تهامة بحثا عن الأضرحة المجهولة كما تعلم إني اهتم بالتدين الشعبي..سأزور ضريح اويس القرني في زبيد...وأبو الزهور في الخوخة..والحكمي والبجلي في عواجة
- هذا يعتمد علي الأقدار
- هل ستكتب قصتي ..لقد قلت لي في صنعاء انك تكتب القصة..
- ربما...ربما
- إذا وداعا.. وابقي ولد طيب
- وداعا... موم جين
أوقفت سيارة وانطلقت بها إلي داخل المدنية ..لمحتها في مرآة السيارة تكفف دموعها وتستدير عائدة إلي الفندق.... تنفست الصعداء وأغمضت عينيي وغرقت في ذكريات يوم عبر..




#عادل_الامين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السودان صراع الرؤى وازمة الهوية
- اخر جرائم مصطفى سعيد
- الساقية...(رواية سودانية)
- رواية-عازف الكمان-
- لم تنهار الاشتراكية بعد...
- سيرة مدينة:سباق المسافات الطويلة
- أركاماني المؤسس الأول للدولة السودانية المدنية 270- 260 ق.م.
- مقالات سودانية:الإسلام كنظرية نقدية
- سيرة الرجل الذى ناضل لكل الاجيال
- صباح الخير عام 2008
- الحوار المتمدن والثورة الثقافية
- اللعنة التي حلت بالمكان
- الفكرة الجمهورية...حياة الفكر والشعور
- تراتيل الصحابة
- سنت جيمس
- مثلث حلايب والرابطة التجارية لدول البحر الأحمر
- خيال مآتة برتبة جنرال
- متى يعلنون وفاة الشمال
- كن اباذر...!!!!
- حكاية لم يروها النهر


المزيد.....




- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عادل الامين - اليقين والقدر